حكمة الداعي وأدب المدعو

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
فإن التذكير بالله والدعوة إلى سبيله من سنة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فقد بعثهم الله دعاة للحق وهداة للخلق، يبشرون وينذرون لإقامة الحجة وقطع المعذرة كما قال جل وعلا: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ۝ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45، 46] وهكذا خلفاؤهم من أهل العلم وورثتهم، هذا طريقهم وسبيلهم، الدعوة إلى الله والتذكير بالله والتبشير للمتقين والإنذار لغيرهم.
فالله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل ليبينوا ذلك ويدعوا إليه، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فالثقلان: الجن والإنس خلقوا ليعبدوا الله، وهذه العبادة هي حق الله على عباده المكلفين من جن وإنس، وقد بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام ليبينوا هذه العبادة ويدعوا إليها ويشرحوها للناس، وأنزل الكتب لهذا الأمر، وأعظمها وأفضلها وأكملها وخاتمها القرآن العظيم، فيه بيان الهدى وطريق السعادة، فيه بيان ما يرضي الله ويقرب إليه من أقوال وأعمال ومقاصد، وبيان ما يغضب الله ويباعد من رحمته كما قال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وقال سبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ۝ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [هود:1، 2].
وقال سبحانه في أول سورة إبراهيم: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1] وقال سبحانه في سورة النحل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89] وقال عز وجل في سورة الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فجدير بكل مؤمن ومؤمنة التدبر لكتاب الله والتعقل لما ذكره الله فيه، والإكثار من تلاوته لمعرفة ما فيه وللعمل بما دل عليه، كما قال عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] وقال سبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44] وقال عز وجل: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] وقال سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].
فجدير بنا جميعا من الرجال والنساء، جدير بالعلماء وغير العلماء التدبر لكتاب الله والتعقل له والعناية به لمعرفة الحق وأتباعه، ولمعرفة ما يرضي الله ويقرب إليه من قول وعمل حتى نعمل به، ولمعرفة ما يغضب الله ويباعد من رحمته حتى نتجنبه، وحتى نقوم بالدعوة إلى الخير وإلى ترك الشر على بصيرة وعلى علم، والرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا لهذا الأمر كما تقدم، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وهكذا الكتب أنزلت لهذا الأمر كما سبق، قال سبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ [هود:1، 2] وقال جل وعلا: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [إبراهيم:52].
فالكتب المنزلة من السماء كلها تدعوا إلى طاعة الله ورسوله والإيمان به والوقوف عند حدوده، وهكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم بعثوا لبيان حق الله وإرشاد الناس إلى ذلك من قول وعمل وعقيدة.
فالواجب على أهل الإسلام التفقه في العبادة التي خلقوا لها وهي توحيد الله، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، هذه هي العبادة التي خلقنا لها جميعا، توحيد الله عز وجل بأفعالنا وبجميع عباداتنا من قول وعمل واعتقاد وطاعة الأوامر وترك النواهي، أما معنى قوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فالمعنى: يطيعوني بإخلاص العبادة له وحده، وبفعل الأوامر وترك النواهي والوقوف عند الحدود.
والدعاة إلى الله وعلماء الحق هم خلفاء الرسل، وهم الورثة للرسل في الدعوة إلى الخير وبيان طريق السعادة ليُسلك، وبيان طريق الشقاء والهلاك ليُجتنب ويُحذر، وعنوان كلمتي هذه كما سبق هو: (حكمة الداعي وأدب المدعو) وهذا العنوان اختارته التوعية ووافقت عليه، لأن الحكمة من الداعي إلى الله لها شأن عظيم، فالداعي يتحرى في دعوته الكلمات المناسبة والأوقات المناسبة والأسلوب المناسب؛ حتى يكون ذلك أقرب إلى النجاح. ومن أسماء الله جل وعلا الحكيم العليم؛ لأنه سبحانه يضع الأمور مواضعها عن علم: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83] إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11] وهو يعلم الأشياء على ما هي عليه، ويضع أفعاله وأحكامه على ما هو اللائق به سبحانه والمناسب لمنفعة العباد وصلاحهم، فهو الحكيم العليم في قوله وعمله، في أمره ونهيه، في كل ما يقول ويفعل سبحانه وتعالى.
