الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن الله جل وعلا شرع لعباده النكاح، وحرم عليهم السفاح، وحرم أيضًا أنكحة فاسدة كانت تعتادها الجاهلية، وبعضها شُرع في الإسلام ثم نسخ. أما النكاح الشرعي الذي هو ضد السفاح هو: النكاح الذي يكون عن رضا من المرأة، وعن واسطة الولي، وبواسطة الإعلان والشاهدين، وغير هذا من الإعلان، فهذا هو النكاح الشرعي الباقي، الذي قال الله فيه جل وعلا: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
وقال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء[1]، وقال عليه الصلاة والسلام: تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة[2]، وفي لفظ: الأنبياء يوم القيامة.
وقال ﷺ: تنكح المرأة لأربع؛ لجمالها ولمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك[3] وقال ﷺ: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير[4]، وفي لفظ: فساد عريض[5]، والأحاديث في المعنى للحث على النكاح، والترغيب فيه كثيرة.
والقرآن الكريم كذلك دل على شرعية النكاح، ورغب فيه، فقال تعالى: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء:3]. يعني: ألا تجوروا.
فالله سبحانه شرع لنا النكاح؛ لما فيه من إعفاف الفروج، ولما فيه من تكثير الأمة؛ فإن الأمة إذا لم يكن هناك نكاح انقرضت، ولكن من رحمة الله أن شرع النكاح، وجعل في الرجل الميل إلى المرأة، وجعل في المرأة الميل إلى الرجل، وكتب بينهما ما كتب لوجود الذرية؛ حتى يبقى هذا النسل، وتبقى هذه الأمة إلى الأمد الذي حدده الله . وشرع لهذه الأمة التمسك بما بعث الله به أنبياءه من عهد آدم إلى يومنا هذا؛ شرع النكاح وشرع التمسك بما خلقوا له من دين الله وعبادته حتى لا يزال في الأرض من يعبد الله ويتقيه، ويكثر من ذكره سبحانه ويطيع أوامره، وينتهي عن نواهيه. وجعل لهذه الدنيا أمدًا تنتهي إليه، فإذا جاء الأمد قامت القيامة، وانتهى أمر هذا العالم، وصار الناس إلى الدار الأخرى؛ وهي الجنة أو النار على حسب أعمالهم، فمن كان من أهل الإحسان في هذه الدار من أهل طاعة الله ورسوله، صار إلى دار النعيم والكرامة وإلى دار أهل الإحسان؛ وهي الجنة، ومن كان في هذه الدار من أهل الانحراف والفساد وطاعة الشيطان أو عصيان الرحمن، صار إلى دار الهوان ودار العذاب والنكال؛ وهي النار نعوذ بالله من ذلك.
وشرع في النكاح أمورًا منها: أن تكون المرأة والرجل خاليين من الموانع، صالحين للزواج بأن يكونا مسلمين أو كافرين، أو الزوج مسلمًا والمرأة كتابية من اليهود والنصارى المحصنات فإنه يكون النكاح هكذا؛ إما مسلمان، أو كافران، أو مسلم وكتابية محصنة من اليهود والنصارى. فإذا اختل الأمر، صار هناك مانع: إذا كان الزوج مسلمًا والمرأة غير كتابية ولا مسلمة وثنية، مجوسية، شيوعية لم يصح النكاح. كذلك لابد أيضًا من كون المرأة خالية من الموانع؛ ليست في عدة ولا في عصمة نكاح، بل تكون خالية مطلقة أو متوفى عنها، قد انتهت من العدة، أو لم تزوج أصلًا. ثم هناك أيضًا موانع أخرى من القرابة والرضاعة والمصاهرة، تكون سليمة من ذلك، والرجل سليمًا من ذلك، ليس بينهما ما يحرم النكاح؛ لا قرابة، مثل كونها أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو ما أشبه ذلك من رضاع أو من نسب ولا كونها أيضًا محرمة بالمصاهرة؛ كأن تكون بنت زوجته المدخول بها، أو أم زوجته، أو جدتها، فلا يجوز له نكاحها. فإذا صار الزوجين خاليين من الموانع، وتوافرت الشروط الشرعية؛ من رضا الزوجين الزوج والزوجة الزوج بالمرأة والمرأة بالزوج إلا ما استثني من حال صغر المرأة، إذا زوجها أبوها في حال صغرها وهي ابنة تسع، واختار لها الزوج الصالح، فهذا يجوز إذا كان دون التسع إذا اختار أبوها لها الزوج الصالح كما زوّج الصديق عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ وهي صغيرة بنت ست أو سبع سنين بغير مشورتها؛ لأنها صغيرة جدًا. أما إذا بلغت تسع سنين فأكثر فإنها تستشار وتخبر، وإذنها صماتها؛ يعني سكوتها هذا إذا كانت بكرًا أما الثيب فلابد من نطقها، ولابد من مؤامرتها حتى تنطق، وحتى تصرح بالرضا، ولابد أيضًا من وجود الولي، ووجود الشاهدين. فإذا توافرت الشروط الزوج والزوجة، وما يجب في ذلك صح النكاح، وصار نكاحًا شرعيًا، بشرط أن يكون هذا النكاح للرغبة لا للتحليل، ولا مؤقتًا بوقت، وأن يتزوجها راغبًا فيها، يريد الاستمتاع بها، والبقاء معها؛ ليعفها وتعفه، ولما يسر الله من أولاد، والمصالح الأخرى.
