قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد الذكر:
(الحادية والثلاثون: أنَّه أيسر العبادات، وهو من أجلها وأفضلها، فإنَّ حركة اللسان أخفُّ حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضوٌ من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشقّ عليه غاية المشقة، بل لا يمكنه ذلك.
الثانية والثلاثون: أنه غِراس الجنة، فقد روى الترمذي في "جامعه" من حديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسولُ الله ﷺ: لقيتُ ليلة أُسرى بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أنَّ الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قِيعان، وأنَّ غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث ابن مسعودٍ.
وفي الترمذي من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي ﷺ قال: مَن قال: سبحان الله وبحمده غُرست له نخلة في الجنة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
الثالثة والثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رُتِّب عليه لم يُرتَّب على غيره من الأعمال.
ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يومٍ مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مئة حسنة، ومُحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر منه. ومَن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مئة مرة حُطَّتْ خطاياه، وإن كانت مثلَ زبد البحر.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس.
وفي الترمذي من حديث أنسٍ: أن رسول الله ﷺ قال: مَن قال حين يُصبح أو يُمسي: اللهم إني أصبحتُ أشهدك، وأشهد حملة عرشك، وملائكتك، وجميع خلقك: أنَّك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، أعتق الله ربعَه من النار، ومَن قالها مرتين أعتق الله نصفَه من النار، ومَن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، ومَن قالها أربعًا أعتقه الله تعالى من النار.
وفيه عن ثوبان: أن رسول الله ﷺ قال: مَن قال حين يُمسي وإذا أصبح: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ ﷺ رسولًا، كان حقًّا على الله أن يُرضيه.
وفي الترمذي: مَن دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألفَ ألف حسنة، ومحا عنه ألفَ ألف سيئة، ورفع له ألفَ ألف درجة.
(الحادية والثلاثون: أنَّه أيسر العبادات، وهو من أجلها وأفضلها، فإنَّ حركة اللسان أخفُّ حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضوٌ من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشقّ عليه غاية المشقة، بل لا يمكنه ذلك.
الثانية والثلاثون: أنه غِراس الجنة، فقد روى الترمذي في "جامعه" من حديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسولُ الله ﷺ: لقيتُ ليلة أُسرى بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أنَّ الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قِيعان، وأنَّ غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث ابن مسعودٍ.
وفي الترمذي من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي ﷺ قال: مَن قال: سبحان الله وبحمده غُرست له نخلة في الجنة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
الثالثة والثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رُتِّب عليه لم يُرتَّب على غيره من الأعمال.
ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يومٍ مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مئة حسنة، ومُحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر منه. ومَن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مئة مرة حُطَّتْ خطاياه، وإن كانت مثلَ زبد البحر.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس.
وفي الترمذي من حديث أنسٍ: أن رسول الله ﷺ قال: مَن قال حين يُصبح أو يُمسي: اللهم إني أصبحتُ أشهدك، وأشهد حملة عرشك، وملائكتك، وجميع خلقك: أنَّك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، أعتق الله ربعَه من النار، ومَن قالها مرتين أعتق الله نصفَه من النار، ومَن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، ومَن قالها أربعًا أعتقه الله تعالى من النار.
وفيه عن ثوبان: أن رسول الله ﷺ قال: مَن قال حين يُمسي وإذا أصبح: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ ﷺ رسولًا، كان حقًّا على الله أن يُرضيه.
وفي الترمذي: مَن دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألفَ ألف حسنة، ومحا عنه ألفَ ألف سيئة، ورفع له ألفَ ألف درجة.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذه فوائد الذكر كلها عظيمة، وذكر الله جل وعلا مثلما قال المؤلف فوائده عظيمة وكثيرة، ومن أعظمها أن الله جل وعلا رتَّب عليه من العطاء الشيء الكثير ميسرة للعبد، فإن حركة اللسان أيسر الحركات وأسهلها، ولو أن يد الإنسان ورجله تحركت مثل حركة اللسان لشق عليه ذلك مشقةً كبيرةً، ولكن الله تعالى جعل حركة اللسان ميسرةً، ورتَّب على ذلك من الخير العظيم في الذكر ما لا يُرتبه على غيره، فمع فضل الذكر يسَّر الحركة في آنٍ واحدٍ، وهذا من لطف الله ورحمته وإحسانه.
