03 من قوله: (ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة)

 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى: (ولمَّا كان الشركُ أعظم الدواوين الثلاثة عند الله حرَّم الجنةَ على أهله، فلا تدخل الجنةَ نفسٌ مُشركةٌ، وإنَّما يدخلها أهلُ التوحيد، فإنَّ التوحيد هو مفتاح بابها، فمَن لم يكن معه مفتاحٌ لم يُفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاحٍ لا أسنانَ له لم يمكن الفتح به، وأسنان هذا المفتاح هي: الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وبرّ الوالدين.
فأي عبدٍ اتَّخذ في هذه الدار مفتاحًا صالحًا من التوحيد، وركَّب فيه أسنانًا من الأوامر؛ جاء يوم القيامة إلى باب الجنة ومعه مفتاحها الذي لا يُفتح إلا به، فلم يَعُقْه عن الفتح عائق، اللهم إلا أن تكون له ذنوب وخطايا وأوزار لم يذهب عنه أثرُها في هذه الدار بالتوبة والاستغفار، فإنَّه يُحبَس عن الجنة حتى يتطهر منها، وإن لم يُطَهِّره الموقفُ وأهوالُه وشدائدُه فلا بدَّ من دخول النار؛ ليخرج خبثه فيها، ويتطهر من دَرَنِه ووسخه، ثم يخرج منها فيدخل الجنة، فإنها دار الطيبين، لا يدخلها إلا طيِّب.
قال سبحانه وتعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [النحل: 32]، وقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73]، فعقَّب دخولها على الطيب بحرف الفاء الذي يُؤذن بأنَّه سببٌ للدخول، أي: بسبب طيبكم قيل لكم: ادخلوها.
وأما النار: فإنَّها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب، ودار الخبيثين، قال الله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37]، فالله تعالى يجمع الخبيثَ بعضه إلى بعضٍ فيركمه كما يركم الشيءَ لتراكب بعضه على بعضٍ، ثم يجعله في جهنم مع أهله، فليس فيها إلا خبيث.
ولما كان الناسُ على ثلاث طبقات: طيِّب لا يشينه خبثٌ، وخبيثٌ لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب، كانت دورهم ثلاثة: دار الطيِّب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودارٌ لمَن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العُصاة، فإنَّه لا يبقى في جهنم من عُصاة الموحِّدين أحد، فإنَّهم إذا عُذِّبوا بقدر أعمالهم أُخرجوا من النار فأُدخلوا الجنة، ولا يبقى إلا دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فإن الله جل وعلا جعل الدواوين التي يُؤخذ بها الناس ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشرك الأكبر، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وهو المظالم بين العباد، وديوان لا يعبأ الله به، وهو تحت مشيئته، وهو المعاصي التي بين العبد وبين ربه، والجنة دار الطيبين، فمَن سلم من الشرك كله والمعاصي صار إلى الجنة دار الطيبين، صار طيبًا ويُقال له يوم القيامة: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] يعني: ماتوا على التوبة وعلى عملٍ صالحٍ وعلى الاستقامة؛ فصاروا طيبين، فاستحقوا الجنة بسبب أعمالهم الطيبة.
ودار هي دار الخبث، وهي النار، لها مَن تَمَّ خُبُثُه، وهو المشرك الكافر، ولهذا يُساق إلى النار وبئس المصير؛ لأنه خبيثٌ لا طيبَ فيه؛ لأن الشرك يُحبط الأعمالَ، فيُساق إلى النار ويبقى فيها أبد الآباد، كما قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ... الآية [الزمر:71]، فأهل النار الذين هم أهلها هم الكفرة الذين ماتوا على الخبث التام، ليس عندهم طيب، ليس عندهم توحيد، فلهم النار، والجنة عليهم حرام، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72].
وهناك خبثٌ وطيبٌ، توحيد معه معاصٍ، فهذا هو محل الدار التي فيها هذا وهذا، فالجنَّة إنما يدخلها الطيبون ولا يدخلها الخبثاء، أمَّا مَن كان فيه خبث وطيب فهذا إن تاب الله عليه وعفا عنه دخل الجنة وطاب؛ لزوال خبثه بتوبة الله عليه أو تكفير السيئات، مات على مصائب وأشياء مُكفِّرة حتى كفَّر الله بها خطاياه وعفا الله عنه، فيُلحَق بالطيبين لزوال خبثه بتوبته أو بالأسباب التي يُزال بها الخبث من: مصائب، وحسنات عظيمة، وشدائد أصابته، ودعاء المسلمين له، وغير هذا من الأسباب.
وهناك قسمٌ لم يحصل لهم توبة، ولم يعفُ الله عنهم، وهم الموحِّدون، فهؤلاء لا بدّ من تطهيرهم إذا ماتوا على معاصيهم، هم معهم التوحيد -مسلِمون مُوحِّدون- لكن عندهم شيءٌ من المعاصي والكبائر، فهؤلاء لا بدّ من تطهيرهم قبل دخول الجنة؛ لكونهم ماتوا على هذه الأعمال السيئة ولم يتوبوا إلى خالقهم ولم يعفُ عنهم، فيُدخلهم النارَ سبحانه وتعالى، ويُعذَّبون فيها على قدر معاصيهم، ثم يُخرجهم الله من النار.
وهذه طبقةٌ من النار لهؤلاء الخُبثاء، الذين خبثهم عارض وليس بمُسْتَحْكِمٍ، ودار الخلد في النار لمن خبثه كامل، وهذه طبقةٌ من النار فيها الذين لهم خبث وطيب، فيُعذَّبون فيها على قدر معاصيهم، ثم يُخرجهم الله من النار إلى الجنَّة؛ لزوال الخبث بالتَّعذيب، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا بتطهيرهم من سيئاتهم بالعذاب يُلْقَون في نهر الحياة؛ فينبتون كما تنبت الحبَّة في حمل السَّيْل، فإذا تَمَّ خلقُهم دخلوا الجنَّة.
فالواجب على المؤمن المُكلَّف أن يحذر الخبثَ كله، أن يحذر السّيئات كلها، وأن يحرص على أن يكون طيبًا في أقواله وأعماله حتى يدخل الجنة من أول وَهْلَةٍ، وحتى يكون من الطيبين الذين يُقال لهم: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، وليحذر الإصرار على السّيئات، وليحذر أن يُقيم على سيئةٍ، أولًا: يحذر السيئات ويبتعد عنها، ثانيًا: لا بدّ إذا بُلِيَ بشيءٍ أن يُبادر بالتوبة، فلو بُلِيَ وزلَّتْ قدمه فليُبادر بالتوبة حتى لا يموت على المعصية، يُبادر بالتوبة والإصلاح، والله يتوب عليه.
 
قال الحافظُ ابن القيم رحمه الله تعالى في حضور القلب في الصلاة: (وقوله في الحديث: وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإنَّ الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان:
أحدهما: التفات القلب عن الله إلى غير الله تعالى.
والثاني: التفات البصر، وكلاهما منهيٌّ عنه.
ولا يزال الله مُقبِلًا على عبده ما دام العبد مُقْبِلًا على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه.
وقد سُئل رسولُ الله ﷺ عن التفات الرجل في صلاته فقال: اختلاسٌ يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد، وفي أثرٍ يقول الله تعالى: إلى خيرٍ مني؟ إلى خيرٍ مني؟.
ومثل مَن يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجلٍ قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه، وأقبل يُناديه ويُخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينًا وشمالًا، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يُخاطبه به؛ لأنَّ قلبه ليس حاضرًا معه، فما ظنّ هذا الرجل أن يفعل به السُّلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقِّه أن ينصرف من بين يديه ممقوتًا مُبعدًا قد سقط من عينيه؟
فهذا المُصلي لا يستوي والحاضر القلب المُقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبَه عظمةَ مَن هو واقفٌ بين يديه؛ فامتلأ قلبُه من هيبته، وذلَّت عنقه له، واستحيا من ربِّه تعالى أن يُقبِل على غيره أو يلتفت عنه.
