الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد سمعنا جميعا هذه الندوة المباركة من المشايخ: الشيخ صالح الأطرم، والشيخ عبدالرحمن البراك، والشيخ عبدالعزيز الراجحي فيما يتعلق بصلاة الاستسقاء وصفتها، وبأنها سالت الأودية هناك ونزل خير كثير، نسأل الله أن ينفع به المسلمين، وأن يجعله مباركاً، وأن يعم به أوطان المسلمين، وأن يغيث الباقين غيثا مباركا، وأن يصلح القلوب والأعمال، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
لقد ذكر المشايخ في هذه الصلاة ما يكفي ويشفي، وهذه الصلاة صلاة مشروعة، فعلها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهي صلاة الاستسقاء، ويقال لها: صلاة الاستغاثة، تفعل عند وجود الحاجة إليها كما ذكر المشايخ إذا احتيج إليها بسبب الجدب والقحط وقلة الأمطار، أو غور المياه وذهاب الأنهار، يحتاج إليها فيستغيث المسلمون ربهم جل وعلا، والمسلمون في أشد الحاجة والضرورة إلى رحمة الله في كل وقت، وكل خير فهو منه جل وعلا، كما قال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].
والاستغاثة والاستسقاء عبادة عظيمة يظهر فيها المسلمون فقرهم وحاجتهم وذلهم لربهم ، وشدة ضرورتهم إلى رحمته وإحسانه جل وعلا، وهو يحب من عباده أن يظهروا له الفاقة، وأن يتضرعوا إليه، وأن يذلوا بين يديه، وأن يسترحموه ، ويسألوه جل وعلا، ولهذا يقول : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] ويقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ويقول : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]
فهو سبحانه يحب أن يدعى، ويحب أن يسأل جل وعلا، ويحب من عباده أن يتضرعوا إليه، ويفتقروا إليه، ويذلوا بين يديه .
ونفس الدعاء عبادة وقربة سواء أجيب الناس أو لم يجابوا كما سمعتم في الندوة، الدعاء: عبادة وقربة، وفيه خير كثير، ومصالح جمة، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك قالوا: يا رسول الله إذا نكثر قال: الله أكثر[1] فالمعنى أن الإنسان قد يدعو وتؤخر دعوته لحكمة بالغة؛ إما ليزداد ذله لله وليزداد دعاؤه لله وإظهار حاجته بين يديه فيكون له في هذا خير عظيم، فكم من حاجة صارت سبباً لهداية صاحبها وصلاح قلبه، وصلاح عمله، وقربه من الله ، وكان قبل ذلك في غفلة وفي إعراض، فجاءته حاجة من فقر، أو مرض، أو تسليط أعداء، فلجأ إلى الله، وضرع إليه، واستغاثه، وانكسر بين يديه، وفتح الله عليه من المعارف والعلوم والأنس بالله والذل بين يديه، ما جعل هذه الحاجة سببا لهدايته وصلاح قلبه، وما جعل هذه الحاجة سبباً لقربه من الله، وانتقاله من حال الغافلين والمعرضين إلى حال المقربين من الله ، واللاجئين إليه ، والمنكسرين بين يديه ، فالدعوات التي يتقدم بها العباد لربهم فيها خير كثير، فإن أجيبوا وحصل مطلوبهم سريعاً، فهذا هو مطلوبهم وعليهم شكر الله والإنابة إليه، وإن تأخرت الإجابة فلحكمة بالغة، قد يكون تأخيرها لمعاصيهم وسيئاتهم، فلينتبهوا وليتوبوا إلى الله، وليعالجوا الأوضاع بالتوبة والإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تزول المنكرات، وحتى يحل محلها الأعمال الصالحات، كما قال : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] وقال : مَا أَصَابَكَ مِنْْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].
وقال سبحانه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]
والواجب مقابلة النعم بشكر الله عليها. فالحاصل أن التوبة إلى الله مطلوبة جداً في حال الرخاء والشدة، وفي حال الشدة يفكر الإنسان كثيرا في أسبابها حتى يعرف ما له وما عليه، وحتى يعرف ما وقع منه، سواء كانت الشدة عامة، أو شدة خاصة أصابته هو، فيحاسب نفسه في ذلك وينظر ويبادر بالتوبة والإصلاح، والرجوع إلى الله جل وعلا، لعل الله يرفع عنه ما نزل من مرض، أو فقر، أو تسليط أعداء، أو تسليط زوجة، أو تسليط أولاد، أو غير ذلك، فقد يتسلط على الإنسان أولاده، وقد تتسلط عليه زوجته فيبتلى بظلمها وأذاها، وقد يبتلى بجيران، وقد يبتلى بغير ذلك، فليعالج ذلك بالرجوع إلى الله، والالتجاء إليه، والتوبة إليه من الذنوب والمعاصي، وسؤاله سبحانه الهداية والعفو والمغفرة جل وعلا، مع المحاسبة الشديدة للنفس، وإيقافها عند حدها، وكفها عن محارم الله، وإلزامها بحق الله وحق عباده، وجهادها في ذلك. فالنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله .
وعلى ولاة الأمور أن ينظروا في ذلك أيضاً، فقد يكون البلاء من أسبابهم، فعليهم أن ينظروا أيضا فيما فعلوا وماذا عليهم، حتى يستقيموا، وحتى يعالجوا الأوضاع بما يرضي الله ويقرب إليه.
وعلى الأغنياء أن ينظروا هل أخرجوا الزكاة، وهل أدوا حق الله، فكل واحد ينظر فيما يجب عليه: الفقير والغني والدولة وعموم الناس، كل واحد ينظر ويحاسب نفسه حتى يستقيم، وحتى يؤدي الحق، وحتى يصلح الأوضاع المتعلقة به في الجدب والرخاء، وفي العسر واليسر، وفي جميع الأحوال، لكن في حال الجدب، وفي حال الشدائد، الناس إلى هذه المحاسبة، وإلى التوبة أشد حاجة وأعظم ضرورة للعموم وللمصلحة العامة.
ومن ذلك أيضاً: تقديم الصدقات للفقراء والمساكين، ورحمتهم، والإحسان إليهم، والرفق بهم، فإن الله جل وعلا يرحم الراحمين، ومن لا يرحم لا يرحم، والراحمون يرحمهم الرحمن: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء[2] كما جاء في الحديث، فإذا بادر الناس إلى هذا الخير من التوبة، والندم، والإقلاع، ومجاهدة النفس، ورحمة الفقراء والمساكين، والعناية بإصلاح الأوضاع، من الدولة، والأغنياء، والفقراء، وجميع الشعب، وجميع المسلمين، كان هذا من أعظم الأسباب في تحول الله عما يضرهم إلى ما ينفعهم فإنه جواد كريم ، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] فإذا غيروا ما بأنفسهم من المعاصي والشرور وفساد الأوضاع إلى توبة صادقة وأعمال صالحة، غير الله ما بهم من الشدة والفساد والانقسام والافتراق إلى الاجتماع على الحق، وإلى خير كثير، وإلى نعم عظيمة، وإلى نزول الغيث، وإلى صلاح أحوالهم، وإلى حمايتهم من عدوهم ومكائده، إلى غير هذا من الخيرات التي يعطيهم الله إياها إذا تحولوا عن معاصيه واتجهوا إلى ما يرضيه ، والعكس بالعكس إذا كانوا على طاعة واستقامة ثم تحولوا إلى المعاصي والشرور تحول الله لهم عما ينفعهم إلى ما يضرهم، وعاقبهم على أعمالهم السيئة، وقد يملي لهم فلا يعاجلهم بالعقوبة لحكمة بالغة، كما قال سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].
وكما قال النبي ﷺ: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته[3] ثم قرأ قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فهو سبحانه يملي للظالمين ويمهلهم ثم يأخذهم على غرة -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وقد يملي لهم إلى يوم القيامة، فيستمرون في النعم، كما هو الآن حال الكفرة من النصارى واليهود وغيرهم، وقد يعطون النعم الكثيرة، ويستدرجون بها ويملي لهم حتى يموتوا على شر حالة فيكون ذلك أشد لعذابهم، وأعظم وأكبر. وبعض السفهاء والجهلة قد يغتر بما عند الكفار من النعم وهم على الكفر بالله، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بذلك، فالله يملي لهم ويستدرجهم، ثم يأخذهم على غرة بالزلازل والحروب والشرور الكثيرة، أو يمهلهم إلى الموت فيكون عذابهم في الآخرة أشد وأكبر، كما قال : لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197] وقال سبحانه: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنََّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44، 45] وقال جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَاا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].
فالإنسان لا يغتر بأولئك فهم أعداء الله، مهما كانت أحوالهم، وقد يفتح الله عليهم كل شيء؛ ليزدادوا بلاء إلى بلائهم وشرا على شرهم، كما يقول جل وعلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178] نسأل الله العافية، فقد يملي لهم فيزدادوا إثما بذلك وعذابا مهينا بعد ذلك، وقال : فَلَمَّاا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] يعني: آيسون من كل خير.
فعلى كل حال؛ المسلم العاقل لا يغتر بما عند الكفرة -مع كفرهم وضلالهم- من أنهار نزلوا عندها، ومن خيرات، ومن أمطار كثيرة، ومن بساتين، ومن صناعات، فإنهم يستدرجون بها، ويملي لهم لحكمة بالغة، وربك جل وعلا هو الحليم الحكيم، حليم حكيم، لا يعاجل بالعقوبة جل وعلا، فقد يملي كثيرا، وقد يعاجل بعض الناس بذنوبهم، كما قال جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وقال النبي ﷺ: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته[4] ثم قرأ هذه الآية: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكََ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وقد تعجل العقوبة، كما في الحديث الآخر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما من ذنب أجدر عند الله من أن يعجل الله بهه العقوبة مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم[5] فقد تعجل عقوبة الباغي الظالم وقاطع الرحم، بسبب جريمته الشنيعة، وقد يمهل الكافر والعاصي لحكمة بالغة.
