01 من أول الكتاب (السعادة في ثلاث)

مقدمة
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى:
(بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
الله  المسئول المرجُو الإجابة أن يتولاكم في الدنيا والآخرة، وأن يَسبِغ عليكم نعمَه ظاهرةً وباطنةً، وأن يجعلكم ممن إذا أُنعم عليه شكر، وإذا ابتُلِيَ صبر، وإذا أذنب استغفر.
فإن هذه الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دُنياه وأُخراه، ولا ينفكُّ عبدٌ عنها أبدًا.
فإنَّ العبدَ دائم التَّقلُّب بين هذه الأطباق الثلاث:
الأول: نِعَمٌ من الله تعالى تترادف عليه، فقيدُها (الشُّكر)، وهو مبنيٌّ على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنًا، والتحدُّث بها ظاهرًا، وتصريفها في مرضاة ولِيِّها ومُسْدِيها ومُعْطِيها. فإذا فعل ذلك فقد شكرها، مع تقصيره في شكرها.
الثاني: مِحَنٌ من الله تعالى يبتليه بها، ففرضه فيها (الصبر) والتَّسلِّي.
والصبر: حبس النفس عن التَّسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية: كاللَّطْم، وشقِّ الثياب، ونتف الشعر، ونحو ذلك.
فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام بها العبد كما ينبغي انقلبت المحنةُ في حقِّه منحةً، واستحالت البليَّةُ عطيةً، وصار المكروه محبوبًا.
فإن الله لم يبتله ليُهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبرَه وعبوديته، فإنَّ لله تعالى على العبد عبوديةً في الضَّراء، كما له عليه عبوديَّة في السَّرَّاء، وله عليه عبوديَّة فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يُحب، وأكثر الخلق يُعطون العبودية فيما يُحبون.
والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوتت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى.
فالوضوء بالماء البارد في شدَّة الحرِّ عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يُحبها عبودية، ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبوديَّة.
هذا، والوضوء بالماء البارد في شدَّة البرد عبودية، وتركه المعصية التي اشتدَّت دواعي نفسه إليها من غير خوفٍ من الناس عبوديَّة، ونفقته في الضَّراء عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين.
فمَن كان عبدًا لله في الحالتين، قائمًا بحقِّه في المكروه والمحبوب؛ فذلك الذي تناوله قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وفي القراءة الأخرى: عِبَادَهُ، وهما سواء؛ لأنَّ المفرد مضاف فيعمّ عموم الجمع.
فالكفاية التامَّة مع العبودية التامَّة، والناقصة مع الناقصة، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلُومَنَّ إلا نفسه.
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان، قال الله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أما بعد: فهذه المقدمة التي ذكرها المؤلفُ العلامةُ ابنُ القيم رحمه الله في كتابه "الوابل الصيب" مقدمة عظيمة ومفيدة، وقد أخذ بعضَها الشيخُ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، كما جاء في كتابه "آداب المشي إلى الصلاة".
فالإنسان في هذه الحالة بين نِعَمٍ وبين مصائبَ وبين ذنوبٍ، ولهذا قال رحمه الله: (أسأل الله أن يتولاكم في الدنيا والآخرة، وأن يُسبغَ عليكم نعمَه ظاهرةً وباطنةً)، فالذين تولَّاهم وأسبغ عليهم نعمه استقاموا، إذا تولاهم سبحانه وفَّقهم لكل خيرٍ، وأسبغ عليهم النِّعَم: نعمة الدِّين، ونعمة الدنيا، ونعمة كفارة الذنوب، فهذا دعاءٌ عامٌّ.
ثم بيَّن دعاء أخص: (أسأل الله أن يجعلكم ممن إذا أُعطي شكر)، يعني: إذا أنعم عليه شكر، (وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر)، فهؤلاء الثلاث تتضمن السعادة، والدليل: توفيق الله للعبد، كونه يُوفَّق للشكر عند النِّعم، والصبر عند المحن، والتوبة عند الذنوب.
هذه هي أسباب السعادة اجتمعت؛ لأنَّ كثيرًا من الناس عند النعم لا يشكر، بل يبطر ويتعدى الحدود، ويستعين بالنعم على المعاصي. وبعض الناس أيضًا عند البلية لا يصبر، إذا ابتُلي بمرضٍ أو فقرٍ أو غير هذا من المصائب أو موت قريبٍ جزع ولم يصبر. وكثير من الناس أيضًا يُصرُّ على الذنوب، ولا يتوب ولا يستغفر؛ فيكون ذلك من أسباب الهلاك.
لكن لو وفَّق الله العبدَ للشكر عند النعم، والصبر عند المصائب، والتوبة عند الذنوب؛ تمت له السعادة.
وهذه الأمور الثلاثة لا ينفكُّ عنها أحد، كل أحد يُبتلى بها، فالواجب على العبد عند هذه الأمور الثلاثة أن يفعل ما ينبغي له، فعند النعم -مثل: نعمة الصحة، نعمة المال، نعمة الزواج، نعمة العلم- يشكر الله على ما أعطاه من النعم بالاستقامة على طاعته وترك معصيته، وهذا الشكر مبنيٌّ على ثلاثة أشياء -ثلاثة أركان:
الاعتراف بها باطنًا: يعترف بأن الله أنعم عليه، ويوقن بقلبه، ويعلم الله من قلبه أنه معترفٌ بهذه النعمة، ويشكر الله عليها، ويحبه عليها سبحانه، وأنه المنعم جل وعلا، فهو خاضعٌ له، منيبٌ إليه، مُصدِّقٌ بإنعامه.
ثم أمر ثانٍ وهو: التحدث بها باللسان، كما قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].
والثالث: العمل، أي: يصرفها في طاعة الله وترك معصيته، كما قال : اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:13].
هذه الثلاث هي الأركان: الاعتراف بالنعمة لله وأنه المنعم، ومحبته على هذا، وخضوعه، وإذلاله، والتحدُّث بها بالقول، وتصريفها في طاعة المُنعم وترك معصيته.
أما المصائب: فهي تكون بموت قريبٍ، بالأمراض العارضة، بالفقر، بالحوادث التي تمر بالإنسان. فأنواع المصائب كثيرة، فكلَّما أصابه شيءٌ يكرهه يُقال له: مصيبة، والله يقول سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، ويقول سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول جل وعلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].
فالمصائب تقع بإذن الله الكوني القدري بمشيئته وقدره السابق؛ ابتلاءً وامتحانًا، فقد يُصاب بمرض عام، أو بمرضٍ في بعض أعضائه، قد يُصاب بالفقر، قد يُصاب بالإيذاء من الأعداء، قد يُصاب بأنواعٍ مما يكره.
فالواجب على المسلم عند هذه المصائب أن يستعمل الأمور الثلاثة، بحيث يكفُّ جوارحه عمَّا لا ينبغي، ويكفُّ لسانه عمَّا لا ينبغي، ويكفُّ قلبه عمَّا لا ينبغي، فلا يجزع بقلبه، ولا يتكلم بشيءٍ لا ينبغي بلسانه، ولا يفعل بجوارحه شيئًا: كخمش وجهٍ، أو شقِّ ثوبٍ، أو لطم خدٍّ، أو ما أشبه ذلك؛ بل يكون منيبًا لله، خاضعًا لله، حامدًا لله، صابرًا، محتسبًا، فلا يقول إلا خيرًا، ولا يتكلم إلا بالخير، ولا يفعل إلا خيرًا، وقلبه مطمئن، صابر، محتسب، ليس بجزوع. هكذا يجب عند المصائب.
أما عند الذنوب: فالواجب عندها البدار بالتوبة والاستغفار، فيُقابل الذنوبَ بالتوبة، والمصائب بالصبر والاحتساب، والنِّعم بالشكر والقيام بحقِّها.
هذه أسباب السعادة وأسباب النَّجاة.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: هل الصبر له مراتب أم مرتبة واحدة؟
ج: ثلاث مراتب: الصبر على المصائب بقلبه ولسانه وجوارحه جميعًا، ثلاث؛ بقلبه لا يجزع ولا يتسخَّط، وبلسانه لا يتكلم بما لا ينبغي من: النِّياحة والسَّب والكلام السيئ، وبجوارحه لا يخمش وجهًا، ولا يشق ثوبًا، ولا يلطم خدًّا، ولا يحثو على نفسه التراب، وأشباه ذلك.
س: مَن شكر بلسانه وخالف ذلك بجوارحه؟
ج: يكون ما صبر.
 