وبين صلاتيهما كما قال حسانُ بن عطية: "إنَّ الرجلين ليكونان في الصَّلاة الواحدة وإنَّ ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبلٌ بقلبه على الله ، والآخر ساهٍ غافل".
فإذا أقبل العبدُ على مخلوقٍ مثله وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالًا ولا تقريبًا، فما الظنّ بالخالق ؟
وإذا أقبل على الخالق وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها، ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالًا، وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كلَّ مذهب؟!
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطانُ منه، فإنَّه قد قام في أعظم مقامٍ وأقربه وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كلَّ الاجتهاد أن لا يُقيمه فيه، بل لا يزال به يَعِدْهُ ويُمَنِّيه ويُنسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يُهَوِّن عليه شأنَ الصلاة، فيتهاون بها فيتركها.
فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبدُ، وقام في ذلك المقام؛ أقبل عدو الله حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيُذكِّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة، وأيس منها، فيُذكِّره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله ، فيقوم فيها بلا قلبٍ، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقُربه ما يناله المُقبل على ربه ، الحاضر بقلبه في صلاته؛ فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تُخفف عنه بالصلاة.
فإنَّ الصلاة إنَّما تُكفِّر سيئات مَن أدَّى حقَّها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خفَّةً من نفسه، وأحسَّ بأثقالٍ قد وُضعت عنه، فوجد نشاطًا وراحةً وروحًا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنَّها قُرَّة عينيه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومُستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنَّه في سجنٍ وضيقٍ حتى يدخل فيها؛ فيستريح بها لا منها.
فالمحبُّون يقولون: نُصلي فنستريح بصلاتنا. كما قال إمامُهم وقدوتُهم ونبيهم ﷺ: يا بلال، أرحنا بالصلاة، ولم يقل: "أرحنا منها"، وقال ﷺ: جُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة، فمَن جُعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقرّ عينُه بدونها؟ وكيف يطيق الصبر عنها؟
فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرَّة عينه في الصلاة هي التي تصعد، ولها نور وبرهان، حتى يستقبل بها الرحمن ، فتقول: حفظك الله تعالى كما حفظتني.
وأمَّا صلاة المُفَرِّط المُضَيِّع لحقوقها وحدودها وخشوعها، فإنها تُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ الخَلق، ويُضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيَّعك الله كما ضيَّعتني.
وقد رُوي في حديثٍ مرفوعٍ رواه بكر بن بشر، عن سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن أبي شجرة، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه، أنه قال: ما من مؤمنٍ يُتِمُّ الوضوءَ إلى أماكنه، ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها، فيُؤديها لله ، لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئًا؛ إلا رُفعت له إلى الله بيضاء مُسفرة، يستضيء بنورها ما بين الخافقين، حتى يُنتهى بها إلى الرحمن ، ومَن قام إلى الصلاة فلم يُكمِل وضوءَها، وأخَّرها عن وقتها، واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها؛ رُفعت عنه سوداء مظلمة، ثم لا تجاوز شعر رأسه، تقول: ضيَّعك الله كما ضيَّعتني، ضيَّعك كما ضيَّعتني.

الطالب: يقول: إسناده ضعيف، سعيد بن سنان -وهو أبو مهدي الحمصي- متروك، [ورماه الدارقطني]  وغيره بالوضع، كما قال الحافظ في "التقريب"، وفي الباب عن أنسٍ: رواه الطبراني في "الأوسط"، ذكره الهيثمي في "المجمع" وقال: "وفيه عبَّاد بن كثير، وقد أجمعوا على ضعفه"، وقال الحافظ في "التقريب": متروك. وقال أحمد: روى أحاديث كذب، وعن عبادة بن الصامت عند: الطيالسي، والطبراني في "الكبير"، والبزار، وفي سنده الأحوص بن حكيم، وهو مختلَفٌ فيه، وراويه عن عبادة -وهو خالد بن معدان- لم يسمعه منه، فالحديث ضعيف.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذه المباحث كلها تتعلَّق بحديث الحارث الأشعري الذي رواه الإمامُ أحمد والترمذي بسندٍ صحيحٍ: أن يحيى بن زكريا أمره الله أن يُبلِّغ بني إسرائيل بخمس كلماتٍ، منها: أنَّه أمرهم بتوحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به، والثاني: أمرهم بالصلاة، وقال: إنَّ الله جل وعلا ينصب وجهَه إلى وجه عبدِه إذا قام يُصلي مالم يلتفت، فإذا التفت انصرف الله عنه، فهذا فيه الحثُّ على العناية بالصلاة، وأنها محلّ العناية، ومحلّ تعظيم الرب لها جل وعلا، فهي عمود الإسلام، وهي قُرَّة عين النبي عليه الصلاة والسلام، وهي تحفظ الدين، مَن حفظها حفظ دينَه، ومَن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع، ومَن أدَّاها بخشوعٍ وإقبالٍ عليها وقعت موقعًا عظيمًا من الله .
فينبغي للمؤمن أن يعتني بها، وأن يُقبِل عليها بقلبه وقالبه، وأن يحذر الالتفاتَ بقلبه أو برأسه عن صلاته، إلا من حاجةٍ في التفات الرأس، فإذا كان هناك حاجة فلا بأس، كما التفت النبيُّ ﷺ في قصة الشخص الذي بعثه طليعةً، فنظر هل جاء أم لا؟ وفي قصة إمامة الصديق بالناس، فلمَّا جاء النبيُّ ﷺ وشقَّ الصُّفوف أخذ الناسُ بالتصفيق؛ فالتفت الصديقُ ورأى النبيَّ ﷺ، فأشار إليه النبيُّ أن يبقى، فتأخَّر الصديقُ وتقدَّم ﷺ، فلم يُنكر عليه التفاته من أجل الحاجة.
فالمقصود أن الالتفات في الصلاة مكروهٌ للوجه إلا من حاجةٍ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري في "الصحيح": أن النبيَّ ﷺ قال في الالتفات: هو اختلاسٌ يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد يعني: انتقاصٌ ينتقصه الشيطانُ، وهو نوعٌ من العَبَثِ، فيُكره في الصلاة إلا من حاجةٍ.
أمَّا قلبه: فالواجب أن يُقبل على صلاته ويهتم بها ويُعظِّمها، فالله يقول سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، فالواجب الطُّمأنينة فيها حتى يُؤدِّيها بقلبٍ حاضرٍ، عاقلًا لها، مُطمئنًّا فيها.
ولما صلَّى رجلٌ من الأعراب عند النبي ﷺ فنقر صلاتَه أمره أن يُعيد، وقال: ارجع فصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ وعلَّمه الطُّمأنينة.
فهذه الصلاة هي عمود الإسلام، وهي أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فالواجب العناية بها، والإقبال عليها، وأن تُؤديها في إكمال شروطها وأركانها وواجباتها، ومن أهم ما يكون فيها حضورُ قلبك بين يدي الله، وأن تحذر الوساوس والمشاغل حتى تُؤدِّيها بقلبٍ حاضرٍ مقبلٍ على الله، تريد وجهه الكريم، وتذكَّر دائمًا قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2] حتى تُؤديها بإقبالٍ وتمامٍ في ركوعها وسجودها وقراءتها وغير ذلك، ومَن أدَّاها هكذا كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومَن غفل عنها ولم يعتنِ بها لم تكن له نورًا ولا برهانًا، نسأل الله العافية.
فالواجب على المؤمن أن يعتني بهذه الصلاة، فهي عمود الإسلام، وأعظم الأركان بعد الشَّهادتين، فليُؤدِّها كما أمر الله، ويستحضر عظمتها بقلبه، ناصبًا قلبه إلى ربِّه جل وعلا، مُعَظِّمًا، ذاكرًا، شاكرًا، مُستغفرًا حتى ينتهي.
رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

الأسئلة:

س: الحديث الذي يقول أنها تُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ الخَلق؟
ج: الحديث ضعيف كما قال المؤلف، والواجب الحذر، لكن إذا أدَّاها بأركانها وواجباتها صحَّت وصارت ناقصةً بسبب الغفلة، يكون ثوابها ناقصًا.
س: إذا كانت غفلته شديدةً في صلاته؟
ج: على كل حالٍ، إذا أدَّاها كما أُمِرَ في ركوعها وسجودها وقراءتها فإنَّه يكون أدَّى الفريضة، لكن لا يكون له الثواب الكامل إلا بحسب حضور قلبه وخشوعه.
س: ولكن ما له إعادتها؟
ج: لا، ما له إعادتها، فمَن يسلم من هذا؟
س: حديث عمار بن ياسر إن الرجلَ لينصرف من الصلاة ولم يُكتب له إلا ربعها..؟
ج: هذا معناه: ليس له إلا ما عَقل منها، ما خشع فيها، يكون جوابها متفاوت على حسب الخشوع والإقبال عليها.
س: ما درجة الحديث؟
ج: لا بأس به، جيد.
س: مَن التفت بجسمه، كأن استدار ثم استقبل القبلة، هل تبطل صلاتُه؟
ج: إذا تعمَّد تبطل صلاته.
س: لو لحاجةٍ؟
ج: لا يلتفت إلا بالرأس فقط؛ لأنَّه إذا التفت بنفسه –برُمَّتِه- بطلت صلاته.

 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في حضور القلب في الصلاة:
(فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يُصلي العبدُ صلاةً تليق بربِّه ، فإذا كانت صلاةٌ تصلح لربِّه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولةً.
والمقبول من العمل قسمان:
أحدهما: أن يُصلي العبدُ ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلِّق بالله ، ذاكرٌ لله على الدوام، فأعمال هذا العبد تُعرَض على الله حتى تقف قبالته، فينظر الله إليها، فإذا نظر إليها رآها خالصةً لوجهه مرضيةً، وقد صدرت عن قلبٍ سليمٍ مخلِصٍ محبٍّ لله متقرِّبٍ إليه؛ أحبَّها ورضيها وقَبِلَها.
والقسم الثاني: أن يعمل العبدُ الأعمالَ على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة، وقلبه لاهٍ عن ذكر الله، وكذلك سائر أعماله، فإذا رُفعتْ أعمالُ هذا إلى الله لم تقف تجاهه، ولا يقع نظرُه عليها، ولكن تُوضَع حيث تُوضَع دواوين الأعمال، حتى تُعرَض عليه يوم القيامة فتميز، فيُثِيبه على ما كان له منها، ويرد عليه ما لم يُرد وجهه به منها.
فهذا قبوله لهذا العمل: إثابته عليه بمخلوقٍ من مخلوقاته من القصور والأكل والشرب والحور العين، وإثابة الأول: رضا العمل لنفسه، ورضاه عن معاملة عامله، وتقريبه منه، وإعلاء درجته ومنزلته، فهذا يُعطيه بغير حساب، فهذا لونٌ والأول لون.
والناس في الصلاة على مراتبَ خمسةٍ:
أحدها: مرتبة الظالم لنفسه المُفَرِّط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.
الثاني: مَن يُحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكنَّه قد ضيَّع مجاهدةَ نفسه في الوسوسة؛ فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث: مَن حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسَه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغولٌ بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاتَه، فهو في صلاةٍ وجهادٍ.
الرابع: مَن إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقَها وأركانَها وحدودَها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يُضيِّع شيئًا منها، بل همّه كله مصروفٌ إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبُه شأن الصلاة وعبودية ربِّه تبارك وتعالى فيها.
الخامس: مَن إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبَه ووضعه بين يدي ربه، ناظرًا بقلبه إليه، مُراقبًا له، مُمتلئًا من محبته وعظمته، كأنَّه يراه ويُشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطوات، وارتفعت حجبُها بينه وبين ربِّه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغولٌ بربِّه ، قرير العين به.
فالقسم الأول مُعاقب، والثاني مُحاسب، والثالث مُكفَّرٌ عنه، والرابع مُثاب، والخامس مُقرَّبٌ من ربه؛ لأن له نصيبًا ممن جُعلت قرَّةُ عينه في الصلاة، فمَن قرَّت عينه بصلاته في الدنيا قرَّت عينه بقربه من ربه في الآخرة، وقرَّت عينه أيضًا به في الدنيا، ومَن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عينٍ، ومَن لم تقرّ عينُه بالله تقطعت نفسُه على الدنيا حسرات، وقد رُوي أنَّ العبد إذا قام يُصلي قال الله : ارفعوا الحجبَ بيني وبين عبدي. فإذا التفت قال: أرخوها).

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذا البحث العظيم مقصوده في بيان حال العبد في أعماله -عباداته لله - وأنَّ العباد في هذا أقسام، وأن أعلاهم قسمًا وأفضلهم عملًا: مَن استغرق قلبُه في العبادة لله وحده، إخلاصًا وتصديقًا ومتابعةً للرسول ﷺ، فهذا هو أكملهم إيمانًا، وأكملهم عبادةً، يشتغل قلبُه في هذه العبادة حتى يؤديها على أكمل وجهٍ: في إخلاصه لله، في تصديقه في خبر الله، وأدائه ما شرع الله فيها مجتهدًا، قلبه مشغول بها كأنَّه ينظر إلى ربه ويُشاهده، وهذا مقام الإحسان: أن تعبد الله كأنَّك تراه، فهو في حال صلاته وصيامه وصدقاته وجميع أعماله مشغولٌ بالله، مُعْتَنٍ بهذه العبادة كأنه يرى الله، فهذا في أعلى المراتب، وصلاته وعباداته في أعلى المراتب من جهة الإخلاص والإكمال والعناية، حتى يُؤديها على خير وجهٍ بكونه عبد الله كأنه يراه.
الثاني: دون ذلك، مخلصًا، مجتهدًا، لكن دون هذه المشاهدة، لم يرتقِ إلى درجة المشاهدة، وصار إلى درجة المراقبة، يعتقد أن الله يطَّلع عليه ويراه، وأنه مُراقَبٌ من جهة الله، فهو مجتهد في العمل، فهو في درجةٍ عاليةٍ أيضًا، لكن ذاك أفضل منه.

وهناك درجات أخرى ثلاث في الصلاة وغيرها من الأعمال، فهي خمسة أنواع:
النوع الأول: الظالم لنفسه؛ بتقصيره وعدم قيامه بالواجب، فهذا ظالم لنفسه لكونه لم يُكمّل العمل، بل قصَّر في بعض واجباته وشروطه، فلم يُؤدِّه كما ينبغي، فهو على خطرٍ عظيمٍ، ويستحق العقاب.
الثاني: شُغل بالعمل لكن كثرتْ عليه الوساوس، وغلبتْ عليه الوساوس والغفلة، حتى أدَّى العمل عن غفلةٍ وعن وساوس، فهذا يُجزئه لكنه في مرتبةٍ ضعيفةٍ؛ لأنَّ إخلاصه وعمله شابَه الجهلُ والغفلة والهواجس الكثيرة حتى شغلته عن كمال الإخلاص وكمال المتابعة.
والثالث: مجاهد، يُجاهد نفسَه في وساوسه، ويجتهد في أداء العمل، فهو في مُنازلات مع الشيطان في هذه الوساوس، فهذا يُثاب، وهو على خيرٍ عظيمٍ، لكنه دون درجة مَن صلَّى وتعبد على أنَّه كان يُراقب الله أو كأنَّ الله يراه.
