(وذكر الحافظ أبو موسى من حديث أبي رجاء، عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله ﷺ: استكثروا من قول: لا إله إلا الله، والاستغفار، فإنَّ الشيطان قال: قد أهلكتُهم بالذنوب وأهلكوني بقول: لا إله إلا الله والاستغفار، فلمَّا رأيتُ ذلك منهم أهلكتُهم بالأهواء حتى يحسبون أنَّهم مُهتدون فلا يستغفرون.
وذكر أيضًا عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة قال: "بينا رجلٌ مسافرٌ إذ مرَّ برجلٍ نائمٍ، ورأى عنده شيطانين، فسمع المسافرُ إحدى الشَّيطانين يقول لصاحبه: اذهب فأفسد على هذا النائم قلبَه، فلما دنا منه رجع إلى صاحبه فقال: لقد نام على آيةٍ ما لنا إليه سبيل، فذهب إلى النائم، فلما دنا منه رجع، قال: صدقتَ، فذهب، ثم إنَّ المسافر أيقظه وأخبره بما رأى من الشَّيطانين، فقال: أخبرني على أيَّة آيةٍ نمتَ؟ قال: على هذه الآية: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]".
وقال أبو النضر هاشم بن القاسم: "كنتُ أرى في داري، فقيل: يا أبا النضر، تحوَّل عن جوارنا"، قال: "فاشتدَّ ذلك عليَّ، فكتبتُ إلى الكوفة إلى ابن إدريس والمحاربي وأبي أسامة، فكتب إليَّ المحاربي: إنَّ بئرًا بالمدينة كان يُقطع رشاؤُها، فنزل بهم ركبٌ، فشكوا ذلك إليهم، فدعوا بدلو من ماءٍ، ثم تكلَّموا بهذا الكلام، فصبُّوه في البئر، فخرجت نارٌ من البئر فطَفِئَتْ على رأس البئر".
قال أبو النضر: "فأخذتُ تورًا من ماء، ثم تكلَّمت فيه بهذا الكلام، ثم تتبعتُ به زوايا الدار فرششته، فصاحوا بي: أحرقتنا، نحن نتحوَّل عنك. وهو: بسم الله، أمسينا بالله الذي ليس منه شيء ممتنع، وبعزَّة الله التي لا تُرام ولا تُضام، وبسلطان الله المنيع نحتجب، وبأسمائه الحسنى كلها، عائذٌ من الأبالسة، ومن شرِّ شياطين الإنس والجن، ومن شرِّ كلِّ مُعْلِنٍ أو مُسِرٍّ، ومن شرِّ ما يخرج بالليل ويكمُن بالنهار، ويكمُن بالليل ويخرج بالنهار، ومن شرِّ ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شرِّ إبليس وجنوده، ومن شرِّ كل دابَّةٍ أنت آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراطٍ مستقيمٍ، أعوذ بالله مما استعاذ به موسى وعيسى وإبراهيم الذي وفَّى، من شرِّ ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شرِّ إبليس وجنوده، ومن شرِّ ما يبغي، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:1-10].
فهذا بعض ما يتعلَّق بقوله ﷺ لذلك العبد: لا يُحرِز نفسَه من الشيطان إلا بذكر الله).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فقد سبق أنَّ الله جل وعلا وضَّح على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام ما ينبغي التَّحرز منه، وما ينبغي اعتماده من التَّعوذات والأذكار، وهي كافية عمَّا يُقال عن بعض السلف، فالتمسك بما جاء عن الرسول ﷺ وثبت عنه هو الطريق السَّوي، وعدو الله الشيطان يلتمس لابن آدم كل عثرةٍ وكل شرٍّ، يقول : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فهو عدوٌّ بلا شك.
ولهذا يُروى عنه ﷺ أنَّه قال عن الشيطان: أنه قال: أهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلمَّا رأيتُ ذلك منهم أهلكتُهم بالأهواء التي يفعلونها ويظنون أنَّهم على هدى يعني: زيَّنتُ لهم البدع، فالشيطان يُزَيِّن للناس البدعَ؛ لأنَّهم يظنون أنهم على هُدًى فلا يتوبون منها، ويُصِرُّون عليها.