فينبغي أن يستغل الإنسانُ هذه النعمة بإشغال هذا اللسان بذكر الله في جميع الفرص، ولا سيَّما الأذكار الواردة الشرعية؛ فإنَّ العناية بها أولى وأكثر، وقد جاء في المعنى أحاديث كثيرة كلها تشتمل على أنواع من الذكر، فينبغي للمؤمن أن يعتني بها، وأن يشغل لسانَه بها، وأن يحفظها في أوقاتها.
ومما جاء في ذلك: أن هذا الذكر غراس الجنة، الجنة موجودة وفيها من النعيم ما فيها: القصور، والبساتين، وفيها قيعان، وفيها أشجار، ويُبنى فيها، ولهذا قال ﷺ: مَن بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة، وجاءت النصوص في ذكر ثواب بعض الأعمال في الجنة، فدلَّ على أنها مع كونها عظيمةً وفيها من الخير العظيم ما فيها، فهي لا تزال بحسب أعمال العباد.
ومن أعظم أسباب زيادة النعيم للعبد: كثرة الذكر مع كثرة العبادات الأخرى، من: بناء المساجد، وصلة الرحم، وبرّ الوالدين، والجهاد في سبيل الله، وكثرة الصلاة، وكثرة الصوم، إلى غير ذلك، ومن أنواع ذلك: الذكر، فإنه غراس الجنة، ولهذا في هذا الخبر أن النبي ﷺ لما التقى إبراهيم قال له: أخبر أمتك أن الجنة قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والحديث الآخر: مَن قال: سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة، فالمقصود أن الأعمال الصالحة هي سبب مزيد النعيم في الجنة.
ومما ورد في ذلك من الأجر العظيم: ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، في يومٍ مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب هذا فضلٌ عظيمٌ وكُتبتْ له مئة حسنةٍ، ومُحيتْ عنه مئة سيئةٍ، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، أربعة أجور إذا قال هذه الكلمة مئة مرة، في أول النهار، في وسط النهار، في آخر النهار.
الفائدة الأولى: أنه يُعطى عدل عشر رقابٍ يُعتقها.
الثانية: يُكتب له مئة حسنةٍ.
الثالثة: يُمحا عنه مئة سيئةٍ.
الرابعة: تكون حرزًا له ذلك اليوم من الشيطان حتى يُمسي.
ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر: يعني لو قال: لا إله إلا الله مئتي مرة أو ثلاثمئة أو ألف أو أكثر كان أجره أعظم.
وما ذلك إلا لأنَّ هذا الذكر يُقرر في القلب تعظيم الله، والأنس به، والشوق إليه، والمسارعة إلى طاعته، والتَّحدث بنِعَمِه، والوقوف عند حدوده، والحذر من معاصيه، كلَّما أكثر من ذكر الله صار ذلك أقرب إلى صلاح قلبه، وسلامة قلبه وطهارته، فينبغي للمؤمن أن يُكثر من هذا الذكر.
ومن هذا: الحديث الصحيح، حديث أبي أيوب في "الصحيحين": مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير عشر مرات، كان كمَن أعتق أربعة أنفسٍ من ولد إسماعيل، فينبغي للمؤمن الإكثار من ذكر الله: في طريقه، في بيته، على فراشه، في أي مكانٍ.
أمَّا حديث السوق فهو حديث ضعيف، حديث السوق: مَن دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، كتب الله له ألفَ ألف حسنة، ومحا عنه ألفَ ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، هذا الحديث ضعيف، لا يثبت عن النبي ﷺ، لكن ذكر الله في الأسواق فيه فضل عظيم عند غفلة الناس، فأن يذكر الله والناس في غفلة هذا فيه خير عظيم، فينبغي للمؤمن الإكثار من ذكر الله: في السوق، في البيت، على الفراش، في المسجد، في أي مكانٍ.
والحديث الآخر: الباقيات الصَّالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويقول ﷺ: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم متفق على صحته.
ويقول ﷺ: لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس أخرجه مسلم في "الصحيح".
ويقول عليه الصلاة والسلام: أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أخرجه مسلم في "الصحيح" أيضًا.
