قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في تشبيه الوحي بالنور:
(ثم ضرب سبحانه وتعالى مثلًا ثانيًا، وهو المثل النَّاري، فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد:17]، وهو الحديد والنحاس والفضَّة والذهب وغيرها، فإنَّها تُدخَل الكِيرَ لتُمَحَّصَ وتُخلص من الخبث، فيخرج خبثُها فيُرمى به ويُطرح، ويبقى خالصُها، وهو الذي ينفع الناس.
ولما ضرب الله سبحانه وتعالى هذين المثلين ذكر حكم مَن استجاب له ورفع بهداه رأسًا، وحكم مَن لم يستجب له ولم يرفع بهُداه رأسًا، فقال: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد:18].
والمقصود أن الله تعالى جعل الحياةَ حيث النور، والموتَ حيث الظلمة، فحياة الوجودين الروحي والجسمي بالنور، وهو مادة الحياة، كما أنه مادة الإضاءة، فلا حياةَ بدونه، كما لا إضاءةَ بدونه، وكما أنه به حياة القلب فبه انفساحه وانشراحه وسعته، كما في "الترمذي": عن النبي ﷺ: إذا دخل النورُ القلبَ انفسح وانشرح، قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتَّجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله.
ونور العبد هو الذي يصعد عمله وكلمه إلى الله تعالى، فإنَّ الله تعالى لا يصعد إليه من الكلم إلا الطيب، وهو نورٌ ومصدرٌ عن النور. ولا من العمل إلا الصالح، ولا من الأرواح إلا الطيبة، وهي أرواح المؤمنين التي استنارت بالنور الذي أنزله على رسوله ﷺ، والملائكة الذين خُلِقوا من نورٍ، كما في "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي ﷺ قال: خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلقت الشياطينُ من نار، وخُلق آدمُ مما وُصِف لكم.
فلما كانت مادةُ الملائكة من نور كانوا هم الذين يعرجون إلى ربِّهم تبارك وتعالى، وكذلك أرواح المؤمنين هي التي تعرج إلى ربها وقت قبض الملائكة لها، فيُفتح لها بابُ السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، إلى أن ينتهي بها إلى السَّماء السَّابعة، فتُوقَف بين يدي الله ، ثم يأمر أن يكتب كتابه في أهل عليين، فلمَّا كانت هذه الروح روحًا زاكيةً طيبةً نيرةً مشرقةً صعدت إلى الله مع الملائكة.
وأما الروح المُظلمة الخبيثة الكَدِرة: فإنها لا تُفتح لها أبواب السَّماء، ولا تصعد إلى الله تعالى، بل تُرد من السماء الدنيا إلى عالمها وعنصرها؛ لأنَّها أرضية سفلية، والأولى علوية سماويَّة، فرجعت كل روحٍ إلى عنصرها وما هي منه.
وهذا مُبَيَّنٌ في حديث البراء بن عازب الطويل الذي رواه الإمام أحمد وأبو عوانة الإسفراييني في "صحيحه" والحاكم وغيرهم، وهو حديث صحيح.
والمقصود أن الله لا يصعد إليه من الأعمال والأقوال والأرواح إلا ما كان منها نورًا، وأعظم الخلق نورًا أقربهم إليه وأكرمهم عليه).
(ثم ضرب سبحانه وتعالى مثلًا ثانيًا، وهو المثل النَّاري، فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد:17]، وهو الحديد والنحاس والفضَّة والذهب وغيرها، فإنَّها تُدخَل الكِيرَ لتُمَحَّصَ وتُخلص من الخبث، فيخرج خبثُها فيُرمى به ويُطرح، ويبقى خالصُها، وهو الذي ينفع الناس.
ولما ضرب الله سبحانه وتعالى هذين المثلين ذكر حكم مَن استجاب له ورفع بهداه رأسًا، وحكم مَن لم يستجب له ولم يرفع بهُداه رأسًا، فقال: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد:18].
والمقصود أن الله تعالى جعل الحياةَ حيث النور، والموتَ حيث الظلمة، فحياة الوجودين الروحي والجسمي بالنور، وهو مادة الحياة، كما أنه مادة الإضاءة، فلا حياةَ بدونه، كما لا إضاءةَ بدونه، وكما أنه به حياة القلب فبه انفساحه وانشراحه وسعته، كما في "الترمذي": عن النبي ﷺ: إذا دخل النورُ القلبَ انفسح وانشرح، قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتَّجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله.
ونور العبد هو الذي يصعد عمله وكلمه إلى الله تعالى، فإنَّ الله تعالى لا يصعد إليه من الكلم إلا الطيب، وهو نورٌ ومصدرٌ عن النور. ولا من العمل إلا الصالح، ولا من الأرواح إلا الطيبة، وهي أرواح المؤمنين التي استنارت بالنور الذي أنزله على رسوله ﷺ، والملائكة الذين خُلِقوا من نورٍ، كما في "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي ﷺ قال: خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلقت الشياطينُ من نار، وخُلق آدمُ مما وُصِف لكم.
فلما كانت مادةُ الملائكة من نور كانوا هم الذين يعرجون إلى ربِّهم تبارك وتعالى، وكذلك أرواح المؤمنين هي التي تعرج إلى ربها وقت قبض الملائكة لها، فيُفتح لها بابُ السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، إلى أن ينتهي بها إلى السَّماء السَّابعة، فتُوقَف بين يدي الله ، ثم يأمر أن يكتب كتابه في أهل عليين، فلمَّا كانت هذه الروح روحًا زاكيةً طيبةً نيرةً مشرقةً صعدت إلى الله مع الملائكة.
وأما الروح المُظلمة الخبيثة الكَدِرة: فإنها لا تُفتح لها أبواب السَّماء، ولا تصعد إلى الله تعالى، بل تُرد من السماء الدنيا إلى عالمها وعنصرها؛ لأنَّها أرضية سفلية، والأولى علوية سماويَّة، فرجعت كل روحٍ إلى عنصرها وما هي منه.
وهذا مُبَيَّنٌ في حديث البراء بن عازب الطويل الذي رواه الإمام أحمد وأبو عوانة الإسفراييني في "صحيحه" والحاكم وغيرهم، وهو حديث صحيح.
والمقصود أن الله لا يصعد إليه من الأعمال والأقوال والأرواح إلا ما كان منها نورًا، وأعظم الخلق نورًا أقربهم إليه وأكرمهم عليه).