فالواجب على المؤمن الإكثارُ من الذكر، والتعوذ بالله من الشيطان، والاستغفار، هذا هو طريق النَّجاة، وهكذا التَّعوذات الشَّرعية تكفي: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق، أعوذ بكلمات الله التَّامة من كلِّ شيطانٍ وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة، أعوذ بكلمات الله التامَّات اللاتي لا يُجاوزهنَّ بَرٌّ ولا فاجرٌ من شرِّ ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شرِّ ما ينزل من السماء ومن شرِّ ما يعرج فيها، ومن شرِّ ما ذرأ في الأرض ومن شرِّ ما يخرج منها، ومن شرِّ فتن الليل والنهار، ومن شرِّ كل طارقٍ إلا طارقًا يطرق بخيرٍ يا رحمن، كلها صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذا التعوذات، وعند النوم قراءة آية الكرسي التي جاء بها النص، وإن كانت الآيات كلها عظيمة، مثل: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأعراف:54] وغيرها من الآيات، كل القرآن عظيم، كله هدى، كله حرز من الشيطان لمن تمسَّك به واستقام عليه، ولكن الشيء الذي خصَّه رسولُ الله ﷺ يُخَصُّ، مثل: آية الكرسي عند النوم، وقراءة المعوذتين عند النوم ثلاث مرات، وسبحان الله والحمد لله ثلاثًا وثلاثين مرة، والتكبير أربعًا وثلاثين مرة عند النوم، كل هذه من السنن، ومن أسباب الحرز من عدو الله الشيطان، ومن كل سوءٍ، فهي أولى بالعناية، وأولى بالحرص عليها مما يُؤثَر عن التابعين أو غير التابعين أو عن العلماء، ما جاء عن الرسول ﷺ هو العمدة؛ لأنَّه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يُوحَى؛ ولأنَّ الله يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] عليه الصلاة والسلام.
فالمؤمن يتحرز بالتَّعوذات الشَّرعية، والأذكار الشرعية، والاستغفار، والعناية بالطاعة، والحذر من المعاصي، هذا هو طريق النَّجاة والسَّلامة في الدنيا والآخرة.
رزق الله الجميع التوفيقَ والهداية.
الأسئلة:
س: إيراد ابن القيم لهذه الآثار والسّكوت عليها ألا يدل على التَّساهل؟
ج: هذا من التساهل، وكان الواجب عليه رحمه الله أن يُرشد إلى الشيء الوارد الثابت عن النبي ﷺ، ففيه الكفاية والغُنية، الله يغفر للجميع.
س: هذه الآثار لو عُمِل بها هل تُسبّب حرجًا؟
ج: القرآن كله شفاء، وكله هدى.
س: أقصد التي ذكرها ابنُ القيم؟
ج: التمسك بالشيء الوارد عن النبي ﷺ أولى من الأثر.
س: لكن الطريقة التي ذكرها بها غفر الله له ..؟
ج: ما أعلم فيها شيئًا، لكن التمسك بالشيء الوارد عن النبي ﷺ والثابت عنه أولى من هذا، أولى من الأثر.
س: قول الله : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا [الكهف:103] هل يدخل في ذلك المبتدعة؟
ج: لهم نصيب من الخسارة، لكن الخسارة التامَّة تكون للمشركين الكفار، لكن المبتدع فيه تفصيل، إن كفر فهو معهم، وإن لم يكفر فهو على خطرٍ لبدعته.
س: المبتدع متى لا تُذكَر محاسنه؟
ج: مَن أظهر البدع يُحذَّر منه ويُعرَض عن المحاسن؛ لأنَّ المقصود التحذير من الشر، وليس بيان المحاسن.
س: استكثروا من قول: لا إله إلا الله، والاستغفار، فإنَّ الشيطانَ قال: قد أهلكتُهم بالذنوب وأهلكوني بقول: لا إله إلا الله والاستغفار هل هو حديث صحيح؟
ج: ما أعرفه، لكن معناه صحيح، فالنصوص الأخرى تدل على ذلك: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41، 42]، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، ويقول ﷺ: سبق المُفَرِّدون، قالوا: وما المفردون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذاكرات.
س: ذكر ابنُ القيم في "الطب النبوي" رقيةً عن بعض السلف وقال أنها نفعت، وهي: حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، ردت عين العائن عليه؟
ج: ما لها أصل، والآيات القرآنية والأذكار الشرعية تكفي.
(ولنذكر فصولًا نافعةً تتعلق بالذكر تكميلًا للفائدة:
الفصل الأول: أنواع الذكر:
الذكر نوعان:
أحدهما: ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عمَّا لا يليق به تبارك وتعالى. وهذا أيضًا نوعان:
أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث، نحو: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، ولا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، ونحو ذلك.
فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمّه، نحو: "سبحان الله عدد خلقه"، فهذا أفضل من مجرد "سبحان الله"، وقولك: "الحمد لله عدد ما خلق في السماء، وعدد ما خلق في الأرض، وعدد ما بينهما، وعدد ما هو خالق" أفضل من مجرد قولك: "الحمد لله".
وهذا في حديث جويرية رضي الله عنها: أن النبي ﷺ قال لها: لقد قلتُ بعدك أربع كلماتٍ ثلاث مراتٍ لو وُزنتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته. رواه مسلم.
