الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فهذه كلمة أردت أن أوضح فيها أخلاق العلماء وما ينبغي أن يسيروا عليه؛ تأسيا بإمامهم الأعظم وقدوتهم في كل خير، وهو نبينا محمد بن عبدالله ﷺ، رسول رب العالمين، وقائد الغر المحجلين، وإمام الدعاة إلى سبيل الله أجمعين، ورأيت أن يكون عنوانها "أخلاق أهل العلم".
ولا يخفى على كل ذي مسكة من علم أن العلماء هم خلفاء الأنبياء؛ لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، والعلم هو ما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام، ولهذا قالت عائشة لما سئلت -رضي الله عنها- عن خلق النبي -عليه الصلاة والسلام، قالت: كان خلقه القرآن. فهذه الكلمة العظيمة من عائشة -رضي الله عنها- ترشدنا إلى أن أخلاقه -عليه الصلاة والسلام- هي اتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها، والبعد عن كل خلق ذمه القرآن وعاب أهله، وهي كلمة جامعة مختصرة عظيمة.
فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب الله، وأن يقبلوا عليه حتى يأخذوا منه الأخلاق التي يحبها الله عز وجل، وحتى يستقيموا عليها، وحتى تكون لهم خلقا ومنهجا يسيرون عليه أينما كانوا، يقول عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] فهو الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها وأصلحها؟ ولا شك أن هذا هو أرفع الأهداف وأهمها وأزكاها، وهو الخلق العظيم الذي مدح الله به نبيه محمدا ﷺ في سورة القلم، حيث قال سبحانه وتعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَاا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:1-4] فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يعنوا بهذا الخلق، وأن يقبلوا على كتاب الله قراءة وتدبرا وتعقلا وعملا، يقول سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] وهم أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم الله التمييز بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب الله عز وجل، والعناية به تلاوة وتدبرا وتعقلا، ومذاكرة بينه وبين زملائه، وسؤالا لأهل العلم عما أشكل عليه، مع الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية؛ لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسير على هذا النهج القويم، وحتى يكون من أهل كتاب الله قراءة وتدبرا وعملا، فاليهود عندهم كتاب الله، والنصارى عندهم كتاب الله، وعلماء السوء من هذه الأمة عندهم كتاب الله، فماذا صار هؤلاء؟ صاروا من شر الناس لما خالفوا كتاب الله، وغضب الله عليهم وهكذا أتباعهم من كل من خالف كتاب الله على علم وسار على نهج الغاوين من اليهود والنصارى وغيرهم، حكمه حكمهم، والمقصود أن نعمل بكتاب الله، وأن يكون خلقا لنا كما كان خلقا للذين آمنوا قبلنا وهدى وشفاء.
وقد قال الله جل وعلا لنبيه ﷺ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] وهذا أيضا من أخلاقه -عليه الصلاة والسلام، ومن أخلاق أهل العلم جميعا، أهل العلم والبصيرة، أهل العلم والإيمان، أهل العلم والتقوى، أما أهل العلم من غير تقوى وإيمان فليس لهم حظ في ذلك؛ لأن أهل العلم من أخلاقهم الدعوة إلى الله على بصيرة، مع العمل وبيان الحق بأدلته الشرعية قولا وعملا وعقيدة، فهم دعاة الخلق وهداتهم على ضوء كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، بل يبلغون الناس دين الله، ويرشدونهم إلى الحق الذي بعث الله به نبيه -عليه الصلاة والسلام، ويصبرون على الأذى في جميع الأحوال.
وبهذا يعلم أن من دعا على جهالة فليس على خلق النبي ﷺ، وليس على خلق أهل العلم، بل هو مجرم؛ لأن الله سبحانه جعل القول عليه بغير علم فوق مرتبة الشرك؛ لما يترتب عليها من الفساد العظيم، قال تعالى في كتابه المبين: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فجعل سبحانه القول عليه بغير علم في القمة من مراتب المحرمات؛ لأن هذه الآية فيها الترقي من الأدنى إلى ما هو أشد منه، فانتهى إلى الشرك ثم القول على الله بغير علم، وبهذا يعلم خطر القول على الله بغير علم، وأنه من المنكرات العظيمة والكبائر الخطيرة لما فيه من العواقب السيئة وإضلال الناس.
