الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن الله جل وعلا جعل موسم الحج مؤتمرًا لعباده، يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا ومن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله وسؤاله والضراعة إليه ويطلبون حط ذنوبهم وغفران سيئاتهم، ويرفعون إليه جميع حوائجهم، يسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون ويتناصحون، ويتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله : وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:27، 28]، والله ذكر أنهم يحضرون من كل فج عميق، من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ليشهدوا هذه المنافع، من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات وبالمزدلفة ويرمون الجمار، وينحرون الهدايا ويحضرون مجالس العلم والذكر، ويسألون أهل العلم عما أشكل عليهم ويتناصحون بينهم، ويستفيد يعضهم من بعض ويحسن بعضهم إلى بعض، هكذا يجب على المسلمين؛ وهكذا شرع الله لهم، وهو خلقهم سبحانه لهذا الأمر، خلقهم ليعبدوه والحج من عبادته، والعبادة أنواع، أعظمها وأهمها عبادتهم إياه سبحانه لتوحيده، وهو الإخلاص له، فيشهد أنه لا معبود بحق إلا الله، ويشهد أن نبيه محمدًا رسول الله، شهادة تقتضي العمل، لا مجرد الشهادة بالقول، بل شهادة معها العمل والصدق والإخلاص في العبادة لله وحده، معها متابعة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ومعها الإيمان لجميع المرسلين الماضين، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة.
قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يبين سبحانه أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته وإفراده بالعبادة، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا هو أصل الملة وأساس الدين، وأساس السعادة ألا تعبد إلا ربك، وأن تخص ربك بدعائك وخوفك، ورجائك وصلاتك وصومك وذبحك، ونذرك وغير ذلك. فالعبادة حق الله وحده، وهي أعظم شيء خلق له العباد، وهي أكبر شيء أمروا به وفرض عليهم، ثم يلي ذلك الشهادة بأن محمدًا رسول الله ﷺ مع الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين الماضين، فالإنس هم بنو آدم والجن هم بنو الجان بنو الشيطان، فيهم الطيب والخبيث، فيهم الصالح والطالح، كما قال : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]، وقال سبحانه: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا [الجن:14]، وهكذا بنو آدم فيهم الصالح والطالح، فيهم الكافر والمسلم، فيهم البر التقي والكافر الشقي، قال جل وعلا: خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [الرحمن:14، 15].
فجميع الثقلين من الجن والإنس خلقوا ليعبدوا الله وليطيعوه وليعظموه ويخصوه بالعبادة، لا يعبدون معه كوكبًا، ولا نبيًا ولا وليًا ولا شجرًا ولا صنمًا ولا حجرًا، ولا غير ذلك، بل عليهم أن يعبدوه وحده ، ويخصوه جل وعلا بالدعاء، فلا يدعى إلا هو ، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يذبح إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يصلى إلا له، ولا يسجد إلا له.
وبهذا تعلم أيها المؤمن أيها البصير العاقل، أن ما قد يقع من بعض الجهال في كثير من البلدان والأمصار، من التوجه إلى أصحاب القبور بالدعاء والاستغاثة، أن هذا يضاد قول لا إله إلا الله، وأن الواجب على جميع الثقلين، أن يخصوا الله بالعبادة، وأن يتركوا دعوة الأموات والاستغاثة بهم، فالميت عاجز، والنذر له والذبح له، وطلبه المدد منه شرك أكبر بالله ، ويضاد قول لا إله إلا الله ويناقضها، وعليك مع ذلك أن تتبع الرسول ﷺ وتنقاد لأوامره؛ لأن هذا مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، هذه الشهادة توجب عليك اتباعه وتصديقه، والانقياد لأوامره عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال : مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ [النساء:80]، وقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
وهذا الموسم موسم الحج فرصة للمؤمن يسمع آيات الله ويسمع كلام أهل العلم في المسجد الحرام، وفي المساجد الأخرى، وفي الحلقات العلمية، وفي الخطب وفي غير ذلك من أنواع الدعوة والتذكير في سائر الأماكن، ويسمع ما يذاع وينشر من الدعوة إلى الله، من طريق الإذاعة أو التلفاز، يسمع ما يذاع وينشر عن دعوة الله وإخلاصه وعن توحيده سبحانه، وعن طاعة أوامره وترك نواهيه.