وفي الترمذي وسنن أبي داود: عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله ﷺ على امرأةٍ بين يديها نوى أو حصى تُسبِّح بها، فقال: أُخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو: أفضل، فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السَّماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك.
النوع الثاني: الخبر عن الرب تبارك وتعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: "الله يسمع أصواتَ عباده ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافيةٌ من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد راحلته والواجد" ونحو ذلك.
وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسولُ الله ﷺ من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ.
وهذا النوع أيضًا ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد.
فالحمد لله: الإخبار عنه بصفات كماله ، مع محبته والرضا به، فلا يكون المحبُّ الساكتُ حامدًا، ولا المثني بلا محبَّةٍ حامدًا، حتى تجمع له المحبة والثناء، فإن كرر المحامد شيئًا بعد شيء كان الثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًّا.
وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواعَ الثلاثة في أول الفاتحة، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال: مجَّدني عبدي.
النوع الثاني من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه، وهو أيضًا نوعان:
أحدهما: ذكره بذلك إخبارًا عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا.
والثاني: ذكره عند أمره فيُبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فذكر أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر.
فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه فائدةً، فهذا الذكر من الفقه الأكبر، وما دونه أفضل الذكر إذا صحَّت فيه النية.
ومن ذكره : ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضًا من أجل أنواع الذكر.
فهذه خمسة أنواع، وهي تكون بالقلب واللسان تارةً، وذلك أفضل الذكر. وبالقلب وحده تارةً، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارةً، وهي الدرجة الثالثة.
فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلبُ واللسانُ، وإنما كان ذكرُ القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يُثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويُثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسّيئات، وذكر اللسان وحده لا يُوجب شيئًا من هذه الآثار، وإن أثمر شيئًا منها فثمرة ضعيفة).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: ففي هذا البحث الحثّ على ذكر الله بالقلب واللسان، وبالعمل، وبالثناء على الله في أمره ونهيه، مع محبته وتعظيمه وتقديسه، ومع الحذر مما نهى عنه، والاستقامة على ما أمر به، فهذا أعظم الذكر: أن يذكر الله بلسانه، مع محبة القلب، والشوق إلى الله، وخوفه، وتعظيمه، مع تعظيم أمره ونهيه، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، هذا هو أعظم الذكر.
فينبغي للمؤمن الإكثار من ذلك: الإكثار من حمده، والثناء عليه، وتسبيحه، وتهليله، وتكبيره، مع الإيمان بهذه الأسماء والصّفات، وأن الله جل وعلا هو المحمود على كل حال، وهو المستحق لأن يُحمد، وكلما كرر العبدُ صار ذلك أكمل، فإذا قال: الحمد لله، يقول الله: «حمدني عبدي»، وإذا قال: "الرحمن الرحيم"، يقول الله جل وعلا: «أثنى عليّ عبدي»، وإذا قال: "مالك يوم الدين"، يقول الله: «مجَّدني عبدي، فتكرار الحمد من باب الثناء، وتكراره أكثر من مرتين يُقال له: التمجيد، وهو التوسع في الحمد والثناء.
وينبغي للعبد أن يعتني بكلماتٍ جامعةٍ، مثل: "سبحان الله العظيم وبحمده، عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله عدد ما خلق في السَّماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما خلق غير ذلك، سبحان الله عدد ما هو خالق، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، والله أكبر مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك"، وهكذا يستغفر الله، ويُكثر من الدعاء والتسبيح والتهليل والاستغفار.
هكذا المؤمن تكون أوقاته معمورةً بذكر الله قلبًا ولسانًا، مع المحبة والتعظيم والتقديس، مع المسارعة إلى فعل أوامره، وترك نواهيه، فالقلب مشغولٌ بمحبته والثناء عليه، واللسان مشغول بالثناء عليه بالقول، وهكذا العمل بترك معاصيه والاجتهاد في طاعته ، هذا هو أعظم الذكر.
أما الذكر باللسان من قلبٍ غافلٍ فهذا ليس بشيءٍ، فينبغي له أن يجتهد في أن تكون جوارحه مجتمعةً، فإذا ذكر الله بلسانه يجتهد في أن يتحرك قلبه في ذلك عن محبَّةٍ وتعظيمٍ، فينطق باللسان ليحصل له الأجر، ويذكر بقلبه محبًّا، مثنيًا، معظِّمًا، مُقدِّسًا، يعلم أنَّ ربَّه المستحق للعبادة، والمستحق لأن يُحمد ويُثنى عليه، والمستحق لكل ثناءٍ، ولكل تمجيدٍ.
