الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فإنَّ الله جلَّ وعلا شرع لعباده في كل ركعةٍ من الصلاة أن يقرؤوا فاتحةَ الكتاب، وهي أم القرآن، وهي أعظم سورةٍ في كتاب الله ، كما صحَّ بذلك الخبرُ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إنها أعظم سورةٍ في كتاب الله، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي الحمد.
هذه السورة العظيمة اشتملت على الثناء على الله وتمجيده جلَّ وعلا، وبيان أنه سبحانه هو المستحق لأن يُعبد، وأن يُستعان به، واشتملت على تعليم العباد وتوجيه العباد إلى أن يسألوه الهدايةَ إلى الصراط المستقيم، فمن نِعم الله العظيمة على عباده هذه السورة العظيمة، وأن شرع لهم قراءتها في كل ركعةٍ، في الفرض والنَّفل، بل جعلها ركن الصلاة في كل ركعةٍ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها.
فالواجب على كل مُصلٍّ أن يقرأ بها في كل ركعةٍ، في الفرض والنَّفل، أما المأموم فعليه أن يقرأ بها في صلاته خلف إمامه، فلو جهل أو نسي، أو جاء والإمام راكع؛ سقطت عنه، فيحملها عنه الإمام، إذا جاء والإمام راكع ودخل في الركعة أجزأته وسقط عنه وجوب قراءتها؛ لأنه لم يحضرها، لما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة : أنه جاء والإمام راكع فركع دون الصفِّ، ثم دخل في الصفِّ، فأخبر النبيَّ ﷺ بهذا بعد الصلاة، فقال له النبيُّ ﷺ: زادك الله حرصًا ولا تعدّ، ولم يأمره بقضاء الركعة، فدلَّ على أنَّ مَن أدرك الركوعَ أدرك الركعة، وهكذا لو كان المأمومُ جاهلًا أو نسي الفاتحةَ ولم يقرأها أجزأته وتحمّلها عنه الإمام.
أما مَن علم وذكر فالواجب عليه أن يقرأها مع إمامه، كما يجب على المنفرد والإمام أن يقرأها، وهي ركنٌ في حقِّ المنفرد، وركنٌ في حقِّ الإمام، وقد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: يقول الله : قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله سبحانه: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال الله جلَّ وعلا: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال العبدُ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، قال الله سبحانه: مجَّدني عبدي؛ لأنَّ التَّمجيد هو تكرار الثناء والتَّوسع في الثناء، فإذا قال العبدُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] يقول الله : هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل.
فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حقّ الله، فإنَّ حقَّ الله على عباده أن يعبدوه، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقّ للعبد أن يستعين بالله في كل شيءٍ، يقول الله جلَّ وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، حقّ الله عليهم أن يعبدوه.
وفي الحديث الصحيح يقول الرسولُ ﷺ: حقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، هذا حقّ الله على العباد: أن يعبدوه بطاعة أوامره، وترك نواهيه، ويحذروا الشِّرك به .
وتقدم في الدرس الماضي أنَّ أصل هذه العبادة وأساسها شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، هذا أصل العبادة، وأساس العبادة: توحيد الله، والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام، فأعظم العبادة وأهمّها شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله.
فعلى كل مُكلَّفٍ أن يشهد عن علمٍ ويقينٍ وصدقٍ أنه لا إله إلا الله، والمعنى: لا معبودَ حقّ إلا الله، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، وعليه أن يشهد عن علمٍ ويقينٍ وصدقٍ أنَّ محمد بن عبدالله بن عبد المطلب هو رسول الله حقًّا إلى جميع الثَّقلين: الجنّ والإنس، وهو خاتم الأنبياء، ليس بعده نبي، كما قال الله : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].
فعلى كل إنسانٍ وعلى كل مُكلَّفٍ من الجنِّ والإنسِ أن يعبد الله وحده، هذا حقّ الله على عباده: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يجب على جميع الثَّقلين: جنّهم وإنسهم، ذكورهم وإناثهم، عربهم وعجمهم، أغنيائهم وفُقرائهم، وملوكهم وعامَّتهم، عليهم جميعًا أن يعبدوا الله، عليهم أن يعبدوا الله بأداء ما فرض، وترك ما حرَّم، وعليهم أن يخصُّوه بالعبادة دون كلِّ ما سواه: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ يعني: أمر ربك، وأوصى ربك: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23].
وفي هذه السورة يقول جلَّ وعلا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يُعلمنا أن نقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هذا حقّه جلَّ وعلا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني: وحدك، بدُعائنا وخوفنا ورجائنا وصومنا وصلاتنا وذبحنا ونذرنا وغير هذا من العبادات، كلٌّ لله وحده، كما قال جلَّ وعلا: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، فالذين يتقرَّبون إلى الأصنام، أو إلى الأموات من الأولياء وغيرهم بالدعاء، أو الرجاء، أو الذبح، أو النذر، أو الاستغاثة، قد عبدوا مع الله غيره، وقد أشركوا بالله غيره، ونقضوا قول "لا إله إلا الله"، وخالفوا قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فالعبادة حقّ الله، ليس لأحدٍ فيها نصيب.
فالواجب على كل مُكلَّفٍ أن يعبد الله وحده، والواجب على كل مَن لديه علم أن يُعلم الناس، أن يُرشد الناس، أن يُعلم أهله ومَن حوله، وأن يُرشد الناس إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
فعلى جميع المكلَّفين أن يعبدوا الله، وأن يخصُّوه بالعبادة: بدعائهم وذبحهم ونذرهم وصلاتهم وصومهم، وغير هذا من العبادة.
وبهذا نعلم أنَّ ما يفعله بعضُ الجهلة عند القبور -قبور الصالحين- أو مَن يزعم أنهم صالحون: من دعائهم، أو الاستغاثة بهم، أو النذر لهم، هذا هو الشرك الأكبر، وهذا دين الجاهلية، ويجب الحذر من ذلك، وهكذا البناء على القبور، واتِّخاذ المساجد عليها هو من وسائل الشرك، وهو من عمل اليهود والنصارى، فيجب الحذر من ذلك، يقول النبي ﷺ: لعن اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد.
فالواجب عليك يا عبدالله، وعليكِ يا أمة الله: الانتباه لهذا الأمر، والعلم بهذا الأمر، وأنَّ العبادةَ حقُّ الله وحده، ليس لأحدٍ فيها نصيب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هذا حقّ الله: أن نعبده وحده، وأن نستعين به وحده، فلا يجوز أن يُدعى مع الله سبحانه إله آخر، لا نبيَّ ولا غيره، لا محمد ﷺ، ولا غيره، ولا البَدَوي، ولا الحسين، ولا عليّ، ولا غير ذلك. العبادة حقّ الله وحده، ليس لأحدٍ فيها نصيب، قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ يُخاطب نبيَّه محمدًا ﷺ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، سيد الخلق لو أشرك بالله لحبط عمله، فكيف بغيره؟ وقد عصمه الله من ذلك وحفظه، وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72].