فالمراتب خمس كما تقدَّم، فعليك يا عبدالله أن تعتني بهذه الأعمال، وأن تجتهد في أن تعمل كأنَّك ترى الله، أو على الأقل تجتهد على أنَّك تعمل وأنَّ الله يراك ويطّلع عليك؛ حتى تستحي منه، حتى لا تقصّر في العمل، فتعتقد أنك مراقبٌ من الله، وأن الله يُراقبك، كما قال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج:17]، وقال سبحانه: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، وقال جل وعلا: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا [الأحزاب:52].
فأنت مُراقَبٌ، فاجتهد في إكمال العمل: في صلاتك، وصومك، وحجّك، وبرّ والديك، وصدق الحديث، والجهاد، وغير هذا، اجتهد في أن تعمل مُستحضرًا أن الله يُراقبك، مطَّلعٌ على عملك، وإذا ارتفعت همَّتُك، وارتفعت نفسُك إلى استحضار أنَّك تُشاهد الله، وأنَّك تعمل كأنَّك ترى الله؛ فهذه أعلى المراتب: أن تعبد الله كأنَّك تراه، مرتبة الإحسان العليا.
وفَّق الله الجميع.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى:
(وقد رُوي أنَّ العبد إذا قام يُصلي قال الله : ارفعوا الحجب بيني وبين عبدي، فإذا التفت قال: أرخوها، وقد فُسِّر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله إلى غيره، فإذا التفت إلى غيره أرخى الحجابَ بينه وبين العبد، فدخل الشيطانُ وعرض عليه أمورَ الدنيا، وأراه إياها في صورة المرآة، وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت لم يقدر الشيطانُ على أن يتوسَّط بين الله تعالى وبين ذلك القلب، وإنما يدخل الشيطانُ إذا وقع الحجاب، فإن فرَّ إلى الله تعالى وأحضر قلبَه فرَّ الشيطان، فإن التفت حضر الشيطان، فهو هكذا شأنُه وشأن عدوه في الصلاة.
وإنَّما يقوى العبدُ على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربِّه إذا قهر شهوتَه وهواه، وإلا فقلبٌ قد قهرته الشهوةُ، وأسره الهوى، ووجد الشيطانُ فيه مقعدًا تمكَّن فيه، كيف يخلص من الوساوس والأفكار؟!
والقلوب ثلاثة: قلبٌ خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلبٌ مظلم، قد استراح الشيطانُ من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنَّه قد اتَّخذه بيتًا ووطنًا، وتحكَّم فيه بما يُريد، وتمكَّن منه غاية التَّمكن.
القلب الثاني: قلبٌ قد استنار بنور الإيمان، وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشَّهوات، وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبالٌ وإدبارٌ، ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسِجَال.
وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم مَن أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم مَن أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم مَن هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلبٌ محشوٌّ بالإيمان، قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حُجب الشَّهوات، وأقلعت عنه تلك الظُّلمات، فلنوره في قلبه  إشراق، ولذلك الإشراق إيقادٌ لو دنا منه الوساوس  احترق به، فهو كالسماء التي حُرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطَّاها رُجِمَ فاحترق.
وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السَّماء، والسماء مُتعبَّد الملائكة، ومُستقَرُّ الوحي، وفيها أنوار الطَّاعات، وقلب المؤمن مُستقرُّ التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان، وفيه أنوارها، فهو حقيقٌ أن يُحرس ويُحفظ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئًا إلا خطفةً.
وقد مُثِّل ذلك بمثالٍ حسنٍ وهو: ثلاثة بيوت: بيتٌ للمَلِك، فيه كنوزه وذخائره وجواهره. وبيتٌ للعبد، فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره، وليست كجواهر المَلِك وذخائره. وبيتٌ خالٍ صفرٌ لا شيءَ فيه.
فجاء اللص يسرق من أحد البيوت، فمن أيّها يسرق؟
فإن قلت: "من البيت الخالي" كان مُحالًا؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيءٌ يُسرق، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا تُوَسْوَس في صلاتها، فقال: "وما يصنع الشيطانُ بالبيت  الخراب؟".
وإن قلتَ: "يسرق من بيت الملك" كان ذلك كالمستحيل الممتنع؛ فإنَّ عليه من الحرس واليَزَك ما لا يستطيع اللصُّ الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه؟! وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟!
فلم يبقَ للص إلا البيت الثالث، فهو الذي يَشُنُّ عليه الغارات.
فليتأمل اللبيبُ هذا المثال حقَّ التأمل، وليُنزله على القلوب فإنها على منواله:
فقلب خلا من الخير كله، وهو قلب الكافر والمنافق، فذلك بيتُ الشيطان، قد أحرزه لنفسه، واستوطنه واتَّخذه سكنًا ومُستقرًّا، فأيّ شيءٍ يسرق منه وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه وخيالاته ووساوسه؟!
وقلبٌ قد امتلأ من جلال الله وعظمته ومحبَّته ومُراقبته والحياء منه، فأي شيطانٍ يجترئ على هذا القلب؟! وإن أراد سرقةَ شيءٍ منه فماذا يسرق، وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفةٍ ونهبٍ يحصل له على غِرَّةٍ من العبد وغفلةٍ لا بد له منها، إذ هو بشرٌ، وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسَّهو والذهول وغلبة الطَّبع.
وقد ذُكِر عن وهب بن منبهٍ رحمه الله تعالى أنه قال: "في بعض الكتب الإلهية: لستُ أسكن البيوتَ ولا تسعني، وأيُّ بيتٍ يسعني والسَّماوات حشوُ كرسيِّ؟ ولكن أنا في قلب الوادع التارك لكل شيءٍ سواي".
وهذا معنى الأثر الآخر: "ما وسعتني سماواتي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن".
وقلب فيه توحيد الله تعالى ومعرفته ومحبته والإيمان به والتصديق بوعده، وفيه شهوات النفس وأخلاقها، ودواعي الهوى والطبع.
وقلبٌ بين هذين الدَّاعيين: فمرةً يميل بقلبه داعي الإيمان والمعرفة والمحبة لله تعالى وإرادته وحده، ومرةً يميل بقلبه داعي الشيطان والهوى والطِّباع. فهذا القلب للشيطان فيه مطمع، وله منه مُنازلات ووقائع، ويُعطي الله النصر مَن يشاء: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، وهذا لا يتمكَّن الشيطانُ منه إلا بما عنده من سلاحه، فيدخل إليه الشيطان، فيجد سلاحه عنده، فيأخذه ويُقاتله به، فإنَّ أسلحته هي الشَّهوات والشُّبهات والخيالات والأماني الكاذبة، وهي في القلب، فيدخل الشيطانُ فيجدها عتيدةً فيأخذها ويصول بها على القلب.
فإن كان عند العبد عدة عتيدة من الإيمان تُقاوم تلك العدة وتزيد عليها انتصف من الشيطان، وإلا فالدولة لعدوه عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا أذن العبدُ لعدوه وفتح له بابَ بيته وأدخله عليه ومكَّنه من السلاح يُقاتله به فهو المَلُوم.
فنفسك لُمْ ولا تَلُمِ المطايا ومُتْ كمدًا فليس لك اعتِذار

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذه النصوص تابعة لما قبلها، والمؤلف يُبين حال الشيطان مع العبد، وأنَّ العبد على أقسامٍ: تارةً يكون خالي القلب من الإيمان والتوحيد، فهذا الشيطان قد اتَّخذ قلبه بيتًا له، كاليهود والنصارى وسائر الكفرة، قد أحرزهم واتَّخذهم محل سلطانه، ومحل أشيائه، ومحل لعبه بهم؛ لأنَّهم قد خلت قلوبُهم من الإيمان الذي ينفعهم ويُنقذهم منه، فقلوبهم هي بيت الشيطان ومحل سلطانه.
وقلب مؤمن لكن عنده معاصٍ، وعنده أهواء، وعنده شهوات، فللشيطان معه كرات ومُنازلات، فتارةً يغلبه الشيطان، وتارةً يغلب الشيطان، والحرب سِجال، والمعصوم مَن عصمه الله، والمنصور مَن نصره الله.