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الآيات الكريمات والحديث الشريف في خلق الملائكة من النور، وفي أنَّ الله جل وعلا إذا أراد بالعبد خيرًا شرح قلبَه لذلك؛ فانفسح وانشرح، وكان من أسباب ذلك: الإنابة إلى دار الخلود، والتَّجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله، فالقلوب مُشبَّهة بالماء، ومشبَّهة بالنور، فإنَّ القلب الحي المستقيم مادته الحياة من الماء، ومادته النور، والقلب الميّت ليس كذلك، مادته الخبث والظّلمة.
فالمؤمن لصفاء قلبه وسلامة عقيدته هو النور والحياة؛ لأنَّه يرى بنور الله ما فيه سعادته ونجاته، وفي قلبه من الحياة والبصيرة ما يجعله يختار الطيبَ ويدع الخبيث، ويسير في النهج الصالح الذي قام عليه النور، ويترك النهج المظلم الخبيث الذي فقد النور.
والله جعل رسوله نورًا وكتابه نورًا، وخلق الملائكة من نورٍ، وهم حملة مشعل الهداية، وخلق الشياطين من النار، وخلق الإنسان من طين، فالمادة التي بها الحياة هي مادة الماء ومادة النور.
فينبغي للمؤمن أن يحرص على استقامة قلبه؛ باتِّباعه الكتاب والسنة، وباكتسابه الحلالَ الطيب، وبُعده عمَّا حرم الله من الخبائث التي تكسب قلبَه خبثًا وقسوةً ومرضًا، فاكتساب الحلال والاستقامة على طاعة الله كل ذلك يُكسِب القلبَ حياةً ونورًا، والمعاصي والكسب الخبيث يُكسِب القلبَ قسوةً وظلمةً.
فعلى حسب صلاح القلب واستقامة صاحبه مع الله يكون نوره، وتكون حياته، وعلى حسب انحرافه عن الطريق السوي وقلَّة علمه بالله ودينه تكون ظلمته، وتكون قسوته، فمَن استقام قلبه مع الله في طاعته واتِّباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه والفقه في دينه استقام أمره من جهة الحياة، ومن جهة النور، ومَن غلب عليه الجهلُ والهوى غلبت عليه مادةُ الظُّلمة ومادةُ الخبث والقسوة.
فالمؤمن يُحاسب نفسَه، وكذا المؤمنة، صاحب القلب الحي يُحاسب نفسه، ويُجاهدها لله حتى تستقيم أحواله، وحتى يسير على الطريق السَّوي، وحتى يكون من جملة الأخيار، ومن جملة أولياء الله الذين استناروا بنور الله، وساروا على منهجه الذي رسمه لعباده، فعاشوا في النور، وفي حياةٍ طيبةٍ، بخلاف الذين أعرضوا عن شرع الله ودينه، وعمَّا جاءت به رسله، واتَّبعوا الهوى، فإنه يغلب عليهم بسبب ذلك القسوة والظلمة -قسوة القلوب وظلمتها.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في تشبيه الوحي بالنور:
(وفي "المسند" من حديث عبدالله بن عمرو، عن النبي ﷺ: إنَّ الله تعالى خلق خلقه في ظلمةٍ، وألقى عليهم من نوره، فمَن أصاب من ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضلَّ، فلذلك أقول: جفَّ القلمُ على علم الله تعالى.
وهذا الحديث العظيم أصلٌ من أصول الإيمان، وينفتح به بابٌ عظيمٌ من أبواب سرِّ القدر وحكمته، والله تعالى الموفق.
وهذا النور الذي ألقاه عليهم سبحانه وتعالى هو الذي أحياهم وهداهم، فأصابت الفطرة منه حظَّها، ولكن لما لم يستقل بتمامه وكماله أكمله لهم وأتمّه بالروح الذي ألقاه على رسله عليهم الصلاة والسلام، والنور الذي أوحاه إليهم، فأدركته الفطرة بذلك النور السَّابق الذي حصل لها يوم إلقاء النور، فانضاف نور الوحي والنبوة إلى نور الفطرة، نورٌ على نورٍ، فأشرقت منه القلوب، واستنارت به الوجوه، وحييت به الأرواح، وأذعنت به الجوارح للطاعات طوعًا واختيارًا، فازدادت به القلوب حياةً إلى حياتها.
ثم دلَّها ذلك النور على نورٍ آخر، هو أعظم منه وأجل، وهو نور الصِّفات العليا الذي يضمحل فيه كل نورٍ سواه، فشاهدته ببصائر الإيمان مشاهدةً نسبتها إلى القلب كنسبة المرئيات إلى العين؛ ذلك لاستيلاء اليقين عليها، وانكشاف حقائق الإيمان لها، حتى كأنها تنظر إلى عرش الرحمن تبارك وتعالى بارزًا، وإلى استوائه عليه، كما أخبر به سبحانه وتعالى في كتابه، وكما أخبر به عنه رسوله ﷺ، يُدبر أمر الممالك، ويأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويُميت ويُحيي، ويقضي وينفذ، ويعزّ ويُذلّ، ويُقلِّب الليل والنهار، ويُداول الأيام بين الناس، ويُقلب الدول؛ فيذهب بدولةٍ ويأتي بأخرى، والرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام بين صاعدٍ إليه بالأمر، ونازلٍ من عنده به، وأوامره ومراسيمه مُتعاقبة على تعاقب الأوقات، نافذة بحسب إرادته ومشيئته، فما شاء كان كما شاء، في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تقدُّم ولا تأخُّر.
وأمره وسلطانه نافذٌ في السَّماوات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وفي البحار والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذرَّاته، يُقلِّبها ويصرفها ويُحدِث فيها ما يشاء، وقد أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا، وأحصى كل شيءٍ عددًا، ووسع كل شيءٍ رحمةً وحكمةً، ووسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه، ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على كثرة حاجاتها، فلا يشغله سمعٌ عن سمعٍ، ولا تغلطه كثرةُ المسائل، ولا يتبرَّم بإلحاح المُلِحِّين ذوي الحاجات.
وأحاط بصره بجميع المرئيات، فيرى دبيبَ النَّملة السَّوداء على الصَّخرة الصَّمَّاء في الليلة الظَّلماء، فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم السر وأخفى من السّر، فالسّر ما انطوى عليه ضمير العبد وخطر بقلبه ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه ما لم يخطر بقلبه بعدُ، فيعلم أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا، له الخلق والأمر، وله الملك، وله الحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، وله الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يُرجَع الأمرُ كله.