فالشرك هو أعظم الذنوب وأسوأها وأخطرها، فالواجب الحذر منه ومن وسائله، يقول الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، مَن مات على التوحيد والإخلاص لله والإسلام فهو من أهل الجنة، لكن إن كانت له ذنوبٌ وسيئات فهو على خطرٍ؛ قد يُغفر له، وقد لا يُغفر له، وقد يُعذَّب بمعاصيه؛ ولهذا قال سبحانه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فإذا مات على شرب الخمر، أو على عقوق الوالدين أو أحدهما، أو على أكل الربا، أو على ظلم الناس، فهو على خطرٍ عظيمٍ من دخول النار، وقد يُغفر له، وقد لا يُغفر، إلا أن يتوب قبل موته توبةً صادقةً، فمَن تاب تاب الله عليه.
وقد دلَّت السنةُ المتواترةُ عن رسول الله ﷺ أنَّ كثيرًا من العُصاة يُعذَّبون في النار على قدر معاصيهم، ولا يُغفر لهم، وثبت عنه ﷺ أنه يشفع في جماعةٍ من العُصاة، فيحدّ الله له حدًّا فيُخرجهم من النار، ثم يشفع فيحدّ الله له حدًّا فيُخرجهم من النار، ثم يشفع فيحدّ الله له حدًّا فيُخرجهم من النار، ثم يشفع فيحدّ الله له حدًّا فيُخرجهم من النار التي دخلوها بذنوبهم، ويبقى في النار بقايا من أهل التوحيد دخلوا النارَ بمعاصيهم، فيُخرجهم الله من النار بفضله ورحمته جلَّ وعلا.
فاتَّقِ الله يا عبدالله، واحذر السَّيئات، احذر المعاصي كلها، والزم التوبةَ دائمًا لعلك تنجو: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فأنت على خطرٍ إذا متَّ على معصيةٍ: على الربا، على الزنا، على العقوق، على شرب المسكر، على ظلم الناس والعدوان عليهم، على الغيبة والنَّميمة، فأنت على خطرٍ.
فحاسب نفسك، وجاهد نفسك، وبادر بالتوبة قبل أن يهجم الأجلُ، واعرف معنى قوله سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وأنَّ الواجب عليك أن تخصَّ الله بالعبادة دون كلِّ ما سواه، فهو المستحقّ لأن يُعبد، فهو الذي يُدعى ويُرجى ويُخاف ويُتقرب إليه بالصلاة والصوم والحجِّ والنَّذر والذَّبح والصلاة وغير ذلك، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي يعني: ذبحي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163]، وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1- 2]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال جلَّ وعلا: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13]، جميع مَن يدعوه الناس من دون الله ما يملكون من قطميرٍ، وهو اللّفافة التي على النَّواة: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
فالواجب الحذر من دعاء غير الله، أو الشرك بالله، والواجب توجيه القلوب إلى الله ، وإخلاص العمل لله وحده: في صلاتك وصومك وسائر عباداتك، فقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] يقول الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، إِيَّاكَ نَعْبُدُ حقّ الله، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقّ العبد، وحاجة العبد، عليه أن يستعين بالله في كل شيءٍ.
وفي حديث ابن عباسٍ يقول النبيُّ ﷺ: إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله، فالعبد في غاية الفقر والحاجة إلى الله ، فعليه أن يستعين بربه في كل شيءٍ، وعليه أن يسأله حاجته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر:15- 16].
فأنت في أشدِّ الضَّرورة إلى ربك، فاضرع إليه، واسأله حاجاتك، واحذر الشِّرك به، خُصَّ ربك بالعبادة، واحذر أن تُشرك بالله شيئًا: لا في ذبحك، ولا في نذرك، ولا في صومك، ولا في صلاتك، ولا في دعائك، ولا في غير ذلك، فالعبادة حقُّ الله، يجب إخلاصها لله وحده، وإياك أن تغترَّ بما فعله الجُهَّال في كثيرٍ من البلدان: من العكوف على القبور، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بها، هذا هو الشرك الذي نهى الله عنه، وهو الذي بعث اللهُ الرسلَ بإنكاره: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، بعث اللهُ الرسلَ جميعًا بإنكار الشِّرك، والدعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له جلَّ وعلا.
فاحذر يا عبدالله أن تقع فيما وقع فيه المشركون: من عبادة أصحاب القبور، أو الأشجار، أو الأصنام، أو الكواكب، أو الجنّ، كل ذلك شركٌ به، فمَن دعا الجنَّ من دون الله، أو دعا الكواكب، أو الأصنام، أو استغاث بالأموات أو بالغائبين فقد أشرك بالله، ووقع في قوله جلَّ وعلا: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72].
ثم احذر أيضًا من وسائل الشرك: الصلاة عند القبور، واتِّخاذ المساجد عليها، واتِّخاذ القباب عليها، كلُّ هذا من وسائل الشِّرك؛ ولهذا قال ﷺ: لعن اللهُ اليهودَ والنصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، قالت عائشة رضي الله عنها: يُحذِّر ما صنعوا. قالت: ولولا ذلك لأُبرز قبره، غير أنه خشي أن يتّخذ مسجدًا.
ولما قيل له عن كنائس النَّصارى وما يفعلون فيها، قال: أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرار الخلق عند الله، فبين أنَّ مَن اتَّخذ المساجدَ على القبور والصّور على القبور أنهم شِرار الخلق عند الله.
فالواجب الحذر من هذه الأعمال السيئة من أعمال اليهود والنصارى والمشركين، ويجب أن تخصّ الله بالعبادة أينما كنت، تعبده وحده بدعائك، وخوفك، ورجائك، وصلاتك، وصومك، وذبحك، ونذرك، وغيره، كله لله وحده: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، ويقول سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وقال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 2- 3].
ثم يقول سبحانه بعد ذلك: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6- 7].
يُعلم عباده أن يدعوه بهذا الدُّعاء، فإذا قال العبدُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يقول الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل، هكذا جاء في الحديث الصحيح.
فجديرٌ بك يا عبدالله أن تصدق في هذا الدعاء، وأن تُخلص في هذا الدعاء، وأن يكون قلبك حاضرًا حيث تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
ومعنى اهْدِنَا يعني: أرشدنا يا ربنا، ودلنا، وثبتنا، ووفقنا. تسأل ربَّك أن يهديك هذا الصراط، وأن يُرشدك إليه، وأن يُعلمك إياه، وأن يُثبتك عليه.
