أجوبة على أسئلة بخصوص حكم الصلح مع اليهود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فهذه أجوبة على أسئلة تتعلق بما أفتينا به من جواز الصلح مع اليهود وغيرهم من الكفرة صلحا مؤقتا أو مطلقا على حسب ما يراه ولي الأمر - أعني: ولي أمر المسلمين الذي تجري المصالحة على يديه - من المصلحة في ذلك؛ للأدلة التي أوضحناها في الفتوى المذكورة في صحيفة المسلمون في العدد الصادر يوم الجمعة 21 رجب 1415 هـ.
وهذا نص الأسئلة:
س1: فهم بعض الناس من إجابتكم على سؤال الصلح مع اليهود - وهو السؤال الأول في المقابلة - أن الصلح أو الهدنة مع اليهود المغتصبين للأرض، والمعتدين جائز على إطلاقه، وأنه يجوز مودة اليهود ومحبتهم، ويجب عدم إثارة ما يؤكد البغضاء والبراءة منهم في المناهج التعليمية في البلاد الإسلامية، وفي أجهزة إعلامها، زاعمين أن السلام معهم يقتضي هذا، وأنهم ليسوا بعد معاهدات السلام أعداء يجب اعتقاد عداوتهم، ولأن العالم الآن يعيش حالة الوفاق الدولي والتعايش السلمي، فلا يجوز إثارة العداوة الدينية بين الشعوب، فنرجو من سماحتكم التوضيح.
ج1: الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر، وغير ذلك، كالبيع والشراء، وتبادل السفراء.. وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم.
وقد صالح النبي ﷺ أهل مكة، ولم يوجب ذلك محبتهم ولا موالاتهم، بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم، حتى يسر الله فتح مكة عام الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، وهكذا صالح النبي ﷺ يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجرا صلحا مطلقا، ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم، ودعوتهم إلى الله، وترغيبهم في الإسلام، ومات ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله، ولما حصل من بني النضير من اليهود الخيانة أجلاهم من المدينة عليه الصلاة والسلام، ولما نقضت قريظة العهد ومالؤوا كفار مكة يوم الأحزاب على حرب النبي ﷺ قاتلهم النبي ﷺ فقتل مقاتلتهم، وسبى ذريتهم ونساءهم، بعدما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم فحكم بذلك، وأخبر النبي ﷺ أن حكمه قد وافق حكم الله من فوق سبع سماوات.
وهكذا المسلمون من الصحابة ومن بعدهم، وقعت الهدنة بينهم -في أوقات كثيرة- وبين الكفرة من النصارى وغيرهم فلم يوجب ذلك مودة، ولا موالاة، وقد قال الله سبحانه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82] وقال سبحانه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] وقال عز وجل: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية [المجادلة:22]. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومما يدل على أن الصلح مع الكفار من اليهود وغيرهم إذا دعت إليه المصلحة أو الضرورة لا يلزم منه مودة، ولا محبة، ولا موالاة: أنه ﷺ لما فتح خيبر صالح اليهود فيها على أن يقوموا على النخيل والزروع التي للمسلمين بالنصف لهم والنصف الثاني للمسلمين، ولم يزالوا في خيبر على هذا العقد، ولم يحدد مدة معينة، بل قال ﷺ: نقركم على ذلك ما شئنا وفي لفظ: نقركم ما أقركم الله فلم يزالوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه، وروي عن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه أنه لما خرص عليهم الثمرة في بعض السنين قالوا: إنك قد جرت في الخرص، فقال رضي الله عنه: والله إنه لا يحملني بغضي لكم ومحبتي للمسلمين أن أجور عليكم، فإن شئتم أخذتم بالخرص الذي خرصته عليكم، وإن شئتم أخذناه بذلك.
وهذا كله يبين أن الصلح والمهادنة لا يلزم منها محبة، ولا موالاة، ولا مودة لأعداء الله، كما يظن ذلك بعض من قل علمه بأحكام الشريعة المطهرة.
وبذلك يتضح للسائل وغيره أن الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يقتضي تغيير المناهج التعليمية، ولا غيرها من المعاملات المتعلقة بالمحبة والموالاة. والله ولي التوفيق.
س2: هل تعني الهدنة المطلقة مع العدو إقراره على ما اقتطعه من أرض المسلمين في فلسطين، وأنها قد أصبحت حقا أبديا لليهود بموجب معاهدات تصدق عليها الأمم المتحدة التي تمثل جميع أمم الأرض، وتخول الأمم المتحدة عقوبة أي دولة تطالب مرة أخرى باسترداد هذه الأرض أو قتال اليهود فيها؟
ج2: الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة. وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في دين الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وهكذا النصارى والمجوس؛ لقول الله سبحانه في سورة التوبة: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] وقد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه أخذ الجزية من المجوس.
وبذلك صار لهم حكم أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط إذا لم يسلموا، أما حل الطعام والنساء للمسلمين فمختص بأهل الكتاب، كما نص عليه كتاب الله سبحانه في سورة المائدة، وقد صرح الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى في سورة الأنفال: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا الآية [الأنفال:61]، بمعنى ما ذكرنا في شأن الصلح.
س3: هل يجوز بناء على الهدنة مع العدو اليهودي تمكينه بما يسمى بمعاهدات التطبيع، من الاستفادة من الدول الإسلامية اقتصاديا وغير ذلك من المجالات، بما يعود عليه بالمنافع العظيمة، ويزيد من قوته وتفوقه، وتمكينه في البلاد الإسلامية المغتصبة، وأن على المسلمين أن يفتحوا أسواقهم لبيع بضائعه، وأنه يجب عليهم تأسيس مؤسسات اقتصادية، كالبنوك والشركات يشترك اليهود فيها مع المسلمين، وأنه يجب أن يشتركوا كذلك في مصادر المياه؛ كالنيل والفرات، وإن لم يكن جاريا في أرض فلسطين؟
ج3: لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة إلى بقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء، وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر، فلا بأس في ذلك.
وإن رأت أن المصلحة لها ولشعبها مقاطعة اليهود فعلت ما تقتضيه المصلحة الشرعية، وهكذا بقية الدول الكافرة حكمها حكم اليهود في ذلك.
والواجب على كل من تولى أمر المسلمين، سواء كان ملكا أو أميرا أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر، ويمنع ما سوى ذلك مع أي دولة من دول الكفر؛ عملا بقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] وقوله سبحانه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا الآية [الأنفال:61]. وتأسيا بالنبي ﷺ في مصالحته لأهل مكة ولليهود في المدينة وفي خيبر، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ثم قال ﷺ: ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته وقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
وهذا كله عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية - إن كانوا من أهلها - فلا تجوز المصالحة معهم، وترك القتال وترك الجزية، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها، لما تقدم من قوله سبحانه وتعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] وقوله عز وجل: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] إلى غير ذلك من الآيات المعلومة في ذلك.
وعمل النبي ﷺ مع أهل مكة يوم الحديبية ويوم الفتح، ومع اليهود حين قدم المدينة يدل على ما ذكرنا.
والله المسئول أن يوفق المسلمين لكل خير، وأن يصلح أحوالهم، ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يعينهم على جهاد أعداء الله على الوجه الذي يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه[1].
  1. هذه الأجوبة نشرت في جريدة االمسلمون في العدد (520) بتاريخ 19/ 8/ 1415 هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 8/ 219).