فأساسها القلب، ثم من بعد القلب الجوارح: اللسان والأعمال التي يفعلها المؤمن طاعةً الله سبحانه، فكلها تنبثق عن محبة القلب، وتعظيمه، وإقراره، واعترافه.
ومن أجمع الذكر ما قال لجويرية: فقد مرَّ عليها وهي في مصلاها من بعد الفجر إلى الضُّحى، فقال: ما زلتِ على حالك منذ فارقتُك؟! قالت: نعم، قال: لقد قلتُ بعدك كلماتٍ لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن، أربع كلماتٍ قالها ثلاث مرات: سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، يُكررها ثلاثًا، من أعظم الذكر.
كذلك: "سبحان الله عدد ما خلق في السماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما خلق غير ذلك، سبحان الله عدد ما هو خالق، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، والله أكبر مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك".
وهكذا: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مَن قالها عشر مراتٍ كان كمَن أعتق أربعة أنفسٍ من ولد إسماعيل، وإذا قالها مئة مرة كتب الله له مئة حسنةٍ، ومحا عنه مئة سيئةٍ، وكانت عدل عشر رقاب يُعتقها، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل منه إلا رجلٌ عمل أكثرَ من عمله.
فأنت يا عبدالله عندك كنوز، وعندك خير عظيم، فاجتهد في العمل بهذه الأذكار الخيرية تحصل لك الخيرات العظيمة، والحسنات المُضاعفة، والفضل العظيم، وعمارة القلوب بطاعة الله، وشوقها إليه، فإنَّ هذه الأذكار تُغذِّي في القلب المحبةَ والخوفَ والإنابةَ والحذرَ.
رزق الله الجميعَ التوفيق والهداية.
الأسئلة:
س: ما الفرق بين الثناء والحمد؟
ج: الثناء مكرر، والحمد ثناء، لكن إذا كُرر صدق عليه الثناء مع الحمد، وإذا كُرر ثلاث مراتٍ وأكثر صار تمجيدًا.
س: قوله في الحديث: فحمد الله وأثنى عليه؟
ج: يعني: كرر، يقول الله جل وعلا في الحمد: إذا قال العبدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قال الله: «حمدني عبدي»، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله: «أثنى عليَّ عبدي»، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: «مجَّدني عبدي»، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال الله: «هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل»، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الله: «هذا لعبدي، ولعبدي ما طلب»، سألني عبدي، ولعبدي ما سأل.
س: قوله في الحديث: والحمد لله مثل ذلك يقول: مثل ذلك، أو يقول: الحمد لله عدد ما خلق؟
ج: مثل ذلك يعني: عدد ما خلق في السماء.
س: أحيانًا يكون الشخصُ داخل دورة المياه في وقت الأذان، فهل يُجيب المُؤذن بقلبه أم يسكت؟
ج: الذكر بالقلب مطلوب دائمًا، لكن ما تُسمَّى إجابة إلا باللسان.
س: هل يقضيه؟
ج: إن قضاه فلا بأس، قال بعض أهل العلم: يقضي، وبعضهم قال: لا يقضي، وإن قضاه فلا بأس.
س: دعاء الخروج من المنزل، هل يقول: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو يزيد عليها: اللهم إني أعوذ بك أن أَضلّ أو أُضلّ، أو أَزلّ أو أُزلّ؟
ج: يقولها كلها: «بسم الله، توكلتُ على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عليَّ»، هذا هو الثابت.
س: البسملة قبل الوضوء في الحمام؟
ج: يأتي بها؛ لأنَّها واجبة عند قومٍ من أهل العلم، ولو في الحمام، وهذا واجبٌ عند كثير من أهل العلم.
(الفصل الثاني: الذكر أفضل من الدعاء؛ لأنَّ الذكر ثناءٌ على الله بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟!
ولهذا جاء في الحديث: مَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضلَ ما أُعطِي السَّائلين، ولهذا كان المُستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى، والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته. كما في حديث فضالة بن عبيد: أن رسول الله ﷺ سمع رجلًا يدعو في صلاته لم يحمد الله تعالى، ولم يُصلِّ على النبي ﷺ، فقال رسولُ الله ﷺ: لقد عَجِلَ هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلَّى أحدُكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم يُصلِّي على النبي ﷺ، ثم يدعو بعد بما شاء، رواه الإمامُ أحمد والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ورواه الحاكمُ في "صحيحه".
وهكذا دعاء ذي النون عليه السلام الذي قال فيه النبيُّ ﷺ: دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّج الله كربته: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وفي الترمذي: دعوة أخي ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فإنَّه لم يدعُ بها مسلمٌ في شيءٍ قطّ إلا استجابَ الله له.