فأنت يا عبد الله حسبك ذلك، اغتنم هذا الذكر، واسعى إلى هذا الخير العظيم أينما كنت.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: لو جزَّأ الحديث مئة مرة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" مثلًا: بعضها قبل الصلاة وبعضها بعد الصلاة؟
ج: ما في بأس، الرسول ﷺ ما قال: متوالية، لو قال خمسين قبل الصلاة وخمسين بعد الصلاة، أو خمسين في الضحى وخمسين بعد الظهر، أو خمسين في الظهر وخمسين في العصر، ما قال هذا.
س: هل يقولها في الصبح؟
ج: إذا أصبح أحسن، فتكون له حرزًا من الشيطان.
س: حديث أنس: اللهم إني أصبحتُ أشهدك ...؟
ج: حديث أنس لا بأس بإسناده، حديث حسن، وفي بعض الروايات: أعتقه الله من النار يومه ذلك، فإذا قال: اللهم إني أصبحتُ أشهدك، وأشهد حملة عرشك، وملائكتك، وجميع خلقك: أنَّك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك مرةً أعتق الله ربعه من النار، مرتين نصفه، ثلاث ثلاثة أرباعه، أربع كله من النار، وفي الرواية الأخرى: يومه ذلك.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في فوائد الذكر:
(الرابعة والثلاثون: أنَّ دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يُوجب الأمان من نسيانه، الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإنَّ نسيان الرب سبحانه وتعالى يُوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19]، وإذا نسي العبدُ نفسَه أعرض عن مصالحها، ونسيها، واشتغل عنها؛ فهلكت وفسدت ولا بد، كمَن له زرعٌ أو بستانٌ أو ماشيةٌ أو غير ذلك مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره، وضيَّع مصالحه؛ فإنَّه يفسد ولا بد.
هذا مع إمكان قيام غيره مقامه فيه، فكيف الظن بفساد نفسه وهلاكها وشقائها إذا أهملها ونسيها واشتغل عن مصالحها، وعطَّل مراعاتها، وترك القيام عليها بما يُصلحها، فما شئتَ من فسادٍ وهلاكٍ وخيبةٍ وحرمانٍ.
وهذا هو الذي صار أمره كله فرطًا، فانفرط عليه أمره، وضاعت مصالحه، وأحاطت به أسبابُ القطوع والخيبة والهلاك.
ولا سبيل إلى الأمان من ذلك إلا بدوام ذكر الله تعالى واللّهج به، وأن لا يزال اللسانُ رطبًا به، وأن يُنزله منزلة حياته التي لا غنى له عنها، ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمُه وهلك، وبمنزلة الماء عند شدَّة العطش، وبمنزلة اللباس في الحر والبرد، وبمنزلة الكنّ في شدة الشتاء والسّموم.
فحقيق بالعبد أن يُنزل ذكرَ الله منه بهذه المنزلة وأعظم، فأين هلاك الروح والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده؟! هذا هلاكٌ لا بدَّ منه، وقد يعقبه صلاحُ الأبد، وأمَّا هلاك القلب والروح فهلاكٌ لا يُرجا معه صلاح ولا فلاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولو لم يكن في فوائد الذكر وإدامته إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها، فمَن نسي الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا، ونسيه في العذاب يوم القيامة، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126] أي: تُنسى في العذاب كما نسيت آياتنا فلم تذكرها ولم تعمل بما فيها.
وإعراضُه عن ذكره يتناول إعراضَه عن الذكر الذي أنزله، وهو كتابه، وهو المراد بتناول إعراضه عن أن يذكر ربه بكتابه وأسمائه وصفاته وأوامره وآلائه ونِعمه، فإنَّ هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه تعالى، فإن الذكر في الآية إمَّا مصدر مضاف إلى معموله الذي هو المذكور، وإمَّا اسم مضاف إلى الفاعل، أو مضاف إضافة الأسماء المحضة، أي: مَن أعرض عن كتابي، ولم يتله، ولم يتدبره، ولم يعمل به، ولا فهمه؛ فإنَّ حياته ومعيشته لا تكون إلا مضيقةً عليه، منكدةً، مُعذَّبًا فيها.
والضنك: الضيق والشدة والبلاء.
ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة، وفُسِّرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصَّحيح أنها تتناول معيشته في الدنيا وعذابه في البرزخ، فإنَّه يكون في ضنك في الدارين، وهو شدّة وجهد وضيق، وفي الآخرة يُنسى في العذاب.
وهذا عكس أهل السعادة والفلاح، فإنَّ حياتهم في الدنيا أطيب الحياة، ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثَّواب.
قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فهذا في الدنيا، ثم قال: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] فهذا في البرزخ والآخرة.
وقال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل:41]، وقال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فهذا في الدنيا، ثم قال: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3] فهذا في الآخرة، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فهذه أربعة مواضع ذكر تعالى فيها أنه يجزي المُحسنَ بإحسانه جزاءين: جزاء في الدنيا، وجزاء في الآخرة.
فالإحسان له جزاء مُعجَّلٌ ولا بد، والإساءة لها جزاء مُعجَّلٌ ولا بد.
ولو لم يكن إلا ما يُجازى به المُحسن من انشراح صدره، وانفساح قلبه، وسروره، ولذته بمعاملة ربه ، وطاعته، وذكره، ونعيم روحه بمحبته وذكره، وفرحه بربه سبحانه وتعالى أعظم مما يفرح القريبُ من السلطان الكريم عليه بسلطانه.
وما يُجازى به المُسيء من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازاته، وغمه وهمه وحزنه وخوفه، وهذا أمرٌ لا يكاد مَن له أدنى حسٍّ وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة، والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته؛ ثوابٌ عاجلٌ، وجنة، وعيشٌ لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة).
(الرابعة والثلاثون: أنَّ دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يُوجب الأمان من نسيانه، الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإنَّ نسيان الرب سبحانه وتعالى يُوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19]، وإذا نسي العبدُ نفسَه أعرض عن مصالحها، ونسيها، واشتغل عنها؛ فهلكت وفسدت ولا بد، كمَن له زرعٌ أو بستانٌ أو ماشيةٌ أو غير ذلك مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه، فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره، وضيَّع مصالحه؛ فإنَّه يفسد ولا بد.
هذا مع إمكان قيام غيره مقامه فيه، فكيف الظن بفساد نفسه وهلاكها وشقائها إذا أهملها ونسيها واشتغل عن مصالحها، وعطَّل مراعاتها، وترك القيام عليها بما يُصلحها، فما شئتَ من فسادٍ وهلاكٍ وخيبةٍ وحرمانٍ.
وهذا هو الذي صار أمره كله فرطًا، فانفرط عليه أمره، وضاعت مصالحه، وأحاطت به أسبابُ القطوع والخيبة والهلاك.
ولا سبيل إلى الأمان من ذلك إلا بدوام ذكر الله تعالى واللّهج به، وأن لا يزال اللسانُ رطبًا به، وأن يُنزله منزلة حياته التي لا غنى له عنها، ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمُه وهلك، وبمنزلة الماء عند شدَّة العطش، وبمنزلة اللباس في الحر والبرد، وبمنزلة الكنّ في شدة الشتاء والسّموم.
فحقيق بالعبد أن يُنزل ذكرَ الله منه بهذه المنزلة وأعظم، فأين هلاك الروح والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده؟! هذا هلاكٌ لا بدَّ منه، وقد يعقبه صلاحُ الأبد، وأمَّا هلاك القلب والروح فهلاكٌ لا يُرجا معه صلاح ولا فلاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولو لم يكن في فوائد الذكر وإدامته إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها، فمَن نسي الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا، ونسيه في العذاب يوم القيامة، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126] أي: تُنسى في العذاب كما نسيت آياتنا فلم تذكرها ولم تعمل بما فيها.
وإعراضُه عن ذكره يتناول إعراضَه عن الذكر الذي أنزله، وهو كتابه، وهو المراد بتناول إعراضه عن أن يذكر ربه بكتابه وأسمائه وصفاته وأوامره وآلائه ونِعمه، فإنَّ هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه تعالى، فإن الذكر في الآية إمَّا مصدر مضاف إلى معموله الذي هو المذكور، وإمَّا اسم مضاف إلى الفاعل، أو مضاف إضافة الأسماء المحضة، أي: مَن أعرض عن كتابي، ولم يتله، ولم يتدبره، ولم يعمل به، ولا فهمه؛ فإنَّ حياته ومعيشته لا تكون إلا مضيقةً عليه، منكدةً، مُعذَّبًا فيها.