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يُسلِّم عباده إليه ولا يُسلِّطه عليهم قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83]، وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ [سبأ:20، 21].
فلم يجعل لعدوه سلطانًا على عباده المؤمنين، فإنهم في حِرزه وكلاءَتِه وحفظه وتحت كَنَفِه، وإن اغتال عدوه أحدَهم كما يغتال اللصُّ الرجلَ الغافلَ فهذا لا بد منه؛ لأن العبد قد ابتُلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة ولو احتزر العبدُ ما احتزر، فلا بد له من غفلةٍ، ولا بد له من شهوةٍ، ولا بد له من غضبٍ.
وقد كان آدم أبو البشر ﷺ من أحلم الخلق، وأرجحهم عقلًا، وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فما الظن بفراشة الحلم، ومَن عقله في جنب عقل أبيه كتَفْلَةٍ في بحر؟!
ولكن عدو الله لا يخلص إلى المؤمن إلا غيلةً على غِرَّةٍ وغفلةٍ، فيُوقعه، ويظن أنه لا يستقيل ربَّه بعدها، وأن تلك الواقعة قد اجتاحته وأهلكته، وفضل الله تعالى ورحمته وعفوه ومغفرته من وراء ذلك كله.
فإذا أراد الله بعبده خيرًا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أُوقعه.
وهذا معنى قول بعض السلف: "إن العبد ليعمل الذنبَ يدخل به الجنة، ويعمل الحسنةَ يدخل بها النار"، قالوا: كيف؟ قال: "يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه، خائفًا منه، مشفقًا، وجلًا، باكيًا، نادمًا، مستحيًا من ربه تعالى، ناكس الرأس بين يديه، منكسرَ القلب له، فيكون ذلك الذنبُ سببَ سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنبُ أنفعَ له من طاعاتٍ كثيرةٍ بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سببَ دخوله الجنة.
ويفعل الحسنة فلا يزال يَمُنُّ بها على ربه، ويتكبَّر بها، ويرى نفسه، ويُعجب بها، ويستطيل بها ويقول: فعلتُ وفعلتُ ..؛ فيُورثه ذلك من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سببَ هلاكه.
فإذا أراد الله بهذا المسكين خيرًا ابتلاه بأمرٍ يكسره به، ويذل به عنقه، ويُصغِّر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلَّاه وعجبَه وكبرَه، وهذا هو الخذلان الموجِب لهلاكه).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فإنَّ الله جلَّ وعلا خلق الخلق لعبادته، وأنزل الكتاب وأرسل الرسل تدعو إلى طاعته وتوحيده والإخلاص له وترك ما نهى عنه ، وأنظر الشيطان وذريَّته، وجعلهم أسبابًا لخزي بعض الناس وهلاك بعض الناس، وذلك لما استكبر الشيطانُ عن سجوده لآدم وطُرد، وطلب الإنظار فأُنْظِر، فتوعد أنه سوف يفعل ما يجرُّ به الناسَ إلى النار كما فعل بأبيهم آدم، إلا أن الله جل وعلا أبطل كيده، ووفَّق آدم للتوبة.
فلا يزال عدو الله وذريتُه من الشياطين ونوابه حريصين على إضلال الناس، أن يكونوا معهم في السَّعير، إلا مَن عصمهم الله ورحمهم من عباده المُخْلَصين، كما قال جل وعلا في كتابه العظيم عن الشيطان: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83]، قال سبحانه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:42، 43]، وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].
فالمقصود أن الله جل وعلا ابتلى الناسَ بدُعاة الباطل من الشياطين -شياطين الإنس والجن- وأرسل لهم الرسل، وأقام عليهم الحجة، وأنزل الكتب، فأبان طريق الخير، وأبان طريق الشر، ودعا إلى الالتزام بالخير، وحذَّر من دعاة الشر.
فالواجب على العبد أن يبذل وسعه في تحرِّي الحق والتماسه والأخذ به والاستقامة عليه، والحذر من دعوة شياطين الإنس والجن، وعدم الإصغاء إليهم، ومَن أراد الله به الهداية وفَّقه لهذا، وأعانه على هذا الشيء، وانشرح صدره لهذا الشيء، حتى يستقيم العبدُ على ما يُرضي الله، وحتى يبتعد عن محارم الله. ومَن أراد الله خذلانه استولت عليه الشياطين، وزيَّنت له أسباب الهلاك.
والإنسان يُبتلى بشهوةٍ وغفلةٍ، وهذه طرق الشيطان، طرق الشيطان للإنسان من جهة غفلته عما يحرُم عليه، ومن جهة شهوته بما حرَّم الله عليه، ومن جهة الغضب الذي يُغير عقلَه ويجرُّه إلى الباطل؛ هذه مداخل الشيطان، هذه الطرق: طرق الشهوات في المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك، وطرق الغضب: إذا غضب ضعف تصوره، وربما زيَّن له الشيطان الباطل فقبله، والغفلة التي تعتري الإنسان، فابن آدم تعتريه الغفلة والذهول لبعض الأسباب التي تقتضي ذلك، فربما أصابه الشيطانُ في هذه الأحوال الثلاث.
وقد حرَّم الله على آدم نوعًا من الشجر -شجرة واحدة- وأباح له جميع ما في الجنة من الثمار، فلم يزل به عدو الله يسوقه لهذه الشجرة ويدعوه إليها ويعده ويُمنِّيه حتى وقع، فأولاده من باب أولى، أين عقولهم من عقل آدم؟ وأين علمهم من علمه؟ وأين حلمهم من حلمه؟
فلهذا وقع أكثرهم في حبالة الشيطان، وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم وصدَّهم عن السبيل؛ فهلكوا إلا القليل، ولهذا قال جل وعلا في كتابه العظيم: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وقال عن الشيطان أنه قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [d1]  [الحجر:39-40]، وفي الآية الأخرى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ۝  ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17]، وقال في الآية الأخرى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ:20]، وقال: وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17] عن ظنٍّ، فوقع ذلك الظن، وصار الأكثرون في طاعته؛ في اتِّباع الهوى، ولم ينجو من حُبالته ومن مصيدته ومن مكائده إلا القليل: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].
فإذا عرف المؤمنُ هذا أوجب له ذلك الحذر دائمًا والحيطة، وألا يقع فيما حرَّم الله عليه بسبب غفلةٍ أو شهوةٍ أو غضبٍ، ويكون عنده التَّحرز والحذر، ربما وقع في الزَّلة وأدرك الشيطان فيها، ثم يُوفَّق للتوبة والندم والإقلاع؛ فتكون سببًا لنجاته وسعادته، وربما تعاطى الطاعة وأُعجب بنفسه ومَنَّ بها على ربِّه وتكبَّر؛ فتكون سببًا لهلاكه.
ولهذا قال بعض السلف: "إن العبد ليعمل بالحسنة فيدخل بها النار، ويعمل بالسيئة فيدخل بها الجنة"، يعني: يعمل بالحسنة فتكبر في نفسه وتعظُم حتى يمُنَّ بها على الله ويقول: أنا فعلتُ .. وأنا فعلتُ .. وأنا فعلت ..، ويتكبر ويفخر ويزين لنفسه الشيطان أنه هو الرجل وهو وهو؛ فيجرّ ذلك الخُيلاء والكبر والمنَّة على الله والعُجب؛ فيهلك.
وربما فعل السيئة وندم عليها، ولام نفسه، وجاهدها في التوبة والعمل الصالح؛ فتكون نصب عينيه، هجرًا منها، بعيدًا منها، خائفًا منها، وجلًا منها، فتكون هذه السيئة سببًا لدخوله الجنة؛ لأنه تاب منها توبةً نصوحة، واجتهد في طاعة الله وسابق إلى الخيرات، فصارت سببًا لنجاته وسعادته.