وهناك أنكحة تخالف النكاح الشرعي من ذلك:
نكاح المتعة:
وهو: أن يتزوجها لمدة معينة ثم بعد ذلك يزول النكاح؛ كأن يتزوجها شهرًا أو شهرين أو ثلاثة، أو ما أشبه ذلك لمدة يتفقان عليها، هذا يقال له: نكاح المتعة. وقد أبيح في الإسلام وقتا ما، ثم نسخ الله ذلك وحرمه على الأمة بأن جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا[6].
وثبت من حديث علي وسلمة بن الأكوع، وابن مسعود، وغيرهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المتعة، فاستقرت الشريعة على تحريم نكاح المتعة، وأنه محرم. وأن النكاح الشرعي، هو الذي يكون فيه الرغبة من الزوج للزوجة، ليس بينهم توقيت، بل يتزوجها على أنه راغب فيها؛ لما يرجوه وراء ذلك من العفة، والنسل، والتعاون على الخير، فهذا هو النكاح الشرعي؛ أن ينكح لرغبة فيها، ليستمتع بها، ويستعف بها، ولما يرجو من النسل والذرية، فهذا هو النكاح الشرعي الذي أباحه الله. وتقدم بيان شروطه، وما ينبغي فيه، وجعله خيرًا للأمة؛ فيه تعاونها، وفيه تكثير نسلها، وفيه إعفاف رجالها ونسائها، وفيه الإحسان إلى الجنسين؛ فالزوج يحسن إلى المرأة؛ بإعفافها، والإنفاق عليها، وصيانتها وحمايتها من ذئاب الرجال، إلى غير ذلك، والمرأة تساعده على دينه ودنياه، وتعفه، وتراعى مصالحه، وتعينه على نوائب الدنيا والآخرة. وهذا النكاح الذي سمعتم هو نكاح المتعة قد نسخ في الإسلام، واستقر تحريمه، وكان عمر يتوعد من فعله بأن يرجمه رجم الزاني؛ لأن الله قد حرمه، واستقر تحريمه في الشريعة، ولكن لم يزل في الناس من يستبيحه وهم الرافضة يستبيحون نكاح المتعة، ويفعلونه، وهو مشهور في كتبهم. وذلك مما أُخذ عليهم، ومما ضلوا فيه عن سواء السبيل، فلا ينبغي لعاقل أن يغتّر بهم، بل يجب الحذر مما هم عليه من الباطل، وأن يعلم المؤمن يقينًا أن هذا النكاح باطل، وأنه مما حرمه الله، ومما استقرت الشريعة على تحريمه، وسبق لكم حديث سمرة بن معبد الجهني عن النبي ﷺ أنه قال: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا[7]. خرجه مسلم في صحيحه.
هذا النص وما جاء في معناه، يبين أن هذا النسخ مستمر إلى يوم القيامة، وأنه انتهى أمر هذا النكاح، ولا يبقى له محل إباحة، بل قد نسخه الله واستمر تحريمه إلى يوم القيامة، وهو كما تقدم نكاح المتعة: النكاح المؤقت الذي يتفق عليه الرجل والمرأة لمدة معلومة، هذا هو نكاح المتعة. ومن عاداتهم: أنه إذا مضت المدة ينتهي، ولا يحتاج إلى طلاق، ولا إلى غير ذلك. ولكن لو جعلوا فيه طلاقًا، فهو أيضًا طلاق متعة؛ لو اتفقوا على شهرين أو ثلاثة، ثم يطلقها، ثم تعتد كله نكاح متعة فالنكاح المؤقت نكاح متعة مطلقًا سواء كان فيه طلاق، أو بمجرد انتهاء المدة ينتهي الأمر فيما بينهم، أو شرطوا فيه الطلاق أو الفسخ، كله نكاح متعة وهو محرم بالنص، ومكان إجماع من أهل العلم، فلا يوجد بين أهل العلم خلاف فيه، بل محرم عند أهل السنة والجماعة قاطبة.
النكاح الثاني من الأنكحة التي حرمها الله وقد وقع فيها بعض الناس: نكاح التحليل: وهو نكاح يفعله من حَرُمَتْ عليه زوجته بالطلاق بالطلقة الأخيرة الثالثة؛ بعض الناس لضعف إيمانه، وقلة خوفه من الله يتفق مع شخص آخر ليتزوجها، فإذا دخل بها ووطئها فارقها؛ حتى يعود إليها زوجها الأول، وهذا هو النكاح الذي يسمى: نكاح التحليل، وقد ثبت عن رسول الله ﷺ: أنه لعن المحلل والمحلل له[8].