والضنك: الضيق والشدة والبلاء.
ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة، وفُسِّرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصَّحيح أنها تتناول معيشته في الدنيا وعذابه في البرزخ، فإنَّه يكون في ضنك في الدارين، وهو شدّة وجهد وضيق، وفي الآخرة يُنسى في العذاب.
وهذا عكس أهل السعادة والفلاح، فإنَّ حياتهم في الدنيا أطيب الحياة، ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثَّواب.
قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فهذا في الدنيا، ثم قال: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] فهذا في البرزخ والآخرة.
وقال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل:41]، وقال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فهذا في الدنيا، ثم قال: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3] فهذا في الآخرة، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فهذه أربعة مواضع ذكر تعالى فيها أنه يجزي المُحسنَ بإحسانه جزاءين: جزاء في الدنيا، وجزاء في الآخرة.
فالإحسان له جزاء مُعجَّلٌ ولا بد، والإساءة لها جزاء مُعجَّلٌ ولا بد.
ولو لم يكن إلا ما يُجازى به المُحسن من انشراح صدره، وانفساح قلبه، وسروره، ولذته بمعاملة ربه ، وطاعته، وذكره، ونعيم روحه بمحبته وذكره، وفرحه بربه سبحانه وتعالى أعظم مما يفرح القريبُ من السلطان الكريم عليه بسلطانه.
وما يُجازى به المُسيء من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازاته، وغمه وهمه وحزنه وخوفه، وهذا أمرٌ لا يكاد مَن له أدنى حسٍّ وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة، والإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته؛ ثوابٌ عاجلٌ، وجنة، وعيشٌ لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة).
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فإنَّ الذكر له فوائد عظيمة، وقد تقدَّم جملة منها، وذكر الله جل وعلا له شأن عظيم في حياة القلب وصلاحه وعمارته بخوف الله، ومراقبته، والقيام بحقه، والحذر من معاصيه، بخلاف الغافل: مَن غفل عن الله وعن ذكره بشهواته وحظوظه العاجلة اسودَّ قلبه، وأظلم، وقسا، وأعرض عن الآخرة، وصار إلى الهلاك.
فمن أسباب السعادة، ومن أسباب النجاة: دوام ذكر الله، وأن يكون على بال المؤمن: تسبيحه، وتهليله، وتكبيره، ودعاؤه، وتذكر ما يجب على العبد من حقوقه، والتفكر في جزائه في الآخرة، إلى غير هذا مما يتعلَّق بذكر الله، وعقابه، ونعيمه، وما أعدّ لأوليائه، وما أعدّ لأعدائه، فهذه أسباب النَّجاة.
ولهذا قال جل وعلا: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:17]، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، فالعقوبات عظيمة، نسأل الله العافية.
وقال جل وعلا: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] نسوه يعني: نسوا حقَّه وأعرضوا وتابعوا الهوى والشَّهوات، فأنساهم الله أنفسهم يعني: أنساهم الله أسباب نجاتها، وأسباب سعادتها بشغلهم بعاجل أمرهم، ودنياهم، وشهواتهم، عقوبةً عاجلةً.
فالواجب على المؤمن أن يُفكر في هذا الأمر، وأن يجتهد في دوام ذكر ربه، والأنس به، والخوف منه، والخشية والمراقبة له: في بيته، في طريقه، في مصنعه، في مركبه، في كل مكانٍ، جسمه مع الناس وقلبه مع الله في كل وقتٍ، جسمه في الصنعة، في العمل، في البيع، في الشراء، في الحرث، في غير هذا، ولكنه مع ربه بذكره، وتعظيمه، وأنسه به سبحانه وتعالى.
ثم هذا العامل بسبب استقامته يُحييه الله حياةً طيبةً في الدنيا، ثم يُجزَى في الآخرة جزاء حسنًا؛ لقوله جل وعلا: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، فيُجازى في الدنيا بالحياة الطيبة التي فيها سعادة قلبه، واستقامته مع الله، وأداؤه الحقوق، وأنسه بربه، وأنسه بإخوانه وأهله، ثم في الآخرة له الجنة والمغفرة.