شملت قدرته كل شيءٍ، ووسعت رحمته كل شيءٍ، وسعت نعمته إلى كلِّ حيٍّ، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، يغفر ذنبًا، ويُفرِّج همًّا، ويكشف كربًا، ويجبر كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُعَلِّم جاهلًا، ويهدي ضالًّا، ويُرشد حيرانًا، ويُغيث لهفانًا، ويفكّ عانيًا، ويُشبِع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويُعافي مبتلًا، ويقبل تائبًا، ويجزي مُحسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصم جبَّارًا، ويُقِيل عثرةً، ويستر عورةً، ويُؤمِّن روعةً، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، يمينه مَلْأَى لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنَّه لم يغض ما في يمينه.
قلوب العباد ونواصيهم بيده، وأزمة الأمور معقودة بقضائه وقدره، وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، يقبض سماواته كلها بيده الكريمة، والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهنَّ، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، أنا الذي بدأتُ الدنيا ولم تكن شيئًا، وأنا الذي أُعيدها كما بدأتُها.
لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، ولا حاجةٌ يُسألها أن يُعطيها، لو أنَّ أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنّهم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو أن أول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنّهم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئًا، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وإنسهم وجنّهم، وحيهم وميتهم، ورطبهم ويابسهم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوه، فأعطى كلًّا منهم ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، ولو أنَّ أشجار الأرض كلها من حين وُجدت إلى أن تنقضي الدنيا أقلام، والبحر وراءه سبعة أبحرٍ تمده من بعده مداد، فكتب بتلك الأقلام وذلك المِداد، لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلماتُ الخالق تبارك وتعالى، وكيف تفنى كلماته جلَّ جلاله وهي لا بدايةَ لها ولا نهاية، والمخلوق له بداية ونهاية، فهو أحقّ بالفناء والنفاد؟ وكيف يُفني المخلوقُ غير المخلوق؟
هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، تبارك وتعالى، أحقّ مَن ذُكِرَ، وأحق مَن عُبد، وأحقّ مَن حُمد، وأولى مَن شُكِرَ، وأنصر مَن ابتُغِيَ، وأرأف مَن ملك، وأجود مَن سُئل، وأعفى مَن قدر، وأكرم مَن قصد، وأعدل مَن انتقم.
حكمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزَّته، ومنعه عن حكمته، وموالاته عن إحسانه ورحمته.
وهو الملك الذي لا شريكَ له، والفرد فلا ندَّ له، والغني فلا ظهيرَ له، والصمد فلا ولدَ له، ولا صاحبةَ له، والعليّ فلا شبيهَ له ولا سَمِيَّ له، كلُّ شيءٍ هالِكٌ إلا وجهه، وكل مُلْكٍ زائِلٌ إلا ملكه، وكل ظلٍّ قالِصٌ إلا ظلّه، وكل فضلٍ منقطعٌ إلا فضله.
لن يُطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يُعصى إلا بعلمه وحكمته، يُطاع فيشكر، ويُعْصَى فيتجاوز ويغفر، كلّ نقمةٍ منه عدل، وكل نعمةٍ منه فضل، أقرب شهيدٍ، وأدنى حفيظٍ، حال دون النفوس، وأخذ بالنَّواصي، وسجَّل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مُفضية، والسّر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
فإذا أشرقت على القلب أنوارُ هذه الصِّفات اضمَحَلَّ عندها كل نورٍ، ووراء هذا ما لا يخطر بالبال، ولا تناله عبارة.
والمقصود أنَّ الذكرَ يُنَوِّر القلبَ والوجهَ والأعضاء، وهو نور العبد في دنياه وفي البرزخ وفي القيامة).
(وفي "المسند" من حديث عبدالله بن عمرو، عن النبي ﷺ: إنَّ الله تعالى خلق خلقه في ظلمةٍ، وألقى عليهم من نوره، فمَن أصاب من ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضلَّ، فلذلك أقول: جفَّ القلمُ على علم الله تعالى.
وهذا الحديث العظيم أصلٌ من أصول الإيمان، وينفتح به بابٌ عظيمٌ من أبواب سرِّ القدر وحكمته، والله تعالى الموفق.
وهذا النور الذي ألقاه عليهم سبحانه وتعالى هو الذي أحياهم وهداهم، فأصابت الفطرة منه حظَّها، ولكن لما لم يستقل بتمامه وكماله أكمله لهم وأتمّه بالروح الذي ألقاه على رسله عليهم الصلاة والسلام، والنور الذي أوحاه إليهم، فأدركته الفطرة بذلك النور السَّابق الذي حصل لها يوم إلقاء النور، فانضاف نور الوحي والنبوة إلى نور الفطرة، نورٌ على نورٍ، فأشرقت منه القلوب، واستنارت به الوجوه، وحييت به الأرواح، وأذعنت به الجوارح للطاعات طوعًا واختيارًا، فازدادت به القلوب حياةً إلى حياتها.
ثم دلَّها ذلك النور على نورٍ آخر، هو أعظم منه وأجل، وهو نور الصِّفات العليا الذي يضمحل فيه كل نورٍ سواه، فشاهدته ببصائر الإيمان مشاهدةً نسبتها إلى القلب كنسبة المرئيات إلى العين؛ ذلك لاستيلاء اليقين عليها، وانكشاف حقائق الإيمان لها، حتى كأنها تنظر إلى عرش الرحمن تبارك وتعالى بارزًا، وإلى استوائه عليه، كما أخبر به سبحانه وتعالى في كتابه، وكما أخبر به عنه رسوله ﷺ، يُدبر أمر الممالك، ويأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويُميت ويُحيي، ويقضي وينفذ، ويعزّ ويُذلّ، ويُقلِّب الليل والنهار، ويُداول الأيام بين الناس، ويُقلب الدول؛ فيذهب بدولةٍ ويأتي بأخرى، والرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام بين صاعدٍ إليه بالأمر، ونازلٍ من عنده به، وأوامره ومراسيمه مُتعاقبة على تعاقب الأوقات، نافذة بحسب إرادته ومشيئته، فما شاء كان كما شاء، في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تقدُّم ولا تأخُّر.
وأمره وسلطانه نافذٌ في السَّماوات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وفي البحار والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذرَّاته، يُقلِّبها ويصرفها ويُحدِث فيها ما يشاء، وقد أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا، وأحصى كل شيءٍ عددًا، ووسع كل شيءٍ رحمةً وحكمةً، ووسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه، ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على كثرة حاجاتها، فلا يشغله سمعٌ عن سمعٍ، ولا تغلطه كثرةُ المسائل، ولا يتبرَّم بإلحاح المُلِحِّين ذوي الحاجات.
