نصيحة لأئمة المساجد في اللقاء السنوي الثالث للتوعية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما منّ به من هذا اللقاء بإخواني في الله من: الخطباء، والدعاة، وأئمة المساجد، في رحاب بيت الله العتيق؛ للتناصح والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى.
وقد سمعنا جميعا كلمة الأمين العام للتوعية عن الدعاة وأعمالهم وعما حصل من الخير العظيم على يد الدعاة، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والتعاون فيما بينهم مع الأجهزة الحكومية، وقد سرنا هذا كثيرا والحمد لله، ونسأل الله أن يزيد الجميع من التوفيق والإعانة والتسديد، وأن يجعلهم مفاتيح خير ومغاليق شر، وأن يسدد خطاهم ويصلح قلوبهم وأعمالهم.
ولا شك أن الواجب على الجميع التعاون على البر والتقوى، وأن على الدعاة التعاون مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعلى الأجهزة الحكومية التعاون مع الجميع في هذا الأمر؛ لأن التعاون على البر والتقوى يحصل به الخير العظيم وإنجاز المهمة وتحصيل المقصود، والحمد لله على ذلك.
إن الكلمة الوافية التي تفضل بها فضيلة الشيخ: محمد بن عبدالله بن سبيل، الرئيس العام لشئون المسجد الحرام وشئون المسجد النبوي، فيما يتعلق بالدعوة والدعاة اتسمت بالجودة، وقد أفاد وأبان ما ينبغي بيانه، وإنني أؤكد على ما ذكره في هذا الباب من أن الداعية عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يتحلى بالرفق واللين وعدم الشدة، وكذلك الخطيب والواعظ يجب أن يتحريا الأسلوب الذي يحصل به المطلوب وإزالة المنكر وتحريك القلوب إلى الخير وزجرها عن الشر.
ولا شك أن الخطيب عليه أن يدعو إلى الخير وإقامة أمر الله وإزالة ما نهى الله عنه، والسعي إلى ذلك بالطرق والوسائل التي يرجى فيها تحقيق ذلك.
ولقد استمعنا أيضا إلى كلمة الشيخ: سعيد بن مسفر عن الدعاة؛ هي كلمة أجاد فيها وأفاد وأوضح ما ينبغي إيضاحه، فجزاه الله خيرا وبارك فيه، وإنه لا يخفى على الجميع أن الدعوة إلى الله سبحانه؛ وهي وظيفة الرسل وأتباعهم بإحسان، وكانوا عليهم الصلاة والسلام يتحرون في دعوتهم وينظرون في المصالح والمفاسد، ويجتهدون عليهم الصلاة والسلام في تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، ويصبرون على الأذى، وهم أصبر الناس على الأذى، وهم الصفوة في هذا الباب، وهم أشد الناس بلاء، وهم القدوة الحسنة في كل شيء.
والواجب على الدعاة إلى الله من الخطباء وغيرهم وعلى الأمراء والحكام الصبر في ذلك مع القيام بالواجب قولا وعملا، والبدء بالأهم فالأهم والعناية بما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم، والتحذير مما انتشر بينهم من المنكرات، والدعوة إلى تركها والتحذير منها ومن إشاعة الفاحشة بين الناس لقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الآية [النور:19] وقوله ﷺ: من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وإنما المطلوب النهي عن وجودها والتحذير من اقترافها، والحث على التوبة إلى الله منها، والحث على فعل الأوامر والمسارعة إليها، وإذا كان المؤمن يعلم من إنسان أنه وقع في شيء مما حرم الله فإنه ينصحه بينه وبينه، ويقول للناس كلاما عاما، وينصح الناس ويبين لهم ما حرم الله عليهم.
والداعي إلى الله خطيبا كان أو واعظا أو محاضرا أو آمرا بالمعروف أو ناهيا عن المنكر عليه أن يتحرى في دعوته وأمره ونهيه ما يحقق المطلوب ويزيل المكروه وما يدعو إلى الخير ويبعد عن الشر، ومن المعلوم أن إنكار المنكر على مراتب أربع:
الأولى: أن يزول المنكر بالطرق الشرعية، فهذا يجب الإسراع في إنكاره بالطرق الشرعية.
الثانية: أن يخف ويقل ولكن لا يزول بالكلية، فهذا كالذي قبله يجب الإسراع في إنكاره بإزالته أو تخفيفه.