ثم يلي هذا الأمر أمر الصلاة، فإنها عمود الإسلام، فكثير من الناس يتساهل في الصلاة، وهذا منكر عظيم وخطر كبير، الصلاة عمود الإسلام، أعظم من الحج، وأعظم من الصيام، وأعظم من الزكاة، هي أعظم واجب بعد الشهادتين، فالواجب على كل مسلم ومسلمة العناية بالصلاة، ففي الحديث الصحيح يقول النبي عليه الصلاة والسلام: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة[1] والله يقول في كتابه العظيم: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] وهي العصر، يقول سبحانه: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، ويقول سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].
وهذا جزاؤهم في الآخرة، فهذه الآيات فيها صفات متعددة للمؤمنين، بدأها بالصلاة وختمها بالصلاة، فدل ذلك على عظم شأن الصلاة، وأن أهلها مفلحون سعداء، كما قال سبحانه: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إذا دخلوا للصلاة خشعوا فيها واطمأنوا، وخضعوا لله وجمعوا قلوبهم على صلاتهم وسكنوا فيها، يعظمون الله ويقرأون كتابه، ويسبحونه ويقدسونه ويسألونه من فضله. قائمًا يقرأ، ثم يركع معظمًا لله ويقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، في ركوعه معظمًا لربه جل وعلا، ثم يرفع ويقول: سمع الله لمن حمده، إذا كان إمامًا أو منفردًا، وإذا كان مأمومًا، قال ربنا ولك الحمد، ثم يحمد ربه، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، ثناء على الله ، ثم ينحط ساجدًا مكبرًا ويسجد على سبعة أعضاء، على جبهته وأنفه وعلى يديه وعلى ركبتيه وعلى أطراف قدميه، خاضعًا لربه مطمئنًا خاشعًا، يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ويدعو ربه، ويسأله من فضله في هذا السجود، كما قال النبي ﷺ: أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم[2] يعني حري أن يستجاب لكم. وقال عليه الصلاة والسلام: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء[3]، ثم يرفع من السجود مكبرًا ويجلس بين السجدتين خاشعًا مطمئنًا خاضعًا لربه، يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي، ثم يكبر ويسجد الثانية خاضعًا لله، ويقول سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ويدعو ربه، وهكذا يتم صلاته بخشوع وخضوع وطمأنينة.
فالصلاة لها شأن عظيم، من حافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها ضيع دينه، -نعوذ بالله من ذلك-. ولهذا صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر[4] فعلينا أن نحذر التهاون بها، علينا أن نحافظ عليها في جميع الأوقات. والرجل يصليها في الجماعة، والمرأة تصليها في بيتها، مع الخشوع والخضوع والطمأنينة.
ثم يلي ذلك الزكاة وهي حق المال. الزكاة لها شأن عظيم، إذ هي الركن الثالث من أركان الإسلام، فعلى من عنده مال يبلغ النصاب أن يزكي، وأن يصرف الزكاة على أهلها المستحقين لها، يقول النبي ﷺ: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت[5].
والله سبحانه يقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فالزكاة أخت الصلاة وقرينتها، فالواجب على المؤمن أن يحذر التساهل بها أو البخل بها، فقد وعد الله من بخل بالزكاة أن يعذب بماله يوم القيامة، نعوذ بالله من ذلك، فعليك يا عبد الله أن تعتني بالزكاة، وأن تؤدي حق الله من مالك، وأن تدفعه إلى المستحقين من الفقراء والمحاويج وغيرهم من أصناف الزكاة.
وهكذا الصيام الركن الرابع. صيام رمضان في كل سنة، ركن عظيم لابد منه في حق الرجال والنساء جميعًا، ومن صامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، هذه نعمة عظيمة.
