الأمور الموجبة للنصر على الأعداء والتغلب عليهم

فطريق النجاح، وطريق التقدم ضد الأعداء، وعدم الضعف أمامهم وطريق الفلاح والنجاح والحصول على المقامات العالية والمطالب الرفيعة والنصر على الأعداء طريق ذلك هو الإقبال على العلم النافع، والتفقه في الدين، وإيثار مراضي الله على مساخطه، والعناية بما أوجب الله، وترك ما حرم الله، والتوبة إلى الله من سالف الذنوب، ومما وقع من التقصير التوبة الصادقة والتعاون الكامل بين الدولة والشعب على ما يجب من طاعة الله ورسوله، والكف عن محارم الله عز وجل، وعلى ما يجب أيضا من إعداد العدة، كما قال الله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60].

فلا بد من إعداد العدة البدنية والمالية وسائر أنواع العدة العلمية والمالية والبدنية، يجب أن تعد العدة من جميع الوجوه حتى نستغني بما أعطانا الله عما عند أعدائنا؛ فإن قتال أعدائنا بما في أيديهم من الصعب العظيم، فإذا منع عنك عدوك سلاحك فبأي شيء تقاتل مع ضعف البصيرة وقلة العلم؟ فلا بد من الإعداد المستطاع، ويكفي المستطاع ما دام المسلمين قاصدين الاستغناء عن عدوهم، قاصدين جهاد عدوهم، قاصدين استيقاظ بلادهم، قاصدين إقامة أمر الله في أرض الله، قاصدين الآخرة، يكفي منهم ما استطاعوا لأن الله قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، ولم يقل سبحانه: وأعدوا لهم مثل قوتهم؛ لأن هذا قد لا يستطاع لكن قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] هذا يكفي بحمد الله.

فإذا صدق المسلمون وتكاتفوا وأعدوا ما استطاعوا من العدة ونصروا دين الله فالله ينصرهم ويعينهم سبحانه وتعالى، ويجعلهم أمام العدو، وفوق العدو، لا تحت العدو، يقول الله وهو الصادق في قوله وفي وعده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، هكذا يقول سبحانه وتعالى، والله ليس بعاجز ولا في حاجة إلى الناس، ولكنه ابتلى هؤلاء بهؤلاء، يبتلي عباده الأخيار بالأشرار ليعلم صدق الصادقين وكذب الكاذبين، وليعلم المجاهد من غيره، وليعلم الراغب في النجاة من غيره، وإلا فهو القادر على نصر أوليائه، وإهلاك أعدائه من دون حاجة إلى جهاد، وإلى عدة، وإلى غير ذلك، كما قال سبحانه: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وقال سبحانه -في سورة الأنفال في قصة بدر-: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [الأنفال:10] يعني إمدادهم بالمدد من الملائكة، وما ذكر بعد ذلك: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10] ، وفي آل عمران كذلك وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، فالنصر من عنده جل وعلا، ولكنه سبحانه جعل المدد من الملائكة، وجعل ما يعطي من السلاح والمال وكثرة الجند كل ذلك من أسباب النصر، وللتبشير والطمأنينة، وليس النصر معلقًا بذلك، قال سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، والسلاح قليل، والمركوب قليل، والمشهور أن الإبل كانت سبعين وهم ثلاثمائة وبضعة عشر يتعاقبونها يعتقبون هذه الإبل، والسلاح قليل، وليس معهم من الخيل إلا فرس أو فرسين، وكان جيش الكفار حول الألف وعندهم قوة عظيمة، والسلاح كثير، ولما أراد الله هزيمتهم هزمهم ولم تنفعهم قوتهم ولا جنودهم، بل هزمهم الله، هزم الله الألف وما عندهم من القوة العظيمة بثلاثمائة وبضعة عشر على ما عندهم من القوة الضعيفة، لكن بتيسير الله ونصره وتأييده سبحانه وتعالى هزمت الفئة القليلة الفئة الكبيرة، وأسروا منهم سبعين، وقتلوا سبعين، وانهزم الباقون لا يلوي أحد على أحد، هذا من آيات الله ونصره.

وفي يوم الأحزاب غزى الكفار المدينة بعشرة آلاف مقاتل من أنواع العرب -صنوف العرب من قريش وغيرهم- وحاصروا المدينة، واتخذ النبي ﷺ الخندق من أسباب النصر الحسي، ومكثوا مدة وهم محاصرون للمدينة، ثم أزالهم الله بغير قتال، أنزل في قلوبهم الرعب، وسلط عليهم الرياح وجندًا من عنده حتى ما قر لهم قرار، وحتى انصرفوا خائبين إلى بلادهم من دون قتال، كل هذا من نصره وتأييده ، ثم خذلوا فلم يغزوا بعد ذلك المدينة، بل غزاهم هو يوم الحديبية، وجرى بينهم وبينه الصلح المعروف، ثم غزاهم بعد ذلك في السنة الثامنة في رمضان، ففتح الله عليه مكة، ثم دخل الناس في دين الله أفواجًا بعد ذلك.

فالمقصود أن النصر بيد الله سبحانه وتعالى وهو الناصر لعباده، ولكنه عز وجل أمر بالأسباب وأعظم الأسباب طاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن طاعة الله ورسوله التعلم والتفقه في الدين، حتى تعرف حكم الله وحتى تعرف شريعة الله في نفسك وفي غيرك وفي جهاد عدوك، وحتى تعد العدة لعدوك، وحتى تكف عن محارم الله، وحتى تؤدي فرائض الله، وحتى تقف عند حدود الله، وحتى تتعاون مع إخوانك المسلمين وتتحد معهم، وحتى يكون الصف واحدًا في قتال الأعداء، وحتى تقدم الغالي والنفيس من نفسك ومالك وإخوانك في سبيل إظهار الحق، وفي سبيل نصر دين الله وإعلاء كلمته، لا في سبيل الوطن الفلاني والقومية الفلانية أو زيد وعمرو، بل تفعل ذلك إعلاء لكلمة الله، ورغبة فيما عند الله، وحرصًا على نصره ، وحفظًا لكيان المسلمين، وصونًا لهم عن أعدائهم، ولإقامة أمر الله في أرض الله.