المحلل: هو التيس المستعار، والزوج هو الذي يطلبه لتحليلها، والمحلل له هو: الزوج الأول المطلق. هذا نكاح باطل وحرام؛ إذا اتفقا عليه للتواطؤ، أو بالشرط اللفظي، أو بالكتابة، كل ذلك محرم؛ للأحاديث التي جاءت في هذا الباب عن النبي ﷺ أنه: لعن المحلل والمحلل له. جاء في ذلك عدة أحاديث، منها: حديث ابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما، وفي لفظ يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ألا أنبئكم بالتيس المستعار؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: هو المحلل. لعن الله المحلل، والمحلل له. سمي تيسًا مستعارًا؛ لأنه جيء به للضراب، ليس زوجًا، وإنما جيء به ليدخل بها مرة، يجامعها مرة ثم يفارقها، لأن الله قال في المطلقة آخر الثلاثة: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]. فهذا المطلق الطلقة الثالثة، لما رأى أنه لا حيلة له إلا بزوج، وهو يريدها وتريده، زين لهم الشيطان هذا العمل السيء، وهو: الاتفاق مع شخص يسمى المحلل، ويعطونه ما شاء الله من المال، وترضى به الزوجة رضًا مؤقتًا ليحللها لزوجها، فلا تنظر في حاله، ولا نسبه، ولا أهليته في الغالب؛ لأنه لا يهمهم إلا أن يدخل عليها مرة، ثم يخرج وينتهي الأمر؛ ليحللّها للزوج الأول. وهذا من أقبح الباطل، ومن أعظم الفساد، وهو زانٍ في المعنى؛ لأنه ما تزوجها لتكون زوجة؛ لتعفه، ولتبقى لديه لتحصنه؛ ليرجو منها وجود الذرية. لا، إنما جاء تيسًا مستعارًا ليحللها لمن قبله بوطء مرة واحدة، ثم يفارقها وينتهي منها، هذا هو المحلل، ونكاحه باطل، وليس بشرعي. ولا تحل للزوج الأول إذا علم هذا، فإنه يستحق أن يؤدّب ويعزر بالتعزير البليغ الذي يردعه أمثاله، وهذه الزوجة لا تحل بذلك، بل يعزر أيضًا المحلل، وهي كذلك إذا كانت راضية، كلهم يعزّرون لهذا العمل السيء؛ لأنه نكاح فاسد ولا تحل له، نكاح خبيث، نكاح منكر ومعصية؛ فوجب أن يعزر القائمون به: المحلِّل والمحللِّة والمحلَّل له أيضًا، كلهم سواء. فالمرأة إذا كانت راضية وعالمة بهذا الشيء، فهي أيضًا تستحق التعزير والتأديب؛ لرضاها بالمعصية ومواطأتها عليها، ولو أراد أن يبقى عندها لم تحل له، ما دام نكحها بهذه النية وبهذا القصد، فإنه نكاح فاسد، ولا تحل للزوج الأول؛ لأن هذا ليس بزواج، والله قال: حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وهذا تيس مستعار، وليس بزوج شرعي، فلا يحللها للزوج الأول.
والنكاح الثالث الفاسد أيضًا: نكاح يسمى: نكاح الشغار، ويسمى عند بعض الناس: نكاح البدل:
وهو نكاح يشترط فيه كل واحد من الوليّين نكاح الأخرى، فيقول أحدهما للآخر: زوّجني وأزوجك؛ زوجني بنتك وأزوجك بنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي، أو زوج ابني وأنا أزوج ابنك، أو زوجني وأنا أزوج ابنك، أو زوج ابني وأنا أزوجك، أو أزوج أخاك، أو ما أشبه ذلك، هذا هو الشغار. قالوا: سمي شغارًا من الخلو؛ لأنه في الغالب لا يهمهم المهر، وإنما يهمهم الاتفاق على هذا العمل، يقال: بلاد شاغرة، يعني: خلت من أهلها، ويقال: مكان شاغر: خالي، ويقال: شغر الكلب برجله: إذا رفعها ليبول، فأخلى مكانها. وقيل: سمي شغارًا من شغور الكلب برجله، المعنى كأنه يقول: لا تمسها ولا تمس رجلها، حتى أمس أو حتى أباشر رجل أختك أو بنتك أو عمتك، أو ما أشبه ذلك. وبكل حال فهو منكر وفاسد، وإن لم يخل من المهر وإن سمي فيه مهر؛ لما ثبت عن النبي ﷺ أنه نهى عن الشغار في حديث ابن عمر، ومن حديث جابر ومن حديث معاوية، ومن أحاديث أخرى في النهي عن الشغار، وفي حديث أبي هريرة: والشغار هو: (أن يقول الرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي، هذا هو الشغار).