وقلبٌ قد امتلأ بالإيمان والاستقامة والاستحضار لعظمة الله، والحذر من الهوى والشَّهوات، فهذا قد أعانه الله بهذه العُدد على محاربة الشيطان؛ لأنَّ الله رزقه القوة الإيمانية والإخلاص والاستقامة، والبُعد عن الهوى والشيطان، فصار قويًّا على عدو الله، ليس له عليه سلطان، كما قال جل وعلا: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، فهذا قد ينال منه الشيء القليل عند الغفلة، كالنّهبة، فالإنسان بشرٌ قد يناله بعضُ الغفلة، لكن في الغالب أنه محفوظٌ منه؛ لأنَّ الله جل وعلا قد قوَّاه عليه بالإيمان والتقوى والاستقامة.
أمَّا الآخرون فالشيطان قد أحرز منهم ما أحرز، كما قال : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].
أمَّا ما يُروى أن الله جلَّ وعلا يقول: "ما وسعتني سماواتي، وإنما وسعني قلب عبدي المؤمن"، فهو أثرٌ معروفٌ إسرائيلي، ليس له صحَّة في الحديث عن النبي ﷺ، فلا أصلَ له من الصحة، لكن معناه لو صحَّ: أن قلب المؤمن يتسع للإيمان بالله ومعرفته ومحبته والأنس به والشوق إليه والقيام بحقِّه خوفًا ورجاءً ومحبةً، وإلا فهو سبحانه فوق العرش، فوق جميع الخلق، ليس في شيءٍ من خلقه ، وإنما محبته والإيمان به وخوفه ورجاؤه، كل ذلك في قلب المؤمن، قد وسع ذلك قلب المؤمن.
وهكذا الحديث أنَّ العبد إذا أقبل على صلاته قال الله: ارفعوا الحُجُب، وإذا غفل قال: «أرخوها»، هذا أثرٌ لا تُعرف صحته، ولا يُعرف له أصل، لكن معناه دلَّ عليه حديث الحارث الأشعري.
فالصلاة يُقبِل عليها بقلبه، ويحضر بقلبه، ويجتهد في الخشوع والاستحضار لعظمة الله في قراءته، وفي ركوعه، وفي سجوده، حتى يحصل له من الله الفضل العظيم، والخير الكثير، وليحذر الوساوس التي تسدّ قلبه عن الله حتى يصدّ الله عنه، فمَن أقبل على الله واشتغل بالله خوفًا ورجاءً ومحبَّةً أقبل الله عليه بالتوفيق والإعانة والتَّسديد والإصلاح، ومَن ابتُلي بالإعراض عن الله بالغفلة والشَّهوات فهو على حسب حاله مع عدوه، كلما كثر إعراضه عن الله غلب عليه العدو والشيطان، وكلما كثر إقباله على الله وابتعاده عن الشهوات والغضب ضعف سلطان الشيطان عليه، والمعصوم مَن عصمه الله، والمُوَفَّق مَن وفَّقه الله.
فالواجب على المؤمن أن يجتهد في محاربة عدو اللهِ  الشيطان بالاستقامة وإحضار قلبه بين يدي الله في صلاته وفي غيرها، والحذر من الشَّهوات المحرَّمة واتِّباع الهوى، حتى يسلم من عدوه، وحتى يكون من عباد الله المُخْلَصين.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: حديث أن الشيطان ما يزال بالعبد إذا عمل عملًا صالحًا حتى يُحدِث فرحًا بعمله فينقص الله أجرَه، هل هذا صحيح؟
ج: الشيطان على كل حالٍ عدو مبين، دائمًا يترقَّب الفُرَص، لكن يجب على المؤمن أن يكون حذرًا، وأن يعد نفسه بتقوى الله، والإخلاص له، ومحبته، وخشيته، ومراقبته دائمًا، والحذر من عدوه الخبيث، نسأل الله العافية.
 
من شرح حديث الحارث الأشعري
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في شرح حديث الحارث الأشعري : (قوله ﷺ: وأمركم بالصيام، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجلٍ في عصابةٍ معه صُرَّةٌ فيها مسك، فكلهم يَعْجَب أو يُعجِبه ريحها، وإنَّ ريحَ الصيام أطيبُ عند الله من ريح المِسْك، إنَّما مثَّل ﷺ ذلك بصاحب الصُّرة التي فيها المسك؛ لأنها مستورةٌ عن العيون، مَخْبُوءةٌ تحت ثيابه، كعادة حامل المسك، وهكذا الصَّائم: صومه مستور عن مشاهدة الخلق، لا تُدركه حواسُّهم.
والصائم هو الذي صامت جوارحُه عن الآثام، ولسانُه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشَّراب، وفرجُه عن الرَّفث.
فإن تكلَّم لم يتكلَّم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يُفسد صومه، فيخرج كلامُه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها مَن جالس حاملَ المسك، كذلك مَن جالس الصَّائم انتفع بمُجالسته له، وأمن فيها من الزور والكذب والفُجور والظلم.
هذا هو الصوم المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطعام والشَّراب، ففي الحديث الصحيح: مَن لم يدع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابَه، وفي الحديث: رُبَّ صائمٍ حظّه من صيامه الجوع والعطش.
فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أنَّ الطعام والشَّراب يقطعه ويُفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابَه وتُفسد ثمرتَه، فتُصيّره بمنزلة مَن لم يصم.
وقد اختُلف في وجود هذه الرائحة من الصَّائم: هل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين.
وقد وقع بين الشيخين الفاضلين أبي محمد عز الدين ابن عبدالسلام وأبي عمرو ابن الصلاح في ذلك تنازع، فمال أبو محمد إلى أن تلك في الآخرة خاصَّةً، وصنَّف فيه مصنفًا، ومال الشيخُ أبو عمرو إلى أن ذلك في الدنيا والآخرة، وصنَّف فيه مصنفًا ردَّ فيه على أبي محمد، وسلك أبو عمرو في ذلك مسلك أبي حاتم ابن حبان، فإنه في "صحيحه" بوَّب عليه كذلك فقال: "ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك"، ثم ساق حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، والصيام لي وأنا أجزي به. ولخلوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، ثم قال: "ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم يكون أطيبَ عند الله من ريح المسك يوم القيامة"، ثم ساق حديثًا من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن أبي صالح الزيات: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنَّه لي، وأنا أجزي به. والذي نفسُ محمدٍ بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي الله تعالى فرح بصومه.
قال أبو حاتم: شعار المؤمنين يوم القيامة التَّحجيل بوضوئهم في الدنيا؛ فرقًا بينهم وبين سائر الأمم.
وشعارهم في يوم القيامة بصومهم، طيب خلوف أفواههم أطيب من ريح المسك؛ ليُعرفوا من ذلك الجمع بذلك العمل. جعلنا الله تعالى منهم.
ثم قال: "ذكر البيانِ بأن خلوف فم الصائم قد يكون أيضًا أطيب من ريح المسك في الدنيا"، ثم ساق من حديث شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: كل حسنةٍ يعملها ابنُ آدم بعشر حسناتٍ إلى سبعمئة ضعفٍ، يقول الله : إلا الصَّوم فهو لي، وأنا أجزي به، يدع الطعامَ من أجلي والشَّراب من أجلي، وأنا أجزي به. وللصائم فرحتان: فرحة حين يُفطِر، وفرحة حين يلقى ربَّه ، ولخلوف فم الصائم حين يُخلِف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فهذه الكلمات كلها تتعلَّق بحديث الحارث الأشعري، وهو الحديث المتقدم: أنَّ الله جل وعلا أمر يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمسٍ، أن يعمل بها ويأمرهم أن يعملوا بها، وأنَّه جمعهم في بيت المقدس، وبلَّغهم إياها، أولها: أنه أمرهم بتوحيد الله وحده وترك الإشراك به، والثاني: أنه أمرهم بالصلاة وبيَّن لهم أنَّ العبد إذا قام في الصلاة فإنَّ الله ينصب وجهه إلى وجه عبده مالم يلتفت، وتقدَّم ما يتعلق بالصلاة وعظم شأنها وشأن التوحيد.