فالواجب على العاقل أن يحذر عقاب الله، وأن يحذر غضبه دائماً، وأن يحاسب نفسه، وألا يغتر بمن أمهلوا وأنظروا من كفار أو عصاة، فإن ربك حكيم عليم في الإمهال والإنظار، وفي تعجيل العقوبات.
أما صلاة الاستسقاء فقد سمعتم وعرفتم أن الرسول ﷺ فعلها لما استسقى لما اشتد الجدب، وواعد الناس يوماً يخرجون فيه، وخرج عليه الصلاة والسلام حين بدا حاجب الشمس في أول النهار، وصلى بالناس، وخطبهم ودعا واستسقى، وقلب رداءه وهو واقف حال دعائه تفاؤلا ورجاء أن يحول الله الشدة إلى رخاء، كما جاء في الأثر المرسل عن أبي جعفر الباقر أن النبي ﷺ حول رداءه في الاستسقاء ليتحول القحط، والمقصود أنه ﷺ دعا وخطب الناس وذكرهم. ودعا كثيراً عليه الصلاة والسلام فأجاب الله دعوته وأنشأ السحاب وأنزل المطر في الحال، بفضل الله ورحمته ، ليري الناس قرب رحمته جل وعلا، وعلامة من علامات صدق الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه رسول الله حقاً، حيث دعا وأجابه الله في الحال، ونزل المطر في الحال في استغاثته لما استغاث صباحا، وفي استغاثته يوم الجمعة لما استغاث يوم الجمعة في الخطبة حين جاءه الأعرابي وقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا فدعا ربه ورفع يديه وقال:«اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا» فأنشأ الله السحاب ونزل المطر وهو في المسجد حتى خرجوا في المطر يهم كل واحد أن يصل إلى بيته وقد نزل المطر بهم إلى الجمعة الأخرى فسالت الأودية وسالت الشعاب وجاءت الأخبار من كل مكان بنزول المطر فجاء ذلك الرجل أو غيره من الجمعة الأخرى وقال يا رسول الله -وهو يخطب عليه الصلاة والسلام- هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا؛ فتبسم النبي ﷺ من ذلك من ضعف بني آدم، في الجمعة الأولى يطلبونه أن يسأل الغيث، وفي الجمعة الأخرى يطلبونه أن يسأل الإمساك، فرفع النبي يديه عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر[6] قال الراوي أنس : فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.
فهذا فضله وهو القائل : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وهذه علامات قدرته سبحانه العظيمة، وأنه على كل شيء قدير، وأنه يقول للشيء كن فيكون، ومن الدلائل على صدق رسوله محمد ﷺ، وأنه رسول الله حقا حيث أجاب الله دعوته في الحال، وأنزل المطر في الحال، ثم عجل الإقلاع في الحال رحمة منه لعباده، فعلى المسلمين أن يتأسوا بنبيهم ﷺ، وأن يستغيثوا عند الحاجة ويكرروا ذلك حتى يمطروا، فإن هذا فيه خير لهم؛ لأن الدعاء كله خير، وكله ضراعة إلى الله، وكله طلب من الله ، ثم إن تأخر المطر لله فيه حكمة عظيمة فقد يسبب رجوعهم إلى الله، وتوبتهم إليه، وإكثارهم من الحسنات والطاعات، والتفكير في أسباب التأخر، فيعينهم ذلك على محاسبة أنفسهم، وعلى الرجوع إلى الله، والتوبة إليه، وعلى إصلاح الأوضاع من كبارهم وصغارهم، كما قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83] فهو الحكيم في أقواله، وفي أفعاله، وفيما يقضيه ويقدره .
وثبت عنه ﷺ ما يدل على أنه خطب قبل الصلاة وخطب بعد الصلاة، ولعل ذلك كان في حالين، وفي وقتين، فإنه ثبت أنه دعا وخطب قبل الصلاة، وثبت في أحاديث أخرى أنه دعا وخطب بعد الصلاة، جاء في حديث عبدالله بن زيد وحديث أبي هريرة أنه ﷺ صلى ثم دعا وخطب عليه الصلاة والسلام، وجاء في حديث ابن عباس ما يؤيد ذلك وأنه صلى كما يصلي في العيد.
وقد جاء في حديث عبدالله بن زيد أيضا وحديث عائشة أنه خطب قبل الصلاة وصلى بعد ذلك، فكل منهما ثابت، وكل منهما موسع بحمد الله، من خطب ثم صلى فلا بأس، ومن صلى ثم خطب فلا بأس، كل هذا جاء عنه عليه الصلاة والسلام، والأمر في ذلك واسع والحمد لله، ومن شبهها بالعيد -كما قال ابن عباس وأخبر أنه صلى كما صلى في العيد- فقد أصاب السنة، ووافق ما رواه عبدالله بن زيد في إحدى روايتيه، ووافق حديث أبي هريرة في الصلاة ثم الخطبة.