وفي آية أخرى من سورة البقرة بين سبحانه أن القول عليه بغير علم مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به، فلا ينبغي لطالب العلم أن يسير في ركاب الشيطان، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169] انظر يا أخي ما ذكره الله عن هذا العدو المبين، وأنه يأمر بالسوء والفحشاء والقول على الله بغير علم، لما يعلم من عظيم الخطر والفساد في القول عليه سبحانه بغير علم؛ لأن القائل على الله بغير علم يحل الحرام ويحرم الحلال، وينهى عن الحق ويأمر بالباطل لجهله.
فالواجب على أهل العلم وطلبته الحذر من القول على الله بغير علم، والعناية بالأدلة الشرعية، حتى يكونوا على علم بما يدعون إليه أو ينهون عنه، وحتى لا يقولوا على الله بغير علم، والعلماء بالله هم أعظم الناس خشية لله، وأكملهم في الخوف من الله والوقوف عند حدوده، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فكل مسلم يخشى الله وكل عالم يخشى الله، لكن الخشية متفاوتة، فأعظم الناس خشية لله، وأكمل الناس خشية لله هم العلماء بالله، العلماء بدينه، ليسوا علماء الطب، وليسوا علماء الهندسة، وليسوا علماء الجغرافيا، وليسوا علماء الحساب، وليسوا علماء كذا وكذا، ولكنهم العلماء بالله وبدينه وبما جاء به رسوله -عليه الصلاة والسلام، وعلى رأسهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام.
فالرسل والأنبياء هم رأس العلماء، وهم قدوة العلماء، وهم الأئمة، ومن بعدهم خلفاء لهم، ورثوا علمهم ودعوا إلى ما دعوا إليه، جاء في الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء» فجدير بأهل العلم -وإن تأخر زمانهم كزماننا هذا جدير بهم- أن يسلكوا مسلك أوائلهم الأخيار في خشية الله، وتعظيم أمره ونهيه، والوقوف عند حدوده، وأن يكونوا أنصارا للحق ودعاة للهدى، لا يخشون في الحق لومة لائم، وبذلك ينفع علمهم وتبرأ ذمتهم وينتفع الناس بهم، فقوله سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] يعني الخشية الكاملة، فالخشية الكاملة لأهل العلم، وأعلاهم الرسل والأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من أهل العلم على حسب تقواهم لله، وعلى حسب سعة علمهم، وعلى حسب قوة إيمانهم وكمال إيمانهم وتصديقهم.
ولما قال بعض الصحابة لما سألوا عن عمل الرسول ﷺ في السر، فكأنهم تقالوه: أين نحن من رسول الله ﷺ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ كما في الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- فقال بعضهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
فبين -عليه الصلاة والسلام- أنه أخشى الناس ﷺ، وأنه أتقى الناس لله وأعلمهم بما يتقى -عليه الصلاة والسلام، وهكذا الرسل قبله هم أعلم الناس بالله، وأتقاهم لله، ثم يليهم العلماء على مراتبهم، ولكن لا يلزم من كمال خشية الله والخوف منه أن يكونوا معصومين من الخطأ، بل كل عالم قد يخطئ، فمتى بان له الحق رجع إليه، كما قال النبي ﷺ: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
فعلى طالب العلم أن يتحرى الحق بدليله، ويجتهد في ذلك، ويسأل ربه التوفيق والإعانة، ويخلص النية، فإن أخطأ مع ذلك فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله ﷺ.
فالخشية لله تقتضي الوقوف عند حدود الله والسير على منهج رسول الله ﷺ، فإذا زاد على ذلك صار تنطعا وغلوا لا يجوز، فالعالم هو الذي يقف عند حدود الله في الإباحة والمنع، وفي العمل والترك، لكنه مع ذلك يكون شديد الحذر أن يقول على الله بغير علم، أو يعمل بخلاف ما علم، فيشابه اليهود في ذلك.
وقد ذكر الله سبحانه عن بعض أهل الكتاب العاملين الأتقياء خصالا حميدة؛ تذكيرا لنا بذلك، فقال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] ففي التاريخ والقصص عبر كما قال عز وجل، وقال سبحانه: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:113، 114] وهذا نموذج من أعمالهم الطيبة، وهذه الصفات الحميدة ذكرها الله سبحانه عنهم لنقتدي بهم فيها، ولنسلك هذا المسلك، ونتأسى بأهل الخير، وهكذا في آخر سورة آل عمران، يقول جل وعلا: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199] فهذه الخصال الحميدة التي أخذ بها خيار أهل الكتاب ومن هداهم الله من علمائهم، إيمان بالله، خشوع وخضوع لله، وطاعة لله سبحانه، وذل بين يديه سبحانه وتعالى، ثم مع ذلك لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ولا يجحدون الحق ولا يكتمونه كما فعل علماؤهم الضالون، كتموا سيرة محمد -عليه الصلاة والسلام، وكتموا كثيرا من الحق من أجل حظهم العاجل وما أرادوا من متاع الدنيا، أما أهل العلم والإيمان من الأولين والآخرين، أهل الخوف من الله، فإنهم ينطقون بالحق ويصرحون به، ولا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، بل إن من أعمالهم العظيمة بيان الحق والدلالة عليه والدعوة إليه، والتحذير من الباطل والترهيب منه، يرجون ثواب الله ويخشون عقابه سبحانه وتعالى.
وقال عز وجل: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19] وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9] وبين سبحانه في هاتين الآيتين أنه لا يستوي من يعلم الحق المنزل من عند ربنا -وهو الهدى والصلاح والإصلاح لا يستوي هؤلاء- مع من هو أعمى لا يعرف الحق ولا يهتدي إليه لفساد تصوره وانحراف قلبه وفساد لبه، لا يستوي هؤلاء وهؤلاء، ولهذا قال: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19] فأوضح أن التذكر والتبصر إنما يكون من أولي الألباب، وهم أولوا العقول الصحيحة السليمة، ثم ذكر صفاتهم العظيمة فقال: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20] هذه صفات أهل العلم والإيمان، وهم الذين يوفون بعهد الله والذي عهد إليهم، يؤدون حقه ويستقيمون على دينه قولا وعملا وعقيدة، ولا ينقضون الميثاق، بل يوفون بالمواثيق والعهود، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، يصلون ما أمر الله به أن يوصل من الاستقامة على أمر الله، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، واتباع سنة الرسول ﷺ، لا بد من هذا وهذا، لابد من توحيد الله ومن اتباع الرسول ﷺ، ولابد من وصل هذا بهذا، وذلك بتحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهكذا يتبعون الإيمان بالعمل، ومن ذلك بر الوالدين وصلة الرحم، ويخشون ربهم الخشية التي تعينهم على طاعة الله، وتمنعهم من معاصي الله، يخشونه سبحانه خشية حقيقية، لا مجرد دعوى تؤثر في قلوبهم، وتجعلها خاشعة لله خاضعة له، معظمة لحرماته تاركة نواهيه، ممتثلة أوامره، هكذا أهل العلم والإيمان، يخشون ربهم الخشية التي تثمر المتابعة، وتؤدي إلى الحق وترك الباطل وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:21] هذا من كمال الخشية خوفهم من سوء الحساب، ولهذا أعدوا العدة واستقاموا على الطريق خوفا من سوء الحساب يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه الصفتين السادسة والسابعة، فقال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [الرعد:20] الآية، صبروا على طاعة الله، وصبروا عن محارم الله، لا تجلدا ولا عن رياء، ولكن ابتغاء وجه الله، وابتغاء الزلفى لديه، هكذا أهل الإيمان وأهل العلم بالله، يصبرون على الشدائد في أداء طاعة الله، وفي ترك معاصي الله، وبتبليغ رسالة الله، مع إقامتهم للصلاة وعدم التفريط في شيء مما أوجب الله عليهم من هذه العبادة العظيمة التي هي عمود الإسلام، وأدوها كما أمر الله.
ثم ذكر سبحانه الصفة الثامنة والتاسعة فقال: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد:22] والمعنى أنهم مع هذا ينفقون في مرضاته وفي الإحسان لعباده سرا وعلانية، شيء يراه الناس وشيء لا يراه الناس، يبتغون فضل الله ويبتغون رحمته وإحسانه من الزكاة وغيرها، يؤدون الزكوات، وينفقون في وجوه الخير مما أعطاهم الله سبحانه، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يدرءون بالحسنات السيئات لكمال صبرهم وتحملهم وكظمهم الغيظ، هكذا العلماء بالله وهكذا الصلحاء من عباده، قال الله تعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:22] لهم العاقبة الحميدة، فسرها سبحانه بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد:23] من ثوابهم على هذه الأعمال السابقة أن الله يشملهم وآبائهم وذرياتهم وأزواجهم بفضله سبحانه وتعالى ورحمته، فالاستقامة على أمر الله وأداء حقه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والثبات على الحق والصبر في ذلك ودرء السيئة بالحسنة، كل هذا من أسباب صلاح العبد وصلاح آبائه وأزواجه وذريته، واجتماعهم في دار كرامته، وزيارة الملائكة لهم مسلمين عليهم ومرحبين بهم.
ومن نعم الله العظيمة على العبد أن يكون سببا لهداية أبيه وأمه وزوجته وذريته، وهكذا من نعم الله العظيمة على المرأة أن تكون سببا لهداية زوجها وأبيها وأمها وأولادها، ويعلم من الآية الكريمة أن دخول الآباء والأزواج والذريات الجنة مع أقاربهم، إنما هو بسبب صلاحهم لا لمجرد النسب والقرابة، ولكن بسبب الصلاح والاستقامة والاجتهاد في طاعة الله، التي هي أعظم واسطة في صلاح العبد وأقربائه وزوجاته وذرياته، واجتماعهم في دار كرامته، وهذه الآية الكريمة تشبه قوله تعالى في سورة سبأ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37] وقوله تعالى في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبير [الحجرات:13] وهكذا ما جاء في معنى ذلك من الآيات الكريمات، كلها تبين أن المنازل العالية والفوز بجنات النعيم والسلامة من عذاب الله وغضبه، كل ذلك لا يحصل بمجرد الأماني والدعوة، ولا بالأنساب والدعوة، إنما يحصل ذلك بعد توفيق الله ورحمته بأسباب الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارمه، والإقبال عليه سبحانه وتعالى، والإخلاص له في العمل، والضراعة إليه بطلب التوفيق والهداية، مع صبرهم على الشدائد والمشاق في سبيل الحق، وصبرهم على المصائب، بهذا كله حصل لهم الخير العظيم والفوز بدار النعيم، وهكذا ينبغي لأهل الإيمان وأهل العلم والهداية أن يتخلقوا بهذه الأخلاق العظيمة، ويسيروا عليها حتى تكون لهم العاقبة الحميدة، وحتى تكون لهم عقبى الدار، فلا بد من صبر ولا بد من إخلاص، ولا بد من صدق، قال تعالى في سورة الإنسان: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12] وقال سبحانه في سورة المؤمنون: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111] وقال في سورة الفرقان لما ذكر صفات عباد الرحمن العظيمة: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَاا تَحِيَّةً وَسَلامًا [الفرقان:75].
فهذه الخصال الحميدة التي ذكرها في قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا الآيات [الفرقان:63]، حصلت لهم بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن محارم الله، وصبرهم على المصائب، فلابد من العناية بهذا الأمر، وأن نعد له عدته، ولابد أن يعلم طالب العلم أنه لا بد من الصبر، وأن الأعمال العظيمة والخير الكثير لا يحصل بمجرد الدعوى والرغبة والتمني من دون عمل وصبر.
أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يوفقنا وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا جميعا التخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان، أخلاق الرسل وأتباعهم بإحسان، وأن يزيدنا وجميع المسلمين من العلم النافع والعمل الصالح والبصيرة النافذة، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، كما نسأله سبحانه أن يوفق القائمين على أمور المسلمين في كل مكان لكل ما فيه رضاه وصلاح العباد، وأن يصلح قادة المسلمين ويعينهم على طاعة الله ورسوله، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته، والالتزام بها والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، كما أسأله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يعينهم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من كل ما يخالف شرعه، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين[1].
فهذه كلمة أردت أن أوضح فيها أخلاق العلماء وما ينبغي أن يسيروا عليه؛ تأسيا بإمامهم الأعظم وقدوتهم في كل خير، وهو نبينا محمد بن عبدالله ﷺ، رسول رب العالمين، وقائد الغر المحجلين، وإمام الدعاة إلى سبيل الله أجمعين، ورأيت أن يكون عنوانها "أخلاق أهل العلم".
ولا يخفى على كل ذي مسكة من علم أن العلماء هم خلفاء الأنبياء؛ لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، والعلم هو ما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام، ولهذا قالت عائشة لما سئلت -رضي الله عنها- عن خلق النبي -عليه الصلاة والسلام، قالت: كان خلقه القرآن. فهذه الكلمة العظيمة من عائشة -رضي الله عنها- ترشدنا إلى أن أخلاقه -عليه الصلاة والسلام- هي اتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها، والبعد عن كل خلق ذمه القرآن وعاب أهله، وهي كلمة جامعة مختصرة عظيمة.
فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب الله، وأن يقبلوا عليه حتى يأخذوا منه الأخلاق التي يحبها الله عز وجل، وحتى يستقيموا عليها، وحتى تكون لهم خلقا ومنهجا يسيرون عليه أينما كانوا، يقول عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] فهو الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها وأصلحها؟ ولا شك أن هذا هو أرفع الأهداف وأهمها وأزكاها، وهو الخلق العظيم الذي مدح الله به نبيه محمدا ﷺ في سورة القلم، حيث قال سبحانه وتعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَاا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:1-4] فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يعنوا بهذا الخلق، وأن يقبلوا على كتاب الله قراءة وتدبرا وتعقلا وعملا، يقول سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] وهم أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم الله التمييز بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب الله عز وجل، والعناية به تلاوة وتدبرا وتعقلا، ومذاكرة بينه وبين زملائه، وسؤالا لأهل العلم عما أشكل عليه، مع الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية؛ لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسير على هذا النهج القويم، وحتى يكون من أهل كتاب الله قراءة وتدبرا وعملا، فاليهود عندهم كتاب الله، والنصارى عندهم كتاب الله، وعلماء السوء من هذه الأمة عندهم كتاب الله، فماذا صار هؤلاء؟ صاروا من شر الناس لما خالفوا كتاب الله، وغضب الله عليهم وهكذا أتباعهم من كل من خالف كتاب الله على علم وسار على نهج الغاوين من اليهود والنصارى وغيرهم، حكمه حكمهم، والمقصود أن نعمل بكتاب الله، وأن يكون خلقا لنا كما كان خلقا للذين آمنوا قبلنا وهدى وشفاء.
وقد قال الله جل وعلا لنبيه ﷺ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] وهذا أيضا من أخلاقه -عليه الصلاة والسلام، ومن أخلاق أهل العلم جميعا، أهل العلم والبصيرة، أهل العلم والإيمان، أهل العلم والتقوى، أما أهل العلم من غير تقوى وإيمان فليس لهم حظ في ذلك؛ لأن أهل العلم من أخلاقهم الدعوة إلى الله على بصيرة، مع العمل وبيان الحق بأدلته الشرعية قولا وعملا وعقيدة، فهم دعاة الخلق وهداتهم على ضوء كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، بل يبلغون الناس دين الله، ويرشدونهم إلى الحق الذي بعث الله به نبيه -عليه الصلاة والسلام، ويصبرون على الأذى في جميع الأحوال.
وبهذا يعلم أن من دعا على جهالة فليس على خلق النبي ﷺ، وليس على خلق أهل العلم، بل هو مجرم؛ لأن الله سبحانه جعل القول عليه بغير علم فوق مرتبة الشرك؛ لما يترتب عليها من الفساد العظيم، قال تعالى في كتابه المبين: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فجعل سبحانه القول عليه بغير علم في القمة من مراتب المحرمات؛ لأن هذه الآية فيها الترقي من الأدنى إلى ما هو أشد منه، فانتهى إلى الشرك ثم القول على الله بغير علم، وبهذا يعلم خطر القول على الله بغير علم، وأنه من المنكرات العظيمة والكبائر الخطيرة لما فيه من العواقب السيئة وإضلال الناس.
وفي آية أخرى من سورة البقرة بين سبحانه أن القول عليه بغير علم مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به، فلا ينبغي لطالب العلم أن يسير في ركاب الشيطان، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169] انظر يا أخي ما ذكره الله عن هذا العدو المبين، وأنه يأمر بالسوء والفحشاء والقول على الله بغير علم، لما يعلم من عظيم الخطر والفساد في القول عليه سبحانه بغير علم؛ لأن القائل على الله بغير علم يحل الحرام ويحرم الحلال، وينهى عن الحق ويأمر بالباطل لجهله.
فالواجب على أهل العلم وطلبته الحذر من القول على الله بغير علم، والعناية بالأدلة الشرعية، حتى يكونوا على علم بما يدعون إليه أو ينهون عنه، وحتى لا يقولوا على الله بغير علم، والعلماء بالله هم أعظم الناس خشية لله، وأكملهم في الخوف من الله والوقوف عند حدوده، قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فكل مسلم يخشى الله وكل عالم يخشى الله، لكن الخشية متفاوتة، فأعظم الناس خشية لله، وأكمل الناس خشية لله هم العلماء بالله، العلماء بدينه، ليسوا علماء الطب، وليسوا علماء الهندسة، وليسوا علماء الجغرافيا، وليسوا علماء الحساب، وليسوا علماء كذا وكذا، ولكنهم العلماء بالله وبدينه وبما جاء به رسوله -عليه الصلاة والسلام، وعلى رأسهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام.
فالرسل والأنبياء هم رأس العلماء، وهم قدوة العلماء، وهم الأئمة، ومن بعدهم خلفاء لهم، ورثوا علمهم ودعوا إلى ما دعوا إليه، جاء في الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء» فجدير بأهل العلم -وإن تأخر زمانهم كزماننا هذا جدير بهم- أن يسلكوا مسلك أوائلهم الأخيار في خشية الله، وتعظيم أمره ونهيه، والوقوف عند حدوده، وأن يكونوا أنصارا للحق ودعاة للهدى، لا يخشون في الحق لومة لائم، وبذلك ينفع علمهم وتبرأ ذمتهم وينتفع الناس بهم، فقوله سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] يعني الخشية الكاملة، فالخشية الكاملة لأهل العلم، وأعلاهم الرسل والأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من أهل العلم على حسب تقواهم لله، وعلى حسب سعة علمهم، وعلى حسب قوة إيمانهم وكمال إيمانهم وتصديقهم.
ولما قال بعض الصحابة لما سألوا عن عمل الرسول ﷺ في السر، فكأنهم تقالوه: أين نحن من رسول الله ﷺ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ كما في الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- فقال بعضهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
فبين -عليه الصلاة والسلام- أنه أخشى الناس ﷺ، وأنه أتقى الناس لله وأعلمهم بما يتقى -عليه الصلاة والسلام، وهكذا الرسل قبله هم أعلم الناس بالله، وأتقاهم لله، ثم يليهم العلماء على مراتبهم، ولكن لا يلزم من كمال خشية الله والخوف منه أن يكونوا معصومين من الخطأ، بل كل عالم قد يخطئ، فمتى بان له الحق رجع إليه، كما قال النبي ﷺ: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
فعلى طالب العلم أن يتحرى الحق بدليله، ويجتهد في ذلك، ويسأل ربه التوفيق والإعانة، ويخلص النية، فإن أخطأ مع ذلك فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله ﷺ.
فالخشية لله تقتضي الوقوف عند حدود الله والسير على منهج رسول الله ﷺ، فإذا زاد على ذلك صار تنطعا وغلوا لا يجوز، فالعالم هو الذي يقف عند حدود الله في الإباحة والمنع، وفي العمل والترك، لكنه مع ذلك يكون شديد الحذر أن يقول على الله بغير علم، أو يعمل بخلاف ما علم، فيشابه اليهود في ذلك.
وقد ذكر الله سبحانه عن بعض أهل الكتاب العاملين الأتقياء خصالا حميدة؛ تذكيرا لنا بذلك، فقال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] ففي التاريخ والقصص عبر كما قال عز وجل، وقال سبحانه: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:113، 114] وهذا نموذج من أعمالهم الطيبة، وهذه الصفات الحميدة ذكرها الله سبحانه عنهم لنقتدي بهم فيها، ولنسلك هذا المسلك، ونتأسى بأهل الخير، وهكذا في آخر سورة آل عمران، يقول جل وعلا: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199] فهذه الخصال الحميدة التي أخذ بها خيار أهل الكتاب ومن هداهم الله من علمائهم، إيمان بالله، خشوع وخضوع لله، وطاعة لله سبحانه، وذل بين يديه سبحانه وتعالى، ثم مع ذلك لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ولا يجحدون الحق ولا يكتمونه كما فعل علماؤهم الضالون، كتموا سيرة محمد -عليه الصلاة والسلام، وكتموا كثيرا من الحق من أجل حظهم العاجل وما أرادوا من متاع الدنيا، أما أهل العلم والإيمان من الأولين والآخرين، أهل الخوف من الله، فإنهم ينطقون بالحق ويصرحون به، ولا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، بل إن من أعمالهم العظيمة بيان الحق والدلالة عليه والدعوة إليه، والتحذير من الباطل والترهيب منه، يرجون ثواب الله ويخشون عقابه سبحانه وتعالى.
وقال عز وجل: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19] وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9] وبين سبحانه في هاتين الآيتين أنه لا يستوي من يعلم الحق المنزل من عند ربنا -وهو الهدى والصلاح والإصلاح لا يستوي هؤلاء- مع من هو أعمى لا يعرف الحق ولا يهتدي إليه لفساد تصوره وانحراف قلبه وفساد لبه، لا يستوي هؤلاء وهؤلاء، ولهذا قال: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19] فأوضح أن التذكر والتبصر إنما يكون من أولي الألباب، وهم أولوا العقول الصحيحة السليمة، ثم ذكر صفاتهم العظيمة فقال: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20] هذه صفات أهل العلم والإيمان، وهم الذين يوفون بعهد الله والذي عهد إليهم، يؤدون حقه ويستقيمون على دينه قولا وعملا وعقيدة، ولا ينقضون الميثاق، بل يوفون بالمواثيق والعهود، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، يصلون ما أمر الله به أن يوصل من الاستقامة على أمر الله، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، واتباع سنة الرسول ﷺ، لا بد من هذا وهذا، لابد من توحيد الله ومن اتباع الرسول ﷺ، ولابد من وصل هذا بهذا، وذلك بتحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهكذا يتبعون الإيمان بالعمل، ومن ذلك بر الوالدين وصلة الرحم، ويخشون ربهم الخشية التي تعينهم على طاعة الله، وتمنعهم من معاصي الله، يخشونه سبحانه خشية حقيقية، لا مجرد دعوى تؤثر في قلوبهم، وتجعلها خاشعة لله خاضعة له، معظمة لحرماته تاركة نواهيه، ممتثلة أوامره، هكذا أهل العلم والإيمان، يخشون ربهم الخشية التي تثمر المتابعة، وتؤدي إلى الحق وترك الباطل وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:21] هذا من كمال الخشية خوفهم من سوء الحساب، ولهذا أعدوا العدة واستقاموا على الطريق خوفا من سوء الحساب يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه الصفتين السادسة والسابعة، فقال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [الرعد:20] الآية، صبروا على طاعة الله، وصبروا عن محارم الله، لا تجلدا ولا عن رياء، ولكن ابتغاء وجه الله، وابتغاء الزلفى لديه، هكذا أهل الإيمان وأهل العلم بالله، يصبرون على الشدائد في أداء طاعة الله، وفي ترك معاصي الله، وبتبليغ رسالة الله، مع إقامتهم للصلاة وعدم التفريط في شيء مما أوجب الله عليهم من هذه العبادة العظيمة التي هي عمود الإسلام، وأدوها كما أمر الله.
ثم ذكر سبحانه الصفة الثامنة والتاسعة فقال: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد:22] والمعنى أنهم مع هذا ينفقون في مرضاته وفي الإحسان لعباده سرا وعلانية، شيء يراه الناس وشيء لا يراه الناس، يبتغون فضل الله ويبتغون رحمته وإحسانه من الزكاة وغيرها، يؤدون الزكوات، وينفقون في وجوه الخير مما أعطاهم الله سبحانه، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يدرءون بالحسنات السيئات لكمال صبرهم وتحملهم وكظمهم الغيظ، هكذا العلماء بالله وهكذا الصلحاء من عباده، قال الله تعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:22] لهم العاقبة الحميدة، فسرها سبحانه بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد:23] من ثوابهم على هذه الأعمال السابقة أن الله يشملهم وآبائهم وذرياتهم وأزواجهم بفضله سبحانه وتعالى ورحمته، فالاستقامة على أمر الله وأداء حقه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والثبات على الحق والصبر في ذلك ودرء السيئة بالحسنة، كل هذا من أسباب صلاح العبد وصلاح آبائه وأزواجه وذريته، واجتماعهم في دار كرامته، وزيارة الملائكة لهم مسلمين عليهم ومرحبين بهم.
ومن نعم الله العظيمة على العبد أن يكون سببا لهداية أبيه وأمه وزوجته وذريته، وهكذا من نعم الله العظيمة على المرأة أن تكون سببا لهداية زوجها وأبيها وأمها وأولادها، ويعلم من الآية الكريمة أن دخول الآباء والأزواج والذريات الجنة مع أقاربهم، إنما هو بسبب صلاحهم لا لمجرد النسب والقرابة، ولكن بسبب الصلاح والاستقامة والاجتهاد في طاعة الله، التي هي أعظم واسطة في صلاح العبد وأقربائه وزوجاته وذرياته، واجتماعهم في دار كرامته، وهذه الآية الكريمة تشبه قوله تعالى في سورة سبأ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37] وقوله تعالى في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبير [الحجرات:13] وهكذا ما جاء في معنى ذلك من الآيات الكريمات، كلها تبين أن المنازل العالية والفوز بجنات النعيم والسلامة من عذاب الله وغضبه، كل ذلك لا يحصل بمجرد الأماني والدعوة، ولا بالأنساب والدعوة، إنما يحصل ذلك بعد توفيق الله ورحمته بأسباب الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارمه، والإقبال عليه سبحانه وتعالى، والإخلاص له في العمل، والضراعة إليه بطلب التوفيق والهداية، مع صبرهم على الشدائد والمشاق في سبيل الحق، وصبرهم على المصائب، بهذا كله حصل لهم الخير العظيم والفوز بدار النعيم، وهكذا ينبغي لأهل الإيمان وأهل العلم والهداية أن يتخلقوا بهذه الأخلاق العظيمة، ويسيروا عليها حتى تكون لهم العاقبة الحميدة، وحتى تكون لهم عقبى الدار، فلا بد من صبر ولا بد من إخلاص، ولا بد من صدق، قال تعالى في سورة الإنسان: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12] وقال سبحانه في سورة المؤمنون: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111] وقال في سورة الفرقان لما ذكر صفات عباد الرحمن العظيمة: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَاا تَحِيَّةً وَسَلامًا [الفرقان:75].
فهذه الخصال الحميدة التي ذكرها في قوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا الآيات [الفرقان:63]، حصلت لهم بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم عن محارم الله، وصبرهم على المصائب، فلابد من العناية بهذا الأمر، وأن نعد له عدته، ولابد أن يعلم طالب العلم أنه لا بد من الصبر، وأن الأعمال العظيمة والخير الكثير لا يحصل بمجرد الدعوى والرغبة والتمني من دون عمل وصبر.
أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يوفقنا وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا جميعا التخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان، أخلاق الرسل وأتباعهم بإحسان، وأن يزيدنا وجميع المسلمين من العلم النافع والعمل الصالح والبصيرة النافذة، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، كما نسأله سبحانه أن يوفق القائمين على أمور المسلمين في كل مكان لكل ما فيه رضاه وصلاح العباد، وأن يصلح قادة المسلمين ويعينهم على طاعة الله ورسوله، وأن يوفقهم لتحكيم شريعته، والالتزام بها والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، كما أسأله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يعينهم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من كل ما يخالف شرعه، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين[1].
- محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في جامعة أم القرى بمكة المكرمة في شهر رجب عام 1409هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 4/ 79)