روضة الناظر

قال الإمامُ الحافظُ أبو محمد مُوفق الدِّين عبدالله بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه "روضة الناظر وجُنة المناظر".

الشيخ: يعني سترة.

على مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:

أقسام أحكام التَّكليف خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور.

وجه هذه القسمة: أنَّ خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل، أو الترك، أو التَّخيير بينهما.

فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر، فإن اقترن به إشعارٌ بعدم العقاب على الترك فهو ندبٌ، وإلا فيكون إيجابًا.

والذي يرد باقتضاء الترك نهي، فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة، وإلا فحظر.

الشيخ: هذا الكتاب يتعلق بأصول الفقه، وهو كتاب جيد مفيد للمُوفق عبدالله بن أحمد بن قُدامة رحمه الله، فهذا الكتاب جديرٌ بالعناية؛ لما فيه من البحث في أصول الفقه، وبيان أدلتها.

والأحكام خمسة: واجب، ومستحب، ومباح، وحرام، ومكروه.

هذه هي الأحكام التي جاءت في النصوص، ووجه ذلك أنَّ الأمر إذا اقتضى الإلزام فهو واجب، وإن جاء ما يدل على أنه ليس بالإلزام صار مُستحبًّا، والنَّهي يدل على الحظر والتَّحريم، إلا إذا وُجد ما يدل على عدم التَّحريم صار للكراهة فقط، فإن جاء النصُّ من غير أمرٍ ولا نهيٍ، بل بفعلٍ فقط أو بالتَّقرير صار للإباحة، صار مباحًا مُخَيَّرًا: إن شاء فعل، وإن شاء ترك، هذا وجه التَّقسيم.

وحدُّ الواجب: ما توعد بالعقاب على تركه.

وقيل: ما يُعاقب تاركه.

وقيل: ما يُذمّ تاركه شرعًا.

والفرض هو الواجب على إحدى الروايتين؛ لاستواء حدِّهما، وهو قول الشَّافعي.

والثانية: الفرض آكد.

فقيل: هو اسمٌ لما يُقطع بوجوبه، كمذهب أبي حنيفة.

وقيل: ما لا يُتسامح في تركه عمدًا ولا سهوًا، نحو: أركان الصلاة.

فإنَّ الفرض في اللغة: التَّأثير، ومنه فُرضة النهر والقوس.

والوجوب: السُّقوط، ومنه: "وجبت الشمسُ والحائط" إذا سقطا، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]، فاقتضى تأكد الفرض على الواجب شرعًا؛ ليُوافق معناه لغةً.

ولا خلافَ في انقسام الواجب إلى: مقطوع ومظنون، ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعنى.

الشيخ: الواجب هو ما يتعين فعله، ويُسمَّى: فرضًا، هذا هو الصواب، مُترادفان: فرض وواجب، وقال بعضُهم: الفرض آكد. والصواب أنهما مُترادفان: الصلاة فرض، والصلاة واجبة، وصوم رمضان يُقال: واجب وفرض، وهكذا الزكاة: فرض وواجب، وما أشبه ذلك، والحجُّ مع الاستطاعة يُسمَّى: فرضًا، ويُسمَّى: واجبًا، فما دلَّ الدليلُ على الإلزام به يُسمَّى: فرضًا وواجبًا، وما دلَّ الدليلُ على شرعيته من دون إلزامٍ هذا يُسمَّى: مُستحبًّا، كالنَّوافل بعد الظهر، قبل الظهر، سنة المغرب، سنة العشاء، سنة الضحى، التهجد في الليل، كل هذا جاءت به النصوص تدل على شرعيته من غير وجوبٍ، ولما سأله سائلٌ عن الصلاةِ قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وهكذا قال في الزكاة والصوم والحج، المقصود أنَّ الواجبَ ما تأكد فعله، ولزم فعله، وجاء فيه الوعيد على تركه، هذا يُسمَّى: واجبًا، ويُسمَّى: فرضًا.

 

فصل

والواجب ينقسم إلى مُعينٍ، وإلى مُبهمٍ في أقسامٍ محصورةٍ، فيُسمَّى: واجبًا مُخيرًا، كخصلةٍ من خصال الكفَّارة.

وأنكرت المعتزلةُ ذلك، وقالوا: لا معنى للوجوب مع التَّخيير.

ولنا أنه جائز عقلًا وشرعًا:

أما العقل: فإنَّ السيد لو قال لعبده: أوجبتُ عليك خياطةَ هذا القميص، أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم، أيّهما فعلتَه اكتفيت به، وإن تركتَ الجميعَ عاقبتُك، ولا أوجبهما عليك معًا، بل أحدهما لا بعينه، أيّهما شئتَ. كان كلامًا معقولًا، ولا يمكن دعوى إيجاب الكل؛ لأنه صرَّح بنقيضه، ولا دعوى أنه ما أوجب شيئًا أصلًا؛ لأنه عرضه للعقاب بترك الكلِّ، ولا أنه أوجب واحدًا مُعينًا؛ لأنه صرَّح بالتخيير، فلم يبقَ إلا أنه أوجب واحدًا لا بعينه.

الشيخ: هذا هو الصواب.

ولأنه لا يمتنع في العقل أن يتعلق الغرضُ بواحدٍ غير مُعينٍ؛ لكون كل واحدٍ منهما وافيًا بالغرض حسب وفاء صاحبه، فيطلب منه قدر ما يفي بغرضه، والتَّعيين فضلة لا يتعلق بها الغرض، فلا يطلبه منه.

الشيخ: وهذا قد يكون واجبًا مُعينًا مُحتَّمًا في واحدٍ، وقد يكون مُخيَّرًا في عددٍ، فالواجب المحتم مثل: وجوب الصلوات الخمس، مثل: وجوب الزكاة، مثل: وجوب الحجّ مع الاستطاعة، والمخير مثل: كفَّارة اليمين؛ مُخيَّر بين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، وغير ذلك مما هو مُخيَّر فيه، الواجب على التَّخيير لا حرجَ فيه، هو واجب مُخير، أيّهما أدَّى فقد أدَّى الواجب، فإذا أطعم عشرة مساكين أو كساهم أو أعتق رقبةً قد حصل بذلك المقصود، وهذا يُسمَّى: واجبًا مُخيرًا.

وأما الشَّرع: فخصال الكفَّارة، بل إعتاق الرقبة بالإضافة إلى إعتاق العبيد، وتزويج المرأة الطالبة للنِّكاح من أحد الكفؤين الخاطبين، وعقد الإمامة لأحد الرَّجلين الصَّالحين لها، ولا سيبلَ إلى إيجاب الجميع، وأجمعت الأمةُ على أنَّ جميع خصال الكفَّارة غير واجبٍ.

فإن قيل: إن كانت الخصالُ متساويةً عند الله تعالى بالنسبة إلى صلاح العبد، ينبغي أن يُوجب الجميع؛ تسويةً بين المتساويات، فإن تميز بعضُها بوصفٍ ينبغي أن يكون هو الواجب عينًا.

قلنا: ولمَ قلتُم: إنَّ للأفعال صفاتًا في ذاتها لأجلها يُوجبها الله سبحانه؟! بل الإيجاب إليه، له أن يُخصص من المتساويات واحدًا بالإيجاب، وله أن يُوجب واحدًا غير معينٍ، ويجعل مناط التَّكليف اختيار المكلَّف؛ ليسهل عليه الامتثال.

جواب ثانٍ: أن التَّساوي يمنع التَّعيين؛ لكونه عبثًا، وحصول المصلحة بواحدٍ يمنع من إيجاب الزائد؛ لكونه إضرارًا مجردًا حصلت المصلحةُ بدونه، فيكون الواجبُ واحدًا غير مُعينٍ.

فإن قيل: فالله سبحانه يعلم ما يتعلق به الإيجاب، ويعلم ما يتأدَّى به الواجب، فيكون مُعينًا في علم الله سبحانه.

قلنا: الله سبحانه إذا أوجب واحدًا لا بعينه علمه على ما هو عليه من نعته، ونعتُه أنه غير معينٍ، فيعلمه كذلك، ويعلم أنه يتعين بفعل المكلَّف ما لم يكن مُتعينًا قبل فعله، والله أعلم.