وأحاط بصره بجميع المرئيات، فيرى دبيبَ النَّملة السَّوداء على الصَّخرة الصَّمَّاء في الليلة الظَّلماء، فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم السر وأخفى من السّر، فالسّر ما انطوى عليه ضمير العبد وخطر بقلبه ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه ما لم يخطر بقلبه بعدُ، فيعلم أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا، له الخلق والأمر، وله الملك، وله الحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، وله الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يُرجَع الأمرُ كله.
شملت قدرته كل شيءٍ، ووسعت رحمته كل شيءٍ، وسعت نعمته إلى كلِّ حيٍّ، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، يغفر ذنبًا، ويُفرِّج همًّا، ويكشف كربًا، ويجبر كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُعَلِّم جاهلًا، ويهدي ضالًّا، ويُرشد حيرانًا، ويُغيث لهفانًا، ويفكّ عانيًا، ويُشبِع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويُعافي مبتلًا، ويقبل تائبًا، ويجزي مُحسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصم جبَّارًا، ويُقِيل عثرةً، ويستر عورةً، ويُؤمِّن روعةً، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، يمينه مَلْأَى لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنَّه لم يغض ما في يمينه.
قلوب العباد ونواصيهم بيده، وأزمة الأمور معقودة بقضائه وقدره، وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، يقبض سماواته كلها بيده الكريمة، والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهنَّ، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، أنا الذي بدأتُ الدنيا ولم تكن شيئًا، وأنا الذي أُعيدها كما بدأتُها.
لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، ولا حاجةٌ يُسألها أن يُعطيها، لو أنَّ أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنّهم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو أن أول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنّهم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئًا، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وإنسهم وجنّهم، وحيهم وميتهم، ورطبهم ويابسهم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوه، فأعطى كلًّا منهم ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، ولو أنَّ أشجار الأرض كلها من حين وُجدت إلى أن تنقضي الدنيا أقلام، والبحر وراءه سبعة أبحرٍ تمده من بعده مداد، فكتب بتلك الأقلام وذلك المِداد، لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلماتُ الخالق تبارك وتعالى، وكيف تفنى كلماته جلَّ جلاله وهي لا بدايةَ لها ولا نهاية، والمخلوق له بداية ونهاية، فهو أحقّ بالفناء والنفاد؟ وكيف يُفني المخلوقُ غير المخلوق؟
هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، تبارك وتعالى، أحقّ مَن ذُكِرَ، وأحق مَن عُبد، وأحقّ مَن حُمد، وأولى مَن شُكِرَ، وأنصر مَن ابتُغِيَ، وأرأف مَن ملك، وأجود مَن سُئل، وأعفى مَن قدر، وأكرم مَن قصد، وأعدل مَن انتقم.
حكمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزَّته، ومنعه عن حكمته، وموالاته عن إحسانه ورحمته.
ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ | كلَّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ |
إن عُذِّبوا فبعدله، أو نُعِّموا | فبفضله، وهو الكريم الواسعُ |
لن يُطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يُعصى إلا بعلمه وحكمته، يُطاع فيشكر، ويُعْصَى فيتجاوز ويغفر، كلّ نقمةٍ منه عدل، وكل نعمةٍ منه فضل، أقرب شهيدٍ، وأدنى حفيظٍ، حال دون النفوس، وأخذ بالنَّواصي، وسجَّل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مُفضية، والسّر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
فإذا أشرقت على القلب أنوارُ هذه الصِّفات اضمَحَلَّ عندها كل نورٍ، ووراء هذا ما لا يخطر بالبال، ولا تناله عبارة.
والمقصود أنَّ الذكرَ يُنَوِّر القلبَ والوجهَ والأعضاء، وهو نور العبد في دنياه وفي البرزخ وفي القيامة).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فهذه الكلمات التي ساقها المؤلفُ العلامة ابن القيم رحمه الله في بيان صفات الله ، وبيان الحديث الذي ذكره، وهو قوله ﷺ: إنَّ الله خلق عبادَه في ظلمةٍ، ثم ألقى عليهم من نوره، فمَن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضلَّ، فهذه النعمة العظيمة والرحمة العظيمة التي تفضَّل بها على مَن شاء من أوليائه تكون عند خلقهم، كما تقدَّم: "إن الله جل وعلا إذا أراد بعبده الخير ألقى في قلبه النور، فإذا وقع في قلبه النور -وهو الحق- انفسح وانشرح، وعقل الحقَّ وقبله، وكره الباطلَ وتركه"؛ ولهذا يقول جل وعلا: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35]، نور الفطرة التي يجعلها الله في القلب، ثم نور الوحي، فإذا اجتمع هذان النوران سعد العبدُ غاية السعادة، وكلّ مولودٍ يُولد على الفطرة، كما قال النبيُّ ﷺ: ما من مولودٍ إلا يُولَد على الفطرة يعني: فطرة الإسلام فأبواه يُهودانه، أو ينصرانه، أو يُمجِّسانه.
فمَن رزقه الله البقاء على الفطرة، وتعلَّم دينَ الله، وأرشده الله إلى الحقِّ؛ مضى على الحقِّ والهدى، ومَن أراد الله شقاوته جاءته أسبابُ الشقاوة، إمَّا من جهة والديه أو غيرهما.
فالواجب على المؤمن أن يضرع إلى الله، وأن يسأله سبحانه وتعالى الهداية والتَّوفيق والتبصير؛ لأنَّه متى هداه وألقى في قلبه النور اهتدى واستقام، فالله بعث الرسلَ جميعًا بهذا النور؛ ليُوجِّهوا العبادَ ويُرشدوهم إليه، فمَن أصابه ذلك النور على أيدي الرسل اهتدى واستقام، وطابق النور الذي جاءت به الرسل على النور الذي سبق أن وقع في قلبه وفطرته، ومَن أخطأه ذلك وتابع الهوى والشيطان ضلَّ، إمَّا بسبب جُلساء السُّوء، وإمَّا بسبب والديه، وإمَّا بأسباب غيرهما من دُعاة الباطل.
فعلى كل مؤمنٍ وعلى كل مؤمنةٍ أن يتدبر ويتعقَّل ما خُلِقَ له، وأن يعلم أنَّ الوحي الذي فيه حياته هو القرآن العظيم، فإنَّه الحياة، سمَّاه الله روحًا فقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، وسمَّاه نورًا: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].
