وقوع الأمم السابقة في الشرك

وقد كان أهل الشرك من أهل مكة وغيرهم قبل بعث النبي عليه الصلاة والسلام يعبدون الله ويعبدون معه غيره، وهذه حالة الأمم من الأعاجم على اختلاف أنواعهم وأشكالهم وطبقاتهم وأجناسهم، داؤهم داء العرب يعبدون مع الله غيره، هذا يعبد المسيح ابن مريم، وهذا يعبد العزير، وهذا يعبد الأحبار والرهبان، وهذا يعبد الكواكب، وهذا يعبد الأشجار والأحجار، وهذا يعبد أصنامًا معينة، وهذا يعبد أشياء أخرى، والعرب لهم أصنام ولهم آلهة كثيرة يعبدونها مع الله في حال الرخاء، فإذا جاءت الشدائد فالعرب تصرف لله العبادة إذا اشتد الأمر أخلصوا لله كما قال الله سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، وقال : وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان:32]، هذه حالهم عند الكرب والشدة يعلمون أن الله هو المنجي لا غيره، ولهذا يخصونه بالعبادة ويدعونه وحده، فإذا جاءت النعم والعافية والرخاء أشركوا مع الله غيره، وعبدوا اللات والعزى ومناة والأصنام الأخرى التي لهم، وقد وقع هذا في قوم نوح، فأشركوا بالله غيره، عبدوا معه ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وأضلوا كثيرًا بهذه الأصنام، فلما وقع فيهم هذا الشرك بعث الله إليهم نوحًا عليه الصلاة والسلام فأنذرهم كثيرًا ونصحهم كثيرًا وأبدى في ذلك وأعاد، ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهو قائم بالنصح، يحذرهم من هذا الشرك، ويأمرهم بالإخلاص لله وحده، فما زادهم إلا نفورًا -نعوذ بالله-، وما زادهم إلا طغيانًا وكفرًا إلا نفرًا قليلًا أجابوه قليل، فلما استمروا في الطغيان والبلاء والشرك بالله أمره الله أن يصنع السفينة، فلما تم صنعها قال الله جل وعلا أمر الأرض أن تخرج الماء، وأمر السماء أن تمطر، فالتقى الماء وركب نوح في السفينة ومن آمن معه، ومن كل جنس زوجين، وأنجاه الله ومن معه في السفينة وأهلك البقية أهل الأرض جميعًا، كما قال عز وجل: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت:15]، وهكذا هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وغيرهم من الأنبياء كلهم نصحوا أممهم وحثوهم على الإخلاص لله، وهكذا من بعدهم إلى أن وصل الدرب لخاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، محمد ﷺ بعث إلى المشركين وإلى أهل الأرض جميعًا بما بعث به الأولون من الرسل؛ لينذرهم ويحذرهم بأس الله، ويبين لهم ماذا خلقوا له، وأنهم خلقوا ليعبدوا الله بطاعة أوامره وترك نواهيه وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فلم يزل بهم يدعوهم إلى الله حتى جرى ما جرى مما هو معلوم، فآذوه وآذوا أصحابه، واشتد بهم الكرب في مكة المكرمة، وما آمن إلا القليل بسبب العذاب، حتى أذن الله له بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، وهاجر معه من استطاع، الهجرة من أصحابه قبله وبعده، وهاجر قبل ذلك جماعة إلى الحبشة بسبب الأذى، ثم أظهر الله دينه وأعلى كلمته ونصره على من ناوأه، ولم يزل يجاهدهم في الله ويدعوهم إلى الله حتى يخلصوا لله، حتى ينصحوا في عبادة الله، حتى يؤدوا الحق الذي خلقوا له، فانتهى الأمر معه ومعهم إلى أن فتح الله عليه مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وظهر دين الله في الأرض، وانتشر في هذه الجزيرة، ثم توفى الله نبيه عليه الصلاة والسلام في السنة الحادية عشر من الهجرة، وترك الناس على البيضاء وعلى المحجة الواضحة، وعلى الدين الواضح، وعلى صراط مستقيم سار عليه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وجاهدوا كما جاهد، ودعوا إلى الله ولم يزالوا في جهادهم ودعوتهم إلى الله ليخلص الناس أعمالهم لله وليعبدوه وحده .