أما ما جاء في حديث ابن عمر رضى الله عنهما بقوله: إن الشغار هو: (أن يزوج هذا هذا، وهذا هذا، وليس بينهما صداق). هذا من كلام نافع مولى ابن عمر وليس من كلام النبي ﷺ وقال جماعة: هو من كلام مالك بن أنس الراوي عن نافع وبكل حال فهو ليس من كلام النبي ﷺ وإنما هو من كلام من دون النبي ﷺ وهو نافع مولى ابن عمر أو مالك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في البلوغ: "واتفقا من وجه آخر على أن تسمية الشغار من كلام نافع، فليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وقد اتفق الشيخان على أنه من تفسير نافع، وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام. وبعض الفقهاء رحمة الله عليهم أخذ بما قال نافع، وقالوا: إنه لا يكون شغارًا إلا إذا خلا من المهر، أما إذا كان فيه المهر كاملًا فليس فيه حيلة، والمهر كاملًا لهذه ولهذه، فإنه لا يكون شغارًا. وهذا قول ضعيف ومرجوح، والصواب: أنه يكون شغارًا مطلقًا إذا كان فيه الشغر لظاهر الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه في حديث أبي هريرة قال: والشغار: أن يقول الرجل: زوجني أختك وأزوجك أختي، أو زوجني بنتك وأزوجك بنتي[9]، ولم يقل وليس بينهما صداق، بل أطلق؛ ولما ثبت في المسند وسنن أبي داود بسند صحيح، عن معاوية أنه رفع إليه أمير المدينة: أن شخصين تزوجا شغارًا، وقد سميا مهرًا، فكتب معاوية إلى أمير المدينة أن يفرق بينهما، وقال: هذا هو الشغار الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام مع أنهما قد سميا مهرًا.
فدل ذلك، على أن الشغار هو ما فيه مشارطة سواء سمي فيه المهر أم لم يسم فيه المهر والحكمة في ذلك والله أعلم أنه وسيلة لظلم النساء، وإجبارهن على أزواج لا ترضاهم النساء، وسبب أيضًا لعدم المبالاة بمهورهن، وسبب أيضًا للنزاع المتواصل والخصومات الكثيرة.
فمن رحمة الله أن حرَّم الله ذلك؛ حتى لا يجبر النساء بغير حق، وحتى لا يظلمن، وحتى يسد باب النزاع والخصومات، فإنَّ الذين فعلوا هذا وقد جربوا ما فيه من الشر، فإنه تكثر بينهم النزاعات والخصومات، وإذا جرى بين هذا وزوجته شيء، وخرجت لعلة، خرجت الأخرى، أو طلب وليها بإخراجها حتى تعود هذه، وهكذا في النزاع متى ساءت الحال بين هذا وزوجته، لحقتها الأخرى؛ لأنه مشروط على هذا، وهذا مشروط عليه أن ينكح هذا هذه، وهذا هذه، فكلما جرى نزاع ساءت الحال بين الجميع.
ثم الولي لا يبالي، بل يحبسها ويؤذيها، حتى يجد امرأة أخرى، ويشترطها لنفسه أو لولده أو لابن أخيه أو لأخيه، فتكون النساء حبسًا مظلومات لحاجات الأولياء، ولمصالح الأولياء، ولظلم الأولياء؛ ومن أجل هذا حرم الله الشغار، ونهى عنه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا تظلم النساء، وحتى لا يتخذ تزويجهن للهوى والظلم، وإرضاء الأولياء، وتحصيل مقاصدهم وأهواءهم، بل على الولي أن يطلب لها الزوج المناسب الزوج الشرعي ولا يعلق ذلك بأن يزوج ابن هذا أو أخ هذا أو عم هذا، وما أشبه ذلك. فهذا هو نكاح الشغار، وهو المسمى: نكاح البدل.
والصواب: أنه لا يجوز مطلقًا سواء كان فيه مهر أو لم يكن فيه مهر هذا هو أرجح قولي العلماء في هذه المسألة، وهو الموافق للأحاديث الصحيحة، وهو الموافق للمعنى الذي من أجله حرم الله الشغار، الذي هو البدل، ونهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة وإن سمي فيه مهر والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله أن يمن على المسلمين بالعافية من كل ما يغضبه.
والواجب على من يستمع مثل هذه الفائدة أن يبلغها إلى غيره؛ لأن هذا كثير عند بعض الناس، فمسألة الشغار هذه موجودة في الحاضرة والبادية، ولعله في البادية أكثر، وفي القرى، فينبغي تبليغ ذلك لمن يستطيعه الإنسان، ولاسيما في هذا الوقت؛ عند غلاء المهور صار كل واحد يحبس ابنته أو أخته، يقول: لعله يحصل لي من يزوجني أخته أو بنته، فتبقى عنده بنته إلى أن تبلغ الأربعين سنة أو الثلاثين سنة، يرجو وجود من يزوجه أو يزوج ولده، وهذا من الظلم الظاهر والمعصية الظاهرة، فيجب على الإخوان أن يبلّغوا من علموا ذلك منه، وأن يخوفوه من الله، وأن يحذّروه نقمة الله، فإن هذا ظلم للنساء. لا يجوز هذا النكاح في هذه الصفة، أمر لا يجوز أيضًا، ونسأل الله للجميع الهداية والعافية[10].
فإن الله جل وعلا شرع لعباده النكاح، وحرم عليهم السفاح، وحرم أيضًا أنكحة فاسدة كانت تعتادها الجاهلية، وبعضها شُرع في الإسلام ثم نسخ. أما النكاح الشرعي الذي هو ضد السفاح هو: النكاح الذي يكون عن رضا من المرأة، وعن واسطة الولي، وبواسطة الإعلان والشاهدين، وغير هذا من الإعلان، فهذا هو النكاح الشرعي الباقي، الذي قال الله فيه جل وعلا: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
وقال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء[1]، وقال عليه الصلاة والسلام: تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة[2]، وفي لفظ: الأنبياء يوم القيامة.