الشيخ: وهذا من محاسن الإسلام؛ كونه مُخَيَّرًا هذا من محاسن الإسلام، ومن رحمة الله لعباده، فقد يكون الإنسانُ يستطيع هذا دون هذا، وهذا دون هذا، فمن رحمة الله أن جاءت بعضُ الأحكام مُخيرةً: ككفَّارة اليمين، الإنسان قد يتيسر له إطعام، ولا تتيسر الكسوة، قد تتيسر الكسوة، ولا يتيسر الإطعام، وقد يتيسر العتق، ولا يتيسر هذا ولا هذا، فمن رحمة الله أن جعله مُخَيَّرًا: إن شاء أعتق، وإن شاء أطعم، وإن شاء كسا، وليس في هذا نقصٌ ولا ضررٌ، بل هو رحمة وتيسير .....

فصل

والواجب ينقسم -بالإضافة إلى الوقت- إلى مُضيق ومُوسَّعٍ.

وأنكر أكثرُ أصحاب أبي حنيفة التَّوسع، وقالوا: هو يُناقض الوجوب.

ولنا أنَّ السيد لو قال لعبده: ابْنِ هذا الحائطَ في هذا اليوم: إما في أوله، وإما في وسطه، وإما في آخره، وكيف أردتَ، فمهما فعلتَ امتثلتَ إيجابي، وإن تركتَ عاقبتُك. كان كلامًا معقولًا، ولا يمكن دعوى أنه ما أوجب شيئًا أصلًا، ولا أنه أوجب مضيقًا؛ لأنه صرَّح بضدِّ ذلك، فلم يبقَ إلا أنه أوجب مُوسَّعًا.

الشيخ: هذا هو الصواب، يقول: الواجب يكون مضيقَ الوقت، ويكون مُوسَّع الوقت، جاء الشرعُ بأمرين، مثل: رمضان مُضيق في وقت إذا دخل الشهر إلى خروجه، ليس له التَّقديم، وليس له التأخير، وهكذا الحجّ في أوقاته مضيق، لا يتقدم ولا يتأخّر، وهناك مُوسع: كالصلوات الخمس، وهو موسع الوقت، له فعلها في أوله، أو في وسطه، أو في آخره، وفي أوله أفضل: الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقتها كله موسع والحمد لله، وفعلها في أوله أفضل، إلا في شدة الحرِّ فالأفضل التأخير حتى ينكسر الحرُّ، وإلا في صلاة العشاء إذا لم يجتمعوا، فالأفضل التأخير حتى يجتمعوا، كما هو معروف من الأحاديث.

وقد عهدنا من الشارع تسمية هذا القسم: واجبًا، بدليل أنَّ الصلاة تجب في أول الوقت.

وكذلك انعقد الإجماعُ على أنه يُثاب ثواب الفرض، وتلزمه نيته، ولو كانت نفلًا لأجزأت نية النفل، بل لاستحالت نية الفرض من العالِمِ كونها نفلًا؛ إذ النية قصد يتبع العلم.

فإن قيل: الواجب ما يُعاقَب على تركه، والصلاة إن أُضيفت إلى آخر الوقت فيُعاقب على تركها، فتكون واجبةً حينئذٍ، وإن أُضيفت إلى أوله، فخيّر بين فعلها وتركها، وفعلها خيرٌ من تركها، وهذا حدّ المندوب.

وإنما أُثيب ثواب الفرض ولزمته نيته؛ لأنَّ مآله إلى الفرضية، فهو كمُعجّل الزكاة، والجامع بين الصَّلاتين في وقت أولاهما.

قلنا: الأقسام ثلاثة:

قسم: لا يُعاقَب على تركه مطلقًا، وهو المندوب.

وقسم: يُعاقَب على تركه مطلقًا، وهو الواجب المضيق.

وقسم: يُعاقَب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت، ولا يُعاقَب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا القسم الثالث يفتقر إلى عبارةٍ ثالثةٍ، وحقيقته لا تعدو الواجب والنَّدب، وأولى عباراته: "الواجب الموسع".

قالوا: ليس هذا قسمًا ثالثًا، بل هو بالإضافة إلى أول الوقت ندب، وبالإضافة إلى آخره واجب، بدليل أنه في أول الوقت يجوز تركه، دون آخره.

قلنا: بل حدّ النَّدب: ما يجوز تركه مطلقًا، وهذا لا يجوز إلا بشرطٍ، وهو: "الفعل بعده"، أو "العزم على الفعل"، وما جاز تركه بشرطٍ فليس بندبٍ، كما أنَّ كلَّ واحدٍ من خصال الكفَّارة يجوز تركه إلى بدلٍ.

ومن أمر بالإعتاق فما من عبدٍ إلا يجوز تركه، بشرط عتق ما سواه، ولا يكون ندبًا، بل واجبًا مُخيرًا، كذا هذا يُسمَّى: واجبًا مُوسَّعًا.

وما جاز تركه بشرطٍ يُفارق ما جاز تركه مطلقًا، وما لا يجوز تركه مطلقًا فهو قسم ثالثٌ.

وإذا كان المعنى متَّفقًا عليه، وهو الانقسام إلى الأقسام الثلاثة، فلا معنى للمُناقشة في العبارة.

الشيخ: كل هذا واضح، ولا حاجة للمُناقشة، الأمر واضح، ولا حاجة للمُناقشة في هذا، فالواجب الموسع واضح في الصلاة، والمضيق واضح في رمضان، والمندوب واضح؛ وهو الذي يُؤجر عليه إذا فعله، ولا يُعاقَب إذا تركه، وهو المندوب.

وأما تعجيل الزكاة فإنه يجب بنية التَّعجيل، وما نوى أحدٌ من السلف في الصلاة في أول الوقت غير ما نواه في آخره، ولم يُفرِّقوا أصلًا، فهو مقطوعٌ به.

فإن قيل: قولكم: "إنما جاز تركه بشرط العزم أو الفعل بعده" باطل؛ فإنَّه لو ذهل أو غفل عن العزم ومات لم يكن عاصيًا؛ ولأنَّ الواجب المخير: ما خيّر الشارعُ فيه بين شيئين، وما خيّر بين العزم والفعل؛ ولأنَّ قوله: "صلِّ في هذا الوقت" ليس فيه تعرُّض للعزم أصلًا، فإيجابه زيادة.

قلنا: إنما لم يكن عاصيًا لأنَّ الغافل لا يُكلَّف، فأما إذا لم يغفل فلا يترك العزم على الفعل إلا عازمًا على الترك مطلقًا، وهو حرام، وما لا خلاص عن الحرام إلا به يكون واجبًا. فهذا دليل وجوبه، وإن لم تدل عليه الصِّيغة، والله أعلم.

فصل

إذا أخَّر الواجبَ الموسعَ فمات في أثناء وقته قبل ضيقه لم يمت عاصيًا؛ لأنه فعل ما أُبيح له فعله؛ لكونه جُوِّز له التأخير.

فإن قيل: إنما جاز له التَّأخير بشرط سلامة العاقبة؟

قلنا: هذا محال؛ فإنَّ العاقبة مستورة عنه، ولو سألنا فقال: "عليَّ صوم يومٍ، فهل يحل لي تأخيره إلى غدٍ؟" فما جوابه؟

إن قلنا: "نعم" فلم أثم بالتَّأخير؟

وإن قلنا: "لا"، فخلاف الإجماع.

وإن قلنا: إن كان في علم الله أنَّك تموت قبل غدٍ لم يحل، وإلا فهو يحل.

فيقول: وما يُدريني ما في علم الله؟! فلا بدَّ من الجزم بجوابٍ.

فإذًا معنى الوجوب وتحقيقه: أنه لا يجوز له التأخير إلا بشرط العزم، ولا يُؤخر إلا إلى وقتٍ يغلب على ظنِّه البقاء إليه. والله أعلم.

الشيخ: هذا الذي قاله المؤلفُ صحيح؛ فإنَّ الوقت الموسّع إذا أخَّر صاحبه فيه العبادة ما يكون آثمًا، فلو مات ما يكون آثمًا، لو مات في أثناء وقت الظهر قبل أن يُصلي الظهر فلا شيءَ عليه، أو مات في أثناء العصر قبل أن يُصلي لا شيءَ عليه، أو مات في أثناء المغرب قبل أن يُصلي لا شيء عليه؛ لأنَّ الوقت مُوسّع، ليس عليه أن يُبادر بها من أول الوقت، هذا من فوائد التَّوسعة، فلو أنه مات في أثناء وقت الظهر أو العصر أو العشاء أو المغرب قلنا: لا حرجَ عليه.