ما الصراط المستقيم؟
هو دين الله، هو توحيد الله، والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، هذا هو الصراط المستقيم، وهو عبادة الله، وهو الإسلام والإيمان والهدى، وهو الصراط المستقيم، وهو العبادة التي أنت مخلوقٌ لها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، هذه العبادة هي الصراط المستقيم: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19].
والإسلام هو الصراط المستقيم، وهو الإيمان بالله ورسوله، وتوحيد الله، وطاعته، وترك معصيته، هذا هو الصراط المستقيم: أن تعبد الله وحده دون كلِّ ما سواه، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، لما ذكر الشِّرك والتوحيد والمعاصي في قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:151- 152]، ثم قال بعد هذا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153].
فصراط الله: أداء أوامره، وترك نواهيه، هذا صراط الله المستقيم، وأعظمها توحيده والإخلاص له، وأعظم المناهي هو الشرك به، فصراط الله المستقيم: توحيده والإخلاص له، وترك الإشراك به، وأداء ما أمر، وترك ما نهى. هذا هو صراط الله المستقيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ يعني: الزموه واستقيموا عليه، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ وهي: البدع والمعاصي التي نهى الله عنها.
وقد ثبت عنه ﷺ أنه خطَّ خطًّا مستقيمًا فقال: هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله فقال: هذه السبل، وعلى كل سبيلٍ منها شيطان يدعو إليه.
فالسبل هي البدع والمعاصي والمنكرات التي حرَّمها الله على عباده، فالواجب الحذر منها، والصراط المستقيم هو: توحيد الله وطاعته، وهو الإسلام والإيمان، وهو الهدى، وهو العبادة التي أنت مخلوقٌ لها، صراط واضح، وهو توحيد الله، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، هذا صراط الله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، والمستقيم: الذي ليس فيه عوج، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى:52- 53]، فالرسول بعثه الله ليهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ، وهكذا الرسل جميعًا كلهم بُعثوا ليهدوا إلى الصراط المستقيم، يعني: يدعون الناسَ إلى الصراط المستقيم، وهو توحيد الله، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، هذا صراط الله المستقيم.
وربنا يُرشدنا في كل صلاةٍ، في كل ركعةٍ أن نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يعني: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم الذي شرعته لنا، وبعثت به أنبياءك، وخلقتنا له، نطلب منك أن تهدينا له، وأن تُرشدنا له، وأن تُثبتنا عليه.
ثم فسَّره فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، هذا صراط الله المستقيم، صراط المنعَم عليهم، ومَن هم المنعم عليهم؟
هم الرسل وأتباعهم، وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا صراطهم، صراط الله المستقيم: توحيد الله، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، هذا الصراط المستقيم، وهذا هو صراط المنعم عليهم، وهم الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة.
والصراط المستقيم: هو العلم والعمل؛ العلم بما شرع الله، والعمل بذلك، هذا هو الصراط المستقيم: العلم بما شرع الله، وبما أوجب الله على عباده، والعمل بذلك.
أن تعلم حقَّ الله عليك، وأن تعلم ما أوجب الله عليك، وأن تعلم ما حرَّم الله عليك، وأن تستقيم على أداء ما أمرك الله به، وعلى ترك ما حرَّم الله عليك.
هذا هو صراط الله المستقيم الذي تطلب من ربك في كل ركعةٍ أن يهديك صراطه المستقيم: هو توحيد الله وطاعته، واتِّباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه، والحذر مما نهى عنه، وهو صراط المنعم عليهم، وهم الرسل وأتباعهم.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، غير صراط المغضوب عليهم، وهم اليهود وأشباههم؛ الذين عرفوا الحقَّ وحادوا عنه، وتكبَّروا عن اتِّباعه. وغير طريق الضَّالين، وهم النَّصارى وأشباههم؛ الذين تعبَّدوا على الجهالة والضَّلالة.
فصراط المنعم عليهم هم أهل العلم والعمل، الذين عرفوا الحقَّ وفقهوه وعملوا به، وأما المغضوب عليهم فهم الذين عرفوا الحقَّ وحادوا عنه: كاليهود وأشباههم، وعلماء السُّوء الذين يعرفون الحقَّ ويحيدون عنه، ولا يدلون إليه، والضَّالون هم النَّصارى وأشباههم ممن جهل الحقَّ ولم يُبالِ بدين الله، بل اتَّبع هواه.
فأنت يا عبدالله تسأل ربَّك أن يهديك طريق المنعم عليهم، وهم الرسل وأتباعهم، وأن يُجنبك طريق المغضوب عليهم والضَّالين، وهذه دعوة عظيمة، فأعظم دعوةٍ تسأل ربك الهدايةَ إلى صراطه المستقيم، وهو صراط المنعم عليهم، لا صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضَّالين، احمد ربَّك على هذه النِّعمة العظيمة، واحرص على هذا الدُّعاء، وأحضر قلبك عند هذا الدعاء في الصلاة وغيرها، هذا الدعاء العظيم الذي أنت في أشد الضَّرورة إليه: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، أحضر قلبك، واصدق في هذا الطلب في الصلاة وغيرها، تسأل ربك، تضرع إليه أن يهديك صراطه المستقيم، وأن يُثبتك عليه؛ حتى تكون من أتباعه والسَّالكين عليه، غير المغضوب عليهم وغير الضَّالين؛ لأنَّ اليهود تعبَّدوا على خلاف العلم، وتابعوا أهواءهم؛ حسدًا وبغيًا، وهم يعرفون أنَّ محمدًا رسول الله، وأنَّ بعثه بالحقِّ، ولكن حادوا عن الحقِّ تكبُّرًا وتعاظُمًا وإيثارًا للدنيا على الآخرة وحسدًا، والنصارى جُهَّال، يغلب عليهم الجهل والضَّلال، وهم أقرب إلى الخير من اليهود؛ ولهذا يُسلم منهم الجمُّ الغفير في كل وقتٍ، أما اليهود فيندر أن يُسلم منهم أحد، أما النصارى فكثيرًا ما يُسلمون في كل وقتٍ؛ لأنَّ قلوبهم أقرب إلى الخير من قلوب اليهود، قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]، فالنصارى أقرب، وقلوبهم ألين من قلوب اليهود؛ لأنَّ علَّتهم الجهل والضَّلال، فإذا عرفوا وبُيِّن لهم رجع كثيرٌ منهم إلى الحقِّ، أما علة اليهود فليست الجهل، بل علَّتهم الحسد والبغي، وعلَّتهم مخالفة الحقِّ على بصيرةٍ، فعلتهم خبيثة، وهي التَّكبر عن اتِّباع الحقِّ، والحسد لأهل الحق؛ ولهذا قلَّ وندر مَن يُسلم منهم، نعوذ بالله من ذلك.