وقال ﷺ: تنكح المرأة لأربع؛ لجمالها ولمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك[3] وقال ﷺ: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير[4]، وفي لفظ: فساد عريض[5]، والأحاديث في المعنى للحث على النكاح، والترغيب فيه كثيرة.
والقرآن الكريم كذلك دل على شرعية النكاح، ورغب فيه، فقال تعالى: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء:3]. يعني: ألا تجوروا.
فالله سبحانه شرع لنا النكاح؛ لما فيه من إعفاف الفروج، ولما فيه من تكثير الأمة؛ فإن الأمة إذا لم يكن هناك نكاح انقرضت، ولكن من رحمة الله أن شرع النكاح، وجعل في الرجل الميل إلى المرأة، وجعل في المرأة الميل إلى الرجل، وكتب بينهما ما كتب لوجود الذرية؛ حتى يبقى هذا النسل، وتبقى هذه الأمة إلى الأمد الذي حدده الله . وشرع لهذه الأمة التمسك بما بعث الله به أنبياءه من عهد آدم إلى يومنا هذا؛ شرع النكاح وشرع التمسك بما خلقوا له من دين الله وعبادته حتى لا يزال في الأرض من يعبد الله ويتقيه، ويكثر من ذكره سبحانه ويطيع أوامره، وينتهي عن نواهيه. وجعل لهذه الدنيا أمدًا تنتهي إليه، فإذا جاء الأمد قامت القيامة، وانتهى أمر هذا العالم، وصار الناس إلى الدار الأخرى؛ وهي الجنة أو النار على حسب أعمالهم، فمن كان من أهل الإحسان في هذه الدار من أهل طاعة الله ورسوله، صار إلى دار النعيم والكرامة وإلى دار أهل الإحسان؛ وهي الجنة، ومن كان في هذه الدار من أهل الانحراف والفساد وطاعة الشيطان أو عصيان الرحمن، صار إلى دار الهوان ودار العذاب والنكال؛ وهي النار نعوذ بالله من ذلك.
وشرع في النكاح أمورًا منها: أن تكون المرأة والرجل خاليين من الموانع، صالحين للزواج بأن يكونا مسلمين أو كافرين، أو الزوج مسلمًا والمرأة كتابية من اليهود والنصارى المحصنات فإنه يكون النكاح هكذا؛ إما مسلمان، أو كافران، أو مسلم وكتابية محصنة من اليهود والنصارى. فإذا اختل الأمر، صار هناك مانع: إذا كان الزوج مسلمًا والمرأة غير كتابية ولا مسلمة وثنية، مجوسية، شيوعية لم يصح النكاح. كذلك لابد أيضًا من كون المرأة خالية من الموانع؛ ليست في عدة ولا في عصمة نكاح، بل تكون خالية مطلقة أو متوفى عنها، قد انتهت من العدة، أو لم تزوج أصلًا. ثم هناك أيضًا موانع أخرى من القرابة والرضاعة والمصاهرة، تكون سليمة من ذلك، والرجل سليمًا من ذلك، ليس بينهما ما يحرم النكاح؛ لا قرابة، مثل كونها أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو ما أشبه ذلك من رضاع أو من نسب ولا كونها أيضًا محرمة بالمصاهرة؛ كأن تكون بنت زوجته المدخول بها، أو أم زوجته، أو جدتها، فلا يجوز له نكاحها. فإذا صار الزوجين خاليين من الموانع، وتوافرت الشروط الشرعية؛ من رضا الزوجين الزوج والزوجة الزوج بالمرأة والمرأة بالزوج إلا ما استثني من حال صغر المرأة، إذا زوجها أبوها في حال صغرها وهي ابنة تسع، واختار لها الزوج الصالح، فهذا يجوز إذا كان دون التسع إذا اختار أبوها لها الزوج الصالح كما زوّج الصديق عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ وهي صغيرة بنت ست أو سبع سنين بغير مشورتها؛ لأنها صغيرة جدًا. أما إذا بلغت تسع سنين فأكثر فإنها تستشار وتخبر، وإذنها صماتها؛ يعني سكوتها هذا إذا كانت بكرًا أما الثيب فلابد من نطقها، ولابد من مؤامرتها حتى تنطق، وحتى تصرح بالرضا، ولابد أيضًا من وجود الولي، ووجود الشاهدين. فإذا توافرت الشروط الزوج والزوجة، وما يجب في ذلك صح النكاح، وصار نكاحًا شرعيًا، بشرط أن يكون هذا النكاح للرغبة لا للتحليل، ولا مؤقتًا بوقت، وأن يتزوجها راغبًا فيها، يريد الاستمتاع بها، والبقاء معها؛ ليعفها وتعفه، ولما يسر الله من أولاد، والمصالح الأخرى.