ثم الحج هو الركن الخامس، حج بيت الله الحرام في العمر مرة واحدة، وهذا من تيسير الله وتسهيله، مرة في العمر، وهكذا العمرة وهي الزيارة للبيت مرة في العمر، والباقي سنة نافلة، قال النبي ﷺ: من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[6] فمن أتى البيت العتيق وحج كما شرع الله، غفر الله له وأدخله الجنة إذا مات على ذلك.
فعليك يا عبد الله أن تعرف مقدار حجك، وأن هذه نعمة عظيمة وأن تستفيد من هذا الحج، بحضور مجالس العلم، وحلقات العلم وسؤال أهل العلم عما أشكل عليك، وأن تسأل ربك في طوافك وسعيك وفي صلاتك وسائر أحوالك أن يثبتك على الإيمان وأن يمنحك الفقه في الدين وأن يعيذك من نزغات الشيطان.
وعليك أن تصحب الأخيار دائمًا في بلادك، وفي كل مكان، عليك أن تحرص على صحبة الأخيار أهل الدين، وأهل الخير والاستقامة، وعليك أن تحذر صحبة الأشرار الذين يضيعون الصلوات، ويتعاطون المسكرات، ويفعلون المنكرات، احذر صحبتهم، احذر صحبة الأشرار، فالصاحب الطيب مثل حامل المسك، والصاحب الخبيث مثل نافخ الكير، فالمؤمن يحذر، وهكذا المؤمنة تحذر صحبة الأشرار؛ لأنهم يجرون إلى معاصيهم وشرهم إلا من عصم الله، وعليك بصحبة الأخيار فإنهم يعينونك على طاعة الله ورسوله، وتتأسى بهم في الخير والعمل الصالح.
وهذا اليوم هو يوم منى وهو يوم التروية، وغدًا يوم عرفة، والسنة بعد طلوع الشمس التوجه إلى عرفات ملبيًا ذاكرًا ربك مكبرًا له، يلبي الحاج ويذكر ربه ويكبره سبحانه ويهلله، ويسأله من فضله ورحمته وإحسانه، ويرجوه فضله ويسأله العتق من النار، ويصلي في عرفات الظهر والعصر قصرًا وجمعًا بأذان واحد وإقامتين. الظهر ثنتين، والعصر ثنتين قصرًا وجمعًا جمع تقديم في أول الوقت، كما فعله النبي عليه الصلاة والسلام يوم صلى بالناس في عرفات، جمعًا وقصرًا عليه الصلاة والسلام، فخطب الناس وذكرهم ووعظهم وعلمهم مناسك حجهم، وحذرهم من أمور الجاهلية التي أبطلها الله، من الربا وسفك الدماء بغير حق، وغير ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية، من الشرك والفساد، وحذر الناس من ذلك، وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، وأوصاهم بالتمسك بالقرآن والاعتصام به، وأخبر الناس أن الله حرم عليهم دمائهم وأموالهم وأعراضهم، هكذا أوصى في الخطبة عليه الصلاة والسلام. وأشهد الله عليهم، وقال لهم: «إنكم تُسألون عني فما أنتم قائلون» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء هكذا وينكبها إلى الناس، ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد[7] يُشهد الله عليهم أنه بلغهم عليه الصلاة والسلام، وأنا بلغتكم الآن أيضًا، والله يشهد عليكم سبحانه وتعالى. فعليكم أن تتقوا الله، وعليكم أن تستقيموا على دين الله، وأن تحافظوا على أمر الله، وأن تحذروا معاصي الله، وأن تخلصوا العبادة لله ، وأن تستقيموا على اتباع رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام في كل شيء، في الأقوال والأعمال والعبادات، والمعاملات، والأخلاق وفي كل ما أمر الله به ورسوله، وأن تتواصوا بالحق، وتتواصوا بالصبر والتناصح، وأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، حتى تلقوا ربكم، وفي إشارته ﷺ إلى السماء، دليل على أن الله في السماء فوق العرش سبحانه وتعالى، والله في السماء فوق جميع الخلق، فوق العرش سبحانه، كما قال : أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك:16]، وقال سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، والله في السماء فوق العرش، فوق جميع الخلق ، وهو يعلم أحوال عباده، وهو معهم بعلمه واطلاعه لا تخفى عليه خافية، ومن أنكر أن الله في السماء، ويزعم أنه في الأرض أو في كل مكان، فهو كافر ضال، نعوذ بالله، والله في السماء فوق جميع الخلق، فوق العرش، والعرش فوق السموات، هو أعلى شيء، والله فوقه سبحانه، ومع ذلك يعلم أحوال عباده، لا تخفى عليه خافية ، كما قال : الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218-219]، وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]، وقال : إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]. فهو سبحانه فوق العرش وعلمه محيط بالعباد، ولهذا قال : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