فأنت يا عبدالله احمد ربك أن هداك لهذا الصراط، وأن علَّمك إياه، وأن شرع لك أن تطلبه في صلواتك، وفي خارج الصلاة، تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6- 7]، وهذا الصراط هو دين الله، وهو الإسلام، وهو الإيمان والهدى، وهو العبادة التي أنت مخلوقٌ لها، وهو العلم والعمل: أن تعلم ما شرعه الله لك، وما خلقك لأجله، وأن تعمل بذلك لله، وتحذر معاصي الله، وتقف عند حدود الله، ترجو ثواب الله، وتخشى عقاب الله، هذا الصراط المستقيم، وأساسه وأعظمه وأوله وأفرضه شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، هذا هو الأساس، هذا هو الأصل، هذا هو أعظم واجبٍ، هذا هو الركن الأول، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحجّ، كما تقدم في الدرس الماضي.
يقول النبيُّ ﷺ: بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، هذه هي أركان الإسلام الظَّاهرة، وما سواها من الأوامر تابعٌ لذلك.
ويجب مع هذه الأوامر ترك المناهي، الحذر من المناهي؛ خوفًا من الله، وتعظيمًا لله، وإخلاصًا له، هذا هو دين الله، وأساسه توحيده والإخلاص له، والإيمان برسوله محمدٍ ﷺ، ثم أداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند الحدود، وهذا هو الصراط المستقيم.
يجب على كل مسلمٍ من الذكور والإناث، على كل جنٍّ وإنسٍ، على جميع الثَّقلين، يجب عليهم أن يثبتوا على هذا الصراط، وأن يستقيموا عليه، وأن يسألوا الله الهدايةَ له، وأن يحذروا مخالفته، فهو صراط الله، وهو دين الله، وهو العلم والعمل، العلم بما شرع الله واتِّباعه، وأساسه توحيد الله والإخلاص له، والإيمان برسوله محمدٍ ﷺ، ثم أداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند الحدود، والمحبَّة في الله، والبغضاء في الله، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والتَّواصي بالحقِّ، والتَّواصي بالصبر، كله داخلٌ في هذا، كله داخلٌ في الصراط المستقيم، قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1- 3]، هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين آمنوا بالله ورسوله، وأخلصوا لله العمل، وصدقوا، وتفقَّهوا في الدِّين بطاعة الله، وتركوا معصيتَه، وتواصوا بالحقِّ، وتواصوا بالصبر، هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم، هم المنعم عليهم، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم، وماذا وعدهم؟ قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72]، فالله وعدهم الجنة والسعادة، هذا هو جزاؤهم في الدنيا: الرحمة، يرحمهم بالتوفيق والهداية والتَّسديد، وفي الآخرة بإدخالهم الجنة، والرضا عنهم، هذا جزاء أهل الصراط المستقيم.
فاحرص يا عبدالله، واحرصي يا أمة الله على الاستقامة على الصراط، احرصوا والزموا هذا الصراط، الزموه واستقيموا عليه عن حبٍّ، وعن رغبةٍ، وعن محبَّةٍ، وعن صدقٍ، وعن إخلاصٍ لله، وعن مُوالاة لأولياء الله، ومُعاداة لأعداء الله، وصبرٍ على طاعة الله، وكفٍّ عن محارم الله، وتواصٍ بالحقِّ، وتعاون على البرِّ والتقوى، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، هكذا المؤمنون الصَّادقون، هكذا أصحاب الصراط المستقيم.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء الموفَّقين، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الصَّالحين الثَّابتين على صراطه المستقيم، السَّالكين له، المستقيمين عليه، إنه سميع قريب، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ.
الأسئلة:
س: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فجزى الله سماحة الشيخ خيرًا على هذه الكلمة الضَّافية، ونستأذن سماحتكم في طرح ما تيسر من الأسئلة:
سؤال: حججنا هذه السنة، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، في اليوم الثاني عشر صليتُ الفجر وخرجتُ من منى أنا وأهلي وأولادي، ورجعتُ إلى منى في العصر، ولكن من شدة الزحام أذن عليَّ المغرب وأنا في منى، ثم رميتُ الجمار الثلاث عني وعن زوجتي وأولادي، هل عليَّ شيء أم لا؟ جزاكم الله خيرًا.
ج: الرمي أجزأ والحمد لله، لكن عليك المبيت أنت وأولادك وأهلك حتى ترموا يوم الثالث عشر، هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الصواب؛ لأنَّ النَّفير في اليومين بعد الرمي، أنت نفرت قبل الرمي، فنفيرك من منى قبل الرمي لا يكون نفيرًا، فالواجب عليك لما غابت الشمسُ وأنت لم ترمِ أن ترجع إلى منى وتبيت فيها أنت وأهلك، وترمون تلك الليلة عن اليوم الثاني عشر، ثم تبيت وترموا اليوم الثالث عشر قبل غروب الشمس، ترمون بعد الزوال قبل غروب الشمس، وبناءً على أنكم تركتُم ذلكم عليكم دم يُذبح في مكة للفقراء، على كل واحدٍ منكم؛ لنفيركم قبل وقت النَّفير وعدم عودكم.
س: يقول هذا السَّائل: فضيلة الشيخ، جزاك الله ألف خيرٍ، عندي جار خلقه سيئ، وأنا كنتُ أُعامله بالخلق الحسن فلا يقبل مني ذلك، حتى أني هجرته وأُعامله الآن بالخلق السَّيئ، فكيف أفعل في ذلك؟ هل أُعامله بالسيئة؟ أو بماذا تنصحون؟
الشيخ: يقول النبيُّ ﷺ: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره، وفي اللفظ الآخر: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسِن إلى جاره، وفي الرواية الثالثة: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤذِ جاره، والله يقول في كتابه العظيم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36].
فالواجب إكرام الجار، والإحسان إليه، وكفّ الأذى عنه؛ حتى ولو أساء إليك، إذا أساء إليك كن خيرًا منه، قابله بالإحسان، يقول النبيُّ ﷺ في صلة الرحم: ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكن الواصلَ الذي إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها.