وهكذا عامَّة الأدعية النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام، ومنه قوله ﷺ في دعاء الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السَّموات وربّ الأرض وربّ العرش الكريم.
ومنه حديث بُريدة الأسلمي الذي رواه أهلُ السنن وابنُ حبان في "صحيحه": أن رسول الله ﷺ سمع رجلًا يدعو وهو يقول: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنَّك [أنت] الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يُولَد، ولم يكن له كفوًا أحد"، فقال: والذي نفسي بيده، لقد سأل اللهَ باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى.
وروى أبو داود والنسائي من حديث أنسٍ : أنَّه كان مع النبي ﷺ جالسًا ورجلٌ يُصلي، ثم دعا: "اللهم إني أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم"، فقال النبيُّ ﷺ: لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى.
فأخبر النبيُّ ﷺ أنَّ الدعاء يُستجاب إذا تقدَّمه هذا الثناء والذكر، وأنَّه اسم الله الأعظم، فكان ذكرُ الله والثناءُ عليه أنجحَ ما طلب به العبدُ حوائجه.
وهذه فائدةٌ أخرى من فوائد الذكر والثناء، وأنَّه يجعل الدعاء مستجابًا.
فالدعاء الذي يتقدّمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه كان أبلغَ في الإجابة وأفضل، فإنه يكون قد توسَّل المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرَّض بل صرَّح بشدة حاجته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المُقتضَى منه، وأوصاف المسؤول مقتضى من الله، فاجتمع المُقْتَضَى من السائل والمُقتضى من المسؤول في الدّعاء، وكان أبلغَ وألطف موقعًا، وأتم معرفةً وعبوديةً.
وأنت ترى في الشاهد -ولله المثل الأعلى- أنَّ الرجل إذا توسَّل إلى مَن يريد معروفه بكرمه وجوده وبرّه وذكر حاجته هو وفقره ومسكنته؛ كان أعطفَ لقلب المسؤول، وأقرب لقضاء حاجته، فإذا قال له: "أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تُنكر" ونحو ذلك، "وقد بلغت بي الحاجة والضَّرورة مبلغًا لا صبرَ معه" ونحو ذلك؛ كان أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداءً: "أعطني كذا وكذا".
فإذا عرفتَ هذا فتأمَّل قول موسى ﷺ في دعائه: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، وقول ذي النون ﷺ في دعائه: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وقول أبينا آدم ﷺ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
وفي "الصحيحين" أنَّ أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله، علّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم، فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله، والتوسل إلى ربه بفضله وجوده، وأنه المُنفرد بغفران الذنوب، ثم سأل حاجتَه بعد التوسل بالأمرين معًا، فهكذا أدب الدعاء وآداب العبودية).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذه الأحاديث في هذا الباب والآيات الكريمات كلها تدل على فضل الذكر، وأنَّ الذكر فضله عظيم، وهو الثناء على الله بأسمائه وصفاته وتوحيده جل وعلا، وأنه أفضل من الدعاء، فالدعاء طلب الحاجات، وفيه فضلٌ وانكسارٌ إلى الله جل وعلا، ولكن الذكرَ فيه بيان أسماء الله وصفاته، والثناء عليه بما هو أهله، فصار بذلك توسّل إليه بما يُحب، وبما هو أهله جل وعلا في طلب حاجته.
فينبغي للمؤمن أن يُكثِر من الذكر والدعاء جميعًا، الذكر ثناء على الله، وتمجيد له، والدعاء طلبٌ للحاجة مع الانكسار والذل والاعتراف بظلم النفس، وقد جاءت النصوصُ دالَّةً على ذلك؛ فإنَّ الربَّ يُحب من عباده أن يُثنوا عليه، وأن يحمدوه، ولهذا علَّمهم أنواعَ الذكر، وشرع لهم أنواع الذكر عقب الصَّلوات، وعند الأكل والشُّرب، وعند الفراغ، إلى غير هذا مما علَّمهم ؛ ليُثنوا عليه، وليحمدوه على ما هو أهله .
وفي الحديث الذي يُروى عنه ﷺ: يقول الله جلَّ وعلا: مَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطي السَّائلين، وإن كان في سنده مقال، لكن يُستشهد به في هذا المقام؛ لأنَّ الأدلة الكثيرة تدل على فضل الذكر وفضل الثناء، وأن الله يُحب ذلك ويُرشد إليه، فالرب يُحب من عباده أن يُثنوا عليه، وأن يشكروه ويذكروه؛ ولهذا قال جل وعلا: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، فهو سبحانه يُحب أن يُحْمَد، ويُحبّ أن يُسأل بأسمائه، وشرع الفاتحة التي أوّلها ثناءٌ على الله ثم فيها الدعاء، وهكذا الأذكار بعد الانصراف من الصلاة: يستغفر ربه، ويذكره، ويُثني عليه بما هو أهله .