وكذلك ذكر ثالثًا أنه أمرهم بالصوم، وأنَّ مثل الصائم كرجلٍ في عصابةٍ معه صُرَّة من مسكٍ، كلّهم يُعجبه ريحها، وإنَّ خلوف فم الصَّائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، ففي هذا الحث على الصيام، والترغيب فيه، وأنَّ شأنه عظيم، وقد جاءت الأدلة عن رسول الله ﷺ  دالَّة على شرعية الاستكثار من الصَّوم؛ وفي هذا يقول جل علا في الحديث القدسي: كلُّ عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالهاا إلى سبعمئة ضعفٍ، إلا الصيام فإنَّه لي، وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامَه وشرابَه من أجلي، ويقول عليه الصلاة والسلام: مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ويقول: الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق الحديث.
والصيام له شأن عظيم، فينبغي الإكثار منه، ولا سيَّما يوم الإثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأفضله أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا، هذا أفضل الصيام، التطوع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا.
فالصائم له شأنٌ عظيم، وله فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه.
يفرح حين يُفطر فرحين: فرحًا شرعيًّا؛ لأنه أكمل الصيام، والله يُحب لعباده أن يُسارعوا في الإفطار كما في الحديث: أحبُّ عبادي لي أعجلهم فطرًا، هذا قول الله جل وعلا، والثاني: طبعي، فالنفس مجبولة على محبَّة ما مُنِعت منه إذا أُبيح لها، ومجبولون على حبِّ الإفطار وتناول الطعام بعد غروب الشمس.
وفرحة عند لقاء ربِّه؛ لما له من الأجر العظيم عند الله بالصوم.
وخلوف فم الصَّائم خلوف بطنه، وهو ما يتصاعد من الرائحة من الجوف، يعني: ما يتصاعد من الجوف من آثار خلوه من الطعام يُقال له: خلوف.
أطيب عند الله من ريح المسك لأنَّه نشأ عن طاعته وعبادته وتعظيمه سبحانه وتعالى.
واختلف أهلُ العلم: هل هذه الرائحة يوم القيامة فقط أو في الدنيا أيضًا؟
والأقرب والأظهر ما قاله ابن حبان وأبو عمرو بن الصلاح ومن قال بقولهما أنها في الدنيا والآخرة فقد يتبين ويظهر لبعض الناس في الدنيا وقد لا يظهر كما يأتي في تمام البحث.
وقد روي أن عبدالله ..... العابد المعروف لما دُفِنَ، صار يفوح من قبره ريح المسك، وكان من العباد والأخيار.
وحدَّثني بعضُ الثِّقات المعروفين أنهم مروا بأرض فلاة، فمات معهم شخصٌ، فحفروا له في تلك الأرض الفلاة، فوجدوا في الأرض التي حفروها ميتًا قديم الدهر، ووجدوه على حاله يفوح من قبره ريح المسك في تلك الأرض الميتة القديمة، فهذا شاهدٌ من شواهد بقاء الرائحة الطيبة في الدنيا؛ إظهارًا لفضل هذا الشخص، وترغيبًا في الصوم.
كما تظهر آثار العبادة والصلاح على الإنسان إذا مات، قد يظهر عليه آثارُ ذلك من نورٍ في وجهه والبهاء العظيم، وحُسن الخاتمة بالكلام الطيب عند الموت، وحُسن الخاتمة بكلماته الطيبة وأعماله الطيبة عند خروج روحه، هذه من آثار أعماله الطيبة، ومن آثار التَّوجه إلى الله وإخلاصه إليه سبحانه وتعالى.
فيُشرع للمؤمن أن يستكثر من صلاة التطوع، وصوم التطوع، والصدقات، والذكر، ينبغي له الإكثار من هذه العبادات: الصلاة، الذكر، الصدقة، الصوم، الحج، إلى غير هذا من وجوه الخير، فهذا من أسباب حسن الخاتمة، ومن أسباب رفعة الدَّرجات وعظيم الأجر.
وفَّق الله الجميع.
 
قال الحافظُ ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح خلوف فم الصائم أطيب عند الله:
(واحتج الشيخ أبو محمد بالحديث الذي فيه تقييد الطيب بيوم القيامة.
قلت: ويشهد لقوله الحديث المتفق عليه: والذي نفسي بيده، ما من مكلومٍ يُكلَم في سبيل الله -والله أعلم بمَن يُكْلَم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي: اللون لون دم، والريح ريح المسك، فأخبر ﷺ عن رائحة كلم المكلوم في سبيل الله بأنها كريح المسك يوم القيامة، وهو نظير إخباره عن خلوف فم الصَّائم، فإنَّ الحسَّ يدل على أنَّ هذا دمٌ في الدنيا، وهذا خلوفٌ له، ولكن يجعل الله تعالى رائحة هذا وهذا مسكًا يوم القيامة.
واحتج الشيخُ أبو عمرو بما ذكره أبو حاتم في "صحيحه" من تقييد ذلك بوقت إخلافه، وذلك يدل على أنه في الدنيا، فلما قُيِّد المبتدأ وهو خلوف فم الصائم بالظرف وهو قوله: حين يُخلف كان الخبر عنه وهو قوله: أطيب عند الله خبرًا عنه في حال تقييده، فإنَّ المبتدأ إذا تقيَّد بوصفٍ أو حالٍ أو ظرفٍ كان الخبرُ عنه حال كونه مقيَّدًا، فدلَّ على أنَّ طيبه عند الله تعالى ثابتٌ حال إخلافه.
قال: وروى الحسنُ بن سفيان في "مسنده" عن جابرٍ : أن النبي ﷺ قال: أُعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا، فذكر الحديث، وقال فيه: وأمَّا الثانية: فإنَّهم يُمسون وريح أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك.
ثم ذكر كلامَ الشُّراح في معنى طيبه وتأويلهم إيَّاه بالثناء على الصائم والرضى بفعله، على عادة كثيرٍ منهم بالتأويل من غير ضرورةٍ، حتى كأنَّه قد بُورِك فيه، فهو مُوكَّلٌ به، وأي ضرورةٍ تدعو إلى تأويل كونه أطيبَ عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله والرضا بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته؟ وكثير من هؤلاء يُنشئ للفظ المعنى ثم يدَّعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص، من غير نظرٍ منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عيَّنه أو احتمال اللغة له.
ومعلوم أن هذا يتضمن الشَّهادة على الله تعالى ورسوله ﷺ بأنَّ مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلومًا بوضع اللفظ لذلك المعنى، أو عرف الشارع ﷺ وعادته المطَّردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به، وإلا كانت شهادةً باطلةً، وأدنى أحوالها أن تكون شهادةً بلا علم.
ومن المعلوم أنَّ أطيبَ ما عند الناس من الرائحة رائحةُ المسك، فمثَّل النبيُّ ﷺ هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم.
ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه، فإنَّها استطابة لا تُماثل استطابة المخلوقين، كما أنَّ رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبَّه وبُغضَه لا تُماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أنَّ ذاته سبحانه وتعالى لا تُشبِه ذوات خلقه، وصفاته لا تُشبه صفاتهم، وأفعاله لا تُشبه أفعالهم.
وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا.
ثم إنَّ تأويله لا يرفع الإشكال، إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرِّضا، فإنَّ قال: رضا ليس كرضا المخلوقين. فقولوا: استطابة ليست كاستطابة المخلوقين.
وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب.
ثم قال: وأمَّا ذكر يوم القيامة في الحديث فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدى الرائحة الكريهة طلبًا لرضا الله تعالى، حيث يُؤمَر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة كما في المساجد والصَّلوات وغيرها من العبادات، فخُصَّ يوم القيامة بالذكر في بعض الروايات، كما خُصَّ في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:11]، وأُطلِق في باقيها نظرًا إلى أن أصل أفضليته ثابتٌ في الدارين.