فصل

ما لا يتم الواجبُ إلا به ينقسم إلى:

ما ليس إلى المكلَّف: كالقُدرة واليد في الكتابة، وحضور الإمام والعدد في الجمعة، فلا يُوصف بوجوبٍ.

وإلى ما يتعلق باختيار العبد: كالطَّهارة للصلاة، والسَّعي إلى الجمعة، وغسل جزءٍ من الرأس مع الوجه، وإمساك جزءٍ من الليل مع النَّهار في الصوم، فهو واجبٌ.

وهذا أولى من قولنا: يجب التَّوصل إلى الواجب بما ليس بواجبٍ؛ إذ قولنا: "يجب ما ليس بواجبٍ" مُتناقض، لكن الأصل وجب بالإيجاب قصدًا، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود، فهو واجب كيفما كان، وإن اختلفت علَّة إيجابهما.

الشيخ: هذا الذي قاله المؤلفُ واضح، فما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب، قد أوجب الله جلَّ وعلا الوضوء، فلا يتم أداءُ الواجب -وهو الصلاة- إلا بالوضوء، ولا يتم أداءُ الواجب بالصوم إلا بإمساكه في أول النهار وكفِّه عن الفطر حتى تغيب الشمسُ، حتى يُؤدي الواجب.

فإن قيل: لو كان واجبًا لأُثيب على فعله، وعُوقب على تركه، وتارك الوضوء والصوم لا يُعاقَب على ما ترك من غسل جزءٍ من الرأس مع الوجه، وإمساك جزءٍ من الليل مع النَّهار.

قلنا: ومَن أنبأكم أن ثواب القريب من البيت في الحجِّ مثل ثواب البعيد، وأنَّ الثوابَ لا يزيد بزيادة العمل بالوسيلة؟

وأما العقوبة: فإنه يُعاقَب على ترك الوضوء والصوم، ولا يتوزع على أجزاء الفعل، فلا معنى لإضافته إلى التفصيل.

فصل

وإذا اختلطت أخته بأجنبيةٍ، أو ميتة بمذكاةٍ حرمتا: الميتة بعلة الموت، والأخرى بعلة الاشتباه.

وقال قومٌ: المذكاة حلال، لكن يجب الكفُّ عنها.

وهذا مُتناقض؛ إذ ليس الحلُّ والحرمة وصفًا ذاتيًّا لهما، بل هو متعلق بالفعل، فإذا حرم فعلُ الأكل فيهما فأيّ معنًى لقولنا: هي حلال؟! وإنما وقع هذا في الأوهام، حيث ضاهى الوصفُ بالحلِّ والحرمة الوصفَ بالسَّواد والبياض، والأوصاف الحسية، وذلك وَهْم على ما ذكرناه. والله أعلم.

الشيخ: والعلَّة في هذا هي الاشتباه، فلا يمكن تعاطي الحلال إلا بترك الحرم، فإذا اشتبه الأمران حرما: ميتة بمذكاة حرم تناولهما، أخت بأجنبيةٍ حرم الزواج منهما حتى يتَّضح الأمرُ.

فصل

الواجب الذي لا يتقيد بحدٍّ محدودٍ: كالطُّمأنينة في الركوع والسجود، ومدة القيام والقعود، إذا زاد على أقل الواجب فالزيادة ندب، واختاره أبو الخطاب.

وقال القاضي: الجميع واجب؛ لأنَّ نسبة الكل إلى الأمر واحد، والأمر في نفسه أمر واحد، وهو أمر إيجابٍ، ولا يتميز البعضُ عن البعض، فالكل امتثال.

ولنا أن الزيادة يجوز تركها مطلقًا من غير شروطٍ ولا بدلٍ، وهذا هو النَّدب.

ولأنَّ الأمر إنما اقتضى إيجابَ ما تناوله الاسم فيكون هو الواجب، والزيادة ندب، وإن كان لا يتميز بعضُه عن البعض، فيعقل كون بعضه واجبًا، وبعضه ندبًا، كما لو أدَّى دينارًا عن عشرين.

الشيخ: وهذا مثلما قال المؤلفُ صواب، الواجب يتبعض، فإذا كان الواجبُ يزيد وينقص، فما زاد فهو مستحب، فالطُّمأنينة واجبة في الركوع والسجود، فإذا زاد في خشوعه فالزيادة من الكمال، وهي مستحبة، فالواجب جنس الطمأنينة، فإذا زاد في ذلك فالزيادة لها أجرها ولها ثوابها، وهي مستحبة، كونه يكمل الطمأنينة ويزيد فيها يكون له أجر ذلك: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1- 2]، فما زاد على الواجب يكون مُستحبًّا، وله ثواب ذلك.

 

فصل

القسم الثاني: المندوب

والنَّدب في اللغة: الدُّعاء إلى الفعل. كما قال:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النَّائبات على ما قال برهانا

وحده في الشَّرع: مأمور لا يلحق بتركه ذمٌّ من حيث تركه، من غير حاجةٍ إلى بدلٍ.

وقيل: هو ما في فعله ثواب، ولا عقاب في تركه.

والمندوب مأمور.

وأنكر قومٌ كونه مأمورًا، قالوا: لأنَّ الله قال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، والمندوب لا يُحذر فيه ذلك.

ولأنَّ النبي ﷺ قال: لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كل صلاةٍ، وقد ندبهم إلى السِّواك، علم أنَّ الأمر لا يتناول المندوب.

ولأنَّ الأمر: اقتضاء جازم لا تخيير فيه، وفي النَّدب تخيير، ولم يُسمَّ تاركه عاصيًا.

ولنا أن الأمر: استدعاء وطلب، والمندوب مُستدعًى ومطلوب، فيدخل في حقيقة الأمر، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وقال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ [لقمان:17]، ومن ذلك ما هو مندوب.

ولأنه شاع في ألسنة الفقهاء: أنَّ الأمر ينقسم إلى: أمر إيجابٍ، وأمر استحبابٍ.

ولأنَّ فعله طاعة، وليس ذلك لكونه مُرادًا؛ إذ الأمر يُفارق الإرادة، ولا لكونه موجودًا؛ فإنه موجود في غير الطاعات، ولا لكونه مُثابًا؛ فإنَّ الممتثل يكون مُطيعًا وإن لم يُثب، وإنما الثَّواب للترغيب في الطَّاعات.

وقولهم: "إنَّ الأمر ليس فيه تخيير" ممنوع، وإن سلمنا، فالمندوب كذلك؛ لأنَّ التَّخيير عبارة عن التَّسوية، فإذا ترجح جهةُ الفعل ارتفعت التَّسوية والتَّخيير.

ولم يُسمَّ تاركه عاصيًا؛ لأنه اسم ذمٍّ، وقد أسقط الله تعالى الذَّم عنه، لكن يُسمَّى: مُخالفًا وغير مُمتثلٍ، ويُسمَّى فاعله: مُوافقًا ومُطيعًا.

وقول النبي ﷺ: لأمرتهم بالسِّواك أي: أمرتهم أمر جزمٍ وإيجابٍ.

وقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] يدل على أنَّ الأمر يقتضي الوجوب، ونحن نقول به، لكن يجوز صرفه إلى النَّدب بدليلٍ، ولا يخرج بذلك عن كونه أمرًا لما ذكرناه في دليلنا. والله أعلم.

الشيخ: وهذا هو الصواب، الأمر ينقسم إلى قسمين: مندوب وواجب، فما قام الدليلُ على وجوبه فهو واجب، وما قام الدليلُ على ندبه فهو مندوب، فالأصل هو الوجوب، فلا يُعدل عن الأوامر إلى النَّفل إلا بدليلٍ: فصلاة الضحى والرَّواتب يُقال لها: عبادة مندوبة؛ لأنَّ الدليل قام على أنها غير فرضٍ. وصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ قام الدليلُ على أنها مأمورٌ بها، مطلوبة، لكنها غير واجبةٍ، والوتر هكذا، فالمندوب هو المشروع المأمور به بغير حتمٍ، بغير إلزامٍ، ولا يُذمّ صاحبه ولا يأثم.