فجديرٌ بكل مؤمنٍ وبكل مؤمنةٍ أن يشتغل بذكر الله قولًا وعملًا، بقلبه ولسانه، وألا يفتر عن ذلك، ويكون على باله حقّ الله عليه وما نهاه عنه، وما يُحبه ويرضاه، وما يكرهه؛ حتى تكون أوقاته مشغولةً بما ينفعه عند الله جل وعلا، وحتى يسلم من فوات أمره عليه، وضياع حياته بسبب تزيين الشيطان واتِّباع الهوى.
وفَّق الله الجميع.
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد الذكر:
(الخامسة والثلاثون: أنَّ الذكر يسيِّر العبدَ وهو قاعدٌ على فراشه، وفي سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، ومعاشه وقيامه وقعوده، واضطجاعه وسفره وإقامته، فليس في الأعمال شيء يعمّ الأوقات والأحوال مثله، حتى إنه يسيِّر العبد وهو نائم على فراشه فيسبق القائمَ مع الغفلة، فيُصبح هذا النائم وقد قطع الركب وهو مُستلقٍ على فراشه، ويُصبح ذلك القائم الغافل في ساقة الركب، وذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء.
وحُكي عن رجلٍ من العباد أنه نزل برجل ضيفًا، فقام العابدُ ليله يُصلي، وذلك الرجل مُستلقٍ على فراشه، فلمَّا أصبحا قال له العابد: سبقك الركب، أو كما قال. فقال: ليس الشأن فيمَن بات مسافرًا وأصبح مع الركب، الشأن فيمَن بات على فراشه وأصبح قد قطع الركب.
وهذا ونحوه له محمل صحيح ومحمل فاسد: فمَن حمله على أن الراقد المُضطجع على فراشه يسبق القائمَ القانت فهو باطل، وإنما محمله أن هذا المُستلقي على فراشه علق قلبُه بربه ، وألصق حبةَ قلبه بالعرش، وبات قلبه يطوف حول العرش مع الملائكة، قد غاب عن الدنيا ومَن فيها، وقد عاقه عن قيام الليل عائقٌ: من وجعٍ أو بردٍ يمنعه القيام، أو خوفٍ على نفسه من رؤية عدو يطلبه، أو غير ذلك من الأعذار، فهو مُستلقٍ على فراشه وفي قلبه ما الله تعالى به عليم. وآخر قائمٌ يُصلي ويتلو، وفي قلبه من الرياء والعُجب وطلب الجاهِ والمحمدة عند الناس ما الله به عليم، أو قلبه في وادٍ وجسمه في وادٍ.
فلا ريب أن ذلك الراقد يُصبح وقد سبق هذا القائمَ بمراحل كثيرةٍ، فالعمل على القلوب، لا على الأبدان، والمُعوَّل على الساكن، لا على الأطلال، والاعتبار بالمحرك الأول، فالذكر يُثير العزم السَّاكن، ويُهيِّج الحب المُتواري، ويبعث الطلب المبيت).
(الخامسة والثلاثون: أنَّ الذكر يسيِّر العبدَ وهو قاعدٌ على فراشه، وفي سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، ومعاشه وقيامه وقعوده، واضطجاعه وسفره وإقامته، فليس في الأعمال شيء يعمّ الأوقات والأحوال مثله، حتى إنه يسيِّر العبد وهو نائم على فراشه فيسبق القائمَ مع الغفلة، فيُصبح هذا النائم وقد قطع الركب وهو مُستلقٍ على فراشه، ويُصبح ذلك القائم الغافل في ساقة الركب، وذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء.
وحُكي عن رجلٍ من العباد أنه نزل برجل ضيفًا، فقام العابدُ ليله يُصلي، وذلك الرجل مُستلقٍ على فراشه، فلمَّا أصبحا قال له العابد: سبقك الركب، أو كما قال. فقال: ليس الشأن فيمَن بات مسافرًا وأصبح مع الركب، الشأن فيمَن بات على فراشه وأصبح قد قطع الركب.