قلت: من العجب ردّه على أبي محمد بما لا يُنكره أبو محمد ولا غيره، فإن الذي فسَّر به الاستطابة المذكورة في الدنيا بثناء الله تعالى على الصَّائمين ورضاه بفعلهم أمرٌ لا يُنكره مسلم، فإنَّ الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وفيما بلَّغه عنه رسوله ﷺ ورضي بفعله، فإن كانت هذه هي الاستطابة: أفترى الشيخ أبا محمد ينكرها؟
والذي ذكره الشيخ أبو محمد أنَّ هذه الرائحة إنَّما يظهر طيبها على طيب المسك في اليوم الذي يظهر فيه طيب دم الشَّهيد، ويكون كرائحة المسك، ولا ريب أنَّ ذلك يوم القيامة، فإنَّ الصائم في ذلك اليوم يجيء ورائحة فمِه أطيب من رائحة المسك، كما يجيء المكلوم في سبيل الله   ورائحة دمه كذلك، لا سيَّما والجهاد أفضل من الصيام، فإن كان طيب رائحته إنما يظهر يوم القيامة فكذلك الصائم.
وأمَّا حديث جابرٍ: فإنَّهم يُمسون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك، فهذه جملة حالية، لا خبرية، فإنَّ خبر إمسائه لا يقترن بالواو؛ لأنَّه خبر مبتدأ، فلا يجوز اقترانه بالواو.
وإذا كانت الجملةُ حاليةً فلأبي محمدٍ أن يقول: "هي حال مُقدَّرة"، والحال المُقدَّرة يجوز تأخيرها عن زمن الفعل العامل فيها، ولهذا لو صرَّح بيوم القيامة في مثل هذا فقال: "يُمسون وخلوف أفواههم أطيب من ريح المسك يوم القيامة" لم يكن التركيب فاسدًا، كأنَّه قال: "يُمسون وهذا لهم يوم القيامة".
وأمَّا قوله: لخلوف فم الصائم حين يخلف فهذا الظرف تحقيقٌ للمبتدأ أو تأكيدٌ له، وبيان إرادة الحقيقة المفهومة منه، لا مجازه ولا استعارته، وهذا كما تقول: "جهاد المؤمن حين يُجاهد، وصلاته حين يُصلي، يجزيه الله تعالى بها يوم القيامة، ويرفع بها درجتَه يوم القيامة"، وهذا قريبٌ من قوله ﷺ: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن.
وليس المراد تقييد نفي الإيمان المُطلق عنه حالة مباشرة تلك الأفعال فقط، بحيث إذا كملت مباشرته وانقطع فعله عاد إليه الإيمان، بل هذا النفي مستمرّ إلى حين التوبة، وإلا فما دام مُصرًّا يُباشر الفعل فالنفي لاحقٌ به، ولا يزول عنه اسم الذنب والأحكام المُترتبة على المباشرة إلا بالتوبة النَّصوح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قلت: وفصل النزاع في المسألة أن يُقال: حيث أخبر النبيُّ ﷺ بأنَّ ذلك الطيب يكون يوم القيامة، فلأنَّه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال ومُوجباتها من الخير والشر، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السَّرائر وتبدو على الوجوه، وتصير علانيةً، ويظهر فيه قبح رائحة دم الكفار وسواد وجوههم، وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف وحين يمسون فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، ويكون حينئذٍ طيبها زائدًا على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته، وإن كانت تلك الرائحة كريهةً للعباد فرُبَّ مكروهٍ عند الناس محبوب عند الله تعالى، وبالعكس، فإنَّ الناس يكرهونه لمُنافرته طباعهم، والله تعالى يستطيبه ويُحبّه لمُوافقته أمره ورضاه ومحبته، فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد، وصار علانيةً، وهكذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر.
وإنما يكمل ظهورها ويصير علانيةً في الآخرة، وقد يقوى العملُ ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا: في الخير والشر، كما هو مشاهَدٌ بالبصر والبصيرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وقوةً في البدن، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإنَّ للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغضةً في قلوب الخلق". وقال عثمان بن عفان: "ما عمل رجلٌ عملًا إلا ألبسه الله تعالى رداءه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٍّ".
وهذا أمرٌ معلومٌ يشترك فيه وفي العلم به أصحابُ البصائر وغيرهم، حتى إنَّ الرجل الطيب البرّ لتشم منه رائحة طيبة وإن لم يمس طيبًا، فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه. والفاجر بالعكس. والمزكوم الذي أصابه ملأ مسام قلبه لا يشم لا هذا ولا هذا، بل زكامه يحمله على الإنكار.
فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصَّواب).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فإنَّ العبادات والطَّاعات لها آثار في القلوب والأعمال والذكر عند الله وعند عباده، فمَن استقام على طاعة الله باطنًا وظاهرًا وجاهد نفسَه لله ظهرت عليه آثاره من الخير، وأحبَّه الخلق المؤمنون؛ لما ظهر من أعماله الطيبة، فظهر لهم من آثار هذه العبادات، من: النور، والبركة، والتوفيق، والإعانة، ما لا يحصل لغيره؛ بسبب إخلاصه وصدقه ومُراقبته وثباته وعدم تقلباته.
وهكذا ضده: مَن أعلن الشر، وأبطن الشر؛ سيظهر الله عليه من آثار ذلك من البُغض عند المخلوقين، وسُوء الحال، وسُوء السمعة، وغير هذا من أسباب الكراهة؛ بسبب أعماله الخبيثة، فهكذا ما يكون من الصوم، ويكون من الجهاد، فالصَّائم إذا أخلص صيامَه لله واجتهد تظهر آثاره في الخير، ويكون خلوفه عند الله أطيب من ريح المسك، ويوم القيامة يظهر ذلك، وهكذا المجاهد في سبيل الله الذي يُقتَل، فيأتي يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك؛ لإظهار عمله العظيم وفضله العظيم يوم القيامة بين الناس.
فهذه الدنيا دار العمل، ودار الجد والاجتهاد، فقد يظهر فيها للعباد آثار الصلاح والفساد على الشخص، وقد يرى ذلك أهلُ الإيمان وأهلُ القلوب الحية، وقد تخفى بالنسبة إلى آخرين، كحال المزكوم الذي لا يشم رائحةَ الناس، وغيره من السَّالمين يشم الرائحة ويعرف هل هذه رائحة طيبة أو غير طيبة.
فهكذا الناس بحسب ما أعطاهم الله من البصيرة في العلم والتَّقوى يعلمون من ظاهر أحوال الناس وما يعملون ما لا يعلمه الآخرون، وهكذا مسألة الصيام، كونه يصوم لله ويجتهد فتظهر آثارُ صومه في الدنيا قبل الآخرة، لكن ظهورها في الآخرة أظهر وأعظم، كدم الشهيد يأتي يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك، والأهم في هذا هو الإخلاص والصدق، وأن المؤمن يتحرَّى في أعماله الصدق والإخلاص حتى تنفعه في الدنيا والآخرة.
وفَّق الله الجميع.
 
الأسئلة:

س: هل يكون في الصوم رياء؟
ج: قد يكون، إذا بيَّنه للناس وتحدَّث به ليُثنوا عليه صار رياء.
س: الراحة عند أصحاب الطاعات حسيَّة أو معنوية؟
ج: تكون حسيةً، وتكون معنويةً، حسية بالنسبة لأهل الخير والاستقامة، يظهر لهم في أعمالهم وأحوالهم ما لا يظهر لغيرهم، كالصائم، وغالب الخلق لا يحسّ بذلك.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في حديث الحارث الأشعري :
(وآمركم بالصَّدقة، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجلٍ أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير. ففدى نفسَه منهم، هذا أيضًا من الكلام الذي بُرهانه وجوده، ودليله وقوعه، فإنَّ للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ، بل من كافر، فإنَّ الله تعالى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء، وهذا أمرٌ معلومٌ عند الناس خاصَّتهم وعامَّتهم، وأهل الأرض كلهم مُقِرُّون به؛ لأنَّهم جرَّبوه.