فالدعاء فيه ثناء على الله، والوصف له بما هو أهله من غفران الذنوب، وقضاء الحاجات للمُضطرين، ورحمتهم، والإحسان إليهم، وفي الثناء تمجيدٌ له بما هو أهله من الصِّفات العظيمة، والأسماء الحسنى، فيتوسَّل العبدُ إلى ربِّه بالأمرين: بالثناء على الله وذكر أسمائه وصفاته، وبالانكسار والتذلل وإظهار الحاجة والظُّلم للنفس، فيجمع بين الأمرين؛ حتى يكون ذلك أقرب إلى الإجابة، ولهذا قال جل وعلا في دعاء ذي النون: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وجاء في دعاء الكرب يقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
ولما دعا رجلٌ ولم يُصلِّ على النبي ولم يُثنِ على الله قال: عَجِلَ هذا، ثم علَّمه وقال: إذا دعا أحدُكم فليبدأ بتحميد ربِّه، والثناء عليه، ثم يُصلي على النبي ﷺ، ثم يدعو بما شاء، فالثناء على الله وحمده وذكره والصَّلاة على النبي ﷺ في مقدّمات الدعاء من أسباب الإجابة.
رزق الله الجميعَ التوفيق والهداية.
الأسئلة:
س: اسم الله الأعظم ورد في أكثر من حديثٍ أنه الحي القيوم؟
ج: بمعنى العظيم، مقتضى هذا -والله أعلم- لأنه جاء هذا في أحاديث كثيرة الأعظم، والله أعلم بمعناها، فهو اسم تفضيل بمعنى: العظيم، وكل أسماء الله عظيمة جل وعلا.
س: بالنسبة لتفسير قوله: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] ما التفسير الصحيح؟
ج: يعني: الوصف الأعلى، الذي لا يُماثله شيء، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ فله المثل الأعلى أي: الوصف الأعلى ؛ لأنَّه لا يُماثله شيء، فهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله .
س: متى يقول: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا ..؟
ج: هذا يقوله في آخر الصلاة قبل أن يُسلِّم، وإن قاله بعد السلام –بعد الذكر- لا بأس، لكن الدعاء قبل السلام أجود وأفضل؛ لأنَّه محلّ الدعاء، فيدعو به في كلِّ وقتٍ؛ لأنه جاء في حديث الصديق: "أدعو به في صلاتي"، قال: "وفي بيتي" كما رواه مسلم أيضًا، فيدعو به في صلاته، وفي بيته، وفي الطريق، وفي أي مكانٍ، فهو دعاء عظيم: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفور الرحيم، فهو دعاء عظيم يدعو به في صلاته: في السجود، في آخر التحيات، وبعد ذلك في الدعاء، وفي أي وقت.
س: ما صحة حديث: اللهم إني أسألك بحقِّ السَّائلين عليك؟
ج: هذا حديث ضعيف عند أهل العلم، لكن يأتي بأشياء مشروعة: بسم الله، توكلتُ على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أظلمَ أو أُظلمَ، أو أجهلَ أو يُجهل عليَّ إذا خرج من بيته للصلاة وغيرها، وإذا كان خارجًا للصلاة: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي لساني نورًا، وفي شعري نورًا، وفي بَشَري نورًا، وفي عظمي نورًا، وفي لحمي نورًا، وفي عصبي نورًا، وفي دمي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، اللهم أعطني نورًا، وأعظم لي نورًا، هذا من حديث ابن عباس في "الصحيح".
س: بالنسبة لوضع الملصقات الخاصة بالأذكار في السيارة: كدعاء ركوب السيارة، ودعاء السفر، ودعاء دخول قرية، فهل في هذه المُلصقات شيء؟
ج: إذا قصد التذكير فلا بأس.
س: من مصالح التوحيد أنها لا تُعلَّق؟
ج: هذا فيمَن يُعلِّقها بقصد الحماية، وأن تعليقها يحمي السيارة، أمَّا إذا علَّقها للتذكير فلا بأس.
س: امرأة كانت تصوم، وفي السنة التي مضت كانت في حالة مرض وهي تأخذ العلاج إلى يومنا هذا، ويدركها رمضان وهي مريضة، فماذا عليها؟
ج: تقضي إذا شُفيت، إلا إذا تكرر مرضُها ولم يُرْجَ برؤه فتُطعم عن كل يوم مسلمًا، فإذا عُلم أنَّ مرضها لا يُرجَى برؤه مثل الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة فتُطعم عن كل يوم مسلمًا، أمَّا إذا كانت ترجو العافيةَ فيؤجَّل حتى تُشفى ثم تقضي: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185].