القسم الثالث: المباح

وحدّه: ما أذن اللهُ في فعله وتركه، غير مُقترنٍ بذمِّ فاعله وتاركه ولا مدحه، وهو من الشَّرع.

الشيخ: وهذا هو المباح: ما جاء في الشرع الإذنُ في فعله وتركه، من دون ذمٍّ للفعل أو الترك، أو مدحٍ للفعل أو الترك، هذا يُقال له: مباح.

وأنكر بعضُ المعتزلة ذلك؛ إذ معنى الإباحة: نفي الحرج عن الفعل والتَّرك، وذلك ثابتٌ قبل ورود السّمع، فمعنى إباحة الشيء: تركه على ما كان قبل السّمع.

قلنا: الأفعال ثلاثة أقسام:

قسم صرح فيه الشرعُ بالتَّخيير بين فعله وتركه، فهذا خطاب، ولا معنى للحكم إلا الخطاب.

وقسم لم يرد فيه خطابٌ بالتخيير، لكن دلَّ دليلُ السمع على نفي الحرج عن فعله وتركه، فقد عُرف بدليل السمع، ولولا هو لعُرف بدليل العقل نفي الحرج عنه، فهذا اجتمع عليه دليلُ العقل والسّمع.

وقسم لم يتعرض الشرعُ له بدليلٍ من أدلة السّمع، فيحتمل أن يُقال: قد دلَّ السمعُ على أنَّ ما لم يرد فيه طلبُ فعلٍ ولا ترك، فالمكلَّف فيه مُخير.

الشيخ: هذا هو الأصل، المقصود بهذا الشيء الإباحة حتى يرد من الشرع الطلب أو التَّرك.

وهذا دليلٌ على العموم فيما لا يتناهى من الأفعال، فلا يبقى فعلٌ لا مدلول عليه سمعًا، فتكون إباحتُه من الشَّرع.

ويحتمل أن يُقال: لا حكمَ له، والله أعلم.

فصل

اختُلف في الأفعال والأعيان المنتَفَع بها قبل ورود الشرع بحكمها:

فقال التَّميمي وأبو الخطاب والحنفية: هي على الإباحة؛ إذ قد علم انتفاعنا بها من غير ضررٍ علينا، ولا على غيرنا، فليكن مُباحًا.

ولأنَّ الله سبحانه خلق هذه الأعيان لحكمةٍ لا محالة، ولا يجوز أن يكون ذلك لنفعٍ يرجع إليه، فثبت أنه لنفعنا.

وقال ابنُ حامد والقاضي وبعضُ المعتزلة: هي على الحظر؛ لأنَّ التَّصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح.

الشيخ: والصَّواب الأول: أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا جاء حظرٌ من الشارع، فالأصل في الأشياء فعلًا وتركًا الإباحة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، فالأصل في الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشرعُ.

والله سبحانه المالك ولم يأذن؛ ولأنه يحتمل أنَّ في ذلك ضررًا، فالإقدام عليه خطر.

وقال أبو الحسن الجزري وطائفةٌ من الواقفية: لا حكمَ لها؛ إذ معنى الحكم: الخطاب، ولا خطابَ قبل ورود السّمع، والعقل لا يُبيح شيئًا ولا يُحرمه، وإنما هو مُعرِّف للتَّرجيح والاستواء، وقبح التَّصرف في ملك الغير إنما يُعلم بتحريم الشَّارع ونهيه.

ولو حكمت فيه العادة فإنما يقبح في حقِّ مَن يتضرر بالتَّصرف في ملكه، بل يقبح المنع مما لا ضررَ فيه: كالظلِّ وضوء النار.

وهذا القول هو اللائق بالمذهب؛ إذ العقل لا دخلَ له في الحظر والإباحة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإنما تثبت الأحكام بالسَّمع.

وقد دلَّ السمعُ على الإباحة على العموم بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، وبقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ [الأعراف:33]، وقوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]، وبقوله تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا [الأنعام:145]، ونحو ذلك.

وقول النبي ﷺ: وما سكت اللهُ عنه فهو مما عفا عنه، وقوله: إنَّ أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا مَن سأل عن شيءٍ لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته.

وفائدة الخلاف: أنَّ مَن حرم شيئًا أو أباحه كفاه فيه استصحاب حال الأصل.

الشيخ: يعني: استصحاب الأصل فيه، فالأصل فيما نهى الله عنه التَّحريم، والأصل فيما أمر الله به الوجوب، والأصل فيما سكت الله عنه العافية والإباحة، فمَن ادَّعى خلافَ ذلك فعليه الدَّليل.

س: ................؟

ج: هذا من رأي المعتزلة، العقل قد يقصر على هذا، قد يستحسن، وقد يفهم شيئًا، لكن ما هو العمدة عليه، العمدة على النصوص، العقول تضطرب وتختلف.

فصل

المباح غير مأمورٍ به؛ لأنَّ الأمر: استدعاء وطلب، والمباح مأذونٌ فيه ومُطلقٌ له، غير مُستدعًى ولا مطلوب. وتسميته مأمورًا تجوّز.

فإن قيل: ترك الحرام مأمور به، والسّكوت المباح يترك به الكفر والكذب الحرام، فيكون مأمورًا به.

قلنا: فليكن المباحُ واجبًا إذًا، وقد يترك الحرام إلى المندوب، فليكن واجبًا، وقد يترك الحرام بحرامٍ آخر، فليكن الشيء حرامًا واجبًا، ولتكن الصلاةُ حرامًا إذا تحرّم بها مَن عليه الزكاة، وهذا باطل.

فإن قيل: فهل الإباحةُ تكليف؟

قلنا: مَن قال: التَّكليف: الأمر والنَّهي، فليست الإباحةُ كذلك.

ومَن قال: التَّكليف: ما كلّف اعتقاد كونه من الشرع، فهذا كذلك. وهذا ضعيف؛ إذ يلزم عليه جميع الأحكام.

الشيخ: التَّكليف هو بالأوامر والنَّواهي، أما المباحات فلا ثوابَ ولا عقابَ، التكليف بما أمر الله به ورسوله، أو نهى عنه ورسوله، فما أمر الله به ورسوله فيه الثَّواب، وما نهى الله عنه ورسوله فيه العقاب، وما كان مندوبًا فيه الثواب، وما كان غير مُحرمٍ فليس فيه عقاب، أما المباح فهو مستوي الطرفين: لا ثواب ولا عقاب إلا مع النية في فعل المباح، إلا ما خصَّه الدليلُ، كما في الحديث: ما من مسلمٍ يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، وأكلت منه دابَّة أو طير إلا كان له صدقة، ما جاء به النصّ فهو عليه، وإلا الأصل مباح يأكل، مباح يشرب، لكن على وجهٍ يضرّه لا ينبغي، أو يأكل الحرام ما يجوز، أو يترك الأكل والشرب على وجهِ مضرةٍ لا يجوز، أما جنس المباح: جنس الأكل، جنس الشرب، جنس السكن، هذا من المباحات، لكن إذا اقترن بها شيءٌ يضره جاءت أحكامٌ أخرى.

القسم الرابع: المكروه

وهو: ما تركه خيرٌ من فعله.

وقد يُطلق ذلك على المحظور.

الشيخ: والحاصل من هذا أنَّ المباح قد يقترن به شيء يجعله مندوبًا، وقد يقترن بشيءٍ يجعله مكروهًا، وإلا فالأصل هي الإباحة، لكن إذا اقترن بالمباح شيء يرفعه إلى المندوب، أو شيء يجرّه إلى المكروه؛ فهو على ما اقترن به.

وقد يُطلق على ما نُهي عنه نهي تنزيه، فلا يتعلق بفعله عقاب.

الشيخ: وهذا المكروه الذي يُستحب تركه، ولكن ليس في فعله عقاب؛ لأنَّ الرسول ما حرَّمه؛ لأنَّ الله ما حرَّمه على عباده، لكن كره لهم ذلك الشيء، فيكون مكروهًا، مثل: كان يكره النومَ قبلها، والحديث بعدها. يعني: العشاء، أو مثل: الزيادة في الأكل الذي قد يُسبب تكاسلًا عن الخير، ونحو ذلك من الأشياء التي لم يأتِ بها نصٌّ يُوجب تحريمها، ولكن الشرع يُوجب تركها، هذا من باب المكروه الذي فعله لا يأثم به، وتركه يكون فيه الأجر.

فصل

والأمر المطلق لا يتناول المكروه؛ لأنَّ الأمر: استدعاء وطلب، والمكروه غير مُستدعى ولا مطلوب؛ ولأنَّ الأمر ضد النَّهي، فيستحيل أن يكون الشيء مأمورًا ومنهيًّا.

الشيخ: وهذا معروف، المطلوب غير المكروه، المطلوب: إما واجب، وإما مندوب. والمنهي عنه: إما محرم، وإما مكروه. فالمنهي عنه مطلوب تركه، والمأمور به مأمور مطلوب فعله، فإن كان جازمًا فهذا لا بدَّ منه، يكون واجبًا، وإن كان بالخيار صار مندوبًا.

وإذا قلنا: إنَّ المباح ليس مأمورًا، فالمنهي عنه أولى.

فصل

القسم الخامس: الحرام

الحرام ضدّ الواجب، فيستحيل أن يكون الشيءُ الواحد واجبًا حرامًا، طاعةً معصيةً من وجهٍ واحدٍ، إلا أنَّ الواحد بالجنس ينقسم إلى: واحدٍ بالنوع، وإلى واحدٍ بالعين.

والواحد بالنوع يجوز أن ينقسم إلى: واجبٍ وحرامٍ، ويكون انقسامُه بالإضافة؛ لأنَّ اختلافَ الإضافات والصِّفات تُوجب المغايرة، والمغايرة تكون تارةً بالنوع، وتارةً تكون باختلافٍ في الوصف: كالسجود لله تعالى واجب، والسّجود للصنم حرام، والسّجود لله تعالى غير السّجود للصنم، قال الله تعالى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37].

الشيخ: والحرام: هو ما نهى الله عنه، وشدد فيه، وألزم بتركه، يُقال له: حرام، فلا يجوز فعله. والواجب: ما ألزم الله فعله. وهما ضدّان: هذا يجب فعله، وهذا يجب تركه، والحرام يتفاوت؛ بعضه أشدّ من بعضٍ، الشرك أعظم الحرام، ثم ما دون الشرك من المعاصي مُتفاوتة.

والإجماع منعقد على أنَّ الساجد للصنم عاصٍ بنفس السجود والقصد جميعًا، والساجد لله مُطيع بهما جميعًا.

الشيخ: هذا يتعلق بالفعل نفسه: السجود لله عبادة وقُربة وطاعة، والسجود للصنم شرك بالله ومعصية، وهكذا دعاء الله عبادة، ودعاء الصنم شرك بالله، وهكذا قراءة القرآن عبادة، وقراءة ما حرَّم الله معصية.

فالحاصل أنَّ الأمور تختلف بحسب الأوامر والنَّواهي، وبحسب النيات والمقاصد.

س: ................؟

ج: بلى مباح، الله جلَّ وعلا أباحها لعباده، تكليفهم باعتقاد أنها مباح، ليس لهم أن يعتقدوا خلاف ذلك، هو مُكلَّف من حيث الاعتقاد، ليس له أن يعتقد فيما أباح الله أنه محرم، أو أنه واجب، بل يعتقد ما شرعه الله فيه .....

وأما الواحد بالعين: كالصلاة في الدار المغصوبة من عمرو، فحركته في الدار واحدٌ بعينه.

واختلفت الروايةُ في صحتها:

فرُوي أنها لا تصحّ؛ إذ يُؤدي إلى أن تكون العينُ الواحدةُ من الأفعال حرامًا واجبًا، وهو مُتناقص؛ فإنَّ فعله في الدار وهو: الكون في الدار، وركوعه وسجوده وقيامه وقعوده، وأفعال اختيارية هو مُعاقَب عليها، منهي عنها، فكيف يكون مُتقربًا بما هو معاقَب عليه، مُطيعًا بما هو عاصٍ به؟!

ورُوي أن الصلاة تصحّ؛ لأنَّ هذا الفعل الواحد له وجهان مُتغايران، هو مطلوب من أحدهما، مكروه من الآخر، فليس ذلك مُحالًا، إنما المحال أن يكون مطلوبًا من الوجه الذي يُكره منه. ففعله من حيث إنه صلاة مطلوب، مكروه من حيث إنه غصب. والصلاة معقولة بدون الغصب، والغصب معقول بدون الصلاة، وقد اجتمع الوجهان المتغايران.

فنظيره أن يقول السيدُ لعبده: خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار، فإن امتثلت أعتقتك، وإن ارتكبت النَّهي عاقبتك، فخاط الثواب في الدار، حسن من السيد عتقه وعقوبته.

ولو رمى سهمًا إلى كافرٍ فمرق منه إلى مسلمٍ لاستحقَّ سَلَب الكافر، ولزمته ديةُ المسلم؛ لتضمن الفعل الواحد أمرين مختلفين.

ومَن اختار الرواية الأولى قال: ارتكاب النَّهي متى أخلَّ بشرط العبادة أفسدها بالإجماع، كما لو نهى المحدِث عن الصلاة، فخالف وصلَّى، ونية التَّقرب بالصلاة شرط، والتَّقرب بالمعصية محال، فكيف يمكن التَّقرب به، وقيامه وقعوده في الدار فعل هو عاصٍ به؟! فكيف يكون مُتقربًا بما هو عاصٍ به؟! وهذا محال.

وقد غلط مَن زعم أنَّ في هذه المسألة إجماعًا؛ لأنَّ السلف لم يكونوا يأمرون مَن تاب من الظلمة بقضاء الصَّلوات في أماكن الغصب، إن هذا جهل بحقيقة الإجماع، فإنَّ حقيقته: الاتفاق من علماء أهل العصر، وعدم النَّقل عنهم ليس بنقل الاتِّفاق.

ولو نُقل عنهم أنهم سكتوا فيحتاج إلى أنه اشتهر فيما بينهم كلهم: القول بنفي وجوب القضاء، فلم يُنكروه، فيكون حينئذٍ فيه اختلاف: هل هو إجماع أم لا؟

على ما سنذكره في موضعه.

الشيخ: والصواب أنَّ الصلاة لا تُقضى إذا صلَّى في محل غصبٍ؛ لأن النهي متوجه في الغصب إلى استحلاله للأرض وأخذها بغير حقِّها، والصلاة مُوجه إليها الأمر بها وأداؤها، فالصلاة لها جانب، والغصب له جانب، فالأرض المغصوبة لا يُصلي فيها، ولا يُقيم فيها، ولا يطبخ فيها، ولا يأكل فيها، ولا يجلس فيها، محرم كله ممنوع، فليست العلةُ داخلةً في الصلاة؛ لأنَّ العلة هي الغصب، فالداعي للصلاة مستقل، والنهي عن دخول الدار مستقل، فصحت الصلاة، ولا يُؤمَر بإعادتها، وإن كان آثمًا بدخوله الأرض المغصوبة، هذا هو الصواب، فهو آثم بدخول الأرض المغصوبة، ولكن صلاته فيها صحيحة، لا يُؤمر بإعادتها.

وهكذا لو توضأ فيها وضوؤه صحيح، وهكذا لو تصدق على أحدٍ فيها فصدقته صحيحة، وهو منهي عن دخوله الدار المغصوبة، أو الأرض المغصوبة؛ لأنَّ هذا من جهةٍ، وهذا من جهةٍ، فالأحكام مختلفة.

س: ...............؟

ج: مسألة خلاف.

 

فصل

مُصححو الصلاة في الدار المغصوبة قسموا النهي ثلاثة أقسام:

الأول: ما يرجع إلى ذات المنهي عنه، فيُضاد وجوبه، كقوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء:32].

وإلى ما لا يرجع إلى ذات المنهي عنه، فلا يُضاد وجوبه، مثل قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ [الإسراء:78]، مع قول النبي ﷺ: لا تلبسوا الحرير، ولم يتعرض في النهي للصلاة، فإذا صلَّى في ثوبٍ حريرٍ أتى بالمطلوب والمكروه جميعًا.

القسم الثالث: أن يعود النَّهي إلى المنهي عنه دون أصله: كقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة:43]، مع قوله تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، وقوله : دعي الصلاةَ أيام أقرائك، ونهيه عن الصلاة في المقبرة، وقارعة الطريق، والأماكن السبعة. ونهيه عنها في الأوقات الخمسة.

فأبو حنيفة يُسمي المأتيَّ به على هذا الوجه فاسدًا، وغير باطل.

وعندنا أنَّ هذا من القسم الأول، وهو قول الشافعي، فإنَّ المكروه الصلاة في زمن الحيض، لا الوقوع في الحيض مع بقاء الصلاة مطلوبة، إذ ليس الوقوعُ في الوقت شيئًا مُنفصلًا عن الإيقاع؛ ولذلك بطلت الصلاةُ في هذه المواضع كلها.

فصل

الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى، فأما الصيغة فلا؛ فإنَّ قوله "قم" غير قوله: "لا تقعد". وإنما النظر في المعنى، وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود أو لا؟

فقالت المعتزلةُ: ليس بنهيٍ عن ضده، لا بمعنى أنه عينه، ولا يتضمنه، ولا يُلازمه؛ إذ يتصور أن يأمر بالشيء مَن هو ذاهل عن ضدِّه، فكيف يكون طالبًا لما هو ذاهلٌ عنه؟ فإن لم يكن ذاهلًا عنه فلا يكون طالبًا له إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك ضدِّه، فيكون تركه ذريعةً بحكم الضَّرورة، لا بحكم ارتباط الطلب به، حتى لو تصور مثلًا الجمع بين الضّدين ففعل، كان مُمتثلًا، فيكون من قبيل: ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب، غير مأمورٍ به.

وقال قومٌ: فعل الضدّ هو عين ترك ضدّه الآخر، فالسكون عين ترك الحركة، وشغل الجوهر حيزًا عين تفريغه للحيز المنتقل عنه، والبُعد من المغرب هو عين القرب من المشرق، وهو بالإضافة إلى المشرق قرب، وإلى المغرب بُعد. فإذًا طلب السُّكون بالإضافة إليه أمر، وإلى الحركة نهي.

وفي الجملة: إنا لا نعتبر في الأمر الإرادة، بل المأمور ما اقتضى الأمرُ امتثاله، والأمر يقتضي ترك الضدّ ضرورة أنه لا يتحقق الامتثالُ إلا به، فيكون مأمورًا به، والله أعلم.

فهذه أقسام أحكام التَّكليف، ولنبين الآن التكليف ما هو؟ وشروطه.

الشيخ: عليه حاشية؟

الطالب: في حاشية لابن بدران.

الشيخ: الصواب أنَّ الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه: الأمر بالصلاة نهيٌ عن تركها، والأمر بالصيام نهيٌ عن ترك الصيام، والأمر بإكرام الوالد وإكرام السلطان نهيٌ عن ضدِّ ذلك، والأمر ببرِّ الوالدين نهيٌ عن العقوق، والأمر بصلة الرحم نهيٌ عن القطيعة، وهكذا هو الصواب: الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه.

الطالب: حاشية ابن بدران.

الشيخ: أيش قال؟

الطالب: يقول: اعلم أولًا المعلومات كلها أربعة أقسام:

نقيضان: وهما اللَّذان لا يجتمعان، ولا يرتفعان: كوجود زيد وعدمه.

وضدّان: وهما اللَّذان لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما، مع الخلاف في الحقيقة: كالسواد والبياض.

وخلافان: وهما اللَّذان يجتمعان ويرتفعان: كالحركة والبياض.

ومِثلان: وهما اللَّذان لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما مع تساوي الحقيقة: كالبياض والسواد.

إذا عُلم ذلك فإنَّ مبنى المسألة أنَّ القائل لآخر: تحرك، أمرٌ له بالحركة قطعًا.

الشيخ: يكفي، يكفي، بركة.

فصل

التَّكليف في اللغة: إلزام ما فيه كُلفة. أي: مشقة.

قالت الخنساءُ في صخرٍ:

يُكلفه القوم ما نابهم وإن كان أصغرهم مولدًا

وهو في الشريعة: الخطاب بأمرٍ أو نهيٍ.

وله شروط، بعضها يرجع إلى المكلَّف، وبعضها يرجع إلى نفس المكلَّف به:

أما ما يرجع إلى المكلَّف: فهو أن يكون عاقلًا يفهم الخطاب، فأما الصبي والمجنون فغير مُكلَّفَين؛ لأنَّ مقتضى التَّكليف: الطاعة والامتثال، ولا تمكن إلا بقصد الامتثال، وشرط القصد: العلم بالمقصود، والفهم للتَّكليف؛ إذ مَن لا يفهم كيف يُقال له: افهم؟

الشيخ: لأنَّ التَّكليف أمرٌ بالشيء الذي فيه كُلفة ومشقة، فلا يُخاطب به إلا مَن كُلف، مَن بلغ الحلم، وكان عاقلًا، ليس بمجنونٍ، هؤلاء هم أهل التَّكليف، أما الصغار فليسوا من أهل التَّكليف، ولكن يُؤمرون بالأعمال الطيبة؛ حتى يعتادوها، كما يُؤمر الصبي بالصلاة لسبعٍ، ويُضرب عليها لعشرٍ، لكن ليس من أهل التَّكليف حتى يبلغ، والتَّكليف: الأوامر والنَّواهي، في الشرع المكلَّف هو المأمور والمنهي، التكاليف في الشرع هي الأوامر والنَّواهي.

إذ مَن لا يفهم كيف يُقال له افهم؟

ومَن لا يسمع الصوتَ كالجماد كيف يُكلم؟ وإن سمع ولم يفهم كالبهيمة، فهو كمَن لا يسمع.

ومَن يفهم فهمًا ما، لكنه لا يفهم ولا يثبت: كالمجنون وغير المميز، فخطابه ممكن، لكن اقتضاء الامتثال منه -مع أنه لا يصحّ منه قصدٌ صحيحٌ- غير ممكنٍ.

ووجوب الزكاة والغرامات في مال الصبي والمجنون ليس تكليفًا لهما؛ إذ يستحيل التَّكليف بفعل الغير. وإنما معناه: أنَّ الائتلاف وملك النِّصاب سببٌ لثبوت هذه الحقوق في ذمَّتهما، بمعنى أنه سببٌ لخطاب الولي بالأداء في الحال، وسببٌ لخطاب الصبي بعد البلوغ، وهذا ممكن، إنما المحال أن يُقال لمن لا يفهم: افهم.

وإنما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة بالإنسانية التي بها يستعدّ لقبول قوة العقل الذي به يفهم التَّكليف في ثاني الحال، والبهيمة ليس لها أهلية فهم الخطاب، لا بالقوة، ولا بالفعل، فلم يتهيأ ثبوت الحكم في ذمَّتها.

والشرط لا بدَّ أن يكون حاصلًا أو ممكن الحصول على القُرب، فنقول: هو موجود بالقوة.

كما أن شرط الملكية: الإنسانية، وشرط الإنسانية: الحياة، والنُّطفة يثبت لها الملك مع عدم الحياة التي هي شرط الإنسانية؛ لوجودها بالقوة.

فكذا الصبي مصيره إلى العقل، فصلح لثبوت الحكم في ذمَّته، ولم يصلح للتَّكليف في الحال.

فأما الصبي المميز فتكليفه ممكن؛ لأنه يفهم ذلك، إلا أنَّ الشرع حطَّ التكليف عنه تخفيفًا؛ ليظهر خفي التدريج، إذ لا يمكن الوقوف بغتةً على الحدِّ الذي يفهم به خطاب الشارع، ويعلم الرسول والمرسِل، فنصب له علامةً ظاهرةً. وقد رُوي أنه مُكلَّف.

فصل

والناسي والنَّائم غير مُكلَّفٍ؛ فكيف يُقال له: افهم؟

وكذا السَّكران الذي لا يعقل.

وثبوت أحكام أفعالهم: من الغرامات، ونفوذ طلاق السكران، من قبيل ربط الأحكام بالأسباب، وذلك مما لا يُنكر.

فأما قوله تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] فقد قيل: هذا كان في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر، والمراد منه: المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة؛ كيلا يأتي عليه وقتُ الصلاة وهو سكران، كما يُقال: لا تقرب التَّهجد وأنت شبعان. معناه: لا تشبع فيثقل عليك التَّهجد.

وقال الله تعالى: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] أي: الزموا الإسلامَ ولا تُفارقوه، حتى إذا جاءكم الموتُ أتاكم وأنتم مسلمون.

وقيل: هو خطاب لمن وجد منه مبادئ النشاط والطرب ولم يزل عقله؛ لأنه إذا ظهر بالبرهان استحالة توجه الخطاب وجب تأويل الآية.

الشيخ: الحاصل من هذا أنَّ الخطابات إنما تُوجه للعاقل الذي يفهم الخطاب ويعقل، هذا هو الذي يُوجه له الخطاب، وأما مَن لا يعقل: كالصبي الصغير والمجنون والنائم والناسي، فلا، لكن الصبي إذا بلغ سبعًا صار صالحًا، يعني: يفهم بعض الخطاب، فأُمر أمرًا ليس إيجابيًّا، أمرًا تدريجيًّا إلى أن يبلغ، فيُؤمر بما ينفعه حتى يتدرج في ذلك إلى أن يبلغ ويستقلّ في حقِّه الوجوب.

بخلاف المجنون وذاهب العقل: فلا حيلةَ فيه، إلا ما كان من باب ربط الأسباب بمُسبباتها، فهذا له شأنٌ آخر، فإذا أتلف الصغيرُ أو المجنونُ أموالًا للغير أو السَّكران أُخذ بإتلافه، من باب ربط المسببات بأسبابها، فيُؤخذ منه غرامة ما أتلف.

وهكذا ما يتعلق بالنَّائم والنَّاسي، ما دام في النوم والنِّسيان لا يترتب عليه شيء، لكن بعد استيقاظه وبعد ذكره يُطالب بما يجب عليه، لكن لما كان له فعلٌ، فلو ضرب برجله أو بيده حتى أهلك أحدًا غرم، ولكن من باب قتل الخطإ، وهكذا الناسي لو أتلف مالَ إنسانٍ يحسب ماله، ثم تبين ما هو بماله، مال غيره، ناسٍ؛ غرم، من باب ربط الأمور بأسبابها.

س: هل يُذكر النَّاسي بالتَّدريج؟

ج: نعم يُذكر: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، شفته يأكل ويشرب وهو صائم قل له: أنت صائم، انتبه. أو يستعمل مالَ غيره يحسب أنه ماله قل له: هذا ما بحقّك.

س: طلاق السَّكران؟

ج: السَّكران الصواب أنه لا يقع منه إذا ثبت أنه لم يعقل؛ لأنَّ شرط الطلاق أن يعقله الزوجُ، والصواب أنه إذا طلَّق وهو لا يعقل ما يقع.

س: ...............؟

ج: ما هو مُكلَّف بشيءٍ، إنما مأمور فقط، يُؤمر حتى يعتاد ذلك، يستقيم، فإذا بلغ كُلِّف بتكليف الواجبات، ولكنه يُؤمر بالخير حتى يعتاد الخير، بعضُ أهل العلم يرى أنه لو أتى بموجب الردة أنه يكفر. وبعضهم يقول: لا؛ رُفع القلمُ عن ثلاثٍ، لا يكفر بذلك، ولا يأثم بالمعصية، لكن على وليِّه أن يُعلمه ويُوجهه إلى الخير، ويأمره بالخير، وينهاه عن الشرِّ حتى يعتاده قبل البلوغ.

 

فصل

فأما المكره فيدخل تحت التَّكليف؛ لأنه يفهم ويسمع ويقدر على تحقيق ما أُمِر به وتركه.

قالت المعتزلةُ: ذلك مُحال؛ لأنه لا يصحّ منه فعل غير ما أُكره عليه، ولا يبقى له خيرة.

وهذا غير صحيحٍ؛ فإنه قادر على الفعل وتركه؛ ولهذا يجب عليه ترك القتل إذا أُكره على قتل مسلمٍ، ويأثم بفعله.

ويجوز أن يُكلف ما هو على وفق الإكراه: كإكراه الكافر على الإسلام، وتارك الصلاة على فعلها، فإذا فعلها قيل: أدَّى ما كُلِّف، لكن إنما تكون منه طاعة إذا كان الانبعاثُ بباعث الأمر، دون باعث الإكراه، فإن كان إقدامُه للخلاص من سيف المكرِه لم تكن طاعة، ولا يكون مُجيبًا داعي الشَّرع. وإن كان يفعلها ممتثلًا لأمر الشَّارع، بحيث كان يفعلها لولا الإكراه فلا يمتنع وقوعها طاعةً، وإن وُجدت صورة التَّخويف.

الشيخ: هذا الذي قاله المؤلفُ فيه بعض الغموض، والصواب أنَّ المكره فيه تفصيل مثلما أشار، لكن التفصيل أوضح من هذا، فالمكره على ما حرَّم الله فيه تفصيل: فإذا أُكره وقلبه مُطمئنٌّ بالإيمان لم يُؤاخذ بشيءٍ، فإذا أُكره على أمرٍ، أو أُكره على شرب مسكرٍ، أو على غير ذلك مما حرَّم الله، أو أكل خنزير، أو أشباه ذلك؛ فلا يُؤخذ بذلك. أو أُكره على الكفر الذي هو أعظم: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل:106]، فليس عليه شيء، إذا ضُرب حتى يتكلم بالكفر، أو حتى يشرب الخمر، أو ما أشبه ذلك؛ ليس عليه شيء، إذا كان فعلُه إنما هو من أجل الإكراه فليس عليه شيء. أما إذا أُكره لضرب أحدٍ، أو قتل أحدٍ، لا، لا يُعذر، لا يخلص نفسه بظلم غيره، إذا قال له: تقتل فلانًا أو ضربناك. لا، ما يقتل فلانًا، لا يُخلص نفسه بظلم غيره، هذا إكراه، ما يسوغ له ظلم الآخرين. أما إكراهٌ لا يترتب عليه ظلم الآخرين مثلما تقدم: على أكل ميتةٍ، على شرب خمرٍ، على ترك الصلاة في وقتٍ مُعينٍ، هذا الإثم على مَن أكرهه، وليس عليه شيء، لكن يفعل ما استطاع بعد ذلك، فإذا أُكره ومُنع منها في وقتها قضاها بعد ذلك، وإذا أُكره على الخمر وشربه وأسقيه لم يضرّه ذلك، أو أكل من الميتة مُكرهًا لم يضرّه ذلك، إذا كان فعله من أجل الإكراه، من أجل الظلم، لا أنه مُستحلٌّ لذلك.

س: هل كل مَن أنكر على الأُمراء بلسانه يُعدُّ من الخوارج؟

ج: لا، ما يُعدُّ من الخوارج، لكن يُعلم، يُعلم الأدب.

فصل

واختلفت الرواية: هل الكفَّار مخاطبون بفروع الإسلام؟

فرُوي أنهم لا يُخاطبون منها بغير النَّواهي؛ إذ لا معنى لوجوبها مع استحالة فعلها في الكفر، وانتفاء قضائها في الإسلام، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله؟

وهذا قول أكثر أصحاب الرأي.

ورُوي أنهم مُخاطبون بها، وهو قول الشافعي؛ لأنه جائز عقلًا، وقد قام دليلُه شرعًا.

أما الجواز العقلي: فإنه لا يمتنع أن يقول الشارعُ: بُني الإسلامُ على خمسٍ، وأنتم مأمورون بجميعها، وبتقديم الشَّهادتين من جملتها، فتكون الشَّهادتان مأمورًا بهما لنفسهما؛ ولكونهما شرطًا لغيرهما: كالمحدِث يُؤمر بالصَّلاة، فإن منع مانعٌ الحكم في المحدِث وقال: إنما يُؤمر بالوضوء، فإذا توضأ أُمر بالصلاة؛ إذ لا يتصور الأمر بالصلاة مع الحدث؛ لعجزه عن الامتثال.

قلنا: فإذًا لو ترك الصلاةَ طول عمره لا يُعاقَب على تركها، وهو خلاف الإجماع.

وينبغي أن لا يصحّ أمره بالصلاة بعد الوضوء، بل بالتكبيرة الأولى؛ لاشتراط تقديمها.

وأما الدليل الشرعي: فعموم قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، وإخبار الله سبحانه عن المشركين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42- 43]، ذكر هذا في معرض التَّصديق لهم؛ تحذيرًا من فعلهم، ولو كان كذبًا لم يحصل التَّحذير منه، كيف وقد عطف عليه: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:46]؟ كيف يعطف ذلك على ما لا عذابَ عليه؟

وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان:68] الآية نصٌّ في مضاعفة العذاب في حقِّ مَن جمع بين المحظورات.

وفائدة الوجوب: أنه لو مات عُوقب على تركه، وإن أسلم سقط عنه؛ لأنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، ولا يبعد النَّسخ قبل التَّمكن من الامتثال، فكيف يبعد سقوطُ الوجوب بالإسلام؟

الشيخ: والصواب أنهم مُخاطبون بفروع الشريعة، ويُعاقبون عليها يوم القيامة، لكن لا تُقبل منهم إلا بشروطها، وإلا فهم مُخاطبون: مأمورون بالتوحيد، مأمورون بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، وإذا ماتوا عُوقبوا على ذلك؛ لعدم امتثالهم، لكن لا تُقبل منهم صلاة ولا غيرها حتى يُسلموا، حتى يأتوا بشرطها وهو التوحيد والإيمان، كما أنهم مأمورون بالصلاة، لكن لا تُقبل منهم إلا إذا أدّوا شرائطها، فهم مأمورون بالصلاة يعني: وبشرائطها، فالذي أمرهم بالصلاة أمرهم بالوضوء، وأمرهم بجميع ما يتعلق بالصلاة، وهكذا الزكاة، وهكذا الصوم، وهكذا الحجّ، وهكذا غير ذلك، هم مأمورون بها بشرائطها، كما أنهم منهيُّون عمَّا حرم الله، فهم مُخاطبون بهذا وهذا، لكن إن أسلموا واستقاموا غفر الله لهم ما سلف، إذا ماتوا على الإسلام يغفر لهم ما قد سلف، وإن أسلموا وأتوا المعاصي بعد الإسلام عُوقبوا بما أتوا من المعاصي إذا شاء الله، وإن شاء عفا عنهم .

والمقصود أنهم مُخاطبون، يستحقون العقابَ؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42- 46]، فذكروا أعمالهم الخبيثة التي عُوقبوا عليها.

 

فصل

فأما الشروط المعتبرة للفعل المكلَّف به فثلاثة:

أحدها: أن يكون معلومًا للمأمور به؛ حتى يتصور قصده إليه، وأن يكون معلومًا كونه مأمورًا به من جهة الله تعالى؛ حتى يتصور منه قصد الطاعة والامتثال، وهذا يختصّ بما يجب به قصد الطاعة والتَّقرب.

الثاني: أن يكون معدومًا، أما الموجود فلا يمكن إيجاده، فيستحيل الأمرُ به.

الثالث: أن يكون ممكنًا، فإن كان محالًا -كالجمع بين الضّدين ونحوه- لم يجز الأمرُ به.

وقال قومٌ: يجوز ذلك، وبدليل قوله تعالى: وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]، والمحال لا يُسأل دفعه؛ ولأنَّ الله تعالى علم أنَّ أبا جهل لا يُؤمن، وقد أمره بالإيمان وكلَّفه إياه؛ ولأنَّ تكليف المحال لا يستحيل لصيغته، إذ ليس يستحيل أن يقول: كُونُوا قِرَدَةً [البقرة:65]، كُونُوا حِجَارَةً [الإسراء:50].

وإن أُحيل طلب المستحيل للمفسدة ومناقضة الحكمة، فإنَّ بناء الأمور على ذلك في حقِّ الله تعالى مُحالٌ؛ إذ لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه الأصلح. ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد؛ فالسَّفه من المخلوق ممكن، فلا يستحيل ذلك أيضًا.

ووجه استحالته: قوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام:152].

ولأنَّ الأمر: استدعاء وطلب، والطلب يستدعي مطلوبًا، وينبغي أن يكون مفهومًا بالاتفاق، ولو قال: "أبجد هوّز" لم يكن ذلك تكليفًا؛ لعدم عقل معناه. ولو عُلم الأمرُ دون المأمور به لم يكن تكليفًا، إذ التَّكليف: الخطاب بما فيه كُلفة، وما لا يفهمه المخاطب ليس بخطابٍ، وإنما اشترط فهمه ليتصور منه الطاعة، إذ كان الأمرُ: استدعاء الطاعة، فإن لم يكن استدعاءً لم يكن أمرًا، والمحال لا يتصور الطاعة فيه، فلا يتصور استدعاؤه، كما يستحيل من العاقل طلب الخياطة من الشجر.

ولأنَّ الأشياء لها وجود في الأذهان قبل وجودها في الأعيان، وإنما يتوجه إليه الأمر بعد حصوله في العقل، والمستحيل لا وجودَ له في العقل؛ فيمتنع طلبه.

الشيخ: هذه عبارات المؤلف، يكفي عنها شيءٌ واحدٌ؛ أن يقال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، الله جلَّ وعلا أخبر أنه لا يُكلف نفسًا إلا وسعها، فالتكليف إنما يكون للمُكلَّفين بما يستطيعون، وهذا من تمام عدله جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233]، فهو سبحانه يُكلف من الطاعات ومن الأعمال ما يُطيقه العباد، ويمنعهم مما يستطيعون تركه، ولا يُكلفهم ما لا يُطيقون، هو أجلّ وأعظم وأعدل وأحكم سبحانه من أن يُكلف عباده ما لا يُطيقون جلَّ وعلا، فلا يُكلفهم أن يحملوا الجبالَ، ولا يُكلفهم أن يشربوا مياه البحار، ولا يُكلفهم أن يعملوا ما لا يستطيعون: لا من صلاةٍ، ولا من غيرها، بل يُكلفهم ما يُطيقون سبحانه وتعالى؛ ولهذا جعل تكليفهم بالصلاة بدل خمسين: خمس صلوات، لما كانت خمسون لا تُطاق كلَّفهم جلَّ وعلا خمس صلواتٍ، وهكذا الزكاة جعلها حقًّا ماليًّا في السنة، وهكذا الصيام سامحهم جلَّ وعلا ورفق بهم جلَّ وعلا.

س: بعض أهل العلم يقول: ما تُسمَّى شرائع الإسلام: تكاليف؟

ج: تُسمَّى: تكاليف، كُلِّفوا بها، تكاليف، لكنها بحمد الله مُستطاعة، ما فيها كُلفة.

ولأننا اشترطنا أن يكون معدومًا في الأعيان؛ ليتصور الطاعة فيه، فلذلك يشترط أن يكون موجودًا في الأذهان؛ ليتصور إيجاده على وفقه.

ولأننا اشترطنا للتَّكليف كونه معلومًا ومعدومًا، وكون المكلَّف عاقلًا فاهمًا؛ لاستحالة الامتثال بدونهما، فكون الشيء ممكنًا في نفسه أولى أن يكون شرطًا.

وقوله تعالى: وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] فقد قيل: المراد به: ما يثقل ويشقّ، بحيث يكاد يُفضي إلى إهلاكه، كقوله تعالى: اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ [النساء:66]، وكذلك قال النبي ﷺ في المماليك: لا تُكلِّفوهم ما لا يطيقون.

وقوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً [البقرة:65] تكون إظهارًا للقُدرة.

وقوله تعالى: كُونُوا حِجَارَةً [الإسراء:50] تعجيز، وليس شيءٌ من ذلك أمرًا.

وتكليف أبي جهلٍ الإيمان غير محالٍ؛ فإنَّ الأدلة منصوبة، والعقل حاضر، وآلته تامَّة. ولكن علم الله تعالى منه أنه يترك ما يقدر عليه حسدًا وعنادًا، والعلم يتبع المعلوم ولا يُغيره؛ ولذلك نقول: الله قادر على أن يُقيم القيامة في وقتنا، وإن أخبر أنه لا يُقيمها الآن، وخلاف خبره محال، لكن استحالته لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تُؤثر فيه.

س: ...............؟

ج: الموجود ما يُكلَّف به، يُكلَّف بإيجاد المعدوم.

س: ..............؟

ج: محل نظرٍ.

س: الدعاء للميت تُرفع اليدانِ له؟

ج: ذكرت عائشةُ في "صحيح مسلم": أنَّ النبي ﷺ زار القبور، ورفع يديه ودعا. فلو زارها ودعا ورفع ما في شيء، هذا ثبت في "صحيح مسلم" عن عائشة، قالت: أنَّ النبي زار القبورَ ليلًا ورفع يديه يدعو لهم.