ومن خطب قبل ذلك وافق حديث عبدالله بن زيد المخرج في الصحيحين، ووافق حديث عائشة فكل منهما سنة، وكل منهما خير والحمد لله.
المهم في هذا الأمر إخلاص القلوب وضراعتها إلى الله، وانكسارها بين يدي الله سبحانه، وأن يخرج الناس إلى صلاة الاستسقاء بقلوب مقبلة على الله جل وعلا، منيبة إليه، تائبة، نادمة، مقلعة عن الذنوب ترجو رحمته وتخشى عقابه، وأن يكثر الناس من الدعاء والاستغفار والتوبة إلى الله ، وأن يخرج الناس في ثياب بذلتهم، أي: في الثياب العادية، لا كالعيد، فإن هذا خروج حاجة، وخروج ذلة لله، وخروج استكانة بين يديه، وخروج افتقار إليه ، فيخرج الناس بالثياب العادية التي يعتادون الخروج فيها؛ لأنه خروج ليس كخروج العيد بل خروج ذلة بين يدي الله سبحانه، وضراعة إليه سبحانه، وانكسار بين يديه، وافتقار إليه ، فكل واحد يجتهد في الدعاء في طريقه، وفي جلوسه في المسجد، وفي حال تأمينه على دعاء الإمام يرجو رحمة الله ويرجو فضله ، وهكذا جميع الناس، وهكذا ولاة الأمور، وهكذا الأغنياء، كل واحد يجتهد في هذا الأمر بالتوبة الصادقة، والحرص على إصلاح الأوضاع، وعلى ترك المعاصي، وعلى التوبة إلى الله من سائر المعاصي وعلى إقامة أمر الله في أرض الله، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد نزول المطر يستحب أن يقول المسلم: اللهم صيبا نافعاً مطرنا بفضل الله ورحمته.
هكذا السنة، مطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم صيبا نافعا. هكذا علم النبي الأمة عليه الصلاة والسلام أن يقولوا هكذا، ولا يجوز أن يقال مطرنا بنوء كذا، أو لقد صدق نوء كذا، أو لقد صدق الحاسب الفلاني، كل هذا لا يجوز، فإن النجوم ليس لها أثر في هذا الأمر لا في اجتماعها ولا افتراقها ولا طلوعها ولا غروبها، هي سائرة كما أمرها الله وكما سيرها سبحانه، ليس لها تعلق بالمطر وليس لها أسباب في المطر، بل كله من رحمة الله وفضله وإحسانه كما يشاء جل وعلا، فلا يقال مطرنا بنوء كذا ولا بنجم كذا، ولا يقال صدق نوء كذا، أو صدق الحاسب الفلاني، أو ما أشبه ذلك، كل هذا لا وجه له، ولا أصل له. بل بين النبي ﷺ أنه كفر، وأنه لا يجوز، فوجب على أهل الإسلام الحذر من ذلك.
ويستحب للمسلم أن يكشف بعض جسده عند نزول المطر حتى يصيبه المطر؛ لفعل النبي ﷺ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن أنس قال: (أصابنا مع رسول الله مطر فحسر ثوبه حتى أصابه المطر) فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا فقال: لأنه حديث عهد بربه[7] فدل ذلك على استحباب أن يكشف المرء بعض الشيء من جسده كذراعه أو رأسه حتى يصيبه المطر، كما فعله النبي ﷺ.
فالمشروع أن يكشف المسلم مثلا عمامته عن رأسه، أو طرف ردائه عن عضده، أو عن ذراعه حتى يصيبه المطر، أو ساقه، أو ما أشبه ذلك مما يجوز كشفه عند الناس كالقدم والساق والرأس واليد ونحو ذلك.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وزادنا وإياكم وسائر المسلمين علما وتوفيقا، وضاعف أجر الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه[8].
فقد سمعنا جميعا هذه الندوة المباركة من المشايخ: الشيخ صالح الأطرم، والشيخ عبدالرحمن البراك، والشيخ عبدالعزيز الراجحي فيما يتعلق بصلاة الاستسقاء وصفتها، وبأنها سالت الأودية هناك ونزل خير كثير، نسأل الله أن ينفع به المسلمين، وأن يجعله مباركاً، وأن يعم به أوطان المسلمين، وأن يغيث الباقين غيثا مباركا، وأن يصلح القلوب والأعمال، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
لقد ذكر المشايخ في هذه الصلاة ما يكفي ويشفي، وهذه الصلاة صلاة مشروعة، فعلها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهي صلاة الاستسقاء، ويقال لها: صلاة الاستغاثة، تفعل عند وجود الحاجة إليها كما ذكر المشايخ إذا احتيج إليها بسبب الجدب والقحط وقلة الأمطار، أو غور المياه وذهاب الأنهار، يحتاج إليها فيستغيث المسلمون ربهم جل وعلا، والمسلمون في أشد الحاجة والضرورة إلى رحمة الله في كل وقت، وكل خير فهو منه جل وعلا، كما قال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].