س: الأطفال الذين رأوا النبيَّ ﷺ، كالطفل الذي رفعته أمُّه الخثعمية، هل هؤلاء صحابة؟
ج: الذي رأى النبيَّ وهو مؤمنٌ تَبَعٌ لأهله صحابي، رآه النبيُّ ﷺ أو قُدِّم للنبي فحنَّكه.
س: ما يُشترط البلوغ؟
ج: لا، ما يُشترط.
(الفصل الثالث: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدّعاء:
هذا من حيث النظر إلى كلٍّ منهما مجرَّدًا، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يُعَيِّنه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهيٌّ عنها نهي تحريم أو كراهةٍ، وكذلك التَّسميع والتحميد في محلِّهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك ربِّ اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني بين السَّجدتين أفضل من القراءة، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة -ذكر التهليل والتَّسبيح والتَّكبير والتَّحميد- أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن والقول كما يقول أفضل من القراءة.
وإن كان فضل القرآن على كلِّ كلامٍ كفضل الله تعالى على خلقه، لكن لكلِّ مقامٍ مقال، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره اختلّت الحكمة، وفاتت المصلحةُ المطلوبة منه.
وهكذا الأذكار المُقيَّدة بمحالٍّ مخصوصةٍ أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المُطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكرَ أو الدعاءَ أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله: أن يتفكَّر في ذنوبه فيُحدِث ذلك له توبةً واستغفارًا، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن؛ فيعدل إلى الأذكار والدَّعوات التي تُحصِّنه وتحوطه.
وكذلك أيضًا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءةٍ أو ذكرٍ لم يحضر قلبُه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء لها اجتمع قلبُه كله على الله تعالى، وأحدث له تضرُّعًا وخشوعًا وابتهالًا، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كلٌّ من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا.
وهذا بابٌ نافعٌ يحتاج إلى فقه نفسٍ، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيُعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، ويُوضَع كل شيءٍ موضعه، فللعين موضع، وللرِّجْل موضع، وللماء موضع، وللحم موضع. وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي. والله تعالى الموفق.
وهكذا الصابون والأُشنان أنفع للثوب في وقتٍ، والتجمير وماء الورد وكيّه أنفع له في وقتٍ.
وقلتُ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سُئل بعضُ أهل العلم: أيّما أنفع للعبد: التَّسبيح أو الاستغفار؟ فقال: "إذا كان الثوبُ نقيًّا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإن كان دنسًا فالصَّابون والماء الحار أنفع له"، فقال لي رحمه الله تعالى: "فكيف والثياب لا تزال دنسةً؟!".
ومن هذا الباب أن سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخُلع والعِدَد ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.
ولما كانت الصلاةُ مشتملةً على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعةٌ لأجزاء العبودية على أتمِّ الوجوه، كانت أفضلَ من كلٍّ من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصلٌ نافعٌ جدًّا يفتح للعبد بابَ معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها؛ لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح إبليسُ الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها وإن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحتُه بالكلية؛ لظنه أنَّ اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا.
وهكذا يحتاج إلى معرفةٍ بمراتب الأعمال، وتفاوتها، ومقاصدها، وفقهٍ في إعطاء كلِّ عملٍ منها حقّه، وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل؛ لإمكان تداركه والعود إليه، وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه، فالاشتغال به أولى -وهذا كترك القراءة لردِّ السلام وتشميت العاطس- وإن كان القرآنُ أفضل؛ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحة ردِّ السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت. والله تعالى المُوفِّق).
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فهذا بحثٌ عظيمٌ مفيدٌ فيما يتعلَّق بالتفاضل بين الأعمال، وبين الأذكار والدعاء والقرآن، فالقرآن هو أفضل الذكر، القرآن هو كلام الله، وهو أفضل الذكر، ثم يليه بقيةُ الأذكار من التَّسبيح والتهليل والتحميد وغير ذلك، ثم الدعاء.
هذه المراتب لها الفضل: القرآن أولًا، فهو أفضل الذكر، ثم بقية الأذكار، مثل: توحيد الله، وتسبيحه، وتكبيره، ثم الدعاء: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم أجرني من النار، .. إلى آخره.