فالحكيم هو الذي يعلم الأشياء ويضع الأعمال والأقوال مواضعها، وهذا الوصف على الكمال إنما يصدق على الله عز وجل؛ لأنه العالم بكل شيء والحكيم في كل شيء سبحانه وتعالى، ومن حكمة الداعي أن يكون عنده العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه، كما قال عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] يعني: بالعلم قال الله وقال رسوله.
ومن حكمة الداعي أن يأتي بالأسلوب المناسب والبيان المناسب ويخاطب كل قوم بما يعقلون ويفهمون، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] يعني على علم، وقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ أي بالعلم وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أي الترغيب والترهيب التي تلين القلوب وتقربها من قبول الحق وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالأسلوب الحسن لا بالعنف والشدة، لكن بالتي هي أحسن حتى يقبلوا الحق وحتى ينقادوا له.
 وقال تعالى في أهل الكتاب: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] وهم اليهود والنصارى، فلا يجوز جدالهم إلا بالتي هي أحسن، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، فمن ظلم له شأن آخر، وإذا كان هذا التوجيه من المولى سبحانه في جدال أهل الكتاب فالمسلمون من باب أولى، وقال عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يعني المدعوين من قريش وغيرهم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وقال لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام لما بعثهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] وهذا توجيه من الله سبحانه لرسوليه موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون، ليتأسى بذلك الدعاة ويتخلقوا به في دعوتهم إلى الله، لا سيما مع الرؤساء والعظماء، ولا سيما في عصرنا هذا.
فإن الحكمة والأسلوب الحسن والرفق من أهم المهمات في كل وقت وفي هذا الوقت بوجه أخص، لكثرة الجهل وغلبة الهوى على أكثر الخلق. وبالشدة ينفر منك الناس ويبتعدون عنك، ولا يقبل الحق إلا من رحم الله.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن أحد الدعاة قابل بعض الحكام من بني العباس فقال له: إني قائل لك ومشدد عليك، فقال له الخليفة: لا يا أخي، ارفق بي فلستُ بشرٍ من فرعون ولستَ خيرًا من موسى، وقد قال الله لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى والمقصود، أن تحري الألفاظ المناسبة للمدعو والمنصوح أولى مع الرفق، يقول النبي ﷺ: من يحرم الرفق يحرم الخير كله ويقول عليه الصلاة والسلام: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
ثم إن لكل مقام مقالا، فالداعي ينظر حاجة المجتمع الذي يتكلم فيه وما فشا فيه من منكرات فيعالج تلك الأمور بالأدلة الشرعية، وهي: قال الله وقال رسوله بالأدلة، ويرفق بمن سأل أو طرح شبهة حتى يوضح له الحق ويجادله بالتي هي أحسن وحتى تزول الشبهة، إذ المقصود هداية الخلق وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وليس المقصود إظهار علمك ولا توبيخهم وإظهار جهلهم، وإنما المقصود دعوتهم إلى الخير وهدايتهم إلى الحق وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
فالواجب سلوك الطرق والأخذ بالوسائل التي تؤدي إلى هذا الأمر ويرجى منها المنفعة، وهكذا المدعو له آداب: منها الإنصات والإقبال على ما يسمع من الدعوة والتذكير ليستفيد ويفهم، ومنها إخلاص النية، وأن يكون قاصدا للفائدة وللعلم والمعرفة والعمل، ومنها حسن السؤال إذا سأل، هذا كله من أدب المدعو: الإنصات، والإقبال على الناصح، والإخلاص في ذلك، وحسن الرغبة، وطلب الحق، والعزم على فعل الخير، والأخذ بالنصيحة، قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ ۝ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:17، 18] وقال سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66، 67] وقال سبحانه: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
فالمدعو مشروع له أن يقبل بقلبه وقالبه على الدعوة، وأن يريد وجه الله والدار الآخرة، وأن يؤسس بقلبه ونيته قبول الحق والعمل بالحق متى عرفه ومحاربة الهوى والشيطان، وإن أهم الأمور التي يجب التنبيه عليها دائما هو إخلاص العبادة لله وحده، وأن يحاسب العبد نفسه؛ حتى تكون أعماله وأقواله لله وحده في جميع تصرفاته، في صلاته وفي صومه ودعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إلى غير ذلك فيخلص لله في جميع أعماله، وأن يكون هدفه طاعة الله ورسوله وإرضاءه سبحانه، والفوز بكرامته، وأداء الحق الذي على العبد.