هكذا يجب على المؤمن، إذا زلَّ أن يحذر هذه السَّيئة، وأن يُبادر بالتوبة والإقلاع والندم، وإتباعها بالحسنات الكثيرة؛ حتى يسلم من شرِّها.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: مداخل الشيطان الثلاثة السالفة الذكر عليها دليل؟
ج: من القرآن، إذا تأمَّلتَ: الغضب معلوم أنَّه من أسباب الشيطان، ولما غضب موسى ألقى الألواح، وفيها كلام الرب ، والغفلة مثل ما قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] يعني: ومَن يغفل.
وأمَّا الشهوة فأدلتها كثيرة -نسأل الله العافية- قال جل وعلا في كتابه الكريم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23]، وقال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ الشهوات وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، نسأل الله العافية، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
س: لعن الشيطان؟
ج: جائز كما لعنه الله، لكن التَّعوذ بالله من شرِّه أحسن؛ لأنه عند اللعن قد يتعاظم كما جاء في الحديث، لكن عند التعوذ بالله من شرِّه يتصاغر.
س: الحديث صحيح؟
ج: لا بأس به: لا تقُلْ: تَعِسَ الشيطانُ، بل قُلْ: بسم الله، المقصود أن التعوذ بالله من شرِّه أفضل من لعنه، والله لعنه وطرده.
س: حديث: لا تلعنوا الشيطان واستعيذوا منه؟
ج: ما أعرفه.
س: قصة آدم عليه السلام مع الشيطان: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ [الأعراف:190]، صحيحة؟
ج: نص القرآن أنه مع آدم؛ لأن الله قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ... الآية [الأعراف:189]، فالقصة قصة آدم مع زوجته، وقال بعض السلف أن المراد به الذرية، ولكن نص القرآن واضح.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى: (فإنَّ العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
فمَن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبرّه وغناه وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحدٌ منهما فهو كالطير الذي فقد أحدَ جناحيه.
قال شيخ الإسلام: "العارفُ يسير إلى الله بين مشاهدة المنَّة ومُطالعة عيب النفس والعمل".
وهذا معنى قوله ﷺ في الحديث الصحيح: سيِّد الاستغفار أن يقول العبد: اللَّهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبُوء بذنبي، فاغفر لي، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فجمع في قوله ﷺ: أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنَّة تُوجب له المحبَّة والحمد والشُّكر لولي النِّعَم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل تُوجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقتٍ، وأن لا يرى نفسَه إلا مفلسًا، وأقرب بابٍ دخل منه العبدُ على الله تعالى باب الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالًا ولا مقامًا ولا سببًا يتعلَّق به، ولا وسيلةً منه يمُنُّ بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرف، والإفلاس المحض، دخول مَن قد كسر الفقرُ والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرةُ إلى سُويدائه فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربِّه ، وكمال فاقته وفقره إليه، وأنَّ في كل ذرةٍ من ذرَّاته الظَّاهرة والباطنة فاقَة تامَّة، وضرورة كاملة إلى ربِّه تبارك وتعالى، وأنَّه إن تخلَّى عنه طرفةَ عينٍ هلك، وخسر خسارة لا تُجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
ولا طريق إلى الله تعالى أقرب من العبودية، ولا حجابَ أغلظ من الدعوى.
والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حبٌّ كاملٌ، وذلٌّ تامٌّ.
ومنشأ هذين الأصلين عن ذَينك الأصلين المتقدِّمَين، وهما: مشاهدة المنَّة التي تُورث المحبَّة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تُورث الذل التام، وإذا كان العبدُ قد بنى سلوكَه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غِرَّةٍ وغفلةٍ، وما أسرع ما يُنعشه الله ويجبره ويتداركه برحمته).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الكلمات الطيبة والحديث الشريف كلها تدل على أنَّ الواجب على العبد هو الانكسار إلى الله والدنو بين يديه، وأن يُحاسب نفسه ويُطالع عيوبه من تقصيرٍ وأعمالٍ سيئةٍ، حتى يرجع إلى الله ويتوب إليه وينكسر بين يديه، فإن العارفين بالله -وهم العلماء بالله- قد أجمعوا على أن التوفيق ألا تُكَال إلى نفسك، وأن يمنحك الله منه الرِّعاية والتَّسديد، وأنَّ الخذلان كل الخذلان أن توُكَل إلى نفسك، وأن يتخلَّى الله عنك فتهلك مع هواك وشيطانك.
فالتوفيق والعزَّة والاستقامة كلها بالثقة بالله والاعتماد عليه، والرجوع إليه ومشاهدة منته وإحسانه، فتعبده وحده، وتستقيم على طاعته، مؤمنًا بأنه سبحانه هو الذي أنعم عليك وأحسن إليك، وأخرجك من العدم، وغذَّاك بالنِّعَم، وخلقك لعبادته، وخلق لك كلَّ شيءٍ، فالواجب أن تُحبه كلَّ الحب، وأن تخضع له كل الخضوع، وأن تستقيم على طاعته وشكر نِعَمِه؛ لأنَّه منعمٌ مُحسنٌ ومتفضِّلٌ، ومُوفِّق هادٍ.
فالطريق إلى النجاة والسعادة، والطريق إلى الوصول إلى جنة الله وكرامته أن تستقيم على طاعته، وأن تُشاهد منته وإحسانه عليك، من حين خلقك إلى أن يتوفَّاك وأنت تتقلَّب في نعمه.
وعليك أن تُطالع أيضًا عيبَ نفسك، وعيبَ عملك من الذنوب والسَّيئات، وهذا معنى ما دلَّ عليه حديث سيد الاستغفار، وهو قوله ﷺ: سيد الاستغفار أن يقول العبدُ: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت.
فقوله: أبوء لك بنعمتك عليّ يعني: أعترف وأقرّ بنعمتك عليّ، وهذا هو مشاهدة المنة والإحسان.
وأبوء بذنبي هذا هو الاعتراف بالذنب والتقصير في العمل، فإذا اعترف العبدُ بنِعَم الله عليه وإحسانه أوجب له ذلك حب الله وشُكر نِعَمه والمسارعة إلى طاعته، وإذا شاهد ذنوبَه وسيئاته وتقصيره صار ذلك من أسباب انكساره لله وذله بين يديه ولزومه للتوبة حتى يلقى ربَّه.
فالمؤمن الصَّادق يسير إلى الله بين هاتين الحالتين -كالجناحين للطائر- بين مشاهدة المنَّة وشُكر الله على نِعمه، وبين مطالعة عيب نفسه وذنوبه وسيئاته وعمله، فهما كالجناحين للطائر، إذا تعطل أحدُهما تعطل الطائر، وإذا فقدهما هلك، بقي لقمةً لكل مَن يصيده.
هذان الجناحان هما: مشاهدة المنة والإحسان، ومشاهدة عيب نفسه وذنوبه، فتكون بين الأمرين: تشكر الله وتُحبه وتعرف نِعمه عليك وتشكره عليها، وتُطالع عيبَ نفسك وذنوبك وسيئاتك فتتوب إلى الله، وتُقلع عن سيئاتك، وتذل بين يدي الله، وتنكسر وتخضع له سبحانه، خائفًا، وجلًا، مشفقًا، تخشى من شديد عقابه.
هكذا يجب على أهل الإسلام وأهل الإيمان أن يكون سيرهم إلى الله وعبادتهم إيَّاه بين هذين الأمرين: بين مشاهدة المنَّة والإحسان، فيشكر الله على ذلك، ويعبده وحده، ويؤدي حقَّه، وبين مطالعة عيب النفس والتقصير وما حصل من الذنوب، حتى يتوبَ إلى الله، حتى يندمَ ويُقلع وينكسر بين يدي الله، ويكون أبدًا في ضراعةٍ وذُلٍّ وانكسارٍ، يرجو رحمته ويخشى عقابه.
نسأل الله للجميع التوفيق.