فالوصية أيها الحاج: تقوى الله والاستقامة على أمره والمحافظة على دينه، والتواصي بذلك، وأن يقوم الرجل على أهل بيته، ويعلمهم ويرشدهم وينصحهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، من أولاد وزوجة وغير ذلك، حتى تبرأ ذمته، وحتى يعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، وحتى يتعاون معهم على طاعة الله ورسوله، وهكذا مع جيرانه ومع أصحابه ومع الناس أجمعين. قال الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقال الله : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:71-72].
جعلنا الله وإياكم منهم، وهدانا وإياكم صراطه المستقيم، وأعاننا وإياكم على إكمال مناسكنا وتقبل منا جميعًا ومن جميع المسلمين، وجعلنا الله وإياكم من الهداة المهتدين وأسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يجزيهم عن جهودهم الصالحة خيرًا، وأن يصلح لهم البطانة ويعينهم على كل ما فيه رضاه وصلاح المسلمين، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه[8].
فإن الله جل وعلا جعل موسم الحج مؤتمرًا لعباده، يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا ومن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله وسؤاله والضراعة إليه ويطلبون حط ذنوبهم وغفران سيئاتهم، ويرفعون إليه جميع حوائجهم، يسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون ويتناصحون، ويتآمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله : وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:27، 28]، والله ذكر أنهم يحضرون من كل فج عميق، من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ليشهدوا هذه المنافع، من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات وبالمزدلفة ويرمون الجمار، وينحرون الهدايا ويحضرون مجالس العلم والذكر، ويسألون أهل العلم عما أشكل عليهم ويتناصحون بينهم، ويستفيد يعضهم من بعض ويحسن بعضهم إلى بعض، هكذا يجب على المسلمين؛ وهكذا شرع الله لهم، وهو خلقهم سبحانه لهذا الأمر، خلقهم ليعبدوه والحج من عبادته، والعبادة أنواع، أعظمها وأهمها عبادتهم إياه سبحانه لتوحيده، وهو الإخلاص له، فيشهد أنه لا معبود بحق إلا الله، ويشهد أن نبيه محمدًا رسول الله، شهادة تقتضي العمل، لا مجرد الشهادة بالقول، بل شهادة معها العمل والصدق والإخلاص في العبادة لله وحده، معها متابعة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، ومعها الإيمان لجميع المرسلين الماضين، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة.
قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يبين سبحانه أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته وإفراده بالعبادة، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا هو أصل الملة وأساس الدين، وأساس السعادة ألا تعبد إلا ربك، وأن تخص ربك بدعائك وخوفك، ورجائك وصلاتك وصومك وذبحك، ونذرك وغير ذلك. فالعبادة حق الله وحده، وهي أعظم شيء خلق له العباد، وهي أكبر شيء أمروا به وفرض عليهم، ثم يلي ذلك الشهادة بأن محمدًا رسول الله ﷺ مع الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين الماضين، فالإنس هم بنو آدم والجن هم بنو الجان بنو الشيطان، فيهم الطيب والخبيث، فيهم الصالح والطالح، كما قال : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]، وقال سبحانه: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا [الجن:14]، وهكذا بنو آدم فيهم الصالح والطالح، فيهم الكافر والمسلم، فيهم البر التقي والكافر الشقي، قال جل وعلا: خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [الرحمن:14، 15].