والاستغاثة والاستسقاء عبادة عظيمة يظهر فيها المسلمون فقرهم وحاجتهم وذلهم لربهم ، وشدة ضرورتهم إلى رحمته وإحسانه جل وعلا، وهو يحب من عباده أن يظهروا له الفاقة، وأن يتضرعوا إليه، وأن يذلوا بين يديه، وأن يسترحموه ، ويسألوه جل وعلا، ولهذا يقول : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] ويقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ويقول : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]
فهو سبحانه يحب أن يدعى، ويحب أن يسأل جل وعلا، ويحب من عباده أن يتضرعوا إليه، ويفتقروا إليه، ويذلوا بين يديه .
ونفس الدعاء عبادة وقربة سواء أجيب الناس أو لم يجابوا كما سمعتم في الندوة، الدعاء: عبادة وقربة، وفيه خير كثير، ومصالح جمة، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك قالوا: يا رسول الله إذا نكثر قال: الله أكثر[1] فالمعنى أن الإنسان قد يدعو وتؤخر دعوته لحكمة بالغة؛ إما ليزداد ذله لله وليزداد دعاؤه لله وإظهار حاجته بين يديه فيكون له في هذا خير عظيم، فكم من حاجة صارت سبباً لهداية صاحبها وصلاح قلبه، وصلاح عمله، وقربه من الله ، وكان قبل ذلك في غفلة وفي إعراض، فجاءته حاجة من فقر، أو مرض، أو تسليط أعداء، فلجأ إلى الله، وضرع إليه، واستغاثه، وانكسر بين يديه، وفتح الله عليه من المعارف والعلوم والأنس بالله والذل بين يديه، ما جعل هذه الحاجة سببا لهدايته وصلاح قلبه، وما جعل هذه الحاجة سبباً لقربه من الله، وانتقاله من حال الغافلين والمعرضين إلى حال المقربين من الله ، واللاجئين إليه ، والمنكسرين بين يديه ، فالدعوات التي يتقدم بها العباد لربهم فيها خير كثير، فإن أجيبوا وحصل مطلوبهم سريعاً، فهذا هو مطلوبهم وعليهم شكر الله والإنابة إليه، وإن تأخرت الإجابة فلحكمة بالغة، قد يكون تأخيرها لمعاصيهم وسيئاتهم، فلينتبهوا وليتوبوا إلى الله، وليعالجوا الأوضاع بالتوبة والإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تزول المنكرات، وحتى يحل محلها الأعمال الصالحات، كما قال : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] وقال : مَا أَصَابَكَ مِنْْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].
وقال سبحانه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]
والواجب مقابلة النعم بشكر الله عليها. فالحاصل أن التوبة إلى الله مطلوبة جداً في حال الرخاء والشدة، وفي حال الشدة يفكر الإنسان كثيرا في أسبابها حتى يعرف ما له وما عليه، وحتى يعرف ما وقع منه، سواء كانت الشدة عامة، أو شدة خاصة أصابته هو، فيحاسب نفسه في ذلك وينظر ويبادر بالتوبة والإصلاح، والرجوع إلى الله جل وعلا، لعل الله يرفع عنه ما نزل من مرض، أو فقر، أو تسليط أعداء، أو تسليط زوجة، أو تسليط أولاد، أو غير ذلك، فقد يتسلط على الإنسان أولاده، وقد تتسلط عليه زوجته فيبتلى بظلمها وأذاها، وقد يبتلى بجيران، وقد يبتلى بغير ذلك، فليعالج ذلك بالرجوع إلى الله، والالتجاء إليه، والتوبة إليه من الذنوب والمعاصي، وسؤاله سبحانه الهداية والعفو والمغفرة جل وعلا، مع المحاسبة الشديدة للنفس، وإيقافها عند حدها، وكفها عن محارم الله، وإلزامها بحق الله وحق عباده، وجهادها في ذلك. فالنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله .
وعلى ولاة الأمور أن ينظروا في ذلك أيضاً، فقد يكون البلاء من أسبابهم، فعليهم أن ينظروا أيضا فيما فعلوا وماذا عليهم، حتى يستقيموا، وحتى يعالجوا الأوضاع بما يرضي الله ويقرب إليه.
وعلى الأغنياء أن ينظروا هل أخرجوا الزكاة، وهل أدوا حق الله، فكل واحد ينظر فيما يجب عليه: الفقير والغني والدولة وعموم الناس، كل واحد ينظر ويحاسب نفسه حتى يستقيم، وحتى يؤدي الحق، وحتى يصلح الأوضاع المتعلقة به في الجدب والرخاء، وفي العسر واليسر، وفي جميع الأحوال، لكن في حال الجدب، وفي حال الشدائد، الناس إلى هذه المحاسبة، وإلى التوبة أشد حاجة وأعظم ضرورة للعموم وللمصلحة العامة.