الأسئلة:

س: يقول: (لا طريق إلى الله تعالى أقرب من العبودية، ولا حجابَ أغلظ من الدَّعوى) ما الدعوى؟
ج: العبودية: الانكسار بين يدي الله وطاعته، والدَّعوى: كونه يدَّعي أنه كذا، وأنه كذا، ويمُنُّ بأعماله بأنه تقيّ، وأنه يقوم الليل، وأنه صوَّام، فيُبتلى بالرياء، ويُبتلى بالمنَّة على الله.
س: تعس عبدُ الدينار هنا وقع في الشِّرك؟
ج: مَن يعمل للدينار يكون شركًا أصغر، إذا أراد الإنسانُ بعمله الدنيا، فإذا كان ما عنده إيمان ولا تقوى صار شركًا أكبر، لكن إذا كان إنما علَّم لأجل الدنيا، أو أمر لأجل الدنيا، أو نهى لأجل الدنيا ما هو لأجل الله؛ يكون من باب الشرك الأصغر: تعس عبد الدينار، أما إذا كان لله ولكن أُعطي ما يُعينه فلا بأس، يُعطى من المعاش ما يُعينه على ذلك فلا حرج عليه.
س: تعبير ابن القيم بـ(العارفين) يقصد به أهلَ العلم؟
ج: يعني: العلماء، أهل البصيرة، ما هم بعلماء القشور: علماء الألفاظ، المهم أنهم علماء دين الله وتعظيمه وخشيته، الذين عرفوه وعظَّموه، وكانت علومُهم نابعةً من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
س: هو اصطلاح خاصٌّ للصوفية: العارفين، العارف بالله؟
ج: هذا معنى العالم بالله، يعني: أهل الزهد، والعارف بالله صحيحة، العارف بالله يعني: العلم بالله، والأنس به، والشوق إليه، والتَّلذذ بمُنجاته، هذه من عبارات أهل السنة في كتاب "مدارج السالكين" و"طريق الهجرتين"، وشيخ الإسلام الأنصاري في كتابٍ معروفٍ، يعتنون بأحوال القلوب على طريقة بشر الحافي وأبي سليمان الداراني، أئمة السلوك من أهل السنة.
س: بعض أهل العلم يقول: ليتَ ابن القيم لم يُؤلِّف "مدارج السَّالكين"؛ لأنه استعمل بعض عبارات الصُّوفية؟
ج: ولو، يُؤخذ منها الحق ويُنفى الباطل، ذكر اصطلاحاتهم وزيَّفها.
 
فصل في استقامة القلب

قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: (فصل في استقامة القلب:
وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجوارحه.
فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدَّم عنده على جميع المحابِّ، فإذا تعارض حبُّ الله تعالى وحبُّ غيره سبق حبُّ الله تعالى حبَّ ما سواه، فرتَّب على ذلك مُقتضاه.
ما أسهل هذا بالدَّعوى، وما أصعبه بالفعل، فعند الامتحان يُكرم المرءُ أو يُهان.
وما أكثر ما يُقدِّم العبدُ ما يُحبه هو ويهواه، أو يُحبه كبيرُه وأميرُه وشيخُه وأهلُه على ما يُحبه الله تعالى.
فهذا لم تتقدم محبةُ الله تعالى في قلبه جميعَ المحابِّ، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمَن هذا شأنه أن يُنَكِّدَ عليه محابَّه، ويُنَغِّصها عليه، ولا ينال شيئًا منها إلا بنكدٍ وتنغيصٍ، جزاء له على إيثاره هواه وهوى مَن يُعظِّمه من الخلق، أو يُحبه على محبَّة الله تعالى.
وقد قضى الله تعالى قضاءً لا يُرد ولا يُدفع: أنَّ مَن أحبَّ شيئًا سواه عُذِّب به ولا بدّ، وأنَّ مَن خاف غيرَه سُلِّط عليه، وأنَّ مَن اشتغل بشيءٍ غيره كان شؤمًا عليه، ومَن آثر غيرَه عليه لم يُبارك فيه، ومَن أرضى غيرَه بسخطه أسخطه عليه ولا بدّ.
الأمر الثاني الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنَّهى، وهو ناشئٌ عن تعظيم الآمر النَّاهي، فإنَّ الله تعالى ذمَّ مَن لا يُعظِّمه ولا يُعظِّم أمرَه ونهيَه، قال : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمةً.
وما أحسن ما قال شيخُ الاسلام في تعظيم الأمر والنهي: "هو أن لا يُعارضا بترخُّصٍ جافٍ، ولا يُعارضا بتشديدٍ غالٍ، ولا يُحمَلا على عِلَّةٍ تُوهِن الانقياد".
ومعنى كلامه أن أول مراتب تعظيم الحق تعظيم أمره ونهيه؛ وذلك لأن المؤمن يعرف ربَّه برسالته التي أرسل بها رسول الله ﷺ إلى كافَّة الناس، ومُقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله واتِّباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيمُ المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالًّا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة والبراءة من النِّفاق الأكبر.
فإنَّ الرجل قد يتعاطى فعلَ الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتَّبها الشارعُ على المناهي.
فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي، وعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حقٍّ من حقوقها، كمَن يحزن على فوت الجماعة ويعلم أنه لو تُقُبِّلت منه صلاته منفردًا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفًا.
ولو أن رجلًا يعاني البيعَ والشِّراء يفوته في صفقةٍ واحدةٍ في بلده من غير سفرٍ ولا مشقَّةٍ سبعةٌ وعشرون دينارًا لأكل يديه ندمًا وأسفًا، فكيف وكل ضعفٍ مما تُضاعف به صلاة الجماعة خيرٌ من ألفٍ وألف ألفٍ وما شاء الله تعالى؟!
فإذا فوَّت العبدُ عليه هذا الربح خسر قطعًا، كثير من العلماء يقول: لا صلاةَ له وهو بارد القلب، فارغ من هذه المصيبة، غير مرتاعٍ لها، فهذا من عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصفُّ الأول الذي يُصلي اللهُ وملائكتُه على ميامنه، ولو يعلم العبدُ فضيلته لجالد عليه ولكانت قُرعةً.
وكذلك فوت الجمع الكثير الذي تُضاعف الصلاة بكثرته وقلته، كلَّما كثر الجمع كان أحبَّ إلى الله ، وكلما بعدت الخُطَى كانت خطوةٌ تحُطُّ خطيئةً، وأخرى ترفع درجةً.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبُّها، فصلاةٌ بلا خشوعٍ ولا حضورٍ كبدنٍ ميتٍ لا روحَ فيه، أفلا يستحي العبدُ أن يُهدي إلى مخلوقٍ مثله عبدًا ميتًا أو جاريةً ميتةً؟! فما ظنُّ هذا العبد أن تقع تلك الهديةُ ممن قصده بها من ملكٍ أو أميرٍ أو غيره؟ فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد -أو الأَمَة- الميت الذي يُريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه، وإن أسقطت الفرضَ في أحكام الدنيا، ولا يُثيبه عليها، فإنَّه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في السُّنن ومسند الإمام أحمد وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ العبد ليُصلي الصلاةَ وما كُتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها ..» حتى بلغ عُشرها.
وينبغي أن يُعلم أنَّ سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبَّة وتوابعها.
وهذا العمل الكامل هو الذي يُكفِّر الذنوبَ تكفيرًا كاملًا، والناقص بحسبه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسّيئات بحسب كماله ونقصانه.
وبهذا يزول الإشكالُ الذي يُورده مَن نقص حظُّه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: أنَّ صوم يوم عرفة يُكفِّر سنتين، وصوم يوم عاشوراء يُكفِّر سنةً، قالوا: فإذا كان دأبُه دائمًا أنه يصوم يوم عرفة، فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفيرُ ثلاث سنين كل سنة؟!
وأجاب بعضُهم عن هذا بأن ما فضل عن التَّكفير ينال به الدَّرجات.
ويالله العجب! فليتَ العبد إذا أتى بهذه المكفِّرات كلها أن تُكفَّر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعضٍ).