وقد روى الترمذيُّ في "جامعه" من حديث أنس بن مالك : أن النبي ﷺ قال: إن الصدقة تُطفئ غضبَ الرب، وتدفع ميتةََ السُّوء. رواه الترمذي في "الزكاة" باب "نقل الصدقة"، وابن حبان في "صحيحه" في "الموارد" رقم الحديث (816) في "الزكاة" باب "ما جاء في الصدقة"، وفي سنده: عبدالله بن عيسى الخزاز، وهو ضعيف، وفيه أيضًا عنعنة الحسن البصري، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه" وفي بعض النسخ: "غريب"، وقد ثبت الحديث من طرقٍ بلفظ: "إن صدقة السر تُطفئ غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء". انظر "الإرواء".
 
وكما أنها تُطفئ غضبَ الرب تبارك وتعالى فهي تُطفئ الذنوبَ والخطايا كما يُطفئ الماء النار.
وفي الترمذي عن معاذ بن جبل قال: كنتُ مع رسول الله ﷺ في سفرٍ، فأصبحتُ يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقال: ألا أدلكك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنَّة، والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماءُ النار، وصلاة الرجل في جوف الليل شِعار الصَّالحين، ثم تلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16].
وفي بعض الآثار: "باكروا بالصَّدقة، فإنَّ البلاء لا يتخطَّى الصَّدقة".
وفي تمثيل النبي ﷺ ذلك بمَن قُدِّم ليُضْرَب عنقه فافتدى نفسه منهم بماله كفاية، فإنَّ الصدقة تفدي العبدَ من عذاب الله تعالى، فإنَّ ذنوبه وخطاياه تقتضي هلاكَه، فتجيء الصدقةُ تفديه من العذاب وتفكه منه.
ولهذا قال النبيُّ ﷺ في الحديث الصَّحيح لما خطب النِّساء يوم العيد: يا معشر النساء، تصدقن ولو من حُلِيِّكُنَّ، فإني رأيتكن أكثرر أهل النار، وكأنَّه حثَّهن ورغَّبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار.
وفي الصحيح عن عدي بن حاتم قال: قال رسولُ الله ﷺ: ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمه ربُّه ليس بينه وبينه تَرجمان، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ.
وفي حديث أبي ذر أنه قال: سألتُ رسول الله ﷺ: ماذا يُنجي العبدَ من النار؟ قال: الإيمان بالله، قلت: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟ قال: أن ترضخ مما خوَّلك الله، أو ترضخ مما رزقك الله، قلت: يا نبي الله، فإن كان فقيرًا لا يجد ما يرضخ؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قلت: إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال: فليُعِن الأخرق، قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن كان لا يُحسِن أن يصنع؟ قال: فليُعِن مظلومًا، قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يُعين مظلومًا؟ قال: ما تريد أن تترك في صاحبك من خيرٍ؟ ليُمْسِك أذاه عن الناس، قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن فعل هذا يدخل الجنة؟ قال: ما من مؤمنٍ يُصيب خصلةً من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى أدخلته الجنة. ذكره البيهقي في كتاب "شعب الإيمان".
وقال عمر بن الخطاب : "ذُكِر لي أنَّ الأعمال تتباهى، فتقول الصَّدقة: أنا أفضلكم".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: ضرب رسولُ الله ﷺ مثل البخيل والمُتصدِّق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان  من حديد –أو: جُنَّتان من حديد- قد اضطرت أيديهما إلى ثُديِّهما وتراقيهما، فجعل المتصدقُ كلَّما تصدَّق بصدقةٍ انبسطت عنه حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيلُ كلما همَّ بصدقةٍ قلصت وأخذت كل حلقةٍ مكانها.
قال أبو هريرة: فأنا رأيتُ رسول الله ﷺ يقول بإصبعه هكذا في جيبه، فرأيتُه يُوسعها فلا تتسع.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فهذه الأحاديث والآثار فيها الحثُّ على الصَّدقة والترغيب فيها، والصَّدقة من أفضل القُربات؛ لما فيها من الجود والكرم بإخراج المال المحبوب للنفوس، ولما فيها أيضًا من مساعدة الفقير وسدِّ خلته وإعانته على حاجاته، ولما فيها أيضًا من حُسن الظن بالله ورجاء الخلف.
فالصَّدقة فيها أنواع من الخير، والله جل وعلا يقول: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:280]، ويقول: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويقول: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [التغابن:17]، والقرض: الصَّدقة والإحسان، ويقول جل وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245].
فينبغي للمؤمن أن يجتهد في الصَّدقة والإحسان إلى الناس ومُواساة الفقراء ولو بالقليل.
وفي الحديث: يقول ﷺ: الصَّدقة تُطفئ الخطيئةَ كما يُطفئ الماء النار، حديث معاذ، ويُروى عنه ﷺ أنه قال: صدقة السرر تُطفئ غضبَ الرب، وتدفع ميتةَ السُّوء، وإن كان في سنده مقال، لكن له شواهد.
ويقول ﷺ: اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرة، كما في الصَّحيحين من حديث عدي: اتَّقوا النار لو بشق تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ.
وفي الحديث الآخر في الصحيح يقول ﷺ: إنَّ الرجل إذا تصدَّق بصدقةٍ -بعدل تمرةٍ- من كسب طيبٍ -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإنَّ الله يُربيها له في يده حتى تكون مثل الجبل.
فينبغي للمؤمن أن يجتهد في الصَّدقة والإحسان والجود والكرم ومواساة المحاويج والأرحام وغيرهم، فإنَّ ذلك له منزلة عند الله عظيمة، ومن أسباب تفريج الكروب، وتيسير الأمور، ودخول الجنة، والنجاة من النار، ومع ذلك له سريع الخلف من الله : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وفي الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: ما من يومٍ يُصبِح فيه الناس إلا وينزل فيه ملكان -كل صباح- يقول أحدُهما: اللَّهم أَعْطِ مُنفِقًا خَلَفًا، والثاني يقول: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا، ومصداق هذا في قوله جل وعلا: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
وفي هذا المثل الذي ضربه يحيى بن زكريا لبني إسرائيل، وأقره النبيُّ محمد ﷺ، هذا المثل فيه الآية العظيمة في الصَّدقة ومصلحتها العظيمة، وأنها فدية للعبد من النار؛ فإنَّه ذكر إنسانًا أخذه العدو، وأوثقوا يديه إلى عنقه، وقدَّموه ليضربوا عنقه، فجعل يفدي نفسَه منهم بالقليل والكثير حتى أطلق نفسَه، فهذا يدل على أنها فدية، وأنه متى أكثر من الصدقة يبتغي وجه الله فهذا من أسباب عتقه من النار: فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ.
وإذا اعتاد الإنسانُ الصدقة يسَّر الله أمره، وصلحت نفسه، إذا اعتاد الصدقة انشرح لها صدره، واعتنى بها، وصار يُخرجها بنفسٍ طيبةٍ، ومتى لم يعتدها وغلَّب شحَّ النفس صار بُخلُه يمنعه، وصارت نفسه تنقبض عن إخراج الصَّدقة.
فالمؤمن يُعوِّد نفسَه الخير والصَّدقة، فإذا فعل ذلك صار ينبسط للصدقة، ويفرح بها، ويُسارع إليها، وإذا لم يُعَوِّد نفسَه ذلك وغلب عليه الشيطانُ صار كلَّما همَّ بالصدقة انقبض عنها؛ لأنَّه لم يعتدها، ولم يكن في قلبه من الإيمان والبصيرة ما يشرحه لإخراجها.