لكن هذا الأفضل الذي هو القرآن قد تعرض له أشياء تجعل غيره أولى منه؛ لترتيب الله العبادات وتنظيم العبادات، فالقرآن أفضل الذكر، لكنه لا يُفعَل في الركوع والسجود، ولا بين السجدتين، ولا حال قراءة التَّحيات، فالقرآن له وقته، وله محله، فمحله القيام، يقرأ الإنسان وهو قائم إذا كان قادرًا، أو في قعوده في محلِّ قيامه في الصلاة، فهذا محل قراءة، أمَّا في حال التحيات وبين السجدتين وحال الركوع والسجود فإنه لا يقرأ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح قوله ﷺ: إني نُهيتُ أن أقرأ القرآنَ راكعًا أو ساجدًا، فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربّ، وأمَّا السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فالقرآن له محله، والعبادات الأخرى لها محلها.
وهكذا إذا دعت الحاجةُ إلى صلاة الاستخارة، فكونه يُصلي الاستخارة ويقرأ دعاء الاستخارة أفضل من كونه يقرأ القرآن؛ لأنَّ هذه عبادة مُستقلَّة، خاصَّة، لها شأنها، ولها وقتها.
وهكذا إذا دعت الحاجةُ إلى أمرٍ آخر يسأله أو يستعيذ بالله منه، صار هذا الدعاء وهذه الاستعاذة في محلها أولى من القراءة، فكل شيءٍ له وقته.
فالقراءة أفضل في نفسها، وهي مشروعة في جميع الأوقات، لكن في بعض الأوقات وفي بعض الأعمال لا يقرأ، ففي الركوع لا يقرأ، وفي السجود لا يقرأ، وبين السجدتين لا يقرأ، وحال التحيات لا يقرأ، إنما يقرأ في حال القيام.
هكذا كونه يتعاطى الأذكار الشَّرعية في الصباح والمساء والدعوات الواردة، هذا أولى من كونه يشتغل بالقرآن فقط، بل إذا اشتغل بالأوراد الشرعية والأذكار الواردة والدعوات وتلاها كان أفضل؛ لأنَّ فيه تحقيق ما جاءت به السنة، وجمعًا بين الفضائل.
وهكذا صلاة النوافل: فكونه يُصلي الراتبة ويتهجد في الليل أولى من كونه يشتغل بالقرآن ويُخلِّي هذه الرواتب، فكل شيءٍ في وقته، وكل عبادةٍ لها أركانها، ولها وقتها.
ثم هو فيما يتعلَّق بالدعاء ينظر لما هو أجمع لقلبه، وأقرب إلى خضوعه لله، فإذا كانت القراءة أكثر خشوعًا اشتغل بها ليخشع قلبه، وإن كان محتاجًا للدعاء وهو أجمع لقلبه تفرَّغ للدعاء، وهكذا التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، و"لا حول ولا قوة إلا بالله" يشتغل بها في وقتها، صباحًا ومساءً، وفي سائر الأوقات التي شرع الله فيها هذا الذكر.
فالقرآن له وقته وله محله، وهذه الأذكار لها وقتها، والدعوات لها وقتها، وكل شيء له وقته، وهذا مقام عظيم يحتاج إلى فقهٍ وعلمٍ وتبصُّرٍ حتى يضع كلَّ شيءٍ في موضعه، ويضع كلَّ عبادةٍ في محلها ووقتها المناسب.
وفَّق الله الجميع.
الأسئلة:
س: أيهما أفضل: طول السجود مع الدعاء، أم طول القيام مع القراءة؟
ج: ينبغي أن تكون الصلاةُ معتدلةً، إذا طوَّل القراءةَ طوَّل الركوعَ والسجودَ، وإذا قصَّر القراءةَ قصَّر الركوع والسجود، فتكون متقاربةً، مثلما قال البراء بن عازب: "صليتُ مع رسول الله ﷺ فوجدتُ قيامَه فركعته فاعتداله بعد الركوع فسجدته فجلسته بين السجدتين قريبًا من السَّواء"، يعني: يعتدل في الصلاة.
س: هل الثناء أعظم من الدعاء؟
ج: الثناء أفضل، فالثناء ذكر، لكن إذا دعت الحاجةُ إلى الدعاء صار الدعاءُ أفضل، كدعاء الاستخارة، ودعاء رب اغفر لي بين السَّجدتين، والدعاء في السجود، فهذا أفضل من القراءة.
س: التعصب لمذاهب أو لأشخاص أو لجماعات، هل يُعتبر من عبادة غير الله؟
ج: لا، هذا منكر لا يجوز.
س: ما يعتبر من عبادة غير الله؟
ج: هذا إذا استحلَّه، إذا استحلَّه وأن متبوعه معصومٌ وما قاله حقّ؛ فهذا يدخل في الردة، أمَّا عموم التقليد ففيه تفصيل.
س: يقول بعضُهم: "كلّ ما خالف نصَّ الإمام يُؤول"؟
ج: هذا غلط، يُنكر عليه ولا بُدَّ، فتراجع النصوص وتُقدَّم النصوص.