ومن ذلك أيضاً: تقديم الصدقات للفقراء والمساكين، ورحمتهم، والإحسان إليهم، والرفق بهم، فإن الله جل وعلا يرحم الراحمين، ومن لا يرحم لا يرحم، والراحمون يرحمهم الرحمن: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء[2] كما جاء في الحديث، فإذا بادر الناس إلى هذا الخير من التوبة، والندم، والإقلاع، ومجاهدة النفس، ورحمة الفقراء والمساكين، والعناية بإصلاح الأوضاع، من الدولة، والأغنياء، والفقراء، وجميع الشعب، وجميع المسلمين، كان هذا من أعظم الأسباب في تحول الله عما يضرهم إلى ما ينفعهم فإنه جواد كريم ، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] فإذا غيروا ما بأنفسهم من المعاصي والشرور وفساد الأوضاع إلى توبة صادقة وأعمال صالحة، غير الله ما بهم من الشدة والفساد والانقسام والافتراق إلى الاجتماع على الحق، وإلى خير كثير، وإلى نعم عظيمة، وإلى نزول الغيث، وإلى صلاح أحوالهم، وإلى حمايتهم من عدوهم ومكائده، إلى غير هذا من الخيرات التي يعطيهم الله إياها إذا تحولوا عن معاصيه واتجهوا إلى ما يرضيه ، والعكس بالعكس إذا كانوا على طاعة واستقامة ثم تحولوا إلى المعاصي والشرور تحول الله لهم عما ينفعهم إلى ما يضرهم، وعاقبهم على أعمالهم السيئة، وقد يملي لهم فلا يعاجلهم بالعقوبة لحكمة بالغة، كما قال سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].
وكما قال النبي ﷺ: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته[3] ثم قرأ قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فهو سبحانه يملي للظالمين ويمهلهم ثم يأخذهم على غرة -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وقد يملي لهم إلى يوم القيامة، فيستمرون في النعم، كما هو الآن حال الكفرة من النصارى واليهود وغيرهم، وقد يعطون النعم الكثيرة، ويستدرجون بها ويملي لهم حتى يموتوا على شر حالة فيكون ذلك أشد لعذابهم، وأعظم وأكبر. وبعض السفهاء والجهلة قد يغتر بما عند الكفار من النعم وهم على الكفر بالله، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بذلك، فالله يملي لهم ويستدرجهم، ثم يأخذهم على غرة بالزلازل والحروب والشرور الكثيرة، أو يمهلهم إلى الموت فيكون عذابهم في الآخرة أشد وأكبر، كما قال : لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197] وقال سبحانه: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنََّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44، 45] وقال جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَاا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].
فالإنسان لا يغتر بأولئك فهم أعداء الله، مهما كانت أحوالهم، وقد يفتح الله عليهم كل شيء؛ ليزدادوا بلاء إلى بلائهم وشرا على شرهم، كما يقول جل وعلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178] نسأل الله العافية، فقد يملي لهم فيزدادوا إثما بذلك وعذابا مهينا بعد ذلك، وقال : فَلَمَّاا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] يعني: آيسون من كل خير.
فعلى كل حال؛ المسلم العاقل لا يغتر بما عند الكفرة -مع كفرهم وضلالهم- من أنهار نزلوا عندها، ومن خيرات، ومن أمطار كثيرة، ومن بساتين، ومن صناعات، فإنهم يستدرجون بها، ويملي لهم لحكمة بالغة، وربك جل وعلا هو الحليم الحكيم، حليم حكيم، لا يعاجل بالعقوبة جل وعلا، فقد يملي كثيرا، وقد يعاجل بعض الناس بذنوبهم، كما قال جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وقال النبي ﷺ: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته[4] ثم قرأ هذه الآية: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكََ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وقد تعجل العقوبة، كما في الحديث الآخر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما من ذنب أجدر عند الله من أن يعجل الله بهه العقوبة مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم[5] فقد تعجل عقوبة الباغي الظالم وقاطع الرحم، بسبب جريمته الشنيعة، وقد يمهل الكافر والعاصي لحكمة بالغة.
فالواجب على العاقل أن يحذر عقاب الله، وأن يحذر غضبه دائماً، وأن يحاسب نفسه، وألا يغتر بمن أمهلوا وأنظروا من كفار أو عصاة، فإن ربك حكيم عليم في الإمهال والإنظار، وفي تعجيل العقوبات.