فأهل السنة والجماعة والمسارعون إلى الخيرات يُقابلون الإساءةَ بالإحسان، فجارك استوصي به خيرًا، أحسن إليه، إذا كان ليس بمظهرٍ للمعاصي أحسن إليه، وارفق به، واجتهد في هدايته، وفي صلاح الحال معه؛ عملًا بقول ربك جلَّ وعلا: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [النساء:36]؛ وعملًا بقول النبيِّ ﷺ: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره، فليُحسِن إلى جاره، فلا يُؤذِ جاره، أما إذا أظهر المعاصي ولم يقبل يستحقّ الهجر هو وغيره، أما إذا كان لا، بينك وبينه شيء، لكن ما أظهر المعاصي، فكن خيرًا منه: قابل إساءته بالإحسان، واصبر، وأبشر بالخير إن شاء الله.
س: عملي أوقعني في أخطاء ومعاصٍ مع النساء، ما دون الزنا، وكذبتُ مخافة الفضيحة، فهل يلزمني بعد توبتي الإخبار عن الحقيقة؟
الشيخ: التوبة كافية، الإنسان يستتر بستر الله، النبي أمر بالاستتار بستر الله، والتوبة، وعدم إفشاء ما وقع منه من المعاصي والسيئات، ومَن تاب تاب الله عليه، والواجب عليك التوبة إلى الله، والحذر من أسباب الشَّر، والحذر من وسائل الزنا، والحذر من كلِّ ما حرَّم الله، وإذا ألم العبدُ بشيءٍ من المعاصي فليتب إلى الله، وليستغفر الله، ولا يُبدي صفحته، ولا ينشر سوءته، ولا يفضح نفسه.
س: سماحة الشيخ، هل يجوز لي أن أخطب خطبة الجمعة وأؤمّ المصلين وأنا كاشف رأسي بدون عمامةٍ؟ أفتوني مأجورين.
الشيخ: العمامة مستحبَّة، من الزينة: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وما هي بشرطٍ، لو صلَّى بدون عمامةٍ لا يضرّ، لو صلَّى الرجلُ بدون عمامةٍ لا يضرّ، المحرم يُصلي بدون شيءٍ، المحرمون الرجال كلهم يُصلون بدون شيءٍ على رؤوسهم، العمامة من الزينة.
فإذا صلَّى وليس عليه عمامة، أو خطب وليس عليه عمامة، فخطبته صحيحة، وصلاته صحيحة، لكن الأفضل مثلما قال ربنا جلَّ وعلا: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، يلبس لباس جماعته في الصلاة وغيرها، حتى لا يلفت النظر، ولا يُقال: لماذا؟ ولماذا؟ وإذا خطب الإمامُ واستناب غيره أن يُصلي يجب أن يتولى الإمامةَ رجلٌ، والخطبة رجل، ولكن الأفضل أن يتولى الخطبةَ يوم الجمعة مَن يتولى الصلاة، كما كان النبيُّ يفعل عليه الصلاة والسَّلام.
س: هل يجوز لي قراءة أذكار المساء قبل أذان المغرب بدقائق؛ لانشغالي بعد صلاة المغرب بتدريس القرآن الكريم؟
الشيخ: نعم، تقرأ أذكار المساء بعد العصر، يبدأ من بعد الزوال، كلها، أذكار المساء العشي، وإذا قرأ بعد العصر كله مساء، أذكار المساء، كله طيب.
س: عندي مزرعة مواشٍ، وأحيانًا وأنا أتفقدهن يأتيني على ثيابي من بول وروث البهائم، فهل هذه تُعتبر نجاسةً؟ علمًا بأني سمعتُ أنَّ كل ما أُكل لحمه فبوله وروثه طاهر، فهل هذا صحيح؟
الشيخ: نعم، هذا هو الصواب: أن بول ما يُؤكل لحمه وروثه كله طاهر: الإبل والبقر والغنم والصيد، كله طاهر، النبي ﷺ كان يُصلي في مرابض الغنم، ولما استوخم العُرنيون المدينة بعثهم مع الإبل -إبل صدقةٍ- يشربون من أبوالها وألبانها حتى صحُّوا، فلما أذن لهم بالشُّرب من أبوالها دلَّ على طهارتها، ولما صلَّى في مرابض الغنم دلَّ على طهارتها، ولكن نهى عن الصلاة في معاطن الإبل، لا للنجاسة، بل لأمرٍ آخر، النَّهي عن الصلاة في معاطن الإبل ليس لأجل النَّجاسة، بل لأمرٍ آخر، وإلا فبولها وروثها طاهر، وهكذا البقر، وهكذا الغنم، وهكذا الصيود، وهكذا الدجاج، وهكذا الحمام.
لكن إذا كانت الدجاجةُ جلَّالةً -التي تأكل النَّجاسات أو غيرها من الجلالات- هذه تُحبس حتى تأكل الشيء الطيب ثلاثة أيام أو أكثر؛ حتى تنظف، إذا كانت جلالةً تتعاطى النَّجاسات، إذا غسل ثوبه منها كونها جلالةً يكون أحوط وأحسن، إذا أصاب ثوبَه منها أو قدمَه منها شيءٌ، إذا كانت جلَّالةً ترعى النَّجاسة، تأكل النَّجاسات، تتغذى بالنَّجاسة في غالب أكلها.
س: إذا اكتسب شخصٌ مالًا من الكسب الحرام، ثم تاب إلى الله، وعرف أنَّ ذلك حرام، فماذا يفعل بالأموال التي من الكسب الحرام؟
الشيخ: إذا كان عن جهالةٍ فله ما سلف، وأمره إلى الله، قال الله جلَّ وعلا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [البقرة:275]، فإذا كان جاهلًا فله ما سلف، أما إذا كان عالمًا ويتساهل فليتصدق بالكسب الحرام.
إذا كان نصفُ أمواله أو ثلثها أو ربعها كسبًا حرامًا يتصدق به على الفقراء والمساكين، أما إذا كان جاهلًا لا يعلم ثم علم وتاب إلى الله، فله ما سلف.
س: لم أتمكن من السَّعي أنا وأهلي قبل عامين في رمضان بسبب الزحام الشَّديد، وأنا جئتُ الآن إلى العمرة، فماذا عليَّ؟
الشيخ: إذا كنتَ مُحْرِمًا قبل عامين بالعمرة أنت وأهلك ولم تسعيا ولم تطوفا فأنتما مُحْرِمَان إلى أن جئتُما .....، كيف تترك الطوافَ والسعي؟! الواجب أنَّ الإنسان إذا كانت زحمة ينتظر، بدل الليل النهار، بدل النهار الليل، بدل اليوم باكر؛ حتى يُؤدي الطوافَ والسعي، كيف يتساهل؟ الزحمة ما هي بدائمة، الزحمة وقت وتنتهي، الواجب على مَن أحرم بالعمرة أو بالحجِّ أن يُؤدي ما أوجب الله عليه وينتظر، لا يُخاطر في الزحمة، ينتظر، بدل السعي في الليل السعي في النهار، وبدل السعي في النهار السعي في الليل، وبدل اليوم باكر عقبه .....