وهناك أنكحة تخالف النكاح الشرعي من ذلك:
نكاح المتعة:
وهو: أن يتزوجها لمدة معينة ثم بعد ذلك يزول النكاح؛ كأن يتزوجها شهرًا أو شهرين أو ثلاثة، أو ما أشبه ذلك لمدة يتفقان عليها، هذا يقال له: نكاح المتعة. وقد أبيح في الإسلام وقتا ما، ثم نسخ الله ذلك وحرمه على الأمة بأن جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا[6].
وثبت من حديث علي وسلمة بن الأكوع، وابن مسعود، وغيرهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المتعة، فاستقرت الشريعة على تحريم نكاح المتعة، وأنه محرم. وأن النكاح الشرعي، هو الذي يكون فيه الرغبة من الزوج للزوجة، ليس بينهم توقيت، بل يتزوجها على أنه راغب فيها؛ لما يرجوه وراء ذلك من العفة، والنسل، والتعاون على الخير، فهذا هو النكاح الشرعي؛ أن ينكح لرغبة فيها، ليستمتع بها، ويستعف بها، ولما يرجو من النسل والذرية، فهذا هو النكاح الشرعي الذي أباحه الله. وتقدم بيان شروطه، وما ينبغي فيه، وجعله خيرًا للأمة؛ فيه تعاونها، وفيه تكثير نسلها، وفيه إعفاف رجالها ونسائها، وفيه الإحسان إلى الجنسين؛ فالزوج يحسن إلى المرأة؛ بإعفافها، والإنفاق عليها، وصيانتها وحمايتها من ذئاب الرجال، إلى غير ذلك، والمرأة تساعده على دينه ودنياه، وتعفه، وتراعى مصالحه، وتعينه على نوائب الدنيا والآخرة. وهذا النكاح الذي سمعتم هو نكاح المتعة قد نسخ في الإسلام، واستقر تحريمه، وكان عمر يتوعد من فعله بأن يرجمه رجم الزاني؛ لأن الله قد حرمه، واستقر تحريمه في الشريعة، ولكن لم يزل في الناس من يستبيحه وهم الرافضة يستبيحون نكاح المتعة، ويفعلونه، وهو مشهور في كتبهم. وذلك مما أُخذ عليهم، ومما ضلوا فيه عن سواء السبيل، فلا ينبغي لعاقل أن يغتّر بهم، بل يجب الحذر مما هم عليه من الباطل، وأن يعلم المؤمن يقينًا أن هذا النكاح باطل، وأنه مما حرمه الله، ومما استقرت الشريعة على تحريمه، وسبق لكم حديث سمرة بن معبد الجهني عن النبي ﷺ أنه قال: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا[7]. خرجه مسلم في صحيحه.
هذا النص وما جاء في معناه، يبين أن هذا النسخ مستمر إلى يوم القيامة، وأنه انتهى أمر هذا النكاح، ولا يبقى له محل إباحة، بل قد نسخه الله واستمر تحريمه إلى يوم القيامة، وهو كما تقدم نكاح المتعة: النكاح المؤقت الذي يتفق عليه الرجل والمرأة لمدة معلومة، هذا هو نكاح المتعة. ومن عاداتهم: أنه إذا مضت المدة ينتهي، ولا يحتاج إلى طلاق، ولا إلى غير ذلك. ولكن لو جعلوا فيه طلاقًا، فهو أيضًا طلاق متعة؛ لو اتفقوا على شهرين أو ثلاثة، ثم يطلقها، ثم تعتد كله نكاح متعة فالنكاح المؤقت نكاح متعة مطلقًا سواء كان فيه طلاق، أو بمجرد انتهاء المدة ينتهي الأمر فيما بينهم، أو شرطوا فيه الطلاق أو الفسخ، كله نكاح متعة وهو محرم بالنص، ومكان إجماع من أهل العلم، فلا يوجد بين أهل العلم خلاف فيه، بل محرم عند أهل السنة والجماعة قاطبة.
النكاح الثاني من الأنكحة التي حرمها الله وقد وقع فيها بعض الناس: نكاح التحليل: وهو نكاح يفعله من حَرُمَتْ عليه زوجته بالطلاق بالطلقة الأخيرة الثالثة؛ بعض الناس لضعف إيمانه، وقلة خوفه من الله يتفق مع شخص آخر ليتزوجها، فإذا دخل بها ووطئها فارقها؛ حتى يعود إليها زوجها الأول، وهذا هو النكاح الذي يسمى: نكاح التحليل، وقد ثبت عن رسول الله ﷺ: أنه لعن المحلل والمحلل له[8].