أما صلاة الاستسقاء فقد سمعتم وعرفتم أن الرسول ﷺ فعلها لما استسقى لما اشتد الجدب، وواعد الناس يوماً يخرجون فيه، وخرج عليه الصلاة والسلام حين بدا حاجب الشمس في أول النهار، وصلى بالناس، وخطبهم ودعا واستسقى، وقلب رداءه وهو واقف حال دعائه تفاؤلا ورجاء أن يحول الله الشدة إلى رخاء، كما جاء في الأثر المرسل عن أبي جعفر الباقر أن النبي ﷺ حول رداءه في الاستسقاء ليتحول القحط، والمقصود أنه ﷺ دعا وخطب الناس وذكرهم. ودعا كثيراً عليه الصلاة والسلام فأجاب الله دعوته وأنشأ السحاب وأنزل المطر في الحال، بفضل الله ورحمته ، ليري الناس قرب رحمته جل وعلا، وعلامة من علامات صدق الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه رسول الله حقاً، حيث دعا وأجابه الله في الحال، ونزل المطر في الحال في استغاثته لما استغاث صباحا، وفي استغاثته يوم الجمعة لما استغاث يوم الجمعة في الخطبة حين جاءه الأعرابي وقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا فدعا ربه ورفع يديه وقال:«اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا» فأنشأ الله السحاب ونزل المطر وهو في المسجد حتى خرجوا في المطر يهم كل واحد أن يصل إلى بيته وقد نزل المطر بهم إلى الجمعة الأخرى فسالت الأودية وسالت الشعاب وجاءت الأخبار من كل مكان بنزول المطر فجاء ذلك الرجل أو غيره من الجمعة الأخرى وقال يا رسول الله -وهو يخطب عليه الصلاة والسلام- هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا؛ فتبسم النبي ﷺ من ذلك من ضعف بني آدم، في الجمعة الأولى يطلبونه أن يسأل الغيث، وفي الجمعة الأخرى يطلبونه أن يسأل الإمساك، فرفع النبي يديه عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر[6] قال الراوي أنس : فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.
فهذا فضله وهو القائل : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وهذه علامات قدرته سبحانه العظيمة، وأنه على كل شيء قدير، وأنه يقول للشيء كن فيكون، ومن الدلائل على صدق رسوله محمد ﷺ، وأنه رسول الله حقا حيث أجاب الله دعوته في الحال، وأنزل المطر في الحال، ثم عجل الإقلاع في الحال رحمة منه لعباده، فعلى المسلمين أن يتأسوا بنبيهم ﷺ، وأن يستغيثوا عند الحاجة ويكرروا ذلك حتى يمطروا، فإن هذا فيه خير لهم؛ لأن الدعاء كله خير، وكله ضراعة إلى الله، وكله طلب من الله ، ثم إن تأخر المطر لله فيه حكمة عظيمة فقد يسبب رجوعهم إلى الله، وتوبتهم إليه، وإكثارهم من الحسنات والطاعات، والتفكير في أسباب التأخر، فيعينهم ذلك على محاسبة أنفسهم، وعلى الرجوع إلى الله، والتوبة إليه، وعلى إصلاح الأوضاع من كبارهم وصغارهم، كما قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83] فهو الحكيم في أقواله، وفي أفعاله، وفيما يقضيه ويقدره .
وثبت عنه ﷺ ما يدل على أنه خطب قبل الصلاة وخطب بعد الصلاة، ولعل ذلك كان في حالين، وفي وقتين، فإنه ثبت أنه دعا وخطب قبل الصلاة، وثبت في أحاديث أخرى أنه دعا وخطب بعد الصلاة، جاء في حديث عبدالله بن زيد وحديث أبي هريرة أنه ﷺ صلى ثم دعا وخطب عليه الصلاة والسلام، وجاء في حديث ابن عباس ما يؤيد ذلك وأنه صلى كما يصلي في العيد.
وقد جاء في حديث عبدالله بن زيد أيضا وحديث عائشة أنه خطب قبل الصلاة وصلى بعد ذلك، فكل منهما ثابت، وكل منهما موسع بحمد الله، من خطب ثم صلى فلا بأس، ومن صلى ثم خطب فلا بأس، كل هذا جاء عنه عليه الصلاة والسلام، والأمر في ذلك واسع والحمد لله، ومن شبهها بالعيد -كما قال ابن عباس وأخبر أنه صلى كما صلى في العيد- فقد أصاب السنة، ووافق ما رواه عبدالله بن زيد في إحدى روايتيه، ووافق حديث أبي هريرة في الصلاة ثم الخطبة.
ومن خطب قبل ذلك وافق حديث عبدالله بن زيد المخرج في الصحيحين، ووافق حديث عائشة فكل منهما سنة، وكل منهما خير والحمد لله.