فأنتما مُحرمان إلى أن جئتَ إلى مكة، وعليك إذا كنتَ وطئتَ زوجتك عليك دم يُذبح في مكة للفقراء، وأفسدت العمرة بذلك، وإذا كنتَ جئتَ وطفتَ وسعيتَ وقصرتَ أديت العمرة التي أفسدتها بالوطء، وعليك عمرة أخرى من الميقات بدل التي أفسدتها، تأتي وتطوف وتسعى وتُقصر بدل العمرة التي أديتها.
أما إذا كنتَ ما عندك زوجة، ولا فعلتَ شيئًا، وهي كذا ما عندها زوج، فهذا يكفيه أن يأتي ويطوف ويسعى ويقصر ويحلّ، ولا عليه شيء؛ لجهله من جهة اللباس للرجل، ومن جهة التَّطييب للرجل والمرأة، من جهة الجهل لا شيء عليه، عليهما أن يأتيا إلى مكة ويطوفا ويسعيا ويُقصرا، يُقصر الرجل أو يحلق، وتُقصر المرأة، ولو مكث سنةً أو سنتين عليه أن يأتي ويُؤدي العمرة التي أحرم بها، ولا يجوز التَّساهل.
وعلى المؤمن أن يسأل، إذا وقع في شيءٍ يسأل في وقته، لا يتساهل، الله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ما يجوز التَّساهل، يقع في المحذور ولا يسأل، وإذا جاء في رمضان أو في غيره ووجد زحمةً لا يعجل، يتحرى الأوقات التي ما فيها زحمة ويأتي ويطوف ويسعى ويُقصر، بدل اليوم باكر عقبه.
نسأل الله العافية والسَّلامة.
حكم صلاة مَن كشف إحدى كتفيه:
س: اعتمرتُ قبل أربعة أيام تقريبًا، وفي أثناء طوافي بالبيت كنتُ قد أظهرتُ كتفي الأيمن، ولكن في أثناء طوافي أُقيمت صلاةُ الصبح، وأنا لا زلتُ أُظهر كتفي الأيمن، بالرغم من أن بعض المصلين قالوا لي: غطِّ كتفك الأيمن، ولكني رفضتُ ذلك بحجة أنني سوف أُكمل الطواف، أفيدوني ما الصواب؟ جزاكم الله خيرًا.
ج: لا حرج، ما دام غطيتَ إحدى الكتفين يكفي إن شاء الله، والسنة لك وقت الصلاة أن تجعل الرِّداء على الكتفين، وإذا شرعت في طواف القدوم تضطبع؛ تجعل وسطه تحت إبطك الأيمن، وأطرافه على عاتقك الأيسر، أما إذا دخلت في الصلاة تعدله على الكتفين، وإذا كنتَ ما عدلته كفى كونه على أحد الكتفين؛ لقوله ﷺ: لا يُصلي أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء.
س: قمتُ مساء أمس بطواف الوداع أنا ورفاقي، على أن سفرنا إلى المدينة كان مُقررًا نفس اليوم، لكن السفر تأخَّر إلى مساء يوم الجمعة، فهل علينا طواف أم لا؟
ج: نعم عليكم أن تُعيدوا الطواف؛ لأنَّ المدة طويلة: يوم، ثم يوم ثانٍ بعده، عليك أن تُعيد الطواف -طواف الوداع-.
س: هناك خلاف بين زوجي وأهلي، زوجي يُخيرني بينه وبين أهلي، ولي أطفال، ولا يُريد تفريق وتشتيت أسرتي، فكيف الحلّ؟ وما حكم الدِّين في ذلك؟ جزاكم الله خيرًا.
ج: إن صلحتم فالحمد لله، وإن لم تُصلحوا فهذا عند المحكمة، إن صلح زوجك مع أهلك وتم الصلحُ بينكما فالحمد لله، وإن لم يتم الصلحُ فالمرجع المحكمة في هذا.
س: إذا اشتريتُ سيارةً بالنقد، ودفعتُ الثمنَ، وسجل ذلك في سجلات المعرض، هل يكفي ذلك للحيازة، أم لا بدَّ من نقل الملكية بالاستمارة عن طريق المرور؟ علمًا بأني أنوي البيع.
ج: إذا تم البيعُ وقبضت السيارةَ لك أن تتصرف فيها، لكن تخرج بها عن مكان البيع؛ لأنَّ الرسول نهى أن تُباع السلع حيت تُبتاع حتى يحوزها التُّجار إلى رحالهم، تنقلها إلى مكانك، أو إلى محلٍّ آخر، أو إلى معرضٍ آخر حتى يتم القبض؛ لأنَّ الرسول نهى أن تُباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التُّجار إلى رحالهم، ولو ما تمت بقيةُ الإجراءات، ما دام تم بينكما إذا افترقتما لزم البيعُ.
س: ويقول في سؤاله الثاني: قال لي صديقٌ: أريد سيارةً بالأجل، هل تعرف أحدًا؟ قلت: نعم، فذهبتُ إلى صاحب السيارة وقلت له: عندي لك زبون، ولكن أريد دلالة من غير ما يعلم صاحبي، ما حكم عملي هذا؟
ج: لا بأس بالدلالة، السعي لا بأس به، تدله، السعي على هذا أو على هذا: على البائع، أو على المشتري. شرط الدلالة لا بأس به.
س: يقول في سؤاله الرابع: تشارك شخصان في شراء سيارةٍ، فدفع الأولُ جزءًا بسيطًا من الثمن، ودفع الثاني الباقي، واتفقا على الآتي: يقوم الشريكُ الأولُ بالعمل بالسيارة مقابل ربع صافي الدخل أجرًا له، والباقي يأخذه الشريكُ الثاني: يأخذ الشريكُ الثاني منه الثلث ربحًا عن المبلغ الذي دفعه زيادةً عن مبلغ الشريك الأول، والثلثان الآخران يُسدد بهما الشريك الثاني المبلغ الزائد؟
ج: يُواجهني السائل في البيت هو وصاحبه، في البيت، أو في المكتب؛ لأنظر في الأمر، تحتاج إلى عنايةٍ ودقَّةٍ.
س: يقول هذا السُّؤال: رجلٌ لم يطف طوافَ الإفاضة، ورجع إلى بلاده، واتَّصل بأهله، فماذا عليه؟
ج: عليه التوبة إلى الله ، وعليه ذبيحة تُذبح في مكة للفقراء، وعليه أن يرجع فيطوف طواف الإفاضة -إلى مكة- وهذا خطرٌ عظيمٌ، عليه التوبة إلى الله، والاستغفار، والرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة، وعليه دمٌ يُذبح في مكة؛ لأنَّ إتيانه زوجته قبل طواف الإفاضة لا يجوز، وفيه دمٌ، فالصواب أنه يكفيه شاة -رأس من الغنم- أو سبع بدنة، أو سبع بقرةٍ.