فصل في استقامة القلب

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فيُوضِّح المؤلفُ بحثًا مهمًّا عظيمًا ينبغي للمؤمن أن يُلاحظه، وهو أنَّ الواجب على العبد أن يستقيم قلبُه على طاعة الله، وأن يثبت على ذلك، وأن يسير على ذلك فيما يأتي ويذر، وألَّا يُصاب بالانحراف والتَّكاسل والترك لبعض الأشياء في بعض الأحيان، بل يستقيم العبد كما قال الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، وقال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112].
وقال رجل: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ قال: قل: آمنتُ بالله ثم استقم.
وتقدَّم أنَّ الواجب على العبد أن يسير إلى الله سبحانه في عبادته وأعماله بين أمرين: مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل. وهذان الأمران مُستفادان من حديث سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فهذا الحديث هو سيد الاستغفار -أفضل الاستغفار- رواه البخاري في "الصحيح".
اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت أي: لا إلهَ معبود بحقٍّ سواك، ويقول في آخره: أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، ومعنى «أبوء» -كما تقدَّم- يعني: أعترف بنعمتك، ومقِرٌّ بها. فهذه مشاهدة المنة، يُشاهد نِعَم الله عليه: في صحته، في بصره، في قلبه، في بدنه، في ذريته، في أمواله، في كلِّ ما يتصل به.
ومشاهدة هذه المنة وهذه النعمة تُسبب الأمرين الآتيين، كون الإنسان يُشاهد هذه المنة، وأن الله جل وعلا أعطاه هذه النعم وهو يتقلَّب فيها: نعمة الصحة، نعمة الدين، نعمة المال، نعمة الذرية، نعمة الزوجة، إلى غير هذا، ثم أمر ثانٍ: مطالعة عيوبه وأعماله السّيئة؛ فالأول يُوجب له محبة الله، والثاني يُوجب له الذل والانكسار بين يدي الله، ولهذا قال بعدها رحمه الله: لا يستقيم العبدُ استقامة قلبه مع الله إلا بأمرين:
أحدهما: تقديم حبّ الله على غيره.
والثاني: تعظيم أمر الله ونهيه.
فهذان الأمران ناشئان عن مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، فإنَّ العبد إذا شاهد مِنَّة الله وعرف عيوبَه وتقصيرَه أوجب له ذلك محبَّة الله سبحانه، وأن يُقدِّم محبته على غيره، وأن تكون محبةُ الناس تابعةً لذلك، فهو يُحب ما أحبَّه الله، ويكره ما كرهه الله، ويُؤثر محابّ الله على غيرها، إذا تعارض عنده حبُّ زيدٍ أو عمرٍو وحبُّ الله قدَّم حبَّ الله: في صلواته، في صيامه، في زكاته، في أعماله كلها.
ثم إن مطالعته في عيبه وتقصيره وذنوبه تُوجب له الانكسار والذل بين يدي الله، وتعظيم أمر الله ونهيه، وأن الله أعطاه نعمًا عظيمةً، وأوجب عليه واجبات، وحرَّم عليه أشياء، فلا بدّ أن يُشاهدها ويعتني بها؛ حتى تكون مشاهدته نِعم الله وتذكره لهذا الشيء يُوجب حبّه سبحانه، وتعظيم أمره ونهيه، وفعل ما يُرضيه، وترك ما يُغضبه.
ومشاهدته لذنوبه وتقصيره -كونه يشهد بذنوبه وتقصيره- يوجب له ذلك الذل والانكسار، والحياء من الله، والحذر من السيئات والبعد عنها.
هكذا المؤمن يُقدِّم محابَّ ربه على محابِّ الناس وعلى هواه، ويُعظِّم أمر الله ونهيه تعظيمًا يحمله على فعل ما أمر الله، وترك ما نهى الله، والحذر من الجفاء والتقصير، فلا يجفو ولا يغلو، بل يترسّم الطريق السَّوي الذي سلكه الرسولُ ﷺ وأصحابُه، من دون غلوٍّ ولا جفاءٍ، ومن دون تحمّل الأوامر على عِللٍ تُوهنها، كونه يحملها على عللٍ: إذا كان كذا، إذا كان كذا ..، فيتساهل ويُقصِّر، بل تكون همتُه عاليةً في فعل الأوامر وترك النواهي، وعدم الجفاء، وعدم الغلو، وعدم قصرها على عللٍ واهيةٍ تُوهِن له العمل، كما يأتي الشيطانُ الإنسانَ ويقول: "أنت الحمد لله إذا صليتَ في الوقت، وجلست في بيتك لأجل كذا وكذا، ما يضرُّك، فالمقصود فعل الصلاة، ما المقصود حضور الجماعة! أو: أنت إذا فعلتَ كذا وفعلتَ كذا يكفي، طالما هناك التعظيم المطلوب لله، والحذر منه، والانكسار بين يديه. فيأتي بعللٍ تُوهن له الانقياد، توهن له نشاط قلبه.
فلا بدَّ له من همةٍ عاليةٍ في تعظيم الأمر والنهي، وأن يُؤديه على أكمل وجهٍ، وأحسن وجهٍ، يرجو ثواب الله، يريد تعظيمه، يريد وجهه الكريم؛ لأنه سبحانه هو أعظم شيءٍ، فالواجب أن تُقدِّم له أقصى ما عندك من الجهد في طاعته ومحبته، وتعظيم أمره ونهيه، والحذر من مساخطه، على أعلى مستوى، وعلى أفضل وجهٍ، تريد وجهه الكريم، تريد القُربة لديه، تريد المنزلة العالية، تريد الحذر من غضبه وأليم عقابه، وهذا لا يتم إلا بالمجاهدة التامَّة في تعظيم الأمر والنهي، والحذر من فعل السّيئات والتساهل بها.
وفَّق الله الجميع.
 