فجميع الثقلين من الجن والإنس خلقوا ليعبدوا الله وليطيعوه وليعظموه ويخصوه بالعبادة، لا يعبدون معه كوكبًا، ولا نبيًا ولا وليًا ولا شجرًا ولا صنمًا ولا حجرًا، ولا غير ذلك، بل عليهم أن يعبدوه وحده ، ويخصوه جل وعلا بالدعاء، فلا يدعى إلا هو ، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يذبح إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يصلى إلا له، ولا يسجد إلا له.
وبهذا تعلم أيها المؤمن أيها البصير العاقل، أن ما قد يقع من بعض الجهال في كثير من البلدان والأمصار، من التوجه إلى أصحاب القبور بالدعاء والاستغاثة، أن هذا يضاد قول لا إله إلا الله، وأن الواجب على جميع الثقلين، أن يخصوا الله بالعبادة، وأن يتركوا دعوة الأموات والاستغاثة بهم، فالميت عاجز، والنذر له والذبح له، وطلبه المدد منه شرك أكبر بالله ، ويضاد قول لا إله إلا الله ويناقضها، وعليك مع ذلك أن تتبع الرسول ﷺ وتنقاد لأوامره؛ لأن هذا مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، هذه الشهادة توجب عليك اتباعه وتصديقه، والانقياد لأوامره عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال : مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ [النساء:80]، وقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
وهذا الموسم موسم الحج فرصة للمؤمن يسمع آيات الله ويسمع كلام أهل العلم في المسجد الحرام، وفي المساجد الأخرى، وفي الحلقات العلمية، وفي الخطب وفي غير ذلك من أنواع الدعوة والتذكير في سائر الأماكن، ويسمع ما يذاع وينشر من الدعوة إلى الله، من طريق الإذاعة أو التلفاز، يسمع ما يذاع وينشر عن دعوة الله وإخلاصه وعن توحيده سبحانه، وعن طاعة أوامره وترك نواهيه.
ثم يلي هذا الأمر أمر الصلاة، فإنها عمود الإسلام، فكثير من الناس يتساهل في الصلاة، وهذا منكر عظيم وخطر كبير، الصلاة عمود الإسلام، أعظم من الحج، وأعظم من الصيام، وأعظم من الزكاة، هي أعظم واجب بعد الشهادتين، فالواجب على كل مسلم ومسلمة العناية بالصلاة، ففي الحديث الصحيح يقول النبي عليه الصلاة والسلام: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة[1] والله يقول في كتابه العظيم: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] وهي العصر، يقول سبحانه: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، ويقول سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].
وهذا جزاؤهم في الآخرة، فهذه الآيات فيها صفات متعددة للمؤمنين، بدأها بالصلاة وختمها بالصلاة، فدل ذلك على عظم شأن الصلاة، وأن أهلها مفلحون سعداء، كما قال سبحانه: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إذا دخلوا للصلاة خشعوا فيها واطمأنوا، وخضعوا لله وجمعوا قلوبهم على صلاتهم وسكنوا فيها، يعظمون الله ويقرأون كتابه، ويسبحونه ويقدسونه ويسألونه من فضله. قائمًا يقرأ، ثم يركع معظمًا لله ويقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، في ركوعه معظمًا لربه جل وعلا، ثم يرفع ويقول: سمع الله لمن حمده، إذا كان إمامًا أو منفردًا، وإذا كان مأمومًا، قال ربنا ولك الحمد، ثم يحمد ربه، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، ثناء على الله ، ثم ينحط ساجدًا مكبرًا ويسجد على سبعة أعضاء، على جبهته وأنفه وعلى يديه وعلى ركبتيه وعلى أطراف قدميه، خاضعًا لربه مطمئنًا خاشعًا، يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ويدعو ربه، ويسأله من فضله في هذا السجود، كما قال النبي ﷺ: أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم[2] يعني حري أن يستجاب لكم. وقال عليه الصلاة والسلام: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء[3]، ثم يرفع من السجود مكبرًا ويجلس بين السجدتين خاشعًا مطمئنًا خاضعًا لربه، يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي، ثم يكبر ويسجد الثانية خاضعًا لله، ويقول سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، ويدعو ربه، وهكذا يتم صلاته بخشوع وخضوع وطمأنينة.