س: ما حكم تحويل العملات التي صورتها هكذا: يدفع شخصٌ مثلًا ألف دولار أمريكي لشخصٍ يأخذ عليها خدمة 10% مثلًا، ثم يُعطي للشخص المستفيد من التَّحويلات بنفس العملة الأمريكية، فهل في هذا شيء؟ أفتونا مأجورين.
ج: هذا يُواجهني؛ لأنها تحتاج إلى تأملٍ ودراسةٍ.
س: صليتُ خلف الإمام صلاة العصر، ونسيتُ قراءة الفاتحة في الركعة الأولى، فهل يتحمل الإمامُ عني هذا الركن؟
ج: نعم، إذا نسي المأمومُ الفاتحةَ أو كان جاهلًا يتحملها عنه الإمامُ، كما جاء في حديث أبي بكرة الثَّقفي: لما جاء والإمام راكع ركع دون الصفِّ، ثم دخل في الصفِّ، فسأل النبيَّ ﷺ فقال: زادك الله حرصًا، ولا تعد، ولم يأمره بقضاء الركعة؛ لأنه ما حضر قيامها، فدلَّ ذلك على أنها واجبة في حقِّ المأموم؛ ولهذا سقطت عمَّن فاته القيام، وتسقط عمَّن جهل أو نسي من المأمومين.
س: هل تُشرع ركعتي الطواف خلف المقام في طواف الوداع، أو في أي مكانٍ من الحرم؟
ج: صلاة الطواف مشروعة خلف المقام، كل طوافٍ؛ لأنَّ الله قال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] في جميع الأطوفة: للحجِّ أو العمرة أو التَّطوع، لكن إذا تيسر ذلك، أما إذا كان في زحامٍ يُصليها في أي مكانٍ: في بقية المسجد، أو في الأروقة، الأمر واسع، لكن إذا تيسر خلف المقام فهو أفضل.
س: لقد تبتُ من ذنوبي وندمتُ، وما زلتُ نادمًا منذ أكثر من سنةٍ، ثم يسَّر الله لي العمرة والحج ودعاء عرفة وبعض الأمور الأخرى من مثل: حضور مجالس العلماء لسماحتكم، وفضيلة الشيخ ابن عثيمين، فهل هذه علامات أرجو بها أن أكون مقبول التَّوبة؟
ج: إن شاء الله، ما دام تبت إلى الله فالتوبة تجبّ ما قبلها، وحضور مجالس العلم وإقبالك على العبادة هذا من وسائل الخير، ومن علامات الخير، فاستقم واثبت على الحقِّ، واحضر مجالس العلم، وأكثر من الطواف والصلاة، وأبشر بالخير إن شاء الله، والزم التَّوبة.
س: أرجو من سماحتكم توضيح حكم الشرع في الذين يذهبون يوميًّا إلى التَّنعيم ليأتوا بالعمرة، جزاكم الله خيرًا؟
ج: الذَّهاب إلى التَّنعيم كل يوم هذا ما هو بمشروعٍ، ولا فعله الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولا فعله النبي ﷺ، إنما فعلته عائشةُ بأمر النبي ﷺ؛ لما قدمت وهي حائض ولم تتمكن من أداء نسك العمرة، وأمرها النبيُّ أن تُحرم بالحجِّ وتقرن، سألته بعد ذلك أن تُحرم بالعمرة فأذن لها من التَّنعيم، فإذا فعل الإنسانُ ذلك بعض الأحيان، أو لأبيه الميت، أو لأمه الميتة فلا بأس، أما كونه يخرج من مكة كل ساعةٍ ويأتي بعمرةٍ فهذا خلاف ما عليه السلف الصالح، تركه أولى وأحوط.
س: هل يجوز منح نصيبٍ من الزكاة لأختي وابنتي المتزوجتين؟ للعلم فهما يملكان مدخولًا شهريًّا غير كافٍ، وبالنسبة للعمَّال يا سماحة الشيخ، هل يجوز إعطاؤهم من الزكاة وهم يشتغلون عندي؟
ج: أما بنتك لا تُعطها، أولادك لا تُعطهم من الزكاة، ولا آباؤك، ولا أمهاتك، أنفق عليهم، أما أختك: إذا كان زوجُها فقيرًا فأعطِ زوجها لا بأس، إذا كان زوجُها فقيرًا تُعطي زوجها من الزكاة، أما هي لا، نفقتُها على زوجها، تُعطي زوجها إذا كان فقيرًا، أما العمَّال ففيهم تفصيل: إذا كانوا عمَّالًا مسلمين فقراء تعرف فقرهم لا بأس أن تُعطيهم من الزكاة، لكن إعطاء غيرهم من الفقراء المعروفين أولى، وهم تكفيهم أجورهم، قد يكون إعطاؤك من الزكاة لهم مما يُسبب تساهلهم في أخذ الأجرة منك اللازمة، فالأحوط لك أن تُعطي غيرهم، وهم تكفيهم أجورهم، تلتمس الفقراء المعروفين الذين لا شبهةَ فيهم.
س: هل يجوز لمن يدَّعي العلم أن يعظ الناسَ ويُرشدهم، وأن يجتمع إلى الجنائز ويُشارك الناس في بدعهم لأجل وعظهم وإرشادهم كما يدَّعي؟
ج: أما المشاركة في البدعة على وجه السُّكوت والرضا فلا يجوز، أما إذا جاءهم في محل البدعة ليُنذرهم ويُحذرهم، ثم تركهم ولم يُشاركهم فلا بأس، إذا جاءهم في محلِّ اجتماعٍ ليُحذرهم من البدعة؛ لأنَّ هذا هو الوقت المناسب لاجتماعهم، فحذَّرهم من البدع، فهذا لا بأس، أما أن يُشاركهم في احتفالاتهم ويقول: إني أُحذرهم، لا، ليس هذا بإنكارٍ، لكن يُنكر عليهم ويُحذرهم ويبتعد عن مُشاركتهم في البدع، هذا هو الواجب على كل مَن لديه علم: أن يُحذر الناس من البدع، ويُنكر عليهم ما فعلوا من البدع، ويُفارقهم، لا يجتمع معهم، ولا يُشاركهم فيها، ولا يأكل معهم في المولد، بل يحذرهم ويبتعد عنهم ويُنكر عليهم.