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: (وينبغي أن يُعلم أنَّ سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبَّة وتوابعها.
وهذا العمل الكامل هو الذي يُكفِّر الذنوبَ تكفيرًا كاملًا، والناقص بحسبه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسّيئات بحسب كماله ونقصانه.
وبهذا يزول الإشكالُ الذي يُورده مَن نقص حظُّه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: أنَّ صوم يوم عرفة يُكفِّر سنتين، وصوم يوم عاشوراء يُكفِّر سنةً، قالوا: فإذا كان دأبُه دائمًا أنه يصوم يوم عرفة، فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفيرُ ثلاث سنين كل سنة؟!
وأجاب بعضُهم عن هذا بأن ما فضل عن التَّكفير ينال به الدَّرجات.
ويالله العجب! فليتَ العبد إذا أتى بهذه المكفِّرات كلها أن تُكفَّر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعضٍ.
والتكفير بهذه مشروط بشروطٍ، وموقوف على انتفاء الموانع في العمل وخارجه، فإن علم العبدُ أنه جاء بالشروط كلِّها وانتفت عنه الموانع كلها فحينئذٍ يقع التكفيرُ، وأمَّا عملٌ شملته الغفلة، أو شملت أكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه ولُبُّه، ولم يُوفَّ حقّه، ولم يُقدِّره حقَّ قدره، فأيُّ شيءٍ يُكفِّر هذا؟!
فإن وثق العبدُ من عمله بأنه وفَّاه حقَّه الذي ينبغي له ظاهرًا وباطنًا، ولم يعرض له مانعٌ يمنع تكفيره، ولا مبطلٌ يحبطه، من: عُجبٍ، أو رؤية نفسه فيه، أو يمُنّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه به، أو يستشرف بقلبه لمن يُعظِّمه عليه، أو يُعادي مَن لا يُعظِّمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقَّه، وأنه قد استهان بحرمته. فهذا أي شيء يُكفِّر؟!
ومحبطات الأعمال ومُفسداتها أكثر من أن تُحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يُفسده ويُحبطه، فالرياء وإن دقَّ محبطٌ للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تُحصر، وكون العمل غير مقيدٍ باتباع السنة أيضًا موجبٌ لكونه باطلًا، والمَنُّ به على الله تعالى بقلبه مُفسدٌ له، وكذلك المَنُّ بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مُفسدٌ لها، كما قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264].
وأكثر الناس ما عندهم خبر من السّيئات التي تُحبط الحسنات، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فحذَّر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله ﷺ كما يجهر بعضُهم لبعضٍ، وليس هذا بردةٍ، بل معصية يحبط بها العمل، وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمَن قدَّم على قول الرسول ﷺ وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟! أليس هذا قد حبط عملُه وهو لا يشعر؟
ومن هذا قوله ﷺ: مَن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله.
ومن هذا قول عائشة رضي الله عنها وعن أبيها لزيد بن أرقم لما باع بالعِينة: "إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إلا أن يتوب". وليس التبايع بالعينة ردَّةً، وإنما غايته أنه معصية.
فمعرفة ما يُفسد الأعمالَ في حال وقوعها ويُبطلها ويُحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يُفتش عليه العبد، ويحرص على عمله، ويحذره).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أما بعد: هذا كلامٌ يُفيد المؤمنَ العناية بأعماله، والتفتيش عن زلَّاته وأخطائه، فإنَّ الله جل وعلا وعد عباده تكفير السيئات بالأعمال الصالحات: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، لكن على المؤمن أن يعتني بهذا العمل حتى يكون خالصًا لله، موافقًا للشريعة؛ حتى يحصل منه المطلوب من إحباط السيئات وإزالتها، ومن قبوله عند الله.
ولهذا أخبر جلَّ وعلا في كتابه أن الإنسان قد يرفع صوتَه على النبي ﷺ كما يرفع صوته على الناس؛ فيحبط عملُه عقوبةً، وهذا حبوط مجمل ظاهره حبوط الأعمال بهذا العمل، وهكذا مَن ترك صلاة العصر حبط عمله، قال الجمهور: لعظم الجريمة. وقال آخرون: لأنه يكفر بذلك، مَن تركها كفر فحبط عمله. وقال سبحانه: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264]، فالمن والأذى سيئتان تُبطلان العمل، وهكذا الرياء: إذا صلَّى يُرائي، أو تصدَّق يُرائي، أو وعظ يُرائي؛ بطل عمله وثوابه وصار آثمًا.
فينبغي للمؤمن أن يفتش عن أعماله، وأن تكون أعماله على الإخلاص والسَّداد والاستقامة، ولهذا يقول ﷺ: مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، قد لا يصومه إيمانًا واحتسابًا: إمَّا رياء، وإما مجاملةً، وإمَّا ليُقال أنه يصوم، أو اتِّباعًا لأهله، أو ما أشبه ذلك؛ فلا يحصل له الأجر. وهكذا مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق، قد يحج ويرفث ويفسق فلا يحصل له ثواب الحج. وهكذا قيام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وهكذا ما أشبه ذلك.
فالمؤمن يُحاسب نفسَه، ويُفتش عن عمله، فإذا كان عمله خالصًا لله، موافقًا للشريعة؛ فهو حريٌّ بعظيم الأجر، وحري بتكفير السيئات، وحطِّ الخطايا.
وهكذا صوم عاشوراء يُكفِّر سنةً، وصوم عرفة يُكفِّر سنتين، هذا إذا استوفى شروطه، وكان صومًا خالصًا لله، إيمانًا واحتسابًا.
فهذا قد يحصل به المقصود مع اجتناب الكبائر، أما إذا كان يتعاطى الكبائر، فإن الكبائر حجر عثرة في الطريق، تمنع من التكفير، فإذا كان يتعاطى بعض الكبائر من الذنوب صار ذلك من أسباب عدم تكفير حسناته لسيئاته.
ولهذا يقول ﷺ: الصلوات الخمس الصلاة هي عمود الإسلام، أعظم شيءٍ بعد التوحيد والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفَّارات لما بينهنَّ مالم تُغش الكبائر، وفي اللفظ الآخر: إذا اجتنب الكبائر، فهذه الصلاة التي هي عمود الإسلام، وهكذا صوم رمضان، وهكذا قيامه، وهكذا الحج؛ إنما تنفع ويحصل بها المطلوب عند اجتناب الكبائر، فأمَّا إذا كان يتعاطى الكبائر لم تُغفر له سيئاته بهذا العمل، حسبه أنه أدَّى عنه الواجب فقط، لكن لا يكون مُؤثرًا في تكفير السيئات، حسبه أنه يُؤجر على هذا العمل أيضًا بما يُناسب عمله، الله يعلم به، لكن يحصل به الفائدة من كونه يُحبط السّيئات؟ لا، حتى يتم الشَّرط: إيمانًا واحتسابًا عن إيمانٍ، وعن احتساب الأجر عند الله، لا عن رياء، ولا عن سمعة، ولا عن غفلةٍ وتقليد، صام عن إيمانٍ بأن الله شرع هذا الشيء، وأنه مفروضٌ عليه، وأنه مطلوب منه، واحتسابًا للأجر عنده، لا رياء، ولا سمعة، ولا طلبًا لحمد الناس، ولا لثنائهم، ولا لمعروفهم.
فهذه الأمور العظيمة يجب على المؤمن أن يُلاحظها، وأن يجتهد في أن تكون أعماله خالصةً لله كاملة، يبعثه إليها إيمانه بالله، وتصديقه بوعده، وطلب مرضاته، لا يبعثه رياء الناس، ولا حمد الناس، ولا ثناء الناس، ولا مَنُّهم، ولا مساعداتهم، يبعثه على العمل حبه لله، وإخلاصه لله، ورغبته بما عند الله، فهذه الأعمال التي يحصل بها التكفير ورفع الدرجات وحطُّ الخطايا.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.

الأسئلة:

س: ما شرط إحباط عمل المؤمن؟
ج: مثل ما بيَّن الله جل وعلا، له أسباب، إذا وُجدت أسبابه حبط عمله.
س: ألا يُشترط موتُه على ذلك؟
ج: إذا تاب زال المحك؛ لأنه تاب، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها، فإذا تاب من سيئاته تاب الله عليه، فالمقصود إذا عمل توبةً.
س: الرجل يُسَرُّ من ثناء الناس؟
ج: لا يضرُّه إذا كان لم يعمل من أجلهم، مثلما قال النبي: تلك عاجل بشرى المؤمن، إذا سُرَّ به ولم يعمل لأجلهم، ولكن سمعوا أنه يدعو إلى الله فدعوا له وأثنوا عليه، سمعوا أنه يتصدق فدعوا له وأثنوا عليه، ولكنه ما قصدهم؛ ما يضره، هذه عاجل بُشرى المؤمن.
س: قول مَن قال: إن علامة الإخلاص أن يستوي عندك الذم والمدح؟
ج: لا، ما هو شرط، إذا استبشر بدعاء الناس ما يضرّ، تلك عاجل بُشرى المؤمن.
س: إذا خالط العملَ شيءٌ من الرياء؟
ج: يُبطل العملَ الذي قام به، إذا صلَّى يُرائي بطل عمله، قرأ يُرائي بطلت القراءة التي دخلها الرياء، تصدَّق يُرائي هكذا.
س: لو كان بداية العمل؟
ج: ولو، ولو، إذا كان عمل واحد يبطل.
س: من حج ثم بعد ذلك تهاون في الصلاة أو تركها هل يُعيد حجه؟
ج: إذا تاب لا، ما يُعيد، ولا يُعيد صيامه، ولا شيئًا، إذا تاب رجعت أعماله له: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير».
س: ما يبطل عمله مع الإثم؟
ج: ما الإثم فيها؟! لو كان الإثم لبطل عمله.
س: يا شيخ، قول: «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت»؟
ج: يعني: أقبل عليها وصلِّها لله.
س: طيب، تأثم إذا لم تخشع فيها؟
ج: يعني: ينقص ثوابها وتجزئ.
س: إذا أصرَّ على الكبائر هل تُكفَّر السيئات الصَّغائر؟
ج: مثل ما قال ربك: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] يعني: الصغائر، فضل من الله، لكن اختلف الناس في حدِّ الكبيرة، قد يظنها صغيرةً وهي كبيرة، فليحذر السّيئات كلها، صغيرها وكبيرها، يكون عنده حذر؛ لأنه قد يقع في الكبيرة ويحسب أنها صغيرة.
س: ما دام مُصِرًّا على كبيرةٍ وصلَّى الصلوات هل تُكفَّر عنه الصَّغائر؟
ج: لا، ما تُكفَّر، الشرط اجتناب الكبائر.
س: جواب ابن القيم على الاستشكال الذي ذكره عن الثلاث سنوات: صوم عرفة وصوم ..؟
ج: بيَّنا أنها تُكفِّر السيئات، إذا وُجدت سيئات وتم الصوم، وكان العمل خالصًا لله، صيامًا لله، لا رياء، ولا سمعة، وصام إيمانًا واحتسابًا؛ كفَّر الموجود من السّيئات بشرط اجتناب الكبائر، شرط اجتناب الموانع.
 