المحلل: هو التيس المستعار، والزوج هو الذي يطلبه لتحليلها، والمحلل له هو: الزوج الأول المطلق. هذا نكاح باطل وحرام؛ إذا اتفقا عليه للتواطؤ، أو بالشرط اللفظي، أو بالكتابة، كل ذلك محرم؛ للأحاديث التي جاءت في هذا الباب عن النبي ﷺ أنه: لعن المحلل والمحلل له. جاء في ذلك عدة أحاديث، منها: حديث ابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما، وفي لفظ يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ألا أنبئكم بالتيس المستعار؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: هو المحلل. لعن الله المحلل، والمحلل له. سمي تيسًا مستعارًا؛ لأنه جيء به للضراب، ليس زوجًا، وإنما جيء به ليدخل بها مرة، يجامعها مرة ثم يفارقها، لأن الله قال في المطلقة آخر الثلاثة: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]. فهذا المطلق الطلقة الثالثة، لما رأى أنه لا حيلة له إلا بزوج، وهو يريدها وتريده، زين لهم الشيطان هذا العمل السيء، وهو: الاتفاق مع شخص يسمى المحلل، ويعطونه ما شاء الله من المال، وترضى به الزوجة رضًا مؤقتًا ليحللها لزوجها، فلا تنظر في حاله، ولا نسبه، ولا أهليته في الغالب؛ لأنه لا يهمهم إلا أن يدخل عليها مرة، ثم يخرج وينتهي الأمر؛ ليحللّها للزوج الأول. وهذا من أقبح الباطل، ومن أعظم الفساد، وهو زانٍ في المعنى؛ لأنه ما تزوجها لتكون زوجة؛ لتعفه، ولتبقى لديه لتحصنه؛ ليرجو منها وجود الذرية. لا، إنما جاء تيسًا مستعارًا ليحللها لمن قبله بوطء مرة واحدة، ثم يفارقها وينتهي منها، هذا هو المحلل، ونكاحه باطل، وليس بشرعي. ولا تحل للزوج الأول إذا علم هذا، فإنه يستحق أن يؤدّب ويعزر بالتعزير البليغ الذي يردعه أمثاله، وهذه الزوجة لا تحل بذلك، بل يعزر أيضًا المحلل، وهي كذلك إذا كانت راضية، كلهم يعزّرون لهذا العمل السيء؛ لأنه نكاح فاسد ولا تحل له، نكاح خبيث، نكاح منكر ومعصية؛ فوجب أن يعزر القائمون به: المحلِّل والمحللِّة والمحلَّل له أيضًا، كلهم سواء. فالمرأة إذا كانت راضية وعالمة بهذا الشيء، فهي أيضًا تستحق التعزير والتأديب؛ لرضاها بالمعصية ومواطأتها عليها، ولو أراد أن يبقى عندها لم تحل له، ما دام نكحها بهذه النية وبهذا القصد، فإنه نكاح فاسد، ولا تحل للزوج الأول؛ لأن هذا ليس بزواج، والله قال: حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وهذا تيس مستعار، وليس بزوج شرعي، فلا يحللها للزوج الأول.
والنكاح الثالث الفاسد أيضًا: نكاح يسمى: نكاح الشغار، ويسمى عند بعض الناس: نكاح البدل:
وهو نكاح يشترط فيه كل واحد من الوليّين نكاح الأخرى، فيقول أحدهما للآخر: زوّجني وأزوجك؛ زوجني بنتك وأزوجك بنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي، أو زوج ابني وأنا أزوج ابنك، أو زوجني وأنا أزوج ابنك، أو زوج ابني وأنا أزوجك، أو أزوج أخاك، أو ما أشبه ذلك، هذا هو الشغار. قالوا: سمي شغارًا من الخلو؛ لأنه في الغالب لا يهمهم المهر، وإنما يهمهم الاتفاق على هذا العمل، يقال: بلاد شاغرة، يعني: خلت من أهلها، ويقال: مكان شاغر: خالي، ويقال: شغر الكلب برجله: إذا رفعها ليبول، فأخلى مكانها. وقيل: سمي شغارًا من شغور الكلب برجله، المعنى كأنه يقول: لا تمسها ولا تمس رجلها، حتى أمس أو حتى أباشر رجل أختك أو بنتك أو عمتك، أو ما أشبه ذلك. وبكل حال فهو منكر وفاسد، وإن لم يخل من المهر وإن سمي فيه مهر؛ لما ثبت عن النبي ﷺ أنه نهى عن الشغار في حديث ابن عمر، ومن حديث جابر ومن حديث معاوية، ومن أحاديث أخرى في النهي عن الشغار، وفي حديث أبي هريرة: والشغار هو: (أن يقول الرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي، هذا هو الشغار).
أما ما جاء في حديث ابن عمر رضى الله عنهما بقوله: إن الشغار هو: (أن يزوج هذا هذا، وهذا هذا، وليس بينهما صداق). هذا من كلام نافع مولى ابن عمر وليس من كلام النبي ﷺ وقال جماعة: هو من كلام مالك بن أنس الراوي عن نافع وبكل حال فهو ليس من كلام النبي ﷺ وإنما هو من كلام من دون النبي ﷺ وهو نافع مولى ابن عمر أو مالك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في البلوغ: "واتفقا من وجه آخر على أن تسمية الشغار من كلام نافع، فليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام وقد اتفق الشيخان على أنه من تفسير نافع، وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام. وبعض الفقهاء رحمة الله عليهم أخذ بما قال نافع، وقالوا: إنه لا يكون شغارًا إلا إذا خلا من المهر، أما إذا كان فيه المهر كاملًا فليس فيه حيلة، والمهر كاملًا لهذه ولهذه، فإنه لا يكون شغارًا. وهذا قول ضعيف ومرجوح، والصواب: أنه يكون شغارًا مطلقًا إذا كان فيه الشغر لظاهر الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه في حديث أبي هريرة قال: والشغار: أن يقول الرجل: زوجني أختك وأزوجك أختي، أو زوجني بنتك وأزوجك بنتي[9]، ولم يقل وليس بينهما صداق، بل أطلق؛ ولما ثبت في المسند وسنن أبي داود بسند صحيح، عن معاوية أنه رفع إليه أمير المدينة: أن شخصين تزوجا شغارًا، وقد سميا مهرًا، فكتب معاوية إلى أمير المدينة أن يفرق بينهما، وقال: هذا هو الشغار الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام مع أنهما قد سميا مهرًا.