الثالثة: أن يزول ويحل محله منكر آخر مثله، فهذا محل اجتهاد ونظر، فإن رأى في اجتهاده أن المنكر الذي يحل محله أقل منه وأيسر، قام بإنكار هذا المنكر وسعى في إزالته ولو ترتب عليه شيء أخف منه في اعتقاده وإلا توقف.
الحالة الرابعة: أن يزول المنكر ولكن يأتي شر منه، فهذا لا يجوز إنكاره لما يترتب على إنكاره من وجود ما هو شر منه، كأن تنهى عن معصية ويقع بسبب ذلك الشرك الأكبر، أو تنهى عن شرب المسكر فيقع بسبب ذلك القتل.
وقد نبه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: [إغاثة اللهفان] على هذه المراتب الأربع، ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة عرف صحة ذلك، ومن ذلك قول الله عز وجل: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية [الأنعام:108] والمقصود أن الآمر والناهي ينظر ما هو أقرب إلى الخير وما هو أكثر خيرا وما هو أقل شرا.
ومما يتعلق بهذا الموضوع عدم الاشتغال بعيوب الناس عامة كبيرة أو صغيرة، بل يشتغل بالمنكرات الموجودة، يحذر من وجودها ويدعو إلى القضاء عليها وإنكارها بالحكمة والأسلوب الحسن حتى يقضي عليها، فيذكر المنكر الموجود بين الناس، ويدعو الهيئة والدعاة إلى إنكاره، ويدعو المجتمع إلى تركه والحذر منه، كالربا وشرب المسكر والغيبة والنميمة والاختلاط بين الرجال والنساء وسماع الأغاني والملاهي إلى غيرها من المنكرات الموجودة بين الناس، ومن ذلك أيضا التثاقل عن الصلاة في الجماعة وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وإيذاء الجار وغير ذلك مما نهى الله عنه سبحانه ورسوله ﷺ.
وأما ما يقع من بعض الدعاة في بعض الدول من الإنكار باليد فليس من الحكمة، وإنما الحكمة أن يتصل بالرؤساء والمسئولين ويتفاهم معهم ويدعوهم إلى الله عز وجل حتى يقوموا هم بإزالة المنكر، وحتى ينتشر الدعاة في المجتمع ويقوموا بالنصيحة والتوجيه، فلا تتعرض لهم الدولة بالحبس والإيذاء والتنكيل، بل تكون عونا لهم في نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ويبقى الدعاة على نشاطهم وقوتهم في الدعوة إلى الله عز وجل.
أما أن يغتال فلانا أو يضرب فلانا ويشتم فلانا فهذا يسبب مشاكل كثيرة وفتنا كبيرة ويخالف قوله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الآية [النحل:125] وقول الله سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ الآية [آل عمران:159].
فعلى الداعي إلى الله سبحانه أن يسلك الطريق الذي سلكه النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، فالنبي ﷺ بقي في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاما ما عاقب أحدا وما قاتل أحدا، وإنما كان يدعو إلى الله سبحانه هو وأصحابه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويترك الإنكار الذي يترتب عليه فتنة وشر، فما ضرب ولا قتل ولا سجن حتى مكنه الله من ذلك بعد الهجرة إلى المدينة، ولما توجه إلى مكة للعمرة عام ست من الهجرة، وحالوا بينه وبين ذلك سلك المسلك الذي فيه الخير وهو قبول الصلح، فرضي بالصلح مع قريش لما في ذلك من تحصيل الخير الأكثر والأعظم، فصالحهم على أمر فيه غضاضة على المسلمين، وصبر على ذلك عليه الصلاة والسلام لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين ولمن يرغب في الدخول في الإسلام. فللدعاة أسوة في نبيهم عليه الصلاة والسلام.
ونحن بحمد الله في دولة إسلامية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الله عز وجل وتحكم شرعه، فالواجب التعاون معها على الخير وعلى إزالة ما يوجد من الشر بالطرق الحكيمة والأسلوب الحسن، مع الإخلاص لله سبحانه والصدق في العمل وعلاج الأوضاع المحتاجة إلى العلاج بالطرق الشرعية حسب الطاقة فيما بيننا وبين ولاة الأمور -وفقهم الله- بالمكاتبة والمشافهة، وبالتعاون مع العلماء بالمناصحة لهم.