في الرياء

قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في الرياء: (وقد جاء في أثرٍ معروفٍ: "وإن العبدَ ليعمل العمل سرًّا لا يطَّلع عليه أحدٌ إلا الله تعالى، فيتحدث به فينتقل من ديوان السّر إلى ديوان العلانية، ثم يصير في ذلك الدِّيوان على حسب العلانية، فإن تحدَّث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله، كما لو فعله لذلك".
فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟
قيل: إن كان قد عمله لغير الله تعالى وأوقعه بهذه النية فإنَّه لا ينقلب صالحًا بالتوبة، بل حسْب التوبة أن تمحو عنه عقابَه؛ فيصير لا له ولا عليه.
وأمَّا إن عمله لله تعالى خالصًا، ثم عرض له عجبٌ ورياءٌ، أو تحدَّث به، ثم تاب من ذلك وندم؛ فهذا قد يعود له ثواب عمله ولا يحبط.
وقد يُقال: إنَّه لا يعود إليه، بل يستأنف العمل.
والمسألة مبنية على أصلٍ، وهو: أن الردة هل تُحبط العمل بمجردها أو لا يُحبطه إلا الموتُ عليها؟ فيه للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن الإمام أحمد .
فإن قلنا: تُحبط العمل بنفسها، فمتى أسلم استأنف العمل وبطل ما كان قد عمل قبل الاسلام.
وإن قلنا: لا يحبط العمل إلا إذا مات مرتدًّا، فمتى عاد إلى الاسلام عاد إليه ثوابُ عمله.
وهكذا العبدُ إذا فعل حسنةً ثم فعل سيئةً تُحبطها، ثم تاب من تلك السيئة، هل يعود إليه ثوابُ تلك الحسنة المتقدِّمة؟ يُخرَّج على هذا الأصل.
ولم يزل في نفسي شيء من هذه المسألة، ولم أزل حريصًا على الصواب فيها، وما رأيتُ أحدًا شفى فيها، والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم وبه المستعان ولا قوة إلا به- أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل، ويكون الحكمُ فيها للغالب، وهو يقهر المغلوب ويكون الحكم له، حتى كأن المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسناتُ رفعت حسناتُه الكثيرة سيئاتِه، ومتى تاب من السّيئة ترتب على توبته منها حسنات كثيرة قد تربو وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبةُ وصحَّت ونشأت من صميم القلب أحرقت ما مرَّت عليه من السيئات حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب كمَن لا ذنبَ له.
وقد سأل حكيمُ بن حزام النبيَّ ﷺ عن عتاقةٍ وصلةٍ وبِرٍّ فعله في الشرك: هل يُثاب عليه؟ فقال النبي ﷺ: أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ، فهذا يقتضي أن الإسلام أعاد عليه ثواب تلك الحسنات التي كانت باطلةً بالشرك، فلما تاب من الشرك عاد إليه ثواب حسناته المتقدِّمة.
فهكذا إذا تاب العبد توبةً نصوحًا صادقةً خالصةً؛ أحرقت ما كان قبلها من السيئات، وأعادت عليه ثواب حسناته، يُوضِّح هذا أن السيئات والذنوب هي أمراض قلبية، كما أن الحمى والأوجاع أمراض بدنية، والمريض إذا عُوفي من مرضه عافيةً تامَّةً عادت إليه قوته وأفضل منها، حتى كأنَّه لم يضعف قط.
فالقوة المتقدِّمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصحة والعافية بمنزلة التوبة، سواء بسواء، وكما أن من المرضى مَن لا تعود إليه صحته أبدًا لضعف عافيته، ومنهم مَن تعود صحته كما كانت؛ لتقاوم الأسباب وتدافعها، ويعود البدن إلى كماله الأول، ومنهم مَن يعود أصحّ مما كان وأقوى وأنشط؛ لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض، حتى ربما كان مرض هذا سببًا لعافيته كما قال الشَّاعر:
لعلَّ عَتْبَك محمودٌ عواقبه *** وربما صحَّت الأجسامُ بالعِلل
فهكذا العبدُ بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث.
والله المُوفِّق، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: هذا بحثٌ مهمٌّ فيما إذا أسرف العبدُ على نفسه بالمعاصي أو الكفر بالله وعنده أعمال صالحات قد فعلها، ثم تاب إلى الله، فهل تبقى له تلك الأعمال الصالحات أم تزول بسبب سيئاته التي أحبطتها أو الكفر الذي أحبطها؟
دلَّ القرآن الكريم على أن العبد إذا تاب ورجع إلى الله جل وعلا بقيت له حسناتُه السابقة ولا تحبط، والإشكال الذي ذكره المؤلف رحمه الله قد بيَّنه القرآنُ، والمؤلف رجع إليه أخيرًا، وهو: أن العبد إذا تاب ورجع إلى الله ومات على التوبة فأعماله الصالحة السابقة تبقى، وليست حابطةً، بل تبقى معلَّقةً؛ إن مات على الكفر بطلت، وإن مات على الإيمان فهي باقية له، وعلى حسب إيمانه وتقواه تكون أعمالُه الصالحة؛ يكون زكاؤها، فكلما قوي إيمانُه وقويت أعمالُه الصالحة صار الأجر أكثر، وكلما قلَّ صار الأجر بحسب ذلك.
أما أعماله السالفة التي قبل الكفر فهي تبقى معلَّقة؛ ولهذا قال النبي ﷺ لحكيمٍ: أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ، والله يقول : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161] فقيَّد موته بالكفر، وفي الآية الأخرى قال: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [البقرة:217] فقيد حبوطها بقوله: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ، فهذا يدل على أن أعماله الصالحة معلَّقة، فمتى مَنَّ الله عليه بالتوبة ورجع إلى الحقِّ والصواب بقيت له تلك الأعمال، وهكذا الكفار الذين في عهده ﷺ، فبعضهم لهم حسنات: حج، صدقات، صلة رحم، وغير ذلك، فعلوها لله، ثم هداهم الله وأسلموا؛ تبقى لهم تلك الأعمال، كما قال النبيُّ ﷺ لحكيم: أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ.
هذا هو الحق: أن الأعمال الصالحة لا تحبط ما دام العبدُ لم يمت، فإذا مات على الكفر حبطت، وأمَّا إذا مات على الإسلام وهداه الله وتاب وأناب فإنَّ أعماله تبقى له –الصالحة- يأجره الله عليها، فضلًا منه وإحسانًا ، لكن كلَّما قوي إيمانه وقويت أعماله الصالحة وكمل إخلاصُه صار الثوابُ أكثر وأجزل.