فدل ذلك، على أن الشغار هو ما فيه مشارطة سواء سمي فيه المهر أم لم يسم فيه المهر والحكمة في ذلك والله أعلم أنه وسيلة لظلم النساء، وإجبارهن على أزواج لا ترضاهم النساء، وسبب أيضًا لعدم المبالاة بمهورهن، وسبب أيضًا للنزاع المتواصل والخصومات الكثيرة.
فمن رحمة الله أن حرَّم الله ذلك؛ حتى لا يجبر النساء بغير حق، وحتى لا يظلمن، وحتى يسد باب النزاع والخصومات، فإنَّ الذين فعلوا هذا وقد جربوا ما فيه من الشر، فإنه تكثر بينهم النزاعات والخصومات، وإذا جرى بين هذا وزوجته شيء، وخرجت لعلة، خرجت الأخرى، أو طلب وليها بإخراجها حتى تعود هذه، وهكذا في النزاع متى ساءت الحال بين هذا وزوجته، لحقتها الأخرى؛ لأنه مشروط على هذا، وهذا مشروط عليه أن ينكح هذا هذه، وهذا هذه، فكلما جرى نزاع ساءت الحال بين الجميع.
ثم الولي لا يبالي، بل يحبسها ويؤذيها، حتى يجد امرأة أخرى، ويشترطها لنفسه أو لولده أو لابن أخيه أو لأخيه، فتكون النساء حبسًا مظلومات لحاجات الأولياء، ولمصالح الأولياء، ولظلم الأولياء؛ ومن أجل هذا حرم الله الشغار، ونهى عنه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا تظلم النساء، وحتى لا يتخذ تزويجهن للهوى والظلم، وإرضاء الأولياء، وتحصيل مقاصدهم وأهواءهم، بل على الولي أن يطلب لها الزوج المناسب الزوج الشرعي ولا يعلق ذلك بأن يزوج ابن هذا أو أخ هذا أو عم هذا، وما أشبه ذلك. فهذا هو نكاح الشغار، وهو المسمى: نكاح البدل.
والصواب: أنه لا يجوز مطلقًا سواء كان فيه مهر أو لم يكن فيه مهر هذا هو أرجح قولي العلماء في هذه المسألة، وهو الموافق للأحاديث الصحيحة، وهو الموافق للمعنى الذي من أجله حرم الله الشغار، الذي هو البدل، ونهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة وإن سمي فيه مهر والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله أن يمن على المسلمين بالعافية من كل ما يغضبه.
والواجب على من يستمع مثل هذه الفائدة أن يبلغها إلى غيره؛ لأن هذا كثير عند بعض الناس، فمسألة الشغار هذه موجودة في الحاضرة والبادية، ولعله في البادية أكثر، وفي القرى، فينبغي تبليغ ذلك لمن يستطيعه الإنسان، ولاسيما في هذا الوقت؛ عند غلاء المهور صار كل واحد يحبس ابنته أو أخته، يقول: لعله يحصل لي من يزوجني أخته أو بنته، فتبقى عنده بنته إلى أن تبلغ الأربعين سنة أو الثلاثين سنة، يرجو وجود من يزوجه أو يزوج ولده، وهذا من الظلم الظاهر والمعصية الظاهرة، فيجب على الإخوان أن يبلّغوا من علموا ذلك منه، وأن يخوفوه من الله، وأن يحذّروه نقمة الله، فإن هذا ظلم للنساء. لا يجوز هذا النكاح في هذه الصفة، أمر لا يجوز أيضًا، ونسأل الله للجميع الهداية والعافية[10].
- أخرجه مسلم في صحيحه، برقم: 3352.
- أخرجه أبو داود في (سننه)، باب (النهي عن تزويج من لم يلد من النساء).
- أخرجه البخاري، برقم: (4802) 5/ 1958، ومسلم في صحيحه، باب (استحباب نكاح ذات الدين) برقم (1466) 2/ 1086.
- كتاب السنن، حديث رقم: (590) 1/190.
- أخرجه الترمذي في سننه، باب (ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه)، برقم: (1084)3/ 394
- أخرجه مسلم في صحيحه برقم: (1406) 2/ 1025.
- أخرجه مسلم في صحيحه، برقم: (1406) 2 / 1025.
- أخرجه ابن ماجه في سننه، برقم:(1936) 1/ 623.
- أخرجه مسلم في صحيحه برقم: (1416)، 2/ 1035.
- محاضرة لسماحته بعنوان (الأنكحة المحرمة كالشغار والمتعة) في الجامع الكبير بالرياض. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 20/ 269).