فهذا الوحي الذي جاء به النبيُّ ﷺ روح ونور، نورٌ تحصل به الإضاءة والهداية، وروح تحصل به الحياة الطيبة، فمَن رزقه الله الاستقامةَ على هدى الله -على القرآن والسنة- فقد حصلت له الروح التي بها الحياة، وحصل له النور الذي به البصيرة والإشراق، ومَن ضلَّ ذلك ولم يهتدِ ولم يتبصَّر فاتته الحياةُ، وفاته النورُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
والعبد المؤمن يطلب العلم، ويطلب الهداية، ويسعى إليهما، فيتعلَّم ويتبصَّر، ويضرع إلى الله في طلبه التوفيقَ للعلم النافع، والبصيرة النافذة، والهداية إلى الصراط المستقيم، ومتى صدق في ذلك وألحَّ على ربِّه فالله هو الجواد الكريم سبحانه وتعالى، وهو القائل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وقال سبحانه: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32]، وقد جعل كتابه هدايةً للناس وبصيرةً.
فعلى المؤمن أن يتدبَّر ويتعقَّل ويستفيد من كلام الله ، حتى تحصل له الإضاءة والبصيرة بهذا النور، وحتى تحصل له الحياة بهذه الروح؛ فيحيى قلبه، ويستقيم قلبه على محبَّة الله ورسوله، ويستفيد بالعلم النافع والبصيرة النافذة، فيعلم ما أوجب الله فيعمل به، ويعلم ما حرَّم الله فيجتنبه، ويقف عند الحدود التي حدَّها الله سبحانه وتعالى.
وبهذا يعلم المؤمن شدَّة حاجته إلى تدبر كتاب الله، والتبصر فيه، وشدَّة حاجته إلى ما قاله الرسول ﷺ من التوجيه والإرشاد والعلم، حتى تحصل له بذلك الحياة الطيبة والنور والهداية والبصيرة.
وفَّق الله الجميع.
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(السَّابعة والثلاثون: أن الذكر رأسُ الأمور، وطريق عامَّة الطائفة، ومنشور الولاية، فمَن فُتِحَ له فيه فقد فُتِحَ له باب الدُّخول على الله ، فليتطهر وليدخل على ربِّه يجد عنده كلَّ ما يريد، فإن وجد ربَّه وجد كل شيءٍ، وإن فاته ربّه فاته كل شيءٍ.
الثامنة والثلاثون: أنَّ في القلب خلّةً وفاقةً لا يسدّها شيءٌ البتة إلا ذكرُ الله ، فإذا صار الذكرُ شعارَ القلب، بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تبعٌ له؛ فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلّة، ويُغني الفاقة، فيكون صاحبه غنيًّا بلا مالٍ، عزيزًا بلا عشيرةٍ، مهيبًا بلا سلطانٍ.
فإذا كان غافلًا عن ذكر الله فهو بضدِّ ذلك: فقيرٌ مع كثرة جدته، ذليلٌ مع سلطانه، حقيرٌ مع كثرة عشيرته.
التاسعة والثلاثون: أنَّ الذكر يجمع المُتفرِّق، ويُفرِّق المجتمع، ويُقرِّب البعيد، ويُبعِد القريبَ:
فيجمع ما تفرَّق على العبد من قلبه وإرادته وهمومه وعزومه، والعذاب كل العذاب في تفرقتها وتشتتها عليه، وانفراطها له، والحياة والنعيم كل النَّعيم في اجتماع قلبه وهمّه وعزمه وإرادته.
ويُفَرِّق ما اجتمع عليه من الهموم والغموم والأحزان والحسرات على فوت حظوظه ومطالبه.
ويُفرِّق أيضًا ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه وأوزاره حتى تتساقط عنه وتتلاشى وتضمحلّ.
ويُفرِّق أيضًا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان: فإنَّ إبليس لا يزال يبعث له سريةً بعد سريةٍ، وكلما كان أقوى طلبًا لله سبحانه وتعالى، وأشدَّ تعلُّقًا به، وإرادةً له؛ كانت السريةُ أكثفَ وأكثر وأعظم شوكة، بحسب ما عند العبد من موادِّ الخير والإرادة، ولا سبيلَ إلى تفريق هذا الجمع إلا بدوام الذكر.
وأمَّا تقريبه البعيد: فإنه يُقرِّب إليه الآخرة التي يُبعدها منه الشيطانُ والأمل، فلا يزال يلهج بالذكر حتى كأنَّه قد دخلها وحصرها، فحينئذٍ تصغر في عينه الدنيا، وتعظم في قلبه الآخرة، ويبعد القريب إليه وهي الدنيا التي هي أدنى إليه من الآخرة، فإنَّ الآخرة متى قربت من قلبه بعدت منه الدنيا، كلَّما قرب من هذه مرحلة بعد من هذه مرحلة، ولا سبيلَ إلى هذا إلا بدوام الذكر).
(السَّابعة والثلاثون: أن الذكر رأسُ الأمور، وطريق عامَّة الطائفة، ومنشور الولاية، فمَن فُتِحَ له فيه فقد فُتِحَ له باب الدُّخول على الله ، فليتطهر وليدخل على ربِّه يجد عنده كلَّ ما يريد، فإن وجد ربَّه وجد كل شيءٍ، وإن فاته ربّه فاته كل شيءٍ.
الثامنة والثلاثون: أنَّ في القلب خلّةً وفاقةً لا يسدّها شيءٌ البتة إلا ذكرُ الله ، فإذا صار الذكرُ شعارَ القلب، بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تبعٌ له؛ فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلّة، ويُغني الفاقة، فيكون صاحبه غنيًّا بلا مالٍ، عزيزًا بلا عشيرةٍ، مهيبًا بلا سلطانٍ.
فإذا كان غافلًا عن ذكر الله فهو بضدِّ ذلك: فقيرٌ مع كثرة جدته، ذليلٌ مع سلطانه، حقيرٌ مع كثرة عشيرته.
التاسعة والثلاثون: أنَّ الذكر يجمع المُتفرِّق، ويُفرِّق المجتمع، ويُقرِّب البعيد، ويُبعِد القريبَ:
فيجمع ما تفرَّق على العبد من قلبه وإرادته وهمومه وعزومه، والعذاب كل العذاب في تفرقتها وتشتتها عليه، وانفراطها له، والحياة والنعيم كل النَّعيم في اجتماع قلبه وهمّه وعزمه وإرادته.
ويُفَرِّق ما اجتمع عليه من الهموم والغموم والأحزان والحسرات على فوت حظوظه ومطالبه.
ويُفرِّق أيضًا ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه وأوزاره حتى تتساقط عنه وتتلاشى وتضمحلّ.