الأسئلة:

س: ما صحة هذا الأثر الذي ذكره؟
ج: ما أعرف له صحة.
س: الحديث الذي ورد أن صلاة الرجل في بيته تعدل صلاته في المسجد، فما الفرق بين الفريضة والنافلة؟
ج: الحديث في النافلة: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا، هذا في النافلة، النبي ﷺ قال: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، المكتوبة تكون في المسجد في الجماعة، قال: سبع وعشرون درجة، أما النافلة فالأفضل في البيت، إلا المريض المعلوم فيُكتب له أجره كاملًا؛ لقوله ﷺ: إذا مرض العبدُ أو سافر كتب الله له ما كان يعمل وهو صحيحٌ مقيمٌ، فضلًا منه .
س: جميع النوافل في البيت؟
ج: الأفضل، نعم، إلا ما شرع الله له الجماعة، كالتراويح، وقيام رمضان، والكسوف لمن قال أنه سنة، وصلاة الاستسقاء، فهذه جماعةٌ أفضل، خارج البيت.
س: بعض الناس يقول: إذا صليتُ القبليَّة -مثل: الظهر- أربع ركعات في البيت يفوتني الصفُّ الأول أو القربُ من الإمام أو كذا؟
ج: ما في بأس؛ لأنه لأجل المصلحة، يتقدَّم ويُصلي مع الناس.
س: لو قارن العملَ الصالح طلبُ السمعة والرياء، ثم تاب من هذه النية؟
ج: هذا بطل، كما تقدَّم ذكره من المؤلف، إذا كان قارن النية بطل، ما يصلح.
س: وإذا تاب؟
ج: ولو تاب، ما يكفي، حسبه أنَّه يُعفى عنه، إذا صلَّى يُرائي أو قرأ يُرائي ثم تاب فالتوبة تمحو الإثم فقط، أما العمل فباطل.
س: متى تُبَدَّل السَّيئات حسنات؟
ج: إذا تاب وعمل، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:70].
س: التوبة الصادقة تُبدل السيئات حسنات؟
ج: نعم تُبَدَّل، مثل ما في الآيات الكريمات في الفرقان، إذا تاب وعمل صالحًا أبدل الله مكان كل سيئةٍ حسنة، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:70] يعني: زاد على التوبة وأتى بأعمالٍ صالحةٍ.
س: حجَّ ثم ارتد، هل يلزمه الحج مرةً ثانيةً؟
ج: لا، ما يلزمه، إذا هداه الله وأسلم فحجه باقٍ.
س: تفسير الآية: كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ [النحل:92]؟
ج: ما ذكره الله جل وعلا يُبين حالَ الناس الذين هم على خيرٍ ثم ينقضون أعمالَهم بالردة، فتبطل أعمالُهم بردَّتهم، كالتي نقضت غزلها.
س: لو حج رياءً، وهي حجَّة الفريضة، تلزمه الإعادة؟
ج: الحج رياء باطل.
س: التائب من الذنب كمَن لا ذنبَ له، هل هذا حديث؟
ج: نعم، في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال لعائشة: يا عائشة، التائب من الذنب كمَن لا ذنب له، يعني: كأنَّه لم يفعله، يمحه الله عنه إذا تاب توبةً صادقةً.
 
فصلٌ في علامات تعظيم المناهي
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: (فصلٌ في علامات تعظيم المناهي:
وأما علامات تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلةٍ تُقرِّب منها، كمَن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحات خشية الوقوع في المكروهات، ومجانبة مَن يُجاهر بارتكابها ويُحسِّنها ويدعو إليها ويتهاون بها ولا يُبالي ما ركب منها، فإنَّ مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يُخالطه إلا مَن سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.
ومن علامات تعظيم الله: أن يغضب لله إذا انتُهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزنًا وكسرةً إذا عُصي الله تعالى في أرضه، ولم يُطَع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يُغَيِّر ذلك.
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرُّخصة إلى حدٍّ يكون صاحبُه جافيًا غير مستقيمٍ على المنهج الوسط، مثال ذلك: أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدَّة الحرّ، فالترخص الجافي أن يُبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه؛ فيكون مترخِّصًا جافيًا، وحكمة هذه الرُّخصة أن الصلاة في شدَّة الحر تمنع صاحبَها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادةَ بتكرُّهٍ وضجرٍ، فمن حكمة الشَّارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحرُّ؛ فيُصلي العبدُ بقلبٍ حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.
ومن هذا نهيه ﷺ أن يُصلي الرجل بحضرة الطعام، أو عند مدافعة البول والغائط؛ لتعلُّق قلبه من ذلك بما يُشوِّش عليه مقصودَ الصلاة ولا يحصل المراد منها، فمن فقه الرجل في عبادته أن يُقبِل على شُغله فيعمله، ثم يُفرِّغ قلبه للصلاة، فيقوم فيها وقد فرَّغ قلبه لله تعالى، ونصب وجهه له، وأقبل بكُليته عليه، فركعتان من هذه الصلاة يُغفر للمصلي بهما ما تقدَّم من ذنبه).

فصلٌ في علامات تعظيم المناهي

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أما بعد: فهذا بحثٌ في تتمة تعظيم الأوامر والنَّواهي، وسبق أنَّ الواجب على الإنسان تعظيم أمر الله ونهيه، وأن يكون المؤمن حريصًا على تنفيذ أمر الله على الوجه الذي شرعه الله، وأن يكون حريصًا على اتِّقاء محارم الله والبُعد عنها؛ لأنَّه مأمور بذلك، فالله يقول: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، ويقول الله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ويقول: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [الحج:30]، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
فالواجب على أهل الإسلام تعظيم أمر الله ونهيه؛ حتى لا يقع في محذورٍ، وحتى لا يتساهل في المأمور، فمن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن يُلاحظ ذلك في أعماله، وأن يعتني بالأمر على الوجه الذي شرعه الله، وأن يبتعد عن النهي غاية الابتعاد، فيأتي بالمأمور كما شرعه الله، يعتني به: في وقته وفي صفته وفي تفريغ قلبه لله؛ حتى يؤديه كما شرعه الله من غير جفاءٍ ولا غلوٍّ، على الوجه الوسط، فلا يجفو فيتساهل، ولا يغلو فيزيد على ما شرعه الله فيبتدع، ولكن يكون وسطًا كما شرع الله، في صلاته، وجهاده، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وبر الوالدين، وصلته للرحم، وغير ذلك، يتحرَّى أن تؤدَّى كما شرع الله، فلا يُبالغ في الأداء حتى يغلو فيزيد في الصلاة مالم يشرعه الله، أو يزيد في البر مالم يشرعه الله، أو يزيد في الصوم مالم يشرعه الله، ولا يتساهل فيحصل له الجفاء؛ فيُقصِّر في أداء الصلاة ولا يؤديها كما أمر الله، أو في الزكاة، أو في الصوم، أو في الحج، أو في برّ الوالدين، أو غير ذلك، ولكن يتحرَّى أن يؤدي الأمرَ كما شُرِعَ.
ومن الأمثلة في تعظيم الأمر والنَّهي: أن يؤدي الصلاة في وقتها متحرِّيًا -يتحرَّى أداءها في الوقت- مع الجماعة، بقلبٍ حاضرٍ غير مشغولٍ، فإن كان عنده طعام حاضر بدأ به، وإن كان يُدافع الأخبثين تخلَّص منهما، حتى يأتي الصلاة بقلبٍ حاضرٍ ومقبلٍ على الله ، ويُسارع إليها من حين يُؤذن بها حتى لا تفوته، وحتى لا يفوته الصف الأول، كل هذا من تعظيم الأمر والنهي.
ومن تعظيم النَّواهي: الحذر منها، والحذر من وسائلها، مثل: الخمر، يحذر الجلوسَ مع أهلها ومصاحبتهم؛ لأنَّ هذا وسيلة إلى فعلها، ومثل: المتكاسلين عن الصلاة، يحذر صحبتهم، أهل العقوق وقطيعة الرحم، يحذر صحبتهم، الزنا يحذر أسبابه: كالخلوة بالأجنبية، والنظر إلى النساء، والاختلاط بهن، يحذر هذه الأسباب حتى يكون ذلك من أسباب السلامة؛ لأنَّ خلطة المرتكبين لمحارم الله والأنس بهم من أعظم الوسائل في الوقوع في المُحَرَّم.
ومن الأدلة على تعظيم الأمر والنَّهي: أنه إذا قصَّر في ذلك يجد غُصَّةً في قلبه، يجد تأثرًا عظيمًا حتى يعود إلى تعظيم الأمر والنهي، فيرغب في الله، وينتهي عن محارمه، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.