س: هل الزيادة في الاستغفار في اليوم عن سبعين أو مئة مرة جائزة؟ وهل الزيادة في ذكر "سبحان الله وبحمده" عن مئة مرة جائزة؟ حيث إني ما زلتُ أذكر الله وأستغفره أي وقتٍ في ذلك، لعلَّ الله يقبل توبتي.
ج: مستحب، ولو سبَّحت ألف مرة أو ألفين أو عشرة آلاف، أو ذكرتَ الله أو استغفرته، كله خير، لكن النبي ﷺ بيَّن للأمة قال: مَن قال حين يُمسي وحين يُصبح: سبحان الله وبحمده، مئة مرة، غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر يعني: إذا لم يُصر على الكبائر، هذه من أسباب المغفرة: كونه يُسبح الله مئة مرة في المساء، ومئة مرة في الصباح، هذا من أسباب المغفرة لمن وفَّقه الله لترك الكبائر.
وهكذا قال ﷺ: مَن قال في يومٍ: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو على كل شيءٍ قدير، مئة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مئة حسنةٍ، ومحا عنه مئة سيئةٍ، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر من عمله أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين".
هذا يدل على أنَّ مَن زاد فلا بأس، لو يذكر الله مئتين أو ألف مرةٍ كله خير، له مزيد من الأجر والخير، المقصود أنَّ التَّسبيح لا حدَّ له، والذكر لا حدَّ له، يُكثر من ذكر الله وتسبيحه في اليوم والليلة ما يسَّر الله له.
س: امرأة وقفت بعرفة، وبعد نزولها من منى دخلت المستشفى بمكة؛ نظرًا لمرضها، وهو ضيق الصدر، وغادرت بيت الله الحرام، ولم تقم بطواف الإفاضة، فماذا يترتب عليها؟ جزاكم الله خيرًا، لقد رجعت إلى بلادها دون طواف إفاضةٍ، ودون طواف الوداع؟
ج: عليها أن ترجع إلى مكة وتطوف طواف الإفاضة، ثم تطوف طواف الوداع، وإن طافت الإفاضة وخرجت بعد طواف الإفاضة كفى عن طواف الوداع، يجب عليها الرجوع حتى تُكمل حجّها: تطوف ولو محمولة، ولو في العربية، ثم ترجع إلى بلادها.
س: هل الصلاة في جميع مساجد مكة بمئة ألف صلاةٍ أم ذلك خاصّ بالمسجد الحرام؟ وما أدلة القائلين بذلك؟
ج: الصواب أنه عامّ، الأدلة عامة، كل الحرم يُسمَّى: المسجد الحرام، والصلاة فيه مُضاعفة، في مساجد مكة كلها، ولكن ما حول الكعبة يكون أفضل؛ لكثرة الجمع؛ وللخروج من الخلاف، وإلا فالصواب أنَّ كل الحرم يُسمَّى: المسجد الحرام، ويُمنع منه المشركون، وتضاعف فيه الصلاة، في جميع أجزاء الحرم، هذا هو الصَّواب.
س: أرجو منكم الدّعاء الخالص لوجه الله العزيز الحكيم لولدي الذي بلغ اثنتي عشرة سنةً وهو طريح الفراش منذ ولادته إلى وقته، جزاكم الله خيرًا.
ج: نسأل الله له الشفاء، نسأل الله أن يمنحه الشفاء، نسأل الله أن يمنحه الشفاء وكل مسلمٍ، نسأل الله أن يمنحه الشفاء وكل مسلم.
س: هل يجوز للمرأة أن تُسافر من غير محرمٍ للضَّرورة القصوى؟
ج: ليس لها السفر من دون محرمٍ؛ لقول النبيِّ ﷺ: لا تُسافر المرأةُ إلا مع ذي محرمٍ متفق على صحته من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أما إذا كان لضرورةٍ: كالمهاجرة في سبيل الله تنتقل من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وليس معها محرمٌ، تنتقل مع الأمناء، أو مع الأمينات، لا بأس، أو ضرورة في مكانٍ تخشى على نفسها من الزنا أو القتل ففرت إلى بلدٍ آخر؛ خوفًا من القتل أو الفاحشة، أو ما أشبه ذلك من الضَّرورات التي لا حيلةَ فيها فلا بأس.
س: ما حكم مَن يحلف بالنبي؟
ج: لا يجوز الحلف بغير الله كائنًا مَن كان، لا بالنبي، ولا بغيره، يقول النبيُّ ﷺ: مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، وقال: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون، وقال ﷺ: مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك أخرجه الإمامُ أحمد بإسنادٍ صحيحٍ عن عمر، وخرج أبو داود والترمذي بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ أنه قال: مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك، وقال عليه الصلاة والسلام: مَن حلف بالأمانة فليس منا.
فالمقصود أنَّ الواجب الحلف بالله وحده، لا يجوز الحلف بالنبي، ولا بغير النبي، ولا بالأمانة، ولا بالكعبة، ولا بغير ذلك، الحلف بالله وحده، يقول ﷺ: مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، لا يجوز الحلفُ بغير الله كائنًا مَن كان، نسأل الله العافية.
س: ما ثواب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟
ج: جاء فيها بعض الأحاديث الضَّعيفة، وثبت عن بعض الصحابة أنه كان يقرأها يوم الجمعة، فإذا قرأها يوم الجمعة فحسن إن شاء الله؛ لأنه ثبت عن بعض الصحابة قراءتها.
س: أنا أحبُّك في الله، سؤالي: بعض العلماء يقولون: إنَّ النبي ﷺ أذن للحجِّ عن الميت دون العمرة، فهل العمرة صحيحة؟ نحتاج إلى معرفة بعض الأدلة، أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
ج: أما الحبُّ في الله فنقول: أحبَّك الله الذي أحببتنا له، والله جلَّ وعلا شرع لعباده التَّحاب في الله؛ يقول النبي ﷺ: سبعة يُظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله: إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله؛ اجتمعا عليه، وتفرَّقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ويقول النبيُّ ﷺ: يقول الله جلَّ وعلا: وجبت محبَّتي للمُتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ.
أما العمرة فيجوز الاعتمار عن الغير كالحجِّ سواء إذا كان ميتًا أو عاجزًا: كالهرم، والمريض الذي لا يُرجا برؤه يحجّ عنه ويعتمر؛ جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجَّ ولا الظعن، أفأحج عنه وأعتمر؟ قال: حُجَّ عن أبيك واعتمر، فلا بأس أن يحجَّ عنه ويعتمر، إذا جاز الحجُّ فالعمرة من باب أولى عن العاجز لمرضٍ أو كبرٍ أو هرمٍ، وعن الميت.