ويُفرِّق أيضًا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان: فإنَّ إبليس لا يزال يبعث له سريةً بعد سريةٍ، وكلما كان أقوى طلبًا لله سبحانه وتعالى، وأشدَّ تعلُّقًا به، وإرادةً له؛ كانت السريةُ أكثفَ وأكثر وأعظم شوكة، بحسب ما عند العبد من موادِّ الخير والإرادة، ولا سبيلَ إلى تفريق هذا الجمع إلا بدوام الذكر.
وأمَّا تقريبه البعيد: فإنه يُقرِّب إليه الآخرة التي يُبعدها منه الشيطانُ والأمل، فلا يزال يلهج بالذكر حتى كأنَّه قد دخلها وحصرها، فحينئذٍ تصغر في عينه الدنيا، وتعظم في قلبه الآخرة، ويبعد القريب إليه وهي الدنيا التي هي أدنى إليه من الآخرة، فإنَّ الآخرة متى قربت من قلبه بعدت منه الدنيا، كلَّما قرب من هذه مرحلة بعد من هذه مرحلة، ولا سبيلَ إلى هذا إلا بدوام الذكر).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فهذه الفوائد من الذكر التي ذكرها المؤلفُ العلامة ابن القيم رحمه الله كلها صحيحة، فهذا الذكر هو قوت القلوب، وهو غناها، وهو أساسُ سلامتها وصحَّتها، وهو رأس الأمر في إصلاح القلوب واستقامتها وتثبيتها على الحقِّ، فهو يسدّ فقرها، ويسدّ حاجتها، ويُقرِّب القلوبَ إلى الآخرة، ويُباعدها من الدنيا، ويجمع عليه قلبه وشمله بحب الله ومُراقبته، والاستقامة على دينه، وذكر رحمته وإحسانه وجوده وكرمه وما وعد به أولياءَه من النعيم المقيم في دار الكرامة، ويُبعِد عنه الشيطان ووساوسه، وأسباب الشر والهلاك التي تُصيبه عند الغفلة، وتحل به عند الإعراض، والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:41-43]، ويقول جل وعلا: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، ويقول سبحانه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ .. إلى أن قال سبحانه: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:17]، ويقول : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].
فالمؤمن غذاؤه وحياته وسعادته في ذكر الله: بالمحبة، والخوف، والرجاء، والتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والدعاء، وغير هذا من أنواع الذكر الذي يذكر به ربَّه، فالصلاة ذكر، والصَّدقات ذكر، والخوف ذكر، والرجاء ذكر، والتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، كله ذكر، والاستغفار، والدعاء، كله ذكر، وأعظم الذكر وأفضله قول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير"، وإذا ضمَّ معه التسبيح والتحميد والتكبير كان ذلك أفضل الكلام، كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال عليه الصلاة والسلام: الباقيات الصَّالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله، وقال عليه الصلاة والسلام: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
وقال لجويرية زوجته لما دخل عليها ضُحًى وهي في مصلاها بعد صلاة الفجر -دخل عليها بعد ارتفاع النهار- فقال لها رضي الله عنها: ما زلتِ في مكانك؟ يعني: منذ فارقتك من الفجر، قالت: نعم، قال: لقد قلتُ بعدك أربع كلماتٍ ثلاث مراتٍ لو وُزِنَتْ بما قلتِ لوزنتهن: سبحان الله العظيم وبحمده، سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زِنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، هذه الكلمات الأربع يُستحب تكرارها والإكثار منها، مع الإكثار من: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، والإكثار من قول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، يُحيي ويُميت، وهو على كل شيءٍ قدير".
يقول النبي ﷺ: مَن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، عشر مرات، كان كمَن أعتق أربعة أنفسٍ من ولد إسماعيل متفق على صحته.
ويقول عليه الصَّلاة والسلام: مَن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، مئة مرة، كانت له عدل عشر رقابٍ، وكتب الله له مئة حسنةٍ، ومحا عنه مئة سيئةٍ، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عَمِلَ أكثر منه، فهذا فضلٌ عظيمٌ، وخيرٌ كبيرٌ.
فينبغي الإكثار من ذكر الله، وتحميده، وتهليله، وتكبيره، واستغفاره ليلًا ونهارًا، ترجو بذلك ثوابَ الله، وتخشى عقابه، وتطرد الشيطان عنك، فإنَّ الشيطان عدو، فعند الغفلة يهجم على قلبك، ويُزيِّن لك كلَّ سوءٍ، وعند الذكر يتصاغر ويبعد، فعليك بالإكثار من ذكر الله صدقًا من قلبك أينما كنت، قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي ﷺ يذكر الله على كل أحيانه، قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، وماشيًا، وواقفًا، عليه الصلاة والسلام.
هكذا ينبغي للمؤمن أن يُكثِر من ذكر الله بقلبه ولسانه وأعماله.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: حديث: مَن لزم الاستغفار جعل الله له من كلِّ همٍّ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب؟
ج: لا بأس به، سنده جيد.
س: مَن نام عن صلاة الليل؟
ج: يقضيها في النهار، والأفضل في الضُّحى، وإن قضاها بعد الظهر لا بأس، ولكن إن قضاها قبل الزوال فهذا أحسن؛ لأنَّه في الحديث الصحيح يقول ﷺ: مَن فاته حزبه من الليل فقضاه من النهار قبل صلاة الظهر كان كمَن قرأه في الليل، أو: كُتِبَ له كما قرأه في الليل، فالصَّلوات التي تفوته -مثل حزبه من القرآن- إذا فعلها في الضَّحى يكون أحسن.
قال الحافظُ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(الأربعون: أنَّ الذكر يُنبِّه القلبَ من نومه، ويُوقظه من سِنَتِه.
والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر، وكان الغالب عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شدَّ المئزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر، فإنَّ الغفلة نوم ثقيل.
الحادية والأربعون: أنَّ الذكر شجرة تُثمر المعارفَ والأحوال التي شمَّر إليها السَّالكون، فلا سبيلَ إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وكلَّما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظمَ لثمرتها، فالذكر يُثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقامٍ وقاعدته التي ينبني ذلك المقامُ عليها، كما ينبني الحائطُ على أُسِّه، وكما يقوم السقفُ على حائطه.
وذلك أنَّ العبد إن لم يستيقظ لم يمكنه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدَّم، فالغفلة نوم القلب أو موته.
الثانية والأربعون: أنَّ الذاكر قريبٌ من مذكوره، ومذكوره معه.
وهذه المعية معية خاصَّة، غير معية العلم والإحاطة العامَّة، فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنُّصرة والتوفيق، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل:128]، وقوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66]، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
وللذاكر من هذه المعية نصيبٌ وافرٌ، كما في الحديث الإلهي: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرَّكتْ بي شفتاه، وفي أثرٍ آخر: أهل ذكري أهل مُجالستي، وأهل شُكري أهل زيارتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقَنِّطهم من رحمتي: إن تابوا فأنا حبيبهم، فإني أُحبّ التوابين، وأُحبّ المتطهِّرين، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.
والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يُشبهها شيء، وهي أخصّ من المعية الحاصلة للمُحسن والمتَّقي، وهي معية لا تُدركها العبارة، ولا تنالها الصفة، وإنما تُعلَم بالذوق، وهي مزلة أقدام إن لم يصحب العبدَ فيها تمييزٌ بين القديم والمُحْدَث، بين الرب والعبد، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود، وإلا وقع في حلولٍ يُضاهي به النصارى، أو اتِّحادٍ يُضاهي به القائلين بوحدة الوجود، وأنَّ وحدة الرب عين وجود هذه المخلوقات، بل ليس عندهم ربٌّ وعبدٌ، ولا خلقٌ وحقٌّ، بل الرب هو العبد، والعبد هو الرب، والخلق المُشبه هو الحقّ المُنزَّه، تعالى الله عمَّا يقول الظَّالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا.
والمقصود أنه إن لم يكن مع العبد عقيدةٌ صحيحةٌ، وإلا فإذا استولى عليه سلطانُ الذكر، وغاب بمذكوره عن ذكره وعن نفسه؛ ولج في باب الحلول والاتّحاد ولا بد).
(الأربعون: أنَّ الذكر يُنبِّه القلبَ من نومه، ويُوقظه من سِنَتِه.
والقلب إذا كان نائمًا فاتته الأرباح والمتاجر، وكان الغالب عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شدَّ المئزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر، فإنَّ الغفلة نوم ثقيل.
الحادية والأربعون: أنَّ الذكر شجرة تُثمر المعارفَ والأحوال التي شمَّر إليها السَّالكون، فلا سبيلَ إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وكلَّما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظمَ لثمرتها، فالذكر يُثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقامٍ وقاعدته التي ينبني ذلك المقامُ عليها، كما ينبني الحائطُ على أُسِّه، وكما يقوم السقفُ على حائطه.
وذلك أنَّ العبد إن لم يستيقظ لم يمكنه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدَّم، فالغفلة نوم القلب أو موته.
الثانية والأربعون: أنَّ الذاكر قريبٌ من مذكوره، ومذكوره معه.
وهذه المعية معية خاصَّة، غير معية العلم والإحاطة العامَّة، فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنُّصرة والتوفيق، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل:128]، وقوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66]، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
وللذاكر من هذه المعية نصيبٌ وافرٌ، كما في الحديث الإلهي: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرَّكتْ بي شفتاه، وفي أثرٍ آخر: أهل ذكري أهل مُجالستي، وأهل شُكري أهل زيارتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقَنِّطهم من رحمتي: إن تابوا فأنا حبيبهم، فإني أُحبّ التوابين، وأُحبّ المتطهِّرين، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.
والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يُشبهها شيء، وهي أخصّ من المعية الحاصلة للمُحسن والمتَّقي، وهي معية لا تُدركها العبارة، ولا تنالها الصفة، وإنما تُعلَم بالذوق، وهي مزلة أقدام إن لم يصحب العبدَ فيها تمييزٌ بين القديم والمُحْدَث، بين الرب والعبد، بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود، وإلا وقع في حلولٍ يُضاهي به النصارى، أو اتِّحادٍ يُضاهي به القائلين بوحدة الوجود، وأنَّ وحدة الرب عين وجود هذه المخلوقات، بل ليس عندهم ربٌّ وعبدٌ، ولا خلقٌ وحقٌّ، بل الرب هو العبد، والعبد هو الرب، والخلق المُشبه هو الحقّ المُنزَّه، تعالى الله عمَّا يقول الظَّالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا.
والمقصود أنه إن لم يكن مع العبد عقيدةٌ صحيحةٌ، وإلا فإذا استولى عليه سلطانُ الذكر، وغاب بمذكوره عن ذكره وعن نفسه؛ ولج في باب الحلول والاتّحاد ولا بد).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فهذه فوائد الذكر كلها واضحة، فإنَّ العبد تعتريه الغفلةُ والنسيانُ والذهولُ والإعراضُ، فإذا أكثر من ذكر الله انتبه القلبُ، وعادت إليه حياته وصفاؤه، وصار ذلك من أسباب محاربته لمعاصي الله، ومحاربته لكلِّ ما يُثبطه عن الخير، وصار ذلك ذو حياةٍ له، حياة عظيمة تتعلق بالحقِّ والهدى، وإبعادًا له عن أسباب الرَّدى.
فالذاكر حيُّ القلب، حيُّ الجوارح، حيُّ النفس، قريبٌ من الخير، بعيدٌ من الشر، يُنصِت في الحق، ويتقرَّب إلى الله بالحق، ويتباعد عمَّا يضره، وعما يُسبب قسوةَ قلبه، ولهذا يقول جل وعلا: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، ويقول جل وعلا: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، ويقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، فالإكثار من ذكر الله من التقوى والإحسان.
فجديرٌ بالمؤمن أن يجتهد في الإكثار من ذكر الله، ويكون هجيراه ذكر الله ، فبه حياة قلبه، وبه سلامة أخلاقه من الدنس، وبه حثٌّ له على الحق، ودافعٌ له إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وإبعادًا له عن صفات المجرمين وأخلاقهم.
فالله سبحانه وتعالى في الحقيقة هو غاية المقصود للعابد الذاكر، ورضاه غاية المطلوب، وفي رضاه وفي محبته وفي التقرب إليه راحة القلوب، ونعيم الأرواح، وأنس النفوس، والله مع الذاكرين ومع المتقين بتوفيقه وإرشاده لهم، وحبه لهم، وتسهيل أمورهم، وإبعادهم عن مزالق الضلالة: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، ويقول لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، ويقول النبيُّ ﷺ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
فالمقصود أن الذكر لله كما أنه يُطهِّر القلوب، ويرد إليها حياتها ونشاطها، فهو أيضًا يُقرِّب من الله، ويُسبب محبته جل وعلا، والأنس بطاعته، والتقرب إليه، ويُسبب الحذر من معاصيه وما يُغضبه سبحانه وتعالى.
هكذا أهل السنة والجماعة، هكذا أهل الحق، عرفوا الحقَّ بأسمائه وصفاته، وهو ربهم وإلههم، وعبدوه وأكثروا من ذكره، واتبعوا شريعته، بخلاف أهل الباطل والغفلة والإعراض؛ فإنهم تابعوا أهواءهم، وأعطوا نفوسهم شهواتها؛ فضلّوا وأضلّوا –نسأل الله العافية.
وفَّق الله الجميع.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(الثالثة والأربعون: أنَّ الذكر يعدل عتق الرِّقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله ، ويعدل الضربَ بالسيف في سبيل الله ، وقد تقدَّم أنَّ: مَن قال في يومٍ مئة مرة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ كانت له عدل عشر رقابٍ، وكُتبت له مئة حسنة، ومُحيت عنه مئة سيئةٍ، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه حتى يُمسي»، الحديث.
وذكر ابن أبي الدنيا: عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قيل لأبي الدرداء: إن رجلًا أعتق مئة نسمة. قال: "إن مئة نسمةٍ من مال رجلٍ كثير، وأفضل من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنهار، وأن لا يزال لسانُ أحدكم رطبًا من ذكر الله ".
وقال ابنُ مسعودٍ: "لأن أُسبح الله تعالى تسبيحاتٍ أحبّ إليَّ من أن أُنفق عددهنَّ دنانير في سبيل الله ".
وجلس عبدالله بن عمرو وعبدالله بن مسعود، فقال عبدالله بن مسعود: "لأن آخذ في طريقٍ أقول فيه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبّ إليَّ من أن أُنفِق عددهن دنانير في سبيل الله ".
فقال عبدالله بن عمرو: "لأن آخذ في طريقٍ فأقولهن أحبّ إليَّ من أن أحمل عددهن على الخيل في سبيل الله ".
وقد تقدَّم حديثُ أبي الدرداء، قال: قال رسولُ الله ﷺ: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله. رواه ابنُ ماجه والترمذي، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد").
(الثالثة والأربعون: أنَّ الذكر يعدل عتق الرِّقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله ، ويعدل الضربَ بالسيف في سبيل الله ، وقد تقدَّم أنَّ: مَن قال في يومٍ مئة مرة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ كانت له عدل عشر رقابٍ، وكُتبت له مئة حسنة، ومُحيت عنه مئة سيئةٍ، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه حتى يُمسي»، الحديث.
وذكر ابن أبي الدنيا: عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قيل لأبي الدرداء: إن رجلًا أعتق مئة نسمة. قال: "إن مئة نسمةٍ من مال رجلٍ كثير، وأفضل من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنهار، وأن لا يزال لسانُ أحدكم رطبًا من ذكر الله ".
وقال ابنُ مسعودٍ: "لأن أُسبح الله تعالى تسبيحاتٍ أحبّ إليَّ من أن أُنفق عددهنَّ دنانير في سبيل الله ".
وجلس عبدالله بن عمرو وعبدالله بن مسعود، فقال عبدالله بن مسعود: "لأن آخذ في طريقٍ أقول فيه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبّ إليَّ من أن أُنفِق عددهن دنانير في سبيل الله ".
فقال عبدالله بن عمرو: "لأن آخذ في طريقٍ فأقولهن أحبّ إليَّ من أن أحمل عددهن على الخيل في سبيل الله ".
وقد تقدَّم حديثُ أبي الدرداء، قال: قال رسولُ الله ﷺ: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الورق والذهب، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله. رواه ابنُ ماجه والترمذي، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد").
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على فضل الذكر، وأنه ينبغي للمؤمن أن يُكثر من ذكر الله في أيامه ولياليه، وفي جميع ساعاته؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى رتَّب عليه أجرًا عظيمًا، وخيرًا كثيرًا، وهو من أسباب ثبات القلب، واستقامة القلب وصلاحه، وانقياده للخير، ومن أسباب ردِّ الشياطين، ومن أسباب رقَّة القلب، فينبغي للمؤمن أن يُكثر من ذكر الله .
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي ﷺ يذكر الله على كل أحيانه"، فالإكثار من ذكر الله هو دأب الصالحين، وفيه الخير العظيم.
وفي هذا الحديث يقول ﷺ: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضَّة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله.
فالإكثار من ذكر الله هو المطلوب أينما كنت، مع القيام بالأعمال الأخرى، ولهذا قال أبو الدرداء لما ذكر عتق الرقاب وفضله، قال: "إن أفضل من ذلك إيمانٌ ملزوم بالليل والنهار، وكون اللسان يُكثر من ذكر الله "، فلزوم الإيمان والاستقامة على طاعة الله ورسوله التي أوجب، مع الإكثار من ذكر الله؛ هذه هي الحياة الطيبة، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41، 42]، ويقول جل وعلا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
فالإكثار من ذكر الله، مع القيام بما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، ولزوم الإيمان والاستقامة عليه؛ فيه فضل عظيم.
ويقول ﷺ في الحديث الصحيح: مَن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مئة مرة في يومٍ كانت له عدل عشر رقابٍ، يعني: يُعتقها وكتبتْ له مئة حسنة، ومحيتْ عنه مئة سيئة، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر من عمله، وهذا فضل عظيم يدل على فضل هذه الكلمة وتكرارها.
ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: مَن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مراتٍ كان كمَن أعتق أربعة أنفسٍ من ولد إسماعيل.
وقال: أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه غنيمة عظيمة أنت قادر عليها أينما كنت، وفضل عظيم، وعمل صالح كبير أنت قادر عليه، في البر والبحر، وفي الليل والنهار، وفي البيت وفي الخارج، وفي كل مكانٍ أنت قادر، بخلاف الذهب والفضة والأموال الأخرى والتي قد تعسر.
لذلك ينبغي للمؤمن أن يُكثِر من هذا الخير العظيم الميسور المتيَسِّر، من الإكثار من قراءة كتاب الله، والإكثار من ذكر الله بأنواع الذكر، ففي هذا الخير العظيم، وفي الحديث يقول ﷺ لما قال له رجل: يا رسول الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني ببابٍ جامعٍ أتمسَّك به؟! قال: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله.
فالمشروع للمؤمن أينما كان أن يكون لسانُه رطبًا بذكر الله: التسبيح، التحميد، التهليل، التكبير، الاستغفار، يُعاهد ربه ويستغيث به، أمرٌ بالمعروف، نهيٌ عن المنكر، دعوةٌ إلى الله، إرشادٌ إلى الخير، لا يزال مشغولًا بالخير أينما كان.
وفَّق الله الجميع.