وهذا ونحوه له محمل صحيح ومحمل فاسد: فمَن حمله على أن الراقد المُضطجع على فراشه يسبق القائمَ القانت فهو باطل، وإنما محمله أن هذا المُستلقي على فراشه علق قلبُه بربه ، وألصق حبةَ قلبه بالعرش، وبات قلبه يطوف حول العرش مع الملائكة، قد غاب عن الدنيا ومَن فيها، وقد عاقه عن قيام الليل عائقٌ: من وجعٍ أو بردٍ يمنعه القيام، أو خوفٍ على نفسه من رؤية عدو يطلبه، أو غير ذلك من الأعذار، فهو مُستلقٍ على فراشه وفي قلبه ما الله تعالى به عليم. وآخر قائمٌ يُصلي ويتلو، وفي قلبه من الرياء والعُجب وطلب الجاهِ والمحمدة عند الناس ما الله به عليم، أو قلبه في وادٍ وجسمه في وادٍ.
فلا ريب أن ذلك الراقد يُصبح وقد سبق هذا القائمَ بمراحل كثيرةٍ، فالعمل على القلوب، لا على الأبدان، والمُعوَّل على الساكن، لا على الأطلال، والاعتبار بالمحرك الأول، فالذكر يُثير العزم السَّاكن، ويُهيِّج الحب المُتواري، ويبعث الطلب المبيت).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فتقدم من الفوائد الكثيرة للذكر وما فيه، كالحث والتحريض على الذكر، والترغيب في الاستقامة عليه.
ومن فوائده: أنه يُسيِّر العبد إلى منازل المُقرَّبين، وإلى الغرف العالية، وإلى مرضاة الرب وهو جالس، فالإنسان بذكر الله جل وعلا، والشوق إليه، ومحبة له، وتعظيم له، وإخلاص له؛ يرفعه الله به درجات، ويحط به خطيئات، أعظم من الرجل العامل الذي هو في غفلةٍ، وفي إعراضٍ، فجسمه في وادٍ، وقلبه في واد، أو قد مُلئ بالرياء والسمعة والمنة بعمله، أو لغير هذا من الآفات.
أمَّا هذا السالف ذكره فمع المقرَّبين، ومع الأخيار بما حباه الله من الذكر، مع قيامه بالواجبات، وتركه للمُحرَّمات، ولكنَّه ملازمٌ للذكر، مجتهد في ذكر الله بقلبه ولسانه وجوارحه، ومما يدل على هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام لجويرية بنت الحارث لما دخل عليها وهي في مصلاها -دخل عليها ضحًى- قال: لقد قلتُ بعدك كلمات لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ، ثلاث مرات: سبحان الله العظيم وبحمده، عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، أربع كلمات ثلاث مرات.
وقال عليه الصلاة والسلام: مَن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كان كمَن أعتق أربعة أنفسٍ من ولد إسماعيل متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: مَن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مئة مرة في يومٍ كان له عدل عشر رقاب يعني: يُعتقها وكتب الله بها مئة حسنة، ومحا عنه مئة سيئة، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر منه.
وقال عليه الصلاة والسلام: أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال عليه الصلاة والسلام: لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس.
وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
هذا كله يُفيد أنه ينبغي الإكثار من الذكر، وأنت في أعمالك: في صنعتك، في سفرك، في سحب الماء لزراعتك، في نجارتك، في حدادتك، هذا الذكر يمشي معك في كل شيء، والحمد لله، فهو أسهل العبادات وأيسرها.
فالمقصود أنه ينبغي للمؤمن أن يُكثر من ذكر الله بقلبه ولسانه، كما يذكر الله بعمله من صلاةٍ وغيرها، ويكون حين الذكر في إخلاصٍ وصدقٍ مع الله، والرغبة والشوق إليه سبحانه وتعالى، لا رياء ولا سمعة.
فالإكثار من الذكر يرفع العبد إلى درجة المقرَّبين، وتحصل له المنازل العالية، مع الاستقامة على فعل الفرائض، وترك المحارم.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: أيهما أفضل: قراءة القرآن أم الذِّكر؟
ج: أفضل الذكر القرآن، لكن كل ذكرٍ له وقت، كوقت الأذكار في الصباح والمساء، والقرآن له الوقت كله.