وأساس الدين وأصله توحيد الله والإخلاص له سبحانه كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] وقال سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3].
 والنبي ﷺ مكث عشر سنين في مكة يدعو الناس إلى توحيد الله والإخلاص له، وينهاهم عن الشرك بالله ويبين لهم بطلان دعوة الأصنام ودعوة الأنبياء والصالحين، وأن الواجب إخلاص العبادة لله وحده وهو الذي يدعى ويرجى، وهو الذي يتقرب إليه بالذبائح والنذور والصلاة والصوم وغير هذا من أنواع العبادة، كما قال سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:14] وقال عز وجل: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2].
 وفي الأحاديث الصحيحة قال رسول الله ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يعني حتى يشهدوا بها قولا وعملا واعتقادا، فيعتقدون معناهما ويعملون به، وذلك بتوحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به سبحانه وتعالى، ثم يؤدون ما أمروا به من صلاة وصوم وزكاة وغير ذلك، ويجتنبون ما نهوا عنه، وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي ﷺ يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله.
فجميع المكلفين من جن وإنس مأمورون بتوحيد الله والإخلاص له في العبادة، وأن يصدقوا رسوله عليه الصلاة والسلام ويؤمنوا بما جاء به من الهدى، وأن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله أرسله الله إلى الناس كافة من الجن والإنس وجعله خاتم الأنبياء، وأوجب على جميع المكلفين الإيمان به وتصديقه واتباع شريعته عليه الصلاة والسلام.
ثم على كل فرد أن يؤدي الحقوق التي عليه بعد توحيد الله، والإخلاص له، وترك الإشراك به، والإيمان برسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وبكل ما أخبر به الله ورسوله، يجب أن تؤدي الحقوق التي أوجب الله عليك من صلاة وزكاة وصوم وحج وبر الوالدين وصلة الرحم وصدق الحديث وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله... إلى غير ذلك، مع الحذر من كل ما نهى الله عنه، وأعظم ذلك الشرك بالله، فإنه أعظم الذنوب، وهكذا جميع المعاصي عليك أن تحذرها من العقوق والزنا وشرب المسكر وقطيعة الرحم وأكل الربا إلى غير ذلك مما حرم الله.
فالمؤمن والمؤمنة عليهما الجهاد للنفس حتى يستقيم المؤمن على طاعة الله ورسوله، وحتى تستقيم المؤمنة على طاعة الله ورسوله في جميع الأحوال، في الشدة والرخاء، في الليل والنهار، في السفر والإقامة، وفي كل وقت وفي كل مكان، كل واحد يجاهد نفسه حتى يستقيم على أمر الله، وحتى يدع ما حرم الله، وحتى يقف عند حدود الله.
والصلاة هي عمود الإسلام وأعظم الواجبات وأهم الأمور بعد الشهادتين، فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة العناية بالصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها، وأن يؤديها كل منهما بطمأنينة، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2] وعلى المؤمن أن يحافظ عليها في الجماعة في بيوت الله، لا يتشبه بالمنافقين والكسالى، بل ويسارع إليها ويحافظ عليها مع إخوانه في بيوت الله كل وقت، قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] يعني صلوا مع المصلين.
وقال النبي ﷺ: من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر قيل لابن عباس ما هو العذر؟ قال: خوف أو مرض. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه جاء رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي من رخصة إذا صليت في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء للصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب فهذا رجل أعمى ليس له قائد يقال له أجب فكيف بحال غيره.
فعلى المسلم أن يحافظ على هذه العبادة العظيمة التي هي عمود الإسلام، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وقد ذكر مالك رحمه الله في موطئه عن نافع أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يكتب إلى عماله وأمرائه ويقول لهم: (إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع).
وكثير من الناس اليوم ليس عنده عناية بالجماعة وهذا خطر عظيم وشر كبير، وربما ترك بعضهم صلاة الفجر فلم يصلها إلا بعد ما تطلع الشمس ويقوم لعمله، وهذا منكر عظيم، فالصلاة عمود الإسلام، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، والله يقول سبحانه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238].
فالواجب العناية بها والمحافظة عليها في أوقاتها، وفي الجماعة في حق الرجل، يقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ويقول ﷺ: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر وهذا وعيد عظيم، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن ذلك كفر أكبر، وأن تركها كفر أكبر وإن لم يجحد وجوبها، أما إذا جحد وجوبها فهذا كفر أكبر عند جميع العلماء، فالواجب الحذر، وأن نحافظ عليها في الجماعة، وأن نعظمها ونؤديها بقلب حاضر وخشوع وإقبال نرجو ثواب الله ونخشى عقاب الله.
 وهكذا زكاتك حق المال، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، عليك أن تعتني بها وأن تؤديها عن طيب نفس وعن رغبة فيما عند الله، وأن تجتهد في تخليص مالك منها، وأن تضعها في يد المستحقين لها ترجو ثواب الله وتخشى عقاب الله.
 وهكذا صوم رمضان، عليك أن تصومه في وقته، وأن تحافظ عليه، وأن تصونه مما حرم الله من غيبة ونميمة ومن سائر المعاصي.
 وهكذا حج البيت في حق من استطاع السبيل إليه، يجب عليه أن يحج من رجل وامرأة مرة واحدة في العمر لقول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الآية [آل عمران:97] وقول النبي ﷺ: بني الإسلام على خمس، وذكر منها الحج، وهكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عليك أن تعتني بهذا مع أهل بيتك ومع جيرانك ومع غيرهم من إخوانك المسلمين، لكونه من أهم أخلاق المؤمنين والمؤمنات كما قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] هكذا المؤمنون والمؤمنات جميعا، ذكر الله سبحانه أنهم أولياء ليسوا أعداء، بل بينهم المحبة والإخاء والتعاون على الخير، وهكذا يجب على المؤمنين والمؤمنات أن تسود بينهم المحبة والإخاء والحب في الله والبغض في الله، وأن يكونوا بعيدين عن الكذب والخيانة والغيبة والنميمة وعن شهادة الزور وعن كل ما يسبب الفرقة والاختلاف والشحناء.
 وأوضح سبحانه أنهم: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وقدم ذلك على الصلاة والزكاة لعظم الفائدة والمصلحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي آية أخرى وصف الأمة كلها بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر يعني: أمة الإجابة، كما في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] وما ذلك إلا لأهمية هذا الواجب وعظم المصلحة فيه.
 فعلى المؤمن أن يقوم على أهل بيته بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من زوجة وأولاد وغيرهم، ينصحهم جميعا ويحذرهم من معاصي الله، ويحثهم على الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها، ويحثهم على كل ما أوجب الله، وينهاهم عما حرم الله عليهم، ويحذرهم من الغيبة والنميمة ومن إيذاء بعضهم لبعض ومن إيذاء الجيران ومن تخلف الرجال عن الصلاة في الجماعة إلى غير هذا، عملا بهذه الآية الكريمة، وهي قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الآية، وعملا بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ الآية [التحريم:6] وبقول الله جل وعلا لنبيه ﷺ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وبقوله سبحانه عن نبيه ورسوله إسماعيل عليه الصلاة والسلام: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ۝ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54، 55].
فأنت يا عبد الله عليك أهلك، جاهدهم في الله بالحكمة والكلام الطيب، والشدة تارة والرخاء تارة أخرى، من لم ينفع فيه اللين والكلام الطيب يُنتقل معه إلى القوة والتأديب كما قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46].
 فمن ظلم يعاقب بما يستحق حسب الطاقة وفي حدود الشرع المطهر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع فإذا ما نفع الكلام يضرب، هكذا مع الفساق والعصاة إذا لم تجد فيهم النصيحة والتوجيه إلى الخير وجب على المسئولين أن يؤدبوا ويزجروا بما يردع عن الباطل ويقيم الحق، وعليهم أن يقيموا الحدود الشرعية على أهلها حسب الطاقة لقول الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ولهذا قال ﷺ في الحديث الصحيح: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
 فأنت يا عبد الله عليك أن تجتهد حسب طاقتك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أهلك ومع جيرانك ومع غيرهم من المسلمين مع تحريك الأسلوب الحسن، لعلك تنجح ولعله يستجاب لك، وإذا قدرت باليد كضرب ولدك أو ضرب زوجتك عند مخالفتهما لأمر الله وعدم انصياعهما للدعوة والحق والهدى، وهكذا خادمك إذا لم يقم بالواجب ولم يقبل النصيحة، والمقصود أن المؤمن يسلك مسلك الحكمة في جميع أموره بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن مهما أمكن فهذا هو المقدم، فإذا دعت الحاجة إلى الضرب أو التوبيخ حين تستطيع الضرب أو التوبيخ، فافعل ذلك حسب طاقتك على قدر ما يحتاج إليه مع من تستطيع من ولد أو زوجة أو غيرهما، والأمير مع من تحت يده، والهيئة على حسب ما عندها من التعليمات، وولي الأمر كذلك، كل عليه نصيبه وكل عليه واجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلزام الناس بالحق؛ لأن هذه الدار هي دار العمل وهي دار المجاهدة وهي دار الدعوة وهي دار التوجيه إلى الخير وهي دار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخرة هي دار الجزاء، يقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
فلا يجوز التساهل وتمشية الأمور وأنت قادر على إنكار المنكر وإيجاد الحق وعلى التوجيه والإرشاد وعندك علم، يقول سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] ويقول جل وعلا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
فعليك يا عبد الله أن تقوم بالواجب من الدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى إخوانك المستمعين والمأمورين أن يستجيبوا للحق، وأن يتأدبوا بالآداب الشرعية من قول الحق وإيثاره والرضى به وتقديمه على الهوى، هذا هو طريق السعادة.
يقول سبحانه في كتابه العظيم: فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41] فمن خاف مقام الله وراقبه سبحانه قبل النصيحة وخضع للحق وقبله وتأدب بالآداب الشرعية وسارع إلى ما أوجب الله وإلى ترك ما حرم الله، فالهوى يفضي بأهله إلى النار، ويفضي بأهله إلى الضلالة وإلى سوء المصير، كما قال جل وعلا: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] وقال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].
فبين سبحانه أن الواقع أمران، وهما: إما الاستجابة لله والرسول، وإما اتباع الهوى، فقال سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ يعنى يا محمد فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ثم قال سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ويقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].
فالله ورسوله إنما يدعوان لما يحيي العباد وينقذهم من الضلال، فالحياة والسعادة في قبول الدعوة لما أمر الله به ورسوله، وفي الأخذ بما شرع الله، هذا هو طريق السعادة وطريق الحياة وطريق النور، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] فالكافر ميت وفي ظلمة، وحياته بالإيمان والإسلام، والنور هو ما جاء به الرسول من الإيمان والهدى والعلم النافع في القرآن والسنة، لا يستويان، لا يستوي الكافر الميت البعيد عن الهدى مع المؤمن الذي قد أعطاه الله النور والهدى، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].
فبين سبحانه أن ما جاء به الرسول ﷺ من الكتاب والسنة هو الروح وهو النور، فالقرآن والسنة هما الروح الذي تحصل به الحياة، وهما النور الذي تحصل به البصيرة، فكلما قوي علمك بالكتاب والسنة حصل لك الروح الطيبة والنور، وكلما قل علمك ضعفت الحياة وضعف النور، فالحياة السعيدة لمن أخذ بالوحي واستقام عليه، حيث يحصل به النور وهو البصيرة، ولهذا قال سبحانه: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا.
فأنت يا عبد الله وأنت يا أمة الله كلاكما عليه أن يحرص على هذا النور وعلى هذه الحياة بتدبر القرآن العظيم والعناية بكتاب الله، والحرص على سنة الرسول ﷺ وسماعها من أهلها ومراجعتها في الكتب الصحيحة، وسؤال أهل العلم المعروفين بحسن العقيدة والسيرة، طالب العلم يسمع من الواعظين والمذكرين والمرشدين في المساجد، وفي خطب الجمعة، وفي الإذاعة، مثل: إذاعة القرآن الكريم، وفي نور على الدرب، وفي غير هذا من طرق التبليغ لما قاله الله ورسوله، فمن حرص عليها وجدها واستفاد منها، لكن المصيبة العظيمة هي الإعراض والغفلة واتباع الهوى، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3] وهل ترضى أيها المؤمن وهل ترضين أيتها المؤمنة بمشابهة هؤلاء الكافرين في الإعراض عن دين الله، وقال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [الكهف:57] فلا أحد أظلم من هذا الصنف من الناس، فاحذر يا عبد الله أن تكون منهم، ويقول جل وعلا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، شبه سبحانه من أعرض عن دينه وغفل عن اتباع الحق بهذه البهائم؛ لعدم انتفاعه بما بعث الله به رسوله ﷺ من الهدى ودين الحق، وجعلهم سبحانه أضل من الأنعام، لأنهم أعطوا عقولا وأسماعا وأبصارا فلم يستفيدوا منها في اتباع الحق، فصاروا بذلك شرا من الأنعام وأضل منها، وقال عز وجل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44].
فهل ترضى يا عبد الله وهل ترضين يا أمة الله بمشابهة الأنعام في عدم معرفة الحق واتباعه؟ فعليكما بالجد في فهم القرآن والسنة وفي التعلم والسؤال عما أشكل عليكما والعمل بالحق حتى لا تشبها هذه البهائم، فمن جد وجد، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، فالمهم الصدق في طلب الحق، وفي الحديث الصحيح عنه ﷺ قال: من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة أخرجه الترمذي رحمه الله بإسناد حسن، فمن خاف صادقا تعلم وتفقه، قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] علق الحكم بالخوف، لأن الخوف الصادق يحمل على طاعة الله ورسوله، ويحمل على التفقه والتعلم وعلى ترك كل ما نهى الله عنه ورسوله، ومن هذا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] فالخشية لله والخوف منه كل ذلك يقتضي الجد في طاعة الله والتعلم والتفقه في الدين.
والمقصود من هذا كله: التنبيه على أن الواجب على كل مؤمن ومؤمنة التفقه في دين الله والتبصر والتعلم والعمل، فالإعراض والغفلة من دلائل الهلاك وأن الله ما أراد بالعبد خيرا، والإقبال على الله والتعلم والتفقه في الدين والسؤال من دلائل الهداية والصلاح وأن الله أراد بالعبد خيرا، كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
فالتفقه في الدين والتعلم وقبول النصائح وحضور المواعظ والاستفادة منها والإقبال بالقلب على ذلك من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، والإعراض عن ذلك والغفلة عن العلم والتعلم من الدلائل على أن الله أراد بالعبد شرا، نسأل الله العافية.
فعليك يا عبد الله بالحرص على قبول الحق وعلى الأخذ بأسبابه وعلى الإقبال بقلبك عند الموعظة والذكرى، وأن يكون همك وقصدك أن تفهم حكم الله وأن تعرف مراد الله وتعمل به، وأن تعرف ما يغضب الله حتى تجتنبه، والله سبحانه يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3] ويقول سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4] ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الآية [الأنفال:29].
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا وإياكم من المسارعين إلى كل خير والمتباعدين عن كل شر، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وأن ينصر بهم دينه، وأن يصلح لهم البطانة وأن يعينهم على كل خير، وأن يعيذهم من كل شر، وأن يوفق جميع المسئولين لكل ما فيه رضاه وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادتهم، وأن يمنحهم الفقه في الدين والثبات عليه، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان[1].

  1. أصل الكلمة محاضرة ألقاها سماحته في مسجد الفقيه بمكة المكرمة في رجب عام 1412هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 7/ 266).