فالصلاة لها شأن عظيم، من حافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها ضيع دينه، -نعوذ بالله من ذلك-. ولهذا صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر[4] فعلينا أن نحذر التهاون بها، علينا أن نحافظ عليها في جميع الأوقات. والرجل يصليها في الجماعة، والمرأة تصليها في بيتها، مع الخشوع والخضوع والطمأنينة.
ثم يلي ذلك الزكاة وهي حق المال. الزكاة لها شأن عظيم، إذ هي الركن الثالث من أركان الإسلام، فعلى من عنده مال يبلغ النصاب أن يزكي، وأن يصرف الزكاة على أهلها المستحقين لها، يقول النبي ﷺ: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت[5].
والله سبحانه يقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فالزكاة أخت الصلاة وقرينتها، فالواجب على المؤمن أن يحذر التساهل بها أو البخل بها، فقد وعد الله من بخل بالزكاة أن يعذب بماله يوم القيامة، نعوذ بالله من ذلك، فعليك يا عبد الله أن تعتني بالزكاة، وأن تؤدي حق الله من مالك، وأن تدفعه إلى المستحقين من الفقراء والمحاويج وغيرهم من أصناف الزكاة.
وهكذا الصيام الركن الرابع. صيام رمضان في كل سنة، ركن عظيم لابد منه في حق الرجال والنساء جميعًا، ومن صامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، هذه نعمة عظيمة.
ثم الحج هو الركن الخامس، حج بيت الله الحرام في العمر مرة واحدة، وهذا من تيسير الله وتسهيله، مرة في العمر، وهكذا العمرة وهي الزيارة للبيت مرة في العمر، والباقي سنة نافلة، قال النبي ﷺ: من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[6] فمن أتى البيت العتيق وحج كما شرع الله، غفر الله له وأدخله الجنة إذا مات على ذلك.
فعليك يا عبد الله أن تعرف مقدار حجك، وأن هذه نعمة عظيمة وأن تستفيد من هذا الحج، بحضور مجالس العلم، وحلقات العلم وسؤال أهل العلم عما أشكل عليك، وأن تسأل ربك في طوافك وسعيك وفي صلاتك وسائر أحوالك أن يثبتك على الإيمان وأن يمنحك الفقه في الدين وأن يعيذك من نزغات الشيطان.
وعليك أن تصحب الأخيار دائمًا في بلادك، وفي كل مكان، عليك أن تحرص على صحبة الأخيار أهل الدين، وأهل الخير والاستقامة، وعليك أن تحذر صحبة الأشرار الذين يضيعون الصلوات، ويتعاطون المسكرات، ويفعلون المنكرات، احذر صحبتهم، احذر صحبة الأشرار، فالصاحب الطيب مثل حامل المسك، والصاحب الخبيث مثل نافخ الكير، فالمؤمن يحذر، وهكذا المؤمنة تحذر صحبة الأشرار؛ لأنهم يجرون إلى معاصيهم وشرهم إلا من عصم الله، وعليك بصحبة الأخيار فإنهم يعينونك على طاعة الله ورسوله، وتتأسى بهم في الخير والعمل الصالح.