المهم في هذا الأمر إخلاص القلوب وضراعتها إلى الله، وانكسارها بين يدي الله سبحانه، وأن يخرج الناس إلى صلاة الاستسقاء بقلوب مقبلة على الله جل وعلا، منيبة إليه، تائبة، نادمة، مقلعة عن الذنوب ترجو رحمته وتخشى عقابه، وأن يكثر الناس من الدعاء والاستغفار والتوبة إلى الله ، وأن يخرج الناس في ثياب بذلتهم، أي: في الثياب العادية، لا كالعيد، فإن هذا خروج حاجة، وخروج ذلة لله، وخروج استكانة بين يديه، وخروج افتقار إليه ، فيخرج الناس بالثياب العادية التي يعتادون الخروج فيها؛ لأنه خروج ليس كخروج العيد بل خروج ذلة بين يدي الله سبحانه، وضراعة إليه سبحانه، وانكسار بين يديه، وافتقار إليه ، فكل واحد يجتهد في الدعاء في طريقه، وفي جلوسه في المسجد، وفي حال تأمينه على دعاء الإمام يرجو رحمة الله ويرجو فضله ، وهكذا جميع الناس، وهكذا ولاة الأمور، وهكذا الأغنياء، كل واحد يجتهد في هذا الأمر بالتوبة الصادقة، والحرص على إصلاح الأوضاع، وعلى ترك المعاصي، وعلى التوبة إلى الله من سائر المعاصي وعلى إقامة أمر الله في أرض الله، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد نزول المطر يستحب أن يقول المسلم: اللهم صيبا نافعاً مطرنا بفضل الله ورحمته.
هكذا السنة، مطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم صيبا نافعا. هكذا علم النبي الأمة عليه الصلاة والسلام أن يقولوا هكذا، ولا يجوز أن يقال مطرنا بنوء كذا، أو لقد صدق نوء كذا، أو لقد صدق الحاسب الفلاني، كل هذا لا يجوز، فإن النجوم ليس لها أثر في هذا الأمر لا في اجتماعها ولا افتراقها ولا طلوعها ولا غروبها، هي سائرة كما أمرها الله وكما سيرها سبحانه، ليس لها تعلق بالمطر وليس لها أسباب في المطر، بل كله من رحمة الله وفضله وإحسانه كما يشاء جل وعلا، فلا يقال مطرنا بنوء كذا ولا بنجم كذا، ولا يقال صدق نوء كذا، أو صدق الحاسب الفلاني، أو ما أشبه ذلك، كل هذا لا وجه له، ولا أصل له. بل بين النبي ﷺ أنه كفر، وأنه لا يجوز، فوجب على أهل الإسلام الحذر من ذلك.
ويستحب للمسلم أن يكشف بعض جسده عند نزول المطر حتى يصيبه المطر؛ لفعل النبي ﷺ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن أنس قال: (أصابنا مع رسول الله مطر فحسر ثوبه حتى أصابه المطر) فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا فقال: لأنه حديث عهد بربه[7] فدل ذلك على استحباب أن يكشف المرء بعض الشيء من جسده كذراعه أو رأسه حتى يصيبه المطر، كما فعله النبي ﷺ.
فالمشروع أن يكشف المسلم مثلا عمامته عن رأسه، أو طرف ردائه عن عضده، أو عن ذراعه حتى يصيبه المطر، أو ساقه، أو ما أشبه ذلك مما يجوز كشفه عند الناس كالقدم والساق والرأس واليد ونحو ذلك.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وزادنا وإياكم وسائر المسلمين علما وتوفيقا، وضاعف أجر الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه[8].
- رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) مسند أبي سعيد الخدري برقم (10749)، والترمذي في (الدعوات) باب في انتظار الفرج برقم (3573).
- رواه الإمام أحمد في (مسند عبدالله بن عمرو بن العاص) برقم (6206)، والترمذي في (البر والصلة) باب ما جاء في رحمة الناس برقم (1924) واللفظ له، ورواه أبو داود في (الأدب) باب في الرحمة برقم (4941).
- رواه البخاري في (تفسير القرآن) باب قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) برقم (4686) واللفظ له، ورواه مسلم في (البر والصلة) باب تحريم الظلم برقم (2583).
- رواه البخاري في (تفسير القرآن) باب قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) برقم (4686) واللفظ له، ورواه مسلم في (البر والصلة) باب تحريم الظلم برقم (2583).
- رواه الترمذي في (صفة القيامة) برقم (2511)، وأبو داود في (الأدب) باب في النهي عن البغي برقم (4902).
- رواه البخاري في (الجمعة) باب الاستسقاء في خطبة الجمعة برقم (1014)، ومسلم في (صلاة الاستسقاء) باب الدعاء في الاستسقاء برقم (897).
- رواه الإمام أحمد في (مسند أنس بن مالك) برقم (11957) ومسلم في (صلاة الاستسقاء) باب الدعاء في الاستسقاء برقم (898)، وأبو داود في (الأدب)باب ما جاء في المطر برقم (5100).
- تعليق لسماحته على ندوة حول صلاة الاستسقاء للمشايخ: صالح الأطرم، وعبدالرحمن البراك، وعبدالعزيز الراجحي، في الجامع الكبير في الرياض. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 13/ 49).