فهذا هو الطريق، وهذا هو السبيل للنصر على الأعداء والقوة أمام الأعداء، والتقدم أمامهم: التعلم الشرعي التفقه في دين الله من الجميع من الولاة والرعايا ومن الكبير والصغير العناية بشرع الله، والتفقه في دين الله، والإقبال على ذلك، ثم العمل بمقتضى ذلك العمل بأداء فرائض الله وترك محارم الله، والتوبة إلى الله مما مضى من الذنوب والتقصير، وترك ما نحن عليه مما حرم الله عز وجل، قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]، ومن أراد من الله النصر والتأييد وأراد من الله إعلاء الكلمة والنصر على الأعداء فعليه بتغيير ما هو عليه من المعاصي والسيئات المخالفة لأمر الله، عليه القيام بأمر الله، وأداء فرائض الله، وترك محارم الله، والوقوف عند حدود الله، والتعاون مع إخوانه على البر والتقوى، وترك ما حرم الله من الإثم والعدوان.

وربك يقول جل وعلا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55] هذا وعده سبحانه للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ما قال وعد الله الذين ينتسبون إلى قريش أو إلى العرب أو وعد الله الذين يبنون القصور ويستخرجون البترول وغير ذلك، ولا وعد الله الذين يفعلون كذا وكذا غير الإيمان والعمل الصالح، بل علق الحكم بشيئين: إيمان صادق، وعمل صالح، سواء كانوا عربًا أو عجمًا، هذا هو أسباب النصر، وأسباب الاستخلاف: الإيمان الصادق، والعمل الصالح، لا العروبة ولا غير العروبة، ولكنه إيمان صادق بالله ورسوله، وعمل صالح، هذا هو السبب وهذا هو الشرط وهذا هو المحور الذي عليه المدار، فمن استقام عليه حصل له التمكين في الأرض، والاستخلاف في الأرض، والنصر على الأعداء، ومن تخلف عن ذلك لم يضمن له النصر، ولم يضمن له السلامة، ولا العز، بل قد ينصر كافر على كافر، وقد ينصر مجرم على مجرم، وقد يعان منافق على منافق، ولكن النصر المضمون الذي وعد الله به عباده المؤمنين لهم على عدوهم إنما يحصل بالشروط التي بينها سبحانه، وبالصفات التي أوضحها جل وعلا  بالإيمان الصادق والعمل الصالح بنصر دين الله، فالإيمان الصادق هو نصر دين الله، فالنصر لدين الله يفسر بالإيمان، والعمل الصالح يفسر بالإيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفسر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفسر بالقيام بأمر الله، والحفاظ على دين الله وترك محارم الله، هذا المقصود.

 ولهذا في الآية الأخرى يقول جل وعلا: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۝ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40- 41]، هذا هو نصر دين الله، هو المعنى في قوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، فإن من أقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد نصر دين الله؛ لأن في ضمن ذلك أداء فرائض الله وترك محارم الله، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يبدأ بنفسه فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، فمن بدأ بنفسه وسعى في  إصلاح إخوانه وأقام الصلاة وآتى الزكاة صادقًا فقد اتصف بهذه الصفات، وقال أيضًا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وقال : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].

فأهل الفلاح وأهل النصر وأهل النجاة والسعادة وأهل العاقبة الحميدة هم الذين آمنوا بالله ورسوله، هم الذين عملوا الصالحات، هم الذين أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، هم الذين نصروا الله في قوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] إلى غير ذلك، وهم المذكورون في قوله سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

فالدواء واضح، والعلاج بيِّن، لكن أين من يريد الأخذ بالدواء؟ وأين من يريد العلاج؟ هذا واجب ولاة الأمور، وواجب العلماء والأعيان في كل مكان في جميع الدول الإسلامية، واجب الولاة إذا كانوا صادقين في دعوى الإسلام وواجب العلماء الذين عرفوا شريعة الله وينتسبون إلى شريعة الله، وواجب الأعيان من المؤمنين الذين لهم كلمة، ولهم شأن أن يتعاونوا جميعًا في إقامة أمر الله في أرض الله، وأن يصدقوا في ذلك وأن ينصروا دين الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحفاظ على ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتفقه في الدين وإصلاح المناهج التي تستعمل في المدارس في جميع المراحل والتعاون أيضًا بالتكاتف ضد الأعداء، والاتحاد ضد الأعداء، وتوحيد الكلمة ضد الأعداء، مع الإخلاص لله في العمل، والصدق في العمل ونية الآخرة وإيثار مرضاة الله وإعلاء كلمة الله على ما سوى ذلك، هذا هو الواجب على الجميع، وبذلك يستحقون النصر من الله، والتأييد منه سبحانه، وحسن العاقبة، وبذلك أيضًا ينصرون على أعدائهم ويصونون بلادهم، وتكون لهم الكلمة في الأرض والقوة في الأرض، ويهابهم عدوهم إذا رأى منهم الصدق والتكاتف ضد الباطل، وضد أهل الباطل، عرف لهم شأنهم، واحترم لهم مقامهم، وهابهم، وأعطاهم مطالبهم، وخاف جهادهم، ووقف عند حده.