وهذا اليوم هو يوم منى وهو يوم التروية، وغدًا يوم عرفة، والسنة بعد طلوع الشمس التوجه إلى عرفات ملبيًا ذاكرًا ربك مكبرًا له، يلبي الحاج ويذكر ربه ويكبره سبحانه ويهلله، ويسأله من فضله ورحمته وإحسانه، ويرجوه فضله ويسأله العتق من النار، ويصلي في عرفات الظهر والعصر قصرًا وجمعًا بأذان واحد وإقامتين. الظهر ثنتين، والعصر ثنتين قصرًا وجمعًا جمع تقديم في أول الوقت، كما فعله النبي عليه الصلاة والسلام يوم صلى بالناس في عرفات، جمعًا وقصرًا عليه الصلاة والسلام، فخطب الناس وذكرهم ووعظهم وعلمهم مناسك حجهم، وحذرهم من أمور الجاهلية التي أبطلها الله، من الربا وسفك الدماء بغير حق، وغير ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية، من الشرك والفساد، وحذر الناس من ذلك، وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، وأوصاهم بالتمسك بالقرآن والاعتصام به، وأخبر الناس أن الله حرم عليهم دمائهم وأموالهم وأعراضهم، هكذا أوصى في الخطبة عليه الصلاة والسلام. وأشهد الله عليهم، وقال لهم: «إنكم تُسألون عني فما أنتم قائلون» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء هكذا وينكبها إلى الناس، ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد[7] يُشهد الله عليهم أنه بلغهم عليه الصلاة والسلام، وأنا بلغتكم الآن أيضًا، والله يشهد عليكم سبحانه وتعالى. فعليكم أن تتقوا الله، وعليكم أن تستقيموا على دين الله، وأن تحافظوا على أمر الله، وأن تحذروا معاصي الله، وأن تخلصوا العبادة لله ، وأن تستقيموا على اتباع رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام في كل شيء، في الأقوال والأعمال والعبادات، والمعاملات، والأخلاق وفي كل ما أمر الله به ورسوله، وأن تتواصوا بالحق، وتتواصوا بالصبر والتناصح، وأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، حتى تلقوا ربكم، وفي إشارته ﷺ إلى السماء، دليل على أن الله في السماء فوق العرش سبحانه وتعالى، والله في السماء فوق جميع الخلق، فوق العرش سبحانه، كما قال : أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك:16]، وقال سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، والله في السماء فوق العرش، فوق جميع الخلق ، وهو يعلم أحوال عباده، وهو معهم بعلمه واطلاعه لا تخفى عليه خافية، ومن أنكر أن الله في السماء، ويزعم أنه في الأرض أو في كل مكان، فهو كافر ضال، نعوذ بالله، والله في السماء فوق جميع الخلق، فوق العرش، والعرش فوق السموات، هو أعلى شيء، والله فوقه سبحانه، ومع ذلك يعلم أحوال عباده، لا تخفى عليه خافية ، كما قال : الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218-219]، وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]، وقال : إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]. فهو سبحانه فوق العرش وعلمه محيط بالعباد، ولهذا قال : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61].
فالوصية أيها الحاج: تقوى الله والاستقامة على أمره والمحافظة على دينه، والتواصي بذلك، وأن يقوم الرجل على أهل بيته، ويعلمهم ويرشدهم وينصحهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، من أولاد وزوجة وغير ذلك، حتى تبرأ ذمته، وحتى يعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، وحتى يتعاون معهم على طاعة الله ورسوله، وهكذا مع جيرانه ومع أصحابه ومع الناس أجمعين. قال الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقال الله : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:71-72].
جعلنا الله وإياكم منهم، وهدانا وإياكم صراطه المستقيم، وأعاننا وإياكم على إكمال مناسكنا وتقبل منا جميعًا ومن جميع المسلمين، وجعلنا الله وإياكم من الهداة المهتدين وأسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يجزيهم عن جهودهم الصالحة خيرًا، وأن يصلح لهم البطانة ويعينهم على كل ما فيه رضاه وصلاح المسلمين، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه[8].
- رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) حديث معاذ بن جبل برقم 21511، والترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم 2616.
- رواه مسلم في (الصلاة) باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود برقم 479.
- رواه مسلم في (الصلاة) باب ما يقال في الركوع والسجود برقم 482.
- رواه الترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621.
- رواه البخاري في (الإيمان) باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم 16.
- رواه البخاري في (الحج) باب فضل الحج المبرور برقم 1521، ومسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1350.
- رواه مسلم في (الحج) باب حجة النبي ﷺ برقم 1218.
- محاضرة ألقاها سماحته في اليوم الثامن من ذي الحجة في منى عام 1402هـ. (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز 16/ 277).