حكم من سب الدين عند الغضب

السؤال:

هذا السائل: محمد أحمد علي من الأردن، عمان، بعث بسؤالين، قد أجيب على سؤاله الأول في الحلقة الماضية، وهذا سؤاله الثاني نعرضه على فضيلتكم يقول فيه:

إذا غضب الشخص، واشتد به الغضب، فحصل منه سب للدين، فما حكمه؟ وإن كان متزوجًا فهل يلحق زوجته شيء كأن تفارقه مثلًا إذا كان الحكم بخروجه عن الإسلام؟

الجواب:

هذه مسألة عظيمة، ولها شأن خطير؛ سب الدين من أعظم الكبائر والنواقض للإسلام، فإن سب الدين ردة عند جميع أهل العلم، وهو شر من الاستهزاء، قال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ[التوبة:66] وكانت جارية في عهد النبي ﷺ تسب النبي ﷺ فقتلها سيدها لما لم تتب، فقال النبي ﷺ: ألا اشهدوا إن دمها هدر.

سب الدين يوجب الردة عن الإسلام، وسب الرسول ﷺ كذلك يوجب الردة عن الإسلام، ويكون صاحبه مهدر الدم، وماله لبيت المال؛ لكونه مرتدًا أتى بناقض من نواقض الإسلام، لكن إذا كان عن شدة غضب واختلال عقل فله حكم آخر، والغضب عند أهل العلم له ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: أن يشتد غضبه حتى يفقد عقله، وحتى لا يبقى معه تمييز من شدة الغضب، فهذا حكمه حكم المجانين والمعاتيه لا يترتب على كلامه حكم لا طلاقه ولا سبه، ولا غير ذلك، يكون كالمجنون لا يترتب عليه حكم.
القسم الثاني: دون ذلك، اشتد معه الغضب وغلب عليه الغضب جدًا حتى غيَّر فكره، وحتى لم يضبط نفسه، واستولى عليه استيلاء كاملًا حتى صار كالمكره والمدفوع الذي لا يستطيع التخلص مما في نفسه؛ لكنه دون الأول، لم يزل شعوره بالكلية، ولم يفقد عقله بالكلية، لكن معه شدة غضب بأسباب المسابة والمخاصمة والنزاع الذي بينه وبين بعض الناس، بينه وبين أهله، أو زوجته، أو أبيه أو أميره، أو غير ذلك، فهذا اختلف فيه العلماء:
فمنهم من قال: حكمه حكم الصاحي وحكