09 من قوله: (الخامسة والخمسون: إن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله تعالى)

 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(الخامسة والخمسون: أنَّ جميع الأعمال إنما شُرعت إقامةً لذكر الله تعالى، والمقصود بها تحصيل ذكر الله تعالى، قال الله : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، قيل: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي: لأذكرك بها، وقيل: مضاف إلى المذكور، أي: لتذكروني بها. واللام فيها لام التعليل، وقيل: هي اللام الوقتية، أي: أقم الصلاة عند ذكري، كقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78]، وقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47].
وهذا المعنى يُراد بالآية، لكن تفسيرها به يجعل معناها فيه نظر؛ لأنَّ هذه اللام الوقتية يليها أسماء الزمان والظروف، والذكر مصدر، إلا أن يُقدّر زمان محذوف، أي: عند وقت ذكري. وهذا محتمل.
والأظهر أنها لام التعليل، أي: أقم الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره، وإذا ذكر العبدُ ربَّه فذكر الله تعالى سابقٌ على ذكره، فإنه لما ذكره ألهمه ذكره، فالمعاني الثلاثة حقّ.
وقال : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، فقيل: المعنى أنَّكم في الصلاة تذكرون الله، وهو ذاكرٌ مَن ذكره، ولذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إيَّاه. وهذا يُروى عن ابن عباسٍ وسلمان وأبي الدرداء وابن مسعودٍ .
وذكر ابنُ أبي الدنيا: عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال: هو قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، فذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم إيَّاه".
وقال ابن زيد وقتادة: "معناه: وذكر الله أكبر من كل شيءٍ".
وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "أما تقرأ القرآن: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ؟".
ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء المتقدِّم: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق .. الحديث.
وكان شيخُ الإسلام أبو العباس قدَّس الله روحه يقول: "الصحيح أنَّ معنى الآية: أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر: فإنها تنهى عن الفحشاء والمُنكر، وهي مشتملةٌ على ذكر الله تعالى، ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر".
وذكر ابنُ أبي الدنيا: عن ابن عباس أنه سُئل: أي العمل أفضل؟ قال: "ذكر الله أكبر".
وفي "السنن" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي ﷺ قال: إنَّما جُعل الطَّوافُ بالبيت وبين الصَّفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فهذا أيضًا من فوائد الذكر، فالذكر جامعٌ للخير كله، ولهذا شرع اللهُ جميعَ الأعمال الصالحة لإقامة ذكره، فالصلاة من إقامة ذكره، والصوم من إقامة ذكره، والزكاة من إقامة ذكره، والحج من إقامة ذكره، والجهاد من إقامة ذكره، وهكذا بقية الأعمال الصالحة، ولهذا قال : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ثم قال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]؛ لما فيها من ذكر الله وتعظيمه وتقديسه أكبر.
فهو المستحقّ لأن يُذْكَر ويُدْعَا ويُعَظَّم، أينما كان الإنسان، وفي كل وقتٍ، ولهذا يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، ويقول : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، ويقول : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، ويقول ا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ إلى أن قال سبحانه في الصِّفة العاشرة: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، كلها من صفات المؤمنين، فالمؤمن لا تجده أبدًا إلا ذاكرًا لله بقلبه ولسانه وعمله؛ لأنَّ الله سبحانه هو المنعم المحسن عليك، وعلى آبائك، وأنت تتقلَّب في إحسانه ليلًا ونهارًا، فهو سبحانه المستحقّ لأن يُشكر ويُعظَّم ويُذكَر، والذكر من شكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ.
وفي الحديث يقول ﷺ: إنما جُعل الطوافُ بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله، فالله شرع الحج وما سواه من العبادات لإقامة ذكره ، فيُذكَر ويُعظَّم ويُثنى عليه ويُقَدَّس سبحانه وتعالى، فهو أهلٌ لكل ذكرٍ.
وفي الحديث الصحيح -حديث أبي الدرداء- يقول عليه الصلاة والسلام: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله، فذكر الله بأداء فرائضه، وترك محارمه، وإشغال القلب واللسان والجوارح بما أوجب وشرع؛ هو اللُّباب، وهو المقصود من هذه الهيئة.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: الذكر المقيد أم المطلق؟
ج: كله داخل، المقيد والمطلق، المقيد في الصباح والمساء وأدبار الصَّلوات، والمطلق دائمًا مشروعٌ، هكذا وهكذا، مشروع في أوقاتٍ مخصوصةٍ، ومشروعٌ على العموم دائمًا، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: "كان النبيُّ ﷺ يذكر الله على كل أحيانه". أخرجه مسلم.
س: حتى لو كان على غير طهارةٍ؟
ج: نعم، بقلبه ولسانه، حتى ولو في الحمام بقلبه، يكون في الحمام لقضاء الحاجة وقلبه مع الله، فالذكر يكون باللسان وبالعمل كله، لكن في الحمام يكون بالقلب عند قضاء الحاجة.
س: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربِّه: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرَّكتْ بي شفتاه؟
ج: لا بأس به، هذه معيَّة خاصَّة.
س: قوله عليه الصلاة والسلام: وتحرَّكتْ بي شفتاه هل هذا يعني أنَّ الذكر لا يكون إلا بالنُّطق؟
ج: لا، ما هو بلازمٍ، فالذكر يكون باللسان ويكون بالعمل، فالصلاة ذكر، والصوم ذكر، والجهاد ذكر، والمشي إلى عيادة المريض ذكر، وهكذا؛ لأنه قد يكون الذكر بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بنفس العمل.
س: النقشبنديَّة طريقة ذكرهم تقوم على الذكر الخفي؟
ج: هؤلاء متصوفة، من أهل البدع، لا، ذكر الله يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالعمل، يكون ظاهرًا وخفيًّا، ظاهرًا في محله، وخفيًّا في محله.
س: إذا تعارض الجرحُ والتعديلُ في الحديث؟
ج: يُقدَّم الجرحُ إذا صدر من إمامٍ من الأئمة العارفين بالأسباب، وبيَّن: سيء الحفظ، كذَّاب، يعني بيَّن أسبابَ الجرح، ويكون الجارحُ إمامًا معروفًا.
س: وإذا عُرِفَ بالشّدة كالنّسائي؟
ج: ولو إذا بيَّن السبب.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(السادسة والخمسون: أنَّ أفضل أهل كل عملٍ أكثرهم فيه ذكرًا لله ، فأفضل الصوّام أكثرهم ذكرًا لله في صومهم، وأفضل المُتصدقين أكثرهم ذكرًا لله ، وأفضل الحُجَّاج أكثرهم ذكرًا لله . وهكذا سائر الأعمال.
وقد ذكر ابنُ أبي الدنيا حديثًا مرسلًا في ذلك: أن النبي ﷺ سُئل: أيّ أهل المسجد خير؟ قال: أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، قيل: أي أهل الجنازة خير؟ قال: أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، قيل: فأي المجاهدين خير؟ قال: أكثرهم ذكرًا لله ، قيل: فأي الحُجَّاج خير؟ قال: أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، قيل: وأي العُوَّاد خير؟ قال: أكثرهم ذكرًا لله ، قال أبو بكر: ذهب الذَّاكرون بالخير كله.
وقال عبيدُ بن عمير: "إنَّ أعظمَكم هذا الليلُ أن تُكابدوه، وبخلتم بالمال أن تُنفقوه، وجبنتم عن العدو أن تُقاتلوه: فأكثروا من ذكر الله ".
السابعة والخمسون: أنَّ إدامة الذكر تنوب عن التَّطوعات وتقوم مقامها، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً، أو بدنيةً ماليةً، كحج التطوع، وقد جاء ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة : أنَّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهلُ الدّثور من الأموال بالدَّرجات العُلَى والنعيم والمُقيم، يُصلُّون كما نُصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم، يحجون بها ويعتمرون، ويُجاهدون ويتصدَّقون. فقال: ألا أُعلّمكم شيئًا تُدركون به مَن سبقكم، وتسبقون به مَن بعدكم، ولا أحدٌ يكون أفضلَ منكم إلا مَن صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تُسبِّحون وتحمدون وتُكبِّرون خلف كلِّ صلاةٍ .. الحديث، متفق عليه.
فجعل الذكر عِوَضًا لهم عمَّا فاتهم من الحج والعمرة والجهاد، وأخبر أنَّهم يسبقونهم بهذا الذكر، فلما سمع أهلُ الدثور بذلك عملوا به، فازدادوا -إلى صدقاتهم وعبادتهم بمالهم- التَّعبد بهذا الذكر، فحازوا الفضيلتين، فنافسهم الفقراءُ، وأخبروا رسولَ الله ﷺ بأنَّهم قد شاركوهم في ذلك، فانفردوا عنهم بما لا قدرةَ لهم عليه، فقال: ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء.
وفي حديث عبدالله بن بُسر قال: جاء أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله، كثرت عليَّ خِلالُ الإسلام وشرائعه، فأخبرني بأمرٍ جامعٍ يكفيني، قال: عليك بذكر الله تعالى، قال: ويكفيني يا رسول الله؟ قال: نعم، ويفضل عنك.
فدله الناصحُ ﷺ على شيءٍ يُعينه على شرائع الإسلام والحرص عليها والاستكثار منها، فإنَّه إذا اتَّخذ ذكرَ الله تعالى شعاره أحبَّه وأحبَّ ما يُحب، فلا شيء أحبّ إليه من التَّقرُّب بشرائع الإسلام، فدلَّه ﷺ على ما يتمكَّن به من شرائع الإسلام، وتسهل به عليه، وهو ذكر الله ).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذه الآثار كلها تدلّ على أن أفضل الأعمال ما كثر فيه ذكر الله، فكلَّما كان العملُ ذكر الله فيه أكثر صار ثوابُه أعظم وأجزل، فأفضل العاملين هم أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، في صلاتهم، وفي صومهم، وفي زكواتهم، وفي صدقاتهم، وفي حجِّهم، وفي جهادهم، وفي غير ذلك، فأفضل العاملين الصَّالحين المتقين مَن كان أكثر ذكرًا لله عز وجل، مع عمله القلبي والبدني.
فالمؤمن يعمل بقلبه ولسانه وجوارحه، فالجوارح مشغولة بالعمل، واللسان مشغول بالعمل، والقلب مشغول بالعمل، وكله ذكرٌ لله ، فخوف الله ومراقبته والشوق إليه وحُسن الظن به من أذكار القلب، والإكثار من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير من أذكار اللسان، والصلاة والصوم والصَّدقات والجهاد من أعمال الجوارح.
فكلما كان العبدُ يجمع بين أنواع الذكر فيُصلي -وهو خير الذكر- ويصوم ويتصدَّق ويحج -وهو خير الذكر- لم يغفل؛ كان عمله أكثر ثوابًا، فأفضل المجاهدين أكثرهم ذكرًا لله، وأفضل المصلين أكثرهم ذكرًا لله وتعظيمًا له، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرًا لله، وهكذا جميع الأعمال بهذا النَّسق.
ولما صعب الأمر على الفقراء لما شاهدوا الأغنياءَ يتصدَّقون ويحجُّون ويعتمرون ويُجاهدون من أموالهم قالوا: يا رسول الله، ذهب أهلُ الدثور بالأجور؟ يعني: ذهب أهلُ الأموال بالأجور، يُصلّون كما نُصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموالٍ يتصدَّقون، ونحن ما عندنا شيء، يتصدَّقون ويعتقون، فيقول لهم ﷺ: أفلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تُدركون به مَن سبقكم، وتسبقون مَن بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا مَن صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تُسبِّحون وتحمدون وتُكبِّرون دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين مرةً، سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثًا وثلاثين مرة، وفي الحديث الآخر: وتمام المئة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، أخبرهم بأنهم بهذا يسبقون مَن تأخَّر، ويفضلون على غيرهم، ويُشاركون أهلَ الأموال في ذلك، بعدما عجزوا عن مشاركتهم في الصَّدقات وأعمال الخير والعتق؛ لأنهم عجزوا عن المال، فاعتاضوا عن ذلك بأذكار الله بالقلب واللسان والعمل، فأدركوا مَن سبقهم، وسبقوا مَن تخلَّف عنهم.
قال الفقراء: "فسمع إخواننا أهل الأموال ففعلوا مثلنا"، سمعوا بالذكر الذي قاله لهم رسولُ الله ﷺ فجعلوا يُسبِّحون ويحمدون ويُكبِّرون دبر كل صلاةٍ مثلهم، فجعل الفقراءُ يقولون: "يا رسول الله، إنَّ إخواننا الأغنياء فعلوا مثلنا"، فقال النبيُّ ﷺ: ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، إذا أعطى اللهُ العبدَ كمال العبادة المالية والقلبية واللسانية فهذا فضله يُؤتيه مَن يشاء ، ويكون في الطبقة العليا؛ لأنَّه جمع بين هذا وهذا.
وجاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنَّ شرائع الإسلام كثرت عليّ، فأخبرني ببابٍ جامعٍ أتشبث به، فقال له ﷺ: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله، يعني: عليك بذكر الله فهو جامع، تسبق به الناس، تُشاركهم في الخير والأعمال الصَّالحات، ومع ذلك اجتهد في الذكر القلبي واللساني فهو سابق، وله الفضل العظيم، والدرجات العالية، إذا أخلص لله وصدق وبذل وسعه في الخيرات.
فهذا كله يدلنا على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون كثير الذكر، وأن يحذر الغفلة: في بيته، في طريقه، في دكانه، في سيارته، في أي مكانٍ، في صلاته، في صومه، ليس بغافلٍ، يصلي وقلبه مع الله، ذاكرٌ لله، يحج وقلبه ذاكر لله، يتصدق كذلك، في جميع أحواله قلبه مُعلَّق بالله، يذكر فضله، يذكر إحسانه، يخافه، يرجوه، يُسبحه، يُهلله، يحمده، يُحسن به الظن، يُصلي له، يصوم له، يتصدَّق له، كل أعماله لله وحده، ليس فيها شركٌ ولا رياءٌ ولا سمعةٌ ولا مقاصد أخرى، فهذا هو أفضل الأعمال، وصاحبه قد وُفِّق ودُلَّ على أفضل الأعمال، وهي اشتغاله بذكر الله مع أعماله التي شرعها الله له، فهو يؤدي الواجبات، ويدع المحارم، وقلبه مشغول بالله وذكره .
وفَّق الله الجميع.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(الثامنة والخمسون: أنَّ ذكر الله عز وجل من أكبر العون على طاعته، فإنَّه يُحببها إلى العبد، ويُسهلها عليه، ويُلذّذها له، ويجعل قرةَ عينه فيها، ونعيمه وسروره بها، بحيث لا يجد لها من الكُلفة والمشقَّة والثِّقل ما يجد الغافل، والتجربة شاهدة بذلك، يُوضِّحه:
التاسعة والخمسون: أنَّ ذكر الله يُسهّل الصعب، ويُيَسِّر العسير، ويُخفِّف المشاقّ، فما ذُكِر الله على صعبٍ إلا هان، ولا على عسيرٍ إلا تيسَّر، ولا مشقَّةٍ إلا خفَّت، ولا شدَّة إلا زالت، ولا كربةٍ إلا انفرجت، فذُكر الله تعالى هو الفَرَجُ بعد الشدّة، واليُسر بعد العسر، والفَرَج بعد الغمِّ والهمِّ، يوضحه:
الستون: أنَّ ذكر الله عز وجل يُذهِب عن القلب مخاوفَه كلها، وله تأثيرٌ عجيبٌ في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتدَّ خوفُه أنفع من ذكر الله عز وجل، إذ بحسب ذكره يجد الأمنَ ويزول خوفه، حتى كأنَّ المخاوفَ التي يجدها أمان له، والغافل خائف مع أمنه، حتى كأنَّ ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومَن له أدنى حسٍّ قد جرَّب هذا وهذا. والله المُستعان).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أما بعد: فهذه الفوائد أيضًا من فوائد الذكر، فالذكر كله خير: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، يُعين على العبادة، ويُسهلها على المؤمن، ويُحببها إليه، ويُشجعه عليها، ويُذكِّره بربه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، فالإتيان بذكر الله في أثناء العبادة وفي أوقاته كلها يُعينه على طاعة الله، ويُذكِّره بحقِّ الله، ويُسهِّل عليه جميعَ التَّكاليف التي أمره الله بها، ويجعله في غايةٍ من الراحة والطّمأنينة والسّرور والغبطة والأمن، بخلاف الغافل؛ فإنَّه في وحشةٍ من نفسه ومن سائر أحواله.
فعليك يا عبدالله أن تجتهد في أن يكون لسانُك رطبًا بذكر الله، وقلبك أيضًا مشغولًا بذكر الله، وهكذا أعمالك، فذكر الله يكون بالقلب: بالخوف، والمحبة، والرجاء، والشوق إليه، وتذكُّر إنعامه وإحسانه والمصير إليه. والذكر باللسان: بالتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والدعاء، وقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، إلى غير هذا مما يتكلم به الإنسانُ من الذكر، ويكون بالأعمال –بالجوارح- من: الصلاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير هذا من أعمال الخير، فجميع أعمال الخير كلها قوة لك، وقوة لقلبك، وتشجيع لك على طاعة الله ورسوله، وإزالة للمخاوف من نفسك؛ لأنَّ مَن ذكر الله واطمأنَّ إلى الله زالت مخاوفُه، وصار محلها الأمن والراحة والطُّمأنينة؛ لأنَّه يعلم أن الله جل وعلا يذكر مَن ذكره، ويُحب مَن ذكره: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، ولما ذكر جلَّ وعلا أصنافَ المؤمنين ختمهم بقوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، وقال ﷺ: سبق المُفَرِّدون، قالوا: يا رسول الله، ما المُفَرِّدون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذاكرات، الذين سبقوا إلى كل خير؛ لأنَّ ذكرهم لله وشغلهم به جل وعلا يُعينهم على أداء حقِّه، وعلى الكفِّ عن معصيته، ويُذكرهم بحقوقه، والتفكير في ذلك، فتكون أوقاتهم معمورةً بطاعته، ومعمورةً بذكره، ومعمورةً بالحذر مما يُغضبه سبحانه.
وفَّق الله الجميع.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(الحادية والستون: أنَّ الذكر يُعطي الذاكر قوةً، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يُطِقْ فعلَه بدونه، وقد شاهدتُ من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التَّصنيف ما يكتبه الناسخُ في جمعةٍ وأكثر، وقد شاهد العسكرُ من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا، وقد علَّم النبيُّ ﷺ ابنته فاطمة وعليًّا رضي الله تعالى عنهما أن يُسبِّحا كل ليلةٍ إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويُكبِّرا أربعًا وثلاثين، لما سألته الخادمَ وشكت إليه ما تُقاسيه من الطَّحن والسَّعي والخدمة، فعلَّمها ذلك وقال: إنَّه خيرٌ لكما من خادمٍ، فقيل أنَّ مَن داوم على ذلك وجد قوةً في بدنه مغنيةً عن خادمٍ.
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثرًا في هذا الباب ويقول: "إنَّ الملائكة لما أُمروا بحمل العرش قالوا: يا ربنا، كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك؟! فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلمَّا قالوا حملوه".
حتى رأيتُ ابن أبي الدنيا قد ذكر هذا الأثر بعينه عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح قال: حدثنا مشيختنا أنه بلغهم أنَّ أول ما خلق الله عز وجل -حين كان عرشه على الماء- حملةَ العرش، قالوا: "ربنا لِمَ خلقتنا؟" قال: "خلقتكم لحمل عرشي"، قالوا: "ربنا، ومَن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك؟!" قال: "لذلك خلقتُكم"، فأعادوا عليه ذلك مرارًا فقال لهم: "قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله"، فحملوه.
وهذه الكلمة لها تأثيرٌ عجيبٌ في معاناة الأشغال الصَّعبة، وتحمل المشاقّ، والدخول على الملوك، ومَن يُخاف، وركوب الأهوال.
ولها أيضًا تأثيرٌ عجيبٌ في دفع الفقر، كما روى ابنُ أبي الدنيا: عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن أسد بن وداعة رحمه الله قال: قال رسول الله ﷺ: مَن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله مئة مرة في كل يومٍ لم يُصبه فقرٌ أبدًا.
وكان حبيب بن مسلمة يستحبّ إذا لقي عدوًّا أو ناهض حصنًا قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وإنَّه ناهض يومًا حصنًا للروم فانهزم، فقالها المسلمون وكبَّروا فانهدم الحصنُ).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فهذه الآثار كلها تدل على أنَّ الذكر له شأنٌ عظيمٌ في قوة العبد على طاعة الله، وفي قوته في أعماله البيتية وغيرها، وفي جهاده لأعداء الله، فالذكر له شأنٌ عظيمٌ في تقوية القلوب ونشاطها، وفي نشاط العبد في الخيرات والأعمال الصَّالحات، فينبغي للعبد الإكثار من ذكر الله من: التسبيح، والتهليل، والتحميد، وقراءة القرآن، والاستغفار، والدعاء، كل هذا له من الآثار العظيمة في قوة العبد وصلابته ونشاطه في الحقِّ ما لا يخفى على مَن تأمَّل ذلك.
ولما اشتكت فاطمةُ رضي الله عنها للنبيِّ ﷺ تعبَ الرَّحى وتعب البيت وطلبت منه خادمًا، لم يكن لديه خادمٌ ذلك الوقت، فقال لها ولزوجها عليّ رضي الله عنهما: تُسبِّحون وتحمدون وتُكبِّرون عند النوم ثلاثًا وثلاثين مرة، قال: هذا خيرٌ لكم من خادمٍ، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين مرة، ويختم المئة بـ"الله أكبر"، فيكون التكبير أربعًا وثلاثين، والتسبيح ثلاثًا وثلاثين، والحمد ثلاثًا وثلاثين، فهذه مئة عند النوم، سنة مُستحبَّة، قال: فذلك خيرٌ لكما من خادمٍ، قالت فاطمة رضي الله عنها: "فاستعملتُ ذلك فما وجدتُ تعبًا بعد ذلك"، بعدما استعملت هذا الذكر قالت: ما أحسستُ بتعبٍ، ولا وجدتُ تعبًا بعد ذلك في حاجات البيت.
وهكذا كلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهي كلمة عظيمة، وكنزٌ من كنوز الجنة كما في "الصحيحين" من حديث أبي موسى ، عن النبي ﷺ أنه قال: ألا أدلك على كنزٍ من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فينبغي الإكثار منها عند الشَّدائد، وفي كل وقتٍ.
"لا حول ولا قوة إلا بالله" مما يُستعان بها في جهاد الأعداء، وفي فتح الحصون، وفي دفع الشر، وفي جلب الخير.
"لا حول ولا قوة إلا بالله" معناها: لا تحوّل لنا من حالٍ إلى حالٍ، ولا قوة على ذلك إلا بالله .
فالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير وقول "لا حول ولا قوة إلا بالله" كل هذه من أسباب التفريج والتيسير وقضاء الحاجات، ومن أسباب رضا الله .
وفَّق الله الجميع.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(الثانية والستون: أنَّ عُمَّال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذَّاكرون هم أسبقهم في ذلك المِضمار، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم، فإذا انجلى الغبارُ وانكشف رآهم الناسُ وقد حازوا قصبَ السَّبق.
قال الوليد بن مسلم: حدثنا محمد بن عجلان: سمعتُ عمر مولى غفرة يقول: "إذا انكشف الغطاءُ للناس يوم القيامة عن ثواب أعمالهم لم يروا عملًا أفضل ثوابًا من الذكر، فيتحسَّر عند ذلك أقوامٌ فيقولون: ما كان شيءٌ أيسر علينا من الذكر".
وقال أبو هريرة : قال رسولُ الله ﷺ: سِيروا، سبق المُفَرِّدون، قالوا: وما المفردون؟ قال: الذين أُهْتِروا في ذكر الله تعالى، يضع الذكرُ عنهم أوزارَهم، أُهتروا بالشيء وفيه: أُولعوا به ولزموه وجعلوه دأبهم.
وفي بعض ألفاظ الحديث: المُستهترون بذكر الله، ومعناه: الذين أُولعوا به، يُقال: استهتر فلانٌ بكذا إذا أُولِعَ به.
وفيه تفسير آخر: أن أُهْتِروا في ذكر الله أي: كبروا وهلك أقرانُهم وهم في ذكر الله تعالى، يُقال: أُهتر الرجلُ فهو مُهتر: إذا سقط في كلامه من الكِبَر، والهتر: السّقط من الكلام، كأنَّه بقي في ذكر الله تعالى حتى خرَّف وأنكر عقلَه، والهتر: الباطل أيضًا، ورجل مُستهتر: إذا كان كثير الأباطيل، وفي حديث ابن عمر: "أعوذ بالله أن أكون من المُستهترين".
وحقيقة اللفظ أن الاستهتار الإكثار من الشيء والولوع به، حقًّا كان أو باطلًا، وغلب في عُرف الناس استعماله على المُبطل، حتى إذا قيل: فلان مُستهتر: لا يُفهم منه إلا الباطل، وإنما إذا قُيِّد بشيءٍ تقيَّد به، نحو: هو مُستهتر، وقد أُهتر في ذكر الله تعالى، أي: أولع به وأُغري به، ويُقال: استهتر فيه وبه.
وتفسير هذا في الأثر الآخر: "أكثروا ذكر الله تعالى حتى يُقال: مجنون".
الثالثة والستون: أنَّ الذكر سببٌ لتصديق الرب عز وجل عبده، فإنَّه أخبر عن الله تعالى بأوصاف كماله ونُعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبدُ صدَّقه ربُّه، ومَن صدَّق اللهُ تعالى لم يُحشر مع الكاذبين، ورُجِي له أن يُحشر مع الصَّادقين.
روى أبو إسحاق: عن الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما: أنهما شهدا على رسول الله ﷺ أنه قال: إذا قال العبدُ: لا إله إلا الله والله أكبر، قال: يقول الله تبارك وتعالى: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وأنا أكبر. وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا وحدي. وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا لا شريك لي. وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد. وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي.
قال أبو إسحاق: ثم قال الأغرُّ شيئًا لم أفهمه، قلت لأبي جعفر: ما قال؟ قال: «مَن رزقهنَّ عند موته لم تمسه النار»).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذه الآثار والأحاديث كلها تدل على فضل الذكر، وأنَّ أهله هم السَّابقون إلى كل خيرٍ، وهم أولياء الله، وهم أرفع الناس درجةً يوم القيامة؛ لكثرة ذكرهم لله، كل مَن كان ذكره لله أكثر صار عمله الصَّالح أعظم وأكبر؛ لأنَّ الذكر يكون بالقلب واللسان والعمل، فهو يحمل على تصحيح الأوضاع، والاستقامة على الحق، هكذا يكون الذاكر الصَّادق، يُؤدي الواجبات، ويبتعد عن المحرمات، ويستكثر من أنواع الذكر: كالتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، وقول "لا حول ولا قوة إلا بالله"، مع الإكثار من جميع العبادات التي فيها ذكر الله.
ومن هذا الباب يقول ﷺ في بعض أسفاره: سبق المُفَرِّدون، قيل: يا رسول الله، ما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات يعني: سبقوا إلى كل خيرٍ.
فالإكثار من ذكر الله يُحرِّك القلوب إلى طاعة الله، ويُذلل لها طاعة الله، ويُباعدها عن أسباب غضب الله، كما تقدَّم في الحديث الصحيح: يقول ﷺ: ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله.
المقصود أن ذكر الله يتضمن أداء فرائضه، وترك محارمه، والوقوف عند حدوده، وتعظيم أمره ونهيه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير هذا من وجوه الخير، فالذكر يحمل على كل خيرٍ، ذكر الله بالقلب واللسان والجوارح يحمل العبدَ على كل خيرٍ. نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم من الذَّاكرين.

الأسئلة:

س: ما أفضل الذكر؟
ج: أفضل الذكر "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، مع التسبيح والتحميد والتكبير، يقول ﷺ: أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويقول: الباقيات الصَّالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن مع الذكر القلبي والجارحي، ومع العمل في طاعة الله وترك معصيته.
س: لو لم يذكر إلا "لا إله إلا الله" في اليوم فقط؟
ج: يكون طيِّبًا، يقول النبيُّ ﷺ: مَن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في اليوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقابٍ -يعني: يُعتقها- وكتب الله له مئة حسنة، ومحا عنه مئة سيئة، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر من عمله، فليُكثر العبدُ من ذكر الله، لكن إذا ضمَّ التسبيح والتحميد والتكبير يكون أكمل.
س: حديث ابن عمر: "أعوذ بالله أن أكون من المُستهترين"؟
ج: لا أعرف هذا.
س: بالنسبة للدعاء، هل يجب أن يرفع يديه بين الأذان والإقامة أو فقط يدعو الله ؟
ج: رفع اليدين من أسباب الإجابة، لكن في المواضع التي ما رفع فيها النبيُّ ﷺ لا يرفعها، فإنَّه ما كان يرفع بعد أداء الفرائض، ولا يرفع في خطبة الجمعة، وخطبة العيد، أمَّا في الاستسقاء فكان يرفع يديه، أو في خطبة الجمعة إذا استسقى يرفع يديه، وهكذا في غير ذلك من دعواته، أمَّا الفرائض فما كان يرفع إذا سلَّم منها، ولا في آخر التحيات، ما كان يرفع عليه الصلاة والسلام.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(الرابعة والستون: أنَّ دور الجنة تُبنى بالذكر، فإذا أمسك الذاكرُ عن الذكر أمسكت الملائكةُ عن البناء، فإذا أخذ في الذكر أخذوا في البناء.
وذكر ابنُ أبي الدنيا في كتابه: عن حكيم بن محمد الأخنسي قال: "بلغني أنَّ دور الجنة تُبنى بالذكر، فإذا أمسك عن الذكر أمسكوا عن البناء، فيُقال لهم، فيقولون: حتى تأتينا نفقة".
وذكر ابنُ أبي الدنيا من حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: مَن قال: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم -سبع مرات- بُني له برجٌ في الجنة.
وكما أنَّ بناءها بالذكر فغِراس بساتينها بالذكر، كما تقدَّم في حديث النبي ﷺ عن إبراهيم الخليل : أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غِراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فالذكر غراسها وبناؤها.
وذكر ابنُ أبي الدنيا من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: أكثروا من غِراس الجنة، قالوا: يا رسول الله، وما غِراسها؟ قال: ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الخامسة والستون: أنَّ الذكر سدٌّ بين العبد وبين جهنم، فإذا كانت له إلى جهنم طريقٌ من عملٍ من الأعمال كان الذكر سدًّا في تلك الطريق، فإذا كان ذكرًا دائمًا كاملًا كان سدًّا مُحكمًا لا منفذَ فيه، وإلا فبحسبه.
قال عبدالعزيز بن أبي روَّاد: "كان رجلٌ بالبادية قد اتَّخذ مسجدًا، فجعل في قبلته سبعة أحجار، كان إذا قضى صلاته قال: يا أحجار أُشهدكم أنه لا إله إلا الله". قال: "فمرض الرجلُ، فعُرج بروحه"، قال: "فرأيتُ في منامي أنه أُمِرَ بي إلى النار"، قال: "فرأيتُ حجرًا من تلك الأحجار أعرفه قد عظم؛ فسدَّ عني بابًا من أبواب جهنم، ثم أتى إلى الباب الآخر، فإذا حجرٌ من تلك الأحجار أعرفه قد عظم؛ فسدَّ عني بابًا من أبواب جهنم، حتى سدَّت عني بقيةُ الأحجار أبوابَ جهنم).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذه الآثار كلها تتعلق بفضل الذكر، والذكر فضله عظيم، وفوائده كبيرة، فينبغي للعبد الإكثار من ذكر الله، وقد ورد أنه غراس الجنة، فينبغي للمؤمن أن يُكثر من ذكر الله جل وعلا في صباحه ومسائه، وفي سائر أوقاته؛ لأن الله جل وعلا أمر بذلك فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: سبق المُفَرِّدون، قالوا: يا رسول الله، ما المُفَرِّدون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذاكرات، ولما قال له رجلٌ: يا رسول الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني ببابٍ جامعٍ أتمسَّك به؟ قال: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله.
فينبغي للمؤمن أن يُكثر من ذكر الله دائمًا، وأن يكون ديدنه هذا الذكر، مع قيامه بحقِّ الله من الطاعة الواجبة، وتركه ما حرَّم الله .
وأمَّا هذا الأثر في إشهاد الأحجار السبعة: فهذا لا دليل عليه، ولا وجه له من الشرع، وأبواب جهنم تُسدّ بالتوحيد والإيمان، ما هو بالأحجار هذه، أبواب جهنم مفتوحة لأهلها، يدخلها أهلها من الأبواب السبعة، فهذا الأثر ما كان ينبغي للمؤلف أن يذكره، فليس له قيمة، فينبغي عدم الالتفات إلى مثل هذه الأشياء التي يفعلها بعضُ العُبَّاد، فالرسول ﷺ وأصحابه لم يفعلوا هذا، بل أكثروا من ذكر الله، وجدُّوا في ذلك، وجاء في الحديث: اللهم إني أصبحت -اللهم إني أمسيتُ- أشهدك وأشهد ملائكتك وحملة عرشك ..، ما هو بإشهاد الأحجار.
لكن الأحجار تشهد لأهلها من دون إشهادٍ، يقول النبيُّ ﷺ: ما سمع صوتَ المؤذن شجرٌ ولا حجرٌ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة من دون حاجةٍ إلى إشهاده.
فالأذكار التي يقولها الإنسانُ، ويأتي بها المؤذن، ويأتي بها غيره، يشهد له ما سمع، فالمؤمن يذكر الله ويُكثر من ذكره بغير حاجةٍ إلى أن يقول: "اشهدي يا أحجار"، بل إنَّ المشروع أن يُكثِر من ذكر الله دائمًا: بالتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، والدعاء، في ليله ونهاره: في بيته، في الطريق، في السفر، في الإقامة، مع الحرص على أداء ما فرض الله عليه من صلاةٍ وغيرها، وترك ما حرَّم الله عليه.
هذا هو طريق السعادة، فطريق السعادة هو تقوى الله: أداء فرائض الله، وترك محارم الله، والإكثار من ذكر الله من التقوى، والغفلة ضدّ التقوى.
وفَّق الله الجميع.