وهكذا يجب على الدعاة إلى الله سبحانه في جميع الدول أن يعالجوا الأوضاع المخالفة للشرع المطهر بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب الحسن، ويتعاونوا مع المسئولين على الخير ويتواصوا بالحق مع الرفق والتعاون مع الدولة بالحكمة حتى لا يؤذي الدعاة وحتى لا تعطل الدعوة، فالحكمة في الدعوة بالأسلوب الحسن وبالتعاون على البر والتقوى هي الطريق إلى إزالة المنكر أو تقليله وتخفيف الشر، ومن أهم ذلك الدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، فهذا هو الطريق إلى العلاج والإصلاح ولو لم يحصل المطلوب كله، لكن يحصل بعض الخير والتجاوب من الحكومة التي ينكرون عليها فيقل الشر ويكثر الخير.
فلا بد من الحكمة في الدعوة بالعلم، والعلم يدعو إلى الرفق وإلى تقديم الأفضل فالأفضل، ويدعو إلى تقديم الأهم فالأهم.
والدعوة إلى إزالة منكر إذا كانت تؤدي إلى منكر أشد لا تجوز، والدعوة إلى فعل أمر يؤدي إلى ما هو أخطر منه لا تجوز، فالواجب السعي فيما هو سبب لتكثير الخير وتقليل الشر، والبعد عن ما هو أشر وأعظم وما يفضي إلى الشرك الأكبر مع دولتك في بلادك ومع غيرها ومع الرؤساء والمسئولين ومع الأمراء وغيرهم، فالواجب التعاون معهم في إزالة الشر وتقليله وتكثير الخير، وإزالة ما هو مخالف للشرع حسب الطاقة.
والمقصود أن الواجب علينا أن نعمل بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ونسير على ضوئها، وأن نتفاهم فيما بيننا، وإذا أشكل شيء طرحناه للبحث بيننا ورفعناه لمن فوقنا؛ حتى يزال الشر ويقر الخير. والتناصح والتعاون لا يأتي إلا بخير، والعجلة تأتي بالشر.
 فالواجب علينا معشر طلبة العلم ومعشر الدعاة ومعشر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أن نتحرى ما هو الأفضل للحصول على الخير، وأن نتحرى في أسلوبنا وفي أمرنا ونهينا وفي دعوتنا وتصرفاتنا كلها ما هو الأقرب إلى رضى الله، وما هو الأقرب لحصول المطلوب الذي يرضي الله سبحانه وإزالة المنكر وحصول الخير، وعلينا أن نحرص عليه ونتعاون فيه ونتظافر فيه، وإذا دعت الحاجة إلى الشدة فالواجب الرفع إلى المسئولين عن إزالة ذلك الأمر ومتابعته حتى يزول.
الذي أنصح به إخواني في هذه البلاد وفي كل مكان أن يتحروا طريقة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وطريقة أصحابه رضي الله عنهم في القول والعمل، ويكونوا أسوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم، وأن يبدءوا بأنفسهم في كل خير وفي ترك كل شر؛ حتى يكونوا قدوة عملية في أعمالهم وأحوالهم وأخلاقهم ورفقهم ورحمتهم وإحسانهم، وأن يحرصوا دائما أن يتحروا في الأمر، وأن يكون خطؤهم في العفو والرفق أولى من خطئهم في الشدة.
وأسأل الله أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح القلوب والأعمال، وأن يوفق جميع الدعاة وجميع العلماء في كل مكان لما هو الأهدى والأصلح، ويزيدهم من العلم والإيمان، وأن يوفق قادتهم لما يرضيه، ويصلح بطانتهم ويعيذهم من كل سوء، وأن يجعلهم هداة مهتدين، وأن يوفقهم لتحكيم الشريعة والحكم بها، وأن يزيل كل من لا يرضى بذلك ولا يوافق عليه، وأن يبدلهم بخير منه، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه[1].

  1. نصيحة موجهة إلى الخطباء والدعاة وأئمة المساجد في اللقاء السنوي الثالث الذي تنظمه الأمانة العامة للتوعية الإسلامية بمكة المكرمة في 22 / 7 / 1413 هـ، ونشرت في الجرائد المحلية في 24 / 7 / 1413 هـ. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 7/ 299).