إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70، 71].
أما بعد: أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الكرام، فإني أشكر الله عز وجل على ما مَنّ به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن ينفعنا به جميعا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا سواء السبيل. فنعم الله لا تحصى، وفضله لا يستقصى، فهو المنعم بكل النعم، كما قال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53] وقال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18].
فنشكره سبحانه ونسأله المزيد من فضله لنا ولكم ولجميع المسلمين في كل مكان.
أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الأعزاء، سمعتم عنوان الكلمة وهي: مسئولية طالب العلم في المجتمع، فالموضوع موضوع عظيم، ومسئولية طالب العلم مسئولية كبيرة، وهي متفاوتة على حسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب قدرته وطاقته.
فهناك مسئولية من جهة نفسه، من جهة إعداد هذه النفس للتعليم والدعوة وأداء الواجب، ومن جهة العناية بالعلم والتفقه في الدين ومراجعة الأدلة الشرعية والعناية بها، فإن طالب العلم بحاجة شديدة إلى أن يكون لديه رصيد عظيم من الأدلة الشرعية، والمعرفة بكلام أهل العلم وخلافهم، ومعرفة بالراجح في مسائل الخلاف بالدليل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ بدون تقليد لزيد وعمرو، فالتقليد كل يستطيعه، وليس من العلم في شيء.
قال الإمام أبو عمر بن عبدالبر الإمام المشهور صاحب التمهيد وغيره: (أجمع العلماء على أن المقلد لا يعد من العلماء).
فطالب العلم عليه مسئولية كبيرة ومفترضة، وهي أن يعنى بالدليل، وأن يجتهد في معرفة براهين المسائل وبراهين الأحكام من الكتاب العزيز والسنة المطهرة ومن القواعد المعتبرة.. وأن يكون على بينة كبيرة وعلى صلة وثيقة بكلام العلماء، فإن معرفته بكلام أهل العلم تعينه على فهم الأدلة، وتعينه على استخراج الأحكام، وتعينه على التمييز بين الراجح والمرجوح.
ثم عليه مسئولية أخرى من جهة الإخلاص لله سبحانه ومراقبته، وأن يكون هدفه إرضاءه عز وجل وأداء الواجب وبراءة الذمة ونفع الناس، فلا يهدف إلى مال وعَرِض عاجل، فذلك شأن المنافقين وأشباههم من أهل الدنيا، ولا يهدف للرياء والسمعة، ولكن هدفه أن ينفع عباد الله، وأن يرضي ربه قبل ذلك، وأن يكون على بينة فيما يقول وفيما يفتي به وفيما يعمل به، ولا يجوز له التساهل؛ لأن طالب العلم متَّبع متأسي بتصرفاته وأعماله، فإن كان مدرسا تأسى به الطلبة، وإن كان مفتيا أخذ الناس فتواه، وإن كان داعية كذلك خطره عظيم، وإن كان قاضيا فالأمر أعظم.
فالواجب على طالب العلم أن يكون له موقف مع ربه، موقف يرضاه مولاه، موقف يشتمل على الإخلاص لله والصدق في طلب رضاه والحرص الذي لا حدود له في معرفة الأدلة الشرعية والتفتيش عنها؛ حتى يقف على الدليل، وبذلك تنفسح أمامه الدنيا، ويفتي على بصيرة، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويعلّم الناس على بصيرة، ويأمر بالمعروف على بصيرة، وينهى عن المنكر على بصيرة، كما قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] وقد فسّرت البصيرة بالعلم.
أما من ليس له بصيرة، فلا يعد من أهل العلم ولا ينفع الناس، لا في دعوة ولا في غيرها من جهة أمور الدين، أعني النفع الحقيقي المثمر، وإن كان قد ينفع بعض الناس بنصيحة يعرفها أو مسألة يحفظها أو مساعدة ماديّة يقدمها، ولكن النفع الحقيقي من طالب العلم يترتب على صدقه وإخلاصه وعلى كثرة علمه وتمكّن فقهه وعلى صبره ومصابرته.
وهناك مسألة مهمة، وهي المسئولية الملقاة على طالب العلم من جهة البلاغ والتعليم للناس، فإن العلماء هم خلفاء الرسل، وهم ورثتهم، ولا يخفى مرتبة الرسل وأنهم هم القادة، وهم الهداة للأمة، وهم أسباب سعادتها ونجاتها، فالعلماء حلوا محلهم، ونزلوا منزلتهم في البلاغ والتعليم؛ لأنهم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا البيان والتبليغ لشريعة محمد ﷺ، والدعوة إليها وبيانها ونشرها بين الناس، وليس لذلك أهل إلا أهل العلم، هم الذين أهّلهم الله لهذا الأمر دعاة وقادة بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم الظاهرة والباطنة، فواجبهم عظيم، والخطر عليهم عظيم والأمة في ذمتهم؛ لأنها بأشد الحاجة إلى البلاغ والبيان بالطرق الممكنة، والطرق اليوم كثيرة: منها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، فلها آثارها العظيمة في إضلال الناس، وفي هدايتهم، وهكذا الخطب في الجمع والأعياد والمناسبات والندوات والاحتفالات لأي سبب، لها أثرها أيضا، والنشرات المستقلة والمؤلفات والرسائل لها أثرها العظيم.
فالطرق بحمد الله اليوم ميسرة وكثيرة، وإنما المصيبة ضعف الطالب، وقلة نشاطه وإعراضه وغفلته هذه هي المصيبة العظمى، فالله يقول عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فليس في الوجود من هو أحسن قولا من هؤلاء، وعلى رأسهم الرسل الكرام والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم.
فكلما كثر العلم وكملت التقوى والخوف من الله عز وجل والإخلاص له سبحانه صار النفع أكثر وصار التبليغ عن الله وعن رسوله أكمل. وكلما ضعفت التقوى، أو قل العلم، أو قل الخوف من الله، أو بُلي العبد بمشاغل الدنيا والشهوات العاجلة؛ قل هذا العلم وقل هذا الخير، يقول سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] بين سبحانه أن مهمة النبي الدعوة إلى الله على بصيرة، وأمره أن يبلغ الناس ذلك قُلْ أي: قل يا أيها الرسول للناس هَذِهِ سَبِيلِي أي هذه التي أنا عليها، هذه الشريعة وهذه الطريقة التي أنا عليها من القول والعمل هي سبيلي وهي منهجي وطريقي إلى الله.
فوجب على أهل العلم أن يسيروا على الطريق الذي سلكه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة، فذلك سبيله وسبيل أتباعه أيضا، فلا يكون العبد من أتباعه على الحقيقة وعلى الكمال إلا إذا سلك ذلك المسلك، فمن دعا إلى الله على بصيرة وتبرأ من الشرك واستقام على الحق فهو من أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال بعدها: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
فالداعي إلى الله الصادق في الدعوة هو المتبع للرسول على بصيرة، وعلى علم - وليس بالكذب والقول على الله بغير علم تعالى الله عما لا يليق به - مع وصفه سبحانه بصفات الكمال، وتنزيهه عن مشابهة خلقه، وتوحيده والإخلاص له، والبراءة من الشرك وأهله.
والداعي إلى الله يجب أن يوحد الله ويستقيم على شريعته، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ووصفه سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ﷺ، وتنزيهه عن صفات النقص والعجز، وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى الكاملة له جل وعلا التي جاء بها كتابه العظيم، أو جاءت بها سنة رسوله الأمين ﷺ إثباتا يليق بجلاله وعظمته، بلا تمثيل، وتنزيها له سبحانه بلا تعطيل.
فيثبت العبد صفات الله وأسماءه إثباتا كاملا، ليس فيه تمثيل، ولا تشبيه، وينزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين في جميع صفاته، تنزيها بريئا من التعطيل، فهو يسمي الله بأسمائه الحسنى، ويصف الله بصفاته العليا الواردة في الكتاب العظيم والسنة الصحيحة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا زيادة ولا نقصان، فهو متبع لا مبتدع، سائر على النهج القويم الذي سلكه الرسل وسلكه أتباعهم بإحسان وعلى رأسهم نبينا محمد ﷺ وصحابته رضي الله عنهم من بعده، ثم أتباعهم بإحسان، وعلى رأسهم الأئمة المشهورون بعد الصحابة: كالإمام مالك بن أنس، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام أحمد بن محمد بن حنبل، والإمام الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام إسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة العلم والهدى الذين ساروا على النهج القويم في إثبات أسماء الله وصفاته وتنزيه الله عن مشابهة خلقه.
ثم طالب العلم بعد ذلك حريص جدا أن لا يكتم شيئا مما علم، حريص على بيان الحق والرد على الخصوم لدين الإسلام، لا يتساهل ولا ينزوي، فهو بارز في الميدان دائما حسب طاقته، فإن ظهر خصوم للإسلام يشبهون ويطعنون، برز للرد عليهم كتابة ومشافهة وغير ذلك، لا يتساهل ولا يقول هذه لها غيري، بل يقول: أنا لها، أنا لها، ولو كان هناك أئمة آخرون يخشى أن تفوت المسألة، فهو بارز دائما لا ينزوي، بل يبرز في الوقت المناسب لنصر الحق والرد على خصوم الإسلام بالكتابة وغيرها من طريق الإذاعة أو من طريق الصحافة أو من طريق التلفاز أو من أي طريق يمكنه، وهو أيضا لا يكتم ما عنده من العلم، بل يكتب ويخطب، ويتكلم ويرد على أهل البدع وعلى غيرهم من خصوم الإسلام بما أعطاه الله من قوة حسب علمه وما يسَّر الله له من أنواع الاستطاعة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160].
فينبغي أن نقف عند هاتين الآيتين وقفة عظيمة، فربنا حذّر من كتمان العلم وتوعد على ذلك ولعن من فعل ذلك، ثم بين الله أن لا سلامة من هذا الوعيد وهذا اللعن إلا بالتوبة والإصلاح والبيان. التوبة مما مضى من التقصير والذنوب، وإصلاح للأوضاع التي يستطيع إصلاحها من نفسه وبنفسه، وبيان لما لديه من العلم الذي قد يقال إنه كتمه أو فعلا قد كتمه لحظ عاجل أو تأويل باطل، ثم من الله عليه بالهدى فلا توبة إلا بهذا البيان، ولا نجاة إلا بهذه التوبة، وهي تشتمل: على الندم على ما مضى من التقصير واقتراف الذنب وإقلاع وترك لهذا الذنب، خائفا من ربه عز وجل، حذرا من عقابه. وشرط ثالث: وهو العزم الصادق بأن لا يعود فيه ثانية، ثم بيان مع ذلك وإصلاح؛ لأنه قد يتوب ولا يعلم الناس توبته، فإذا أظهر ذلك وبينه للناس برئت ذمته وصحت توبته.
وهنا أمر آخر يتعلق بطالب العلم أمام الله سبحانه أولا، ثم بعد هذا أمام إخوانه وزملائه ومجتمعه، وهو أن يتقي الله في نفسه، فكلما علم شيئا بادر بالعمل لا يتساهل، يعلم ويعمل، لا بد من العلم، ولا بد من العمل، فهو يحاسب نفسه أبدا، ويجتهد في تطبيق أحكام الله على نفسه، الواجب واجب، والمستحب مستحب، حتى يمثل العلم في أخلاقه وأعماله وسيرته وحلقات علمه وخطبة وأسفاره وإقامته في البر والبحر والجو، بل في كل مكان؛ لأن هذا الأمر يهمه، ويحرص على أن يأخذ عنه إخوانه وزملاؤه وطلبته، ليعطيهم مما لديه من العلم: من قول وعمل، وهكذا كان نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام، كانت دعوته كاملة في القول والعمل، فسيرته أحسن السير، وكلامه أطيب الكلام بعد كلام الله عز وجل، وأخلاقه أحسن الأخلاق، كما قال تعال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وكان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويتأدب بآدابه، ويعتبر بما فيه من الأمثال والقصص العظيمة، ويدعو الناس إلى ذلك.
وأهل العلم عليهم أن يتأسوا به عليه الصلاة والسلام في هذا الخلق العظيم، وأن يصدقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، وأن يبلغوا عن الله أمره ونهيه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حسب الطاقة، وأن يبذلوا المستطاع والنصائح لولاة الأمور بالتوجيه والإرشاد والتنبيه ولأهليهم ولجيرانهم ولسائر مجتمعهم وللناس جميعا بكل وسيلة حسب الطاقة، لا يجوز التساهل في هذه الأمور، ولا سيما في عصرنا هذا؛ لقلة العلماء وانتشار الشرور وكثرة الرذائل والمنكرات في أرجاء الدنيا في الدول الإسلامية وغيرها.
وكل ذي بصيرة يعلم ما ينشر في هذا العصر من الشرور العظيمة في الإذاعات والصحافة والتلفاز وفي النشرات الأخرى، وفي المؤلفات الداعية إلى النار. وهذا الجيش المتنوع الذي يدعو إلى طرق النار، يحتاج إلى جيش مثله، وقوة مثله، بل وأكثر منه، هذه الجيوش التي يسوقها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وهذه الوسائل الخطيرة المتنوعة الكثيرة، كلها يسوقها وينشرها أعداء الإسلام إلى المسلمين وإلى غير المسلمين؛ لإهلاكهم وقيادتهم إلى النار، وأن يكونوا معهم في أخلاقهم الخبيثة وسيرتهم الذميمة، وأن يكونوا معهم في النار لأن قائدهم يريد هذا، كما قال الله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
فلا يليق بطالب العلم أن ينزوي ويقول: حسبي نفسي، لا، فإن عليه واجبات، حسبه نفسه من جهة عمله أن يعمل، وعليه واجبات من جهة البلاغ والبيان والدعوة، فربنا يقول سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ويقول سبحانه: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [القصص:87] فالله سبحانه يأمر الرسول ﷺ بالدعوة، وأمره له أمر لنا جميعا، ليس المقصود له وحده عليه الصلاة والسلام، فإذا وجه له الأمر فليس له وحده، بل هو ولنا ولأهل العلم جميعا إلا ما خصه الدليل به.
فعليك يا عبد الله أن تبتعد عن الخمول والانزواء وأن تبلغ أمر الله إلى عباد الله، وعليك أيضا أن تنصح من استطعت نصيحته في كل مكان: أمير القرية، وعالم القرية، وقاضي القرية، وعريف القرية، ومن له شأن في القرية وفي المدينة وفي القبيلة وفي كل مكان تتصل به اتصالا حسنا وتناصحه وتوجهه إلى الخير وتتعاون معه على البر والتقوى بالأساليب الحسنة بالعظة والتذكير بالكلام الطيب بالرفق لا بالعنف، وهكذا مع الإمام الأعظم في الدولة، ومع الوزراء في مسئولياتهم، ومع القضاة، ومع الدعاة، ومع إخوانك في الله جميعا تتعاون معهم.
هكذا يكون طالب العلم كما قال النبي ﷺ: الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أخرجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: نضَّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أدَّاها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع وفي لفظ: رب حامل فقه ليس بفقيه وفي لفظ: ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقال في إحدى خطبه عليه الصلاة والسلام: فليبلّغ الشاهد الغائب فرب مبلَّغ أوعى من سامع والناس بخير ما تعاونوا على البر والتقوى مع ملوكهم وأمرائهم ومع قضاتهم ومع الدعاة إلى الله وجميع المسلمين، لكن مع مراعاة الأساليب الحسنة والرفق والحكمة، وقد جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: من يحرم الرفق يحرم الخير كله رواه مسلم في الصحيح عن جرير بن عبدالله، وعن عائشة رضي الله عنهما.
وفي رواية له عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ويقول الرسول ﷺ في الصحيح: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
ويكفي في هذا قول الله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقول الله تبارك وتعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
وفي قصة موسى وهارون عندما بعثهما الله إلى فرعون، يقول الله سبحانه لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين إلى ما يرضيه، وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل به والتأدب بالآداب الشرعية والخلق العظيم الذي أثنى الله به على نبيه عليه الصلاة والسلام، ولنذكر قوله عليه الصلاة والسلام: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة.
فالأمر في طلب العلم عظيم، والخطب في التفقه في الدين كبير، ولنذكر أيضا قول الرسول ﷺ: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين رواه الشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه، وهذا الحديث العظيم يدلنا على أن التفقه في الدين من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فذلك مخذول لم يرد الله به خيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونسأله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يول عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يرزقهم جميعا وفي كل مكان الفقه في دينه، والعمل بسنة نبيه محمد ﷺ.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد[1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70، 71].
أما بعد: أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الكرام، فإني أشكر الله عز وجل على ما مَنّ به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن ينفعنا به جميعا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا سواء السبيل. فنعم الله لا تحصى، وفضله لا يستقصى، فهو المنعم بكل النعم، كما قال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53] وقال عز وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18].
فنشكره سبحانه ونسأله المزيد من فضله لنا ولكم ولجميع المسلمين في كل مكان.
أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الأعزاء، سمعتم عنوان الكلمة وهي: مسئولية طالب العلم في المجتمع، فالموضوع موضوع عظيم، ومسئولية طالب العلم مسئولية كبيرة، وهي متفاوتة على حسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب قدرته وطاقته.
فهناك مسئولية من جهة نفسه، من جهة إعداد هذه النفس للتعليم والدعوة وأداء الواجب، ومن جهة العناية بالعلم والتفقه في الدين ومراجعة الأدلة الشرعية والعناية بها، فإن طالب العلم بحاجة شديدة إلى أن يكون لديه رصيد عظيم من الأدلة الشرعية، والمعرفة بكلام أهل العلم وخلافهم، ومعرفة بالراجح في مسائل الخلاف بالدليل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ بدون تقليد لزيد وعمرو، فالتقليد كل يستطيعه، وليس من العلم في شيء.
قال الإمام أبو عمر بن عبدالبر الإمام المشهور صاحب التمهيد وغيره: (أجمع العلماء على أن المقلد لا يعد من العلماء).
فطالب العلم عليه مسئولية كبيرة ومفترضة، وهي أن يعنى بالدليل، وأن يجتهد في معرفة براهين المسائل وبراهين الأحكام من الكتاب العزيز والسنة المطهرة ومن القواعد المعتبرة.. وأن يكون على بينة كبيرة وعلى صلة وثيقة بكلام العلماء، فإن معرفته بكلام أهل العلم تعينه على فهم الأدلة، وتعينه على استخراج الأحكام، وتعينه على التمييز بين الراجح والمرجوح.
ثم عليه مسئولية أخرى من جهة الإخلاص لله سبحانه ومراقبته، وأن يكون هدفه إرضاءه عز وجل وأداء الواجب وبراءة الذمة ونفع الناس، فلا يهدف إلى مال وعَرِض عاجل، فذلك شأن المنافقين وأشباههم من أهل الدنيا، ولا يهدف للرياء والسمعة، ولكن هدفه أن ينفع عباد الله، وأن يرضي ربه قبل ذلك، وأن يكون على بينة فيما يقول وفيما يفتي به وفيما يعمل به، ولا يجوز له التساهل؛ لأن طالب العلم متَّبع متأسي بتصرفاته وأعماله، فإن كان مدرسا تأسى به الطلبة، وإن كان مفتيا أخذ الناس فتواه، وإن كان داعية كذلك خطره عظيم، وإن كان قاضيا فالأمر أعظم.
فالواجب على طالب العلم أن يكون له موقف مع ربه، موقف يرضاه مولاه، موقف يشتمل على الإخلاص لله والصدق في طلب رضاه والحرص الذي لا حدود له في معرفة الأدلة الشرعية والتفتيش عنها؛ حتى يقف على الدليل، وبذلك تنفسح أمامه الدنيا، ويفتي على بصيرة، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويعلّم الناس على بصيرة، ويأمر بالمعروف على بصيرة، وينهى عن المنكر على بصيرة، كما قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] وقد فسّرت البصيرة بالعلم.
أما من ليس له بصيرة، فلا يعد من أهل العلم ولا ينفع الناس، لا في دعوة ولا في غيرها من جهة أمور الدين، أعني النفع الحقيقي المثمر، وإن كان قد ينفع بعض الناس بنصيحة يعرفها أو مسألة يحفظها أو مساعدة ماديّة يقدمها، ولكن النفع الحقيقي من طالب العلم يترتب على صدقه وإخلاصه وعلى كثرة علمه وتمكّن فقهه وعلى صبره ومصابرته.
وهناك مسألة مهمة، وهي المسئولية الملقاة على طالب العلم من جهة البلاغ والتعليم للناس، فإن العلماء هم خلفاء الرسل، وهم ورثتهم، ولا يخفى مرتبة الرسل وأنهم هم القادة، وهم الهداة للأمة، وهم أسباب سعادتها ونجاتها، فالعلماء حلوا محلهم، ونزلوا منزلتهم في البلاغ والتعليم؛ لأنهم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا البيان والتبليغ لشريعة محمد ﷺ، والدعوة إليها وبيانها ونشرها بين الناس، وليس لذلك أهل إلا أهل العلم، هم الذين أهّلهم الله لهذا الأمر دعاة وقادة بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم الظاهرة والباطنة، فواجبهم عظيم، والخطر عليهم عظيم والأمة في ذمتهم؛ لأنها بأشد الحاجة إلى البلاغ والبيان بالطرق الممكنة، والطرق اليوم كثيرة: منها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، فلها آثارها العظيمة في إضلال الناس، وفي هدايتهم، وهكذا الخطب في الجمع والأعياد والمناسبات والندوات والاحتفالات لأي سبب، لها أثرها أيضا، والنشرات المستقلة والمؤلفات والرسائل لها أثرها العظيم.
فالطرق بحمد الله اليوم ميسرة وكثيرة، وإنما المصيبة ضعف الطالب، وقلة نشاطه وإعراضه وغفلته هذه هي المصيبة العظمى، فالله يقول عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فليس في الوجود من هو أحسن قولا من هؤلاء، وعلى رأسهم الرسل الكرام والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم.
فكلما كثر العلم وكملت التقوى والخوف من الله عز وجل والإخلاص له سبحانه صار النفع أكثر وصار التبليغ عن الله وعن رسوله أكمل. وكلما ضعفت التقوى، أو قل العلم، أو قل الخوف من الله، أو بُلي العبد بمشاغل الدنيا والشهوات العاجلة؛ قل هذا العلم وقل هذا الخير، يقول سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] بين سبحانه أن مهمة النبي الدعوة إلى الله على بصيرة، وأمره أن يبلغ الناس ذلك قُلْ أي: قل يا أيها الرسول للناس هَذِهِ سَبِيلِي أي هذه التي أنا عليها، هذه الشريعة وهذه الطريقة التي أنا عليها من القول والعمل هي سبيلي وهي منهجي وطريقي إلى الله.
فوجب على أهل العلم أن يسيروا على الطريق الذي سلكه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة، فذلك سبيله وسبيل أتباعه أيضا، فلا يكون العبد من أتباعه على الحقيقة وعلى الكمال إلا إذا سلك ذلك المسلك، فمن دعا إلى الله على بصيرة وتبرأ من الشرك واستقام على الحق فهو من أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال بعدها: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
فالداعي إلى الله الصادق في الدعوة هو المتبع للرسول على بصيرة، وعلى علم - وليس بالكذب والقول على الله بغير علم تعالى الله عما لا يليق به - مع وصفه سبحانه بصفات الكمال، وتنزيهه عن مشابهة خلقه، وتوحيده والإخلاص له، والبراءة من الشرك وأهله.
والداعي إلى الله يجب أن يوحد الله ويستقيم على شريعته، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ووصفه سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ﷺ، وتنزيهه عن صفات النقص والعجز، وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى الكاملة له جل وعلا التي جاء بها كتابه العظيم، أو جاءت بها سنة رسوله الأمين ﷺ إثباتا يليق بجلاله وعظمته، بلا تمثيل، وتنزيها له سبحانه بلا تعطيل.
فيثبت العبد صفات الله وأسماءه إثباتا كاملا، ليس فيه تمثيل، ولا تشبيه، وينزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين في جميع صفاته، تنزيها بريئا من التعطيل، فهو يسمي الله بأسمائه الحسنى، ويصف الله بصفاته العليا الواردة في الكتاب العظيم والسنة الصحيحة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا زيادة ولا نقصان، فهو متبع لا مبتدع، سائر على النهج القويم الذي سلكه الرسل وسلكه أتباعهم بإحسان وعلى رأسهم نبينا محمد ﷺ وصحابته رضي الله عنهم من بعده، ثم أتباعهم بإحسان، وعلى رأسهم الأئمة المشهورون بعد الصحابة: كالإمام مالك بن أنس، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام أحمد بن محمد بن حنبل، والإمام الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام إسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة العلم والهدى الذين ساروا على النهج القويم في إثبات أسماء الله وصفاته وتنزيه الله عن مشابهة خلقه.
ثم طالب العلم بعد ذلك حريص جدا أن لا يكتم شيئا مما علم، حريص على بيان الحق والرد على الخصوم لدين الإسلام، لا يتساهل ولا ينزوي، فهو بارز في الميدان دائما حسب طاقته، فإن ظهر خصوم للإسلام يشبهون ويطعنون، برز للرد عليهم كتابة ومشافهة وغير ذلك، لا يتساهل ولا يقول هذه لها غيري، بل يقول: أنا لها، أنا لها، ولو كان هناك أئمة آخرون يخشى أن تفوت المسألة، فهو بارز دائما لا ينزوي، بل يبرز في الوقت المناسب لنصر الحق والرد على خصوم الإسلام بالكتابة وغيرها من طريق الإذاعة أو من طريق الصحافة أو من طريق التلفاز أو من أي طريق يمكنه، وهو أيضا لا يكتم ما عنده من العلم، بل يكتب ويخطب، ويتكلم ويرد على أهل البدع وعلى غيرهم من خصوم الإسلام بما أعطاه الله من قوة حسب علمه وما يسَّر الله له من أنواع الاستطاعة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160].
فينبغي أن نقف عند هاتين الآيتين وقفة عظيمة، فربنا حذّر من كتمان العلم وتوعد على ذلك ولعن من فعل ذلك، ثم بين الله أن لا سلامة من هذا الوعيد وهذا اللعن إلا بالتوبة والإصلاح والبيان. التوبة مما مضى من التقصير والذنوب، وإصلاح للأوضاع التي يستطيع إصلاحها من نفسه وبنفسه، وبيان لما لديه من العلم الذي قد يقال إنه كتمه أو فعلا قد كتمه لحظ عاجل أو تأويل باطل، ثم من الله عليه بالهدى فلا توبة إلا بهذا البيان، ولا نجاة إلا بهذه التوبة، وهي تشتمل: على الندم على ما مضى من التقصير واقتراف الذنب وإقلاع وترك لهذا الذنب، خائفا من ربه عز وجل، حذرا من عقابه. وشرط ثالث: وهو العزم الصادق بأن لا يعود فيه ثانية، ثم بيان مع ذلك وإصلاح؛ لأنه قد يتوب ولا يعلم الناس توبته، فإذا أظهر ذلك وبينه للناس برئت ذمته وصحت توبته.
وهنا أمر آخر يتعلق بطالب العلم أمام الله سبحانه أولا، ثم بعد هذا أمام إخوانه وزملائه ومجتمعه، وهو أن يتقي الله في نفسه، فكلما علم شيئا بادر بالعمل لا يتساهل، يعلم ويعمل، لا بد من العلم، ولا بد من العمل، فهو يحاسب نفسه أبدا، ويجتهد في تطبيق أحكام الله على نفسه، الواجب واجب، والمستحب مستحب، حتى يمثل العلم في أخلاقه وأعماله وسيرته وحلقات علمه وخطبة وأسفاره وإقامته في البر والبحر والجو، بل في كل مكان؛ لأن هذا الأمر يهمه، ويحرص على أن يأخذ عنه إخوانه وزملاؤه وطلبته، ليعطيهم مما لديه من العلم: من قول وعمل، وهكذا كان نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام، كانت دعوته كاملة في القول والعمل، فسيرته أحسن السير، وكلامه أطيب الكلام بعد كلام الله عز وجل، وأخلاقه أحسن الأخلاق، كما قال تعال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وكان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويتأدب بآدابه، ويعتبر بما فيه من الأمثال والقصص العظيمة، ويدعو الناس إلى ذلك.
وأهل العلم عليهم أن يتأسوا به عليه الصلاة والسلام في هذا الخلق العظيم، وأن يصدقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، وأن يبلغوا عن الله أمره ونهيه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حسب الطاقة، وأن يبذلوا المستطاع والنصائح لولاة الأمور بالتوجيه والإرشاد والتنبيه ولأهليهم ولجيرانهم ولسائر مجتمعهم وللناس جميعا بكل وسيلة حسب الطاقة، لا يجوز التساهل في هذه الأمور، ولا سيما في عصرنا هذا؛ لقلة العلماء وانتشار الشرور وكثرة الرذائل والمنكرات في أرجاء الدنيا في الدول الإسلامية وغيرها.
وكل ذي بصيرة يعلم ما ينشر في هذا العصر من الشرور العظيمة في الإذاعات والصحافة والتلفاز وفي النشرات الأخرى، وفي المؤلفات الداعية إلى النار. وهذا الجيش المتنوع الذي يدعو إلى طرق النار، يحتاج إلى جيش مثله، وقوة مثله، بل وأكثر منه، هذه الجيوش التي يسوقها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وهذه الوسائل الخطيرة المتنوعة الكثيرة، كلها يسوقها وينشرها أعداء الإسلام إلى المسلمين وإلى غير المسلمين؛ لإهلاكهم وقيادتهم إلى النار، وأن يكونوا معهم في أخلاقهم الخبيثة وسيرتهم الذميمة، وأن يكونوا معهم في النار لأن قائدهم يريد هذا، كما قال الله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
فلا يليق بطالب العلم أن ينزوي ويقول: حسبي نفسي، لا، فإن عليه واجبات، حسبه نفسه من جهة عمله أن يعمل، وعليه واجبات من جهة البلاغ والبيان والدعوة، فربنا يقول سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ويقول سبحانه: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [القصص:87] فالله سبحانه يأمر الرسول ﷺ بالدعوة، وأمره له أمر لنا جميعا، ليس المقصود له وحده عليه الصلاة والسلام، فإذا وجه له الأمر فليس له وحده، بل هو ولنا ولأهل العلم جميعا إلا ما خصه الدليل به.
فعليك يا عبد الله أن تبتعد عن الخمول والانزواء وأن تبلغ أمر الله إلى عباد الله، وعليك أيضا أن تنصح من استطعت نصيحته في كل مكان: أمير القرية، وعالم القرية، وقاضي القرية، وعريف القرية، ومن له شأن في القرية وفي المدينة وفي القبيلة وفي كل مكان تتصل به اتصالا حسنا وتناصحه وتوجهه إلى الخير وتتعاون معه على البر والتقوى بالأساليب الحسنة بالعظة والتذكير بالكلام الطيب بالرفق لا بالعنف، وهكذا مع الإمام الأعظم في الدولة، ومع الوزراء في مسئولياتهم، ومع القضاة، ومع الدعاة، ومع إخوانك في الله جميعا تتعاون معهم.
هكذا يكون طالب العلم كما قال النبي ﷺ: الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أخرجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: نضَّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أدَّاها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع وفي لفظ: رب حامل فقه ليس بفقيه وفي لفظ: ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقال في إحدى خطبه عليه الصلاة والسلام: فليبلّغ الشاهد الغائب فرب مبلَّغ أوعى من سامع والناس بخير ما تعاونوا على البر والتقوى مع ملوكهم وأمرائهم ومع قضاتهم ومع الدعاة إلى الله وجميع المسلمين، لكن مع مراعاة الأساليب الحسنة والرفق والحكمة، وقد جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: من يحرم الرفق يحرم الخير كله رواه مسلم في الصحيح عن جرير بن عبدالله، وعن عائشة رضي الله عنهما.
وفي رواية له عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ويقول الرسول ﷺ في الصحيح: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
ويكفي في هذا قول الله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقول الله تبارك وتعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
وفي قصة موسى وهارون عندما بعثهما الله إلى فرعون، يقول الله سبحانه لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين إلى ما يرضيه، وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل به والتأدب بالآداب الشرعية والخلق العظيم الذي أثنى الله به على نبيه عليه الصلاة والسلام، ولنذكر قوله عليه الصلاة والسلام: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة.
فالأمر في طلب العلم عظيم، والخطب في التفقه في الدين كبير، ولنذكر أيضا قول الرسول ﷺ: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين رواه الشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه، وهذا الحديث العظيم يدلنا على أن التفقه في الدين من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فذلك مخذول لم يرد الله به خيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونسأله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يول عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يرزقهم جميعا وفي كل مكان الفقه في دينه، والعمل بسنة نبيه محمد ﷺ.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد[1].
- محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في كلية الشريعة بجامعة الإمام بالرياض عام 1410هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 7/ 218).