وَلِهَذَا كَانَتِ الذُّنُوبُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أحدها: مَا فِيهِ ظلم للنَّاس: كالظلم بِأخذ الْأَمْوَال، وَمنع الْحُقُوق، والحسد، وَنَحْو ذَلِك.
وَالثَّانِي: مَا فِيهِ ظلم للنَّفس فَقَط: كشرب الْخمر، وَالزِّنَا إذا لم يَتَعَدَّ ضررهما.
وَالثَّالِث: مَا يجْتَمع فِيهِ الْأَمْرَانِ، مثل: أن يَأْخُذ الحاكمُ والأميرُ أَمْوَال النَّاس ليزني بهَا، وَيشْرب بهَا الْخمر، ويرتكب الفواحش، وَمثل: أن يَزْنِي بِمَن يرفعهُ على النَّاس بذلك السَّبَب ويضرّهم، كَمَا يَقع مِمَّن يُحبّ بعض النِّسَاء وَالصِّبيان.
وَقد قَالَ الله تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
وأمور النَّاس إنما تستقيم فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعَدْل الَّذِي قد يكون فِيهِ الِاشْتِرَاك فِي بعض أنواع الْإِثْم، أكثر مِمَّا تستقيم مَعَ الظُّلم فِي الْحُقُوق وإن لم تَشْتَرك فِي إثمٍ؛ وَلِهَذَا قيل: إنَّ الله يُقيم الدولةَ العادلةَ وإن كَانَت كَافِرَةً، وَلَا يُقيم الظالمةَ وإن كَانَت مسلمةً.
الشيخ: وهذا فيه الحثُّ على العدل والاستقامة وإنصاف الناس، والحذر من الذنوب كلها، وأنَّ أهل الحسبة يُنكرون الذنوبَ كلها، سواء كانت مُتعديةً أو قاصرةً، فالواجب إنكار ما نهى الله عنه، سواء كان الذنبُ قاصرًا عليه، أو على غيره، فالواجب إنكار الذنوب كلها: من الظلم والمعاصي التي تخصّه، والمعاصي التي تعمّ غيره، فالمعاصي التي تخصّه: كشرب الخمر -والعياذ بالله- وما يضرّه هو، وما يتعدى على غيره: كالغيبة والنَّميمة وظلم الناس، وما قد يكون مُشتركًا: كالقمار والأعمال التي يشترك فيها الناسُ من المعاصي، فإنَّ الواجب إنكارها، والسرقة؛ لأنها ظلم.
المقصود أنَّ جميع المعاصي سواء كانت قاصرةً عليه أو تتعدَّى إلى غيره، فكلها يجب إنكارها من أهل الحسبة.
الشيخ: نعم، مع الظلم والفساد في الأرض تعمّ العقوبات، ولا تستقيم الدولة على ذلك، وإنما تستقيم على العدل، دولة عادلة وإن كانت كافرةً تستقيم معها أحوال رعيتها، ودولة ظالمة وإن كانت مسلمةً تختلُّ بها الأمور، ولا تنتظم بها الأمور، وقد تحصل الشَّحناء والعداوة والفتن، نسأل الله العافية.
وَقد قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَ ذَنْبٌ أسرع عُقُوبَةً من الْبَغْي وَقَطِيعَة الرَّحِم، فالباغي يُصرع فِي الدُّنْيَا، وإن كَانَ مغفورًا لَهُ، مرحومًا فِي الآخرة؛ وَذَلِكَ أنَّ الْعَدْل نظام كل شَيْءٍ، فَإِذا أُقيم أمْرُ الدُّنْيَا بِالْعَدْلِ قَامَت، وَإِن لم يكن لصَاحِبهَا فِي الآخرة من خلاقٍ، وَمَتى لم تقم بِالْعَدْلِ لم تقم وإن كَانَ لصَاحِبهَا من الإيمان مَا يَجْزِي بِهِ فِي الآخرة.
فَالنَّفْس فِيهَا دَاعِي الظُّلم لغَيْرهَا: بالعلو عَلَيْهِ، والْحَسَد لَهُ، والتَّعدي عَلَيْهِ فِي حَقِّه، وفيهَا دَاعِي الظُّلم لنَفسهَا بتناول الشَّهَوَات القبيحة: كَالزِّنَا، وَأكل الْخَبَائِث، فَهِيَ قد تظلم مَن لَا يظلمها، وتُؤثر هَذِه الشَّهَوَات وإن لم يَفْعَلهَا غَيرهَا، فَإِذا رَأَتْ نُظراءها قد ظلمُوا، أو تناولوا هَذِه الشَّهَوَات صَار دَاعِي هَذِه الشَّهَوَات أو الظُّلم فِيهَا أعظم بِكَثِيرٍ، وَقد يصير ويهيج ذَلِك لَهَا من بُغض ذَلِك الْغَيْر وحسده، وَطلب عِقَابه، وَزَوَال الْخَيْر عَنهُ، مَا لم يكن فِيهَا قبل ذَلِك، وَلها حُجَّة عِنْد نَفسهَا من جِهَة الْعقل وَالدِّين؛ بِكَوْن ذَلِك الْغَيْر قد ظلم نَفسه وَالْمُسْلِمين، وأنَّ أمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيَه عَنِ الْمُنكر وَاجِبٌ، وَالْجِهَاد على ذَلِك من الدِّين.
وَالنَّاس هُنَا ثَلَاثَة أقسام:
قومٌ لَا يقومُونَ إِلَّا فِي أهواء نُفُوسهم: فَلَا يرضون إلا بِمَا يُعطونه، وَلَا يغضبون إلا لما يُحرمونه، فَإِذا أُعطي أحدهم مَا يشتهيه من الشَّهَوَات الْحَلَال أو الْحَرَام زَالَ غَضَبُه، وَحصل رِضَاهُ، وَصَارَ الْأَمرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَه مُنْكرًا يَنْهَى عَنهُ، ويُعاقِب عَلَيْهِ، ويذمّ صَاحبَه ويغضب عَلَيْهِ مرضيًّا عَنهُ، وَصَارَ فَاعِلًا لَهُ، وشريكًا فِيهِ، ومُعاونًا عَلَيْهِ.
الشيخ: هذا متَّبعٌ لهواه، يغضب لهواه، ويرضى لهواه، هذا غالب الخلق، نسأل الله العافية.
وَصَارَ الْأَمرُ الَّذِي كَانَ عِنْدَه مُنْكرًا يَنْهَى عَنهُ، ويُعاقِب عَلَيْهِ، ويذمّ صَاحبَه ويغضب عَلَيْهِ مرضيًّا عَنهُ، وَصَارَ فَاعِلًا لَهُ، وشريكًا فِيهِ، ومُعاونًا عَلَيْهِ، ومُعاديًا لمن يَنْهَى عَنهُ ويُنكر عَلَيْهِ.
وَهَذَا غَالبٌ فِي بني آدم، يرى الإنسانُ وَيسمع من ذَلِك مَا لَا يُحْصِيه إلا الله، وَسَببه أنَّ الإنسان ظلوم جهول؛ فَلذَلِك لَا يعدل، بل رُبمَا كَانَ ظَالِمًا فِي الْحَالين: يرى قومًا يُنكرُونَ على الحاكم والأمير ظلمَه لرعيته واعتداءه عَلَيْهِم، فيرضى أولئك المنكرون بِبَعْض الشَّيْء من منصبٍ أوْ مَالٍ فينقلبون أعوانًا لَهُ، وأحسن أحوالهم أن يسكنوا عَن الإنكار عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ تراهم يُنكِرُونَ على مَن يشرب الْخمر ويزني وَيسمع الملاهي؛ حَتَّى يُدخلُوا أحدَهم مَعَهم فِي ذَلِك، أَوْ يُرضوه بِبَعْض ذَلِك، فتراه حِينَئِذٍ قد صَار عونًا لَهُم.
وَهَؤُلَاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَقد يعودون إلى مَا هُوَ دون ذَلِك أوْ نَظِيره.
وَقومٌ يقومُونَ قومة ديانَة صَحِيحَة، يكونُونَ فِي ذَلِك مُخلصين لله، مُصلحين فِيمَا عملوه، ويستقيم لَهُم ذَلِك حَتَّى يصبروا على مَا أُوذوا.
فَهَؤُلَاءِ هم الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات، وهم من خير أمةٍ أُخرجت للنَّاس.
الشيخ: وهم المذكورون في قوله جلَّ وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، وفي قوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110]، وقوله جلَّ وعلا: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62- 63].
وهم من خير أمةٍ أُخرجت للنَّاس، يأمرون بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر، ويُؤمنون بِاللَّه.
وَقومٌ يجْتَمع فيهم هَذَا وَهَذَا، وهم غَالب الْمُؤمنِينَ، فَمَن فِيهِ دينٌ وَله شَهْوَة تَجْتَمِع فِي قُلُوبهم إرادةُ الطَّاعَة، وإرادةُ الْمَعْصِيَة، وَرُبمَا غلب هَذَا تَارَة، وَهَذَا تَارَة.
الشيخ: وهذا الواقع في الكثير، الواقع [أن] ابن آدم ضعيف، فقد يقع منه هذا وهذا: قد يجتهد في طاعة الله، ثم يَعِنُّ له شيءٌ من الهوى فيقع في المعصية، ثم يتوب، ثم يقع في المعصية، وهكذا، فالإنسان يجب أن يحذر، ويجب أن يُجاهد نفسه؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوء، والشيطان داعية للباطل، وجُلساء السوء، فلا بدَّ من الحذر، ولا بدَّ من الجهاد في هذه الدار: جهاد نفسه وهواه، وجهاد جُلسائه الذين يدعونه إلى الباطل، وجهاد الشيطان لعله ينجو، فهذه دار الجهاد: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[العنكبوت:69].
وَهَذِه الْقِسْمَةُ الثلاثية كَمَا قيل: الأنفس ثَلَاث: أمَّارة، ومُطمئنة، ولوَّامة.
فالأوَّلون هم أهل النفس الأمَّارة الَّتِي تَأْمُرهُمْ بالسُّوء.
والأوسطون هم أهل النُّفُوس المطمئنة الَّتِي قيل فِيهَا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27- 30].
والآخرون هم أهل النُّفُوس اللَّوامة الَّتِي تفعل الذَّنبَ ثمَّ تلوم عَلَيْهِ وتتلوم، تَارَة كَذَا، وَتارَة كَذَا، أوْ تخلط عملًا صَالحًا وَآخر سَيِّئًا.
وَهَؤُلَاء يُرْجَى أن يَتُوب عَلَيْهِم إذا اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102].
وَلِهَذَا لما كَانَ النَّاسُ فِي زمن أبي بكر وَعمر اللَّذين أُمِرَ الْمُسلمُونَ بالاقتداء بهما كَمَا قَالَ ﷺ: اقتدوا باللَّذين من بعدِي: أبي بكر وَعمر أقْربَ عهدًا بالرسالة، وَأعظمَ إيمانًا وصلاحًا، وأئمّتهم أقوم بِالْوَاجِبِ، وأثبت فِي الطُّمَأْنِينَة؛ لم تقع فِتْنَة، إذ كَانُوا فِي حكم الْقسم الْوسط.
وَلما كَانَ فِي آخر خلَافَة عُثْمَان وفِي خلَافَة عليٍّ رَضِي الله عَنْهُمَا كثر الْقسمُ الثَّالِثُ؛ فَصَارَ فيهم شَهْوَةٌ وشُبهةٌ، مَعَ الإيمان وَالدِّين، وَصَارَ ذَلِك فِي بعض الْوُلَاة وَبَعض الرعايا، ثمَّ كثر ذَلِك بعد، فَنَشَأَتِ الْفِتْنَةُ الَّتِي سَببهَا مَا تقدم من عدم تمحيص التَّقْوَى وَالطَّاعَة فِي الطَّرفَيْنِ، واختلاطهما بِنَوْعٍ من الْهوى والعصبية فِي الطرفين، وكل مِنْهُمَا مُتأوِّل أَنه يَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهى عَن الْمُنكر، وأنه مَعَه الْحقُّ وَالْعَدْل، وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيل نوعٌ من الْهوى، فَفِيهِ نوعٌ من الظَّنِّ وَمَا تهوى الأنفس، وإن كَانَت إحدى الطَّائِفَتَيْنِ أولى بِالْحَقِّ من الأخرى.
فَلِهَذَا يجب على الْمُؤمِن أن يَسْتَعِين بِاللَّه ويتوكل عَلَيْهِ فِي أن يعمر قلبَه بالإيمان والتَّقوى، وَلَا يزيغه، ويُثبته على الْهدى وَالتَّقوى، وَلَا يتَّبع الْهوى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [الشورى:15]، وَهَذَا أيضًا حَال الأمة فِيمَا تَفَرَّقت فِيهِ وَاخْتلفت فِي المقالات والعبادات.
وَهَذِه الأمور مِمَّا تعظم بهَا المحنة على الْمُؤمنِينَ؛ فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ إلى شَيْئَيْنِ: إلى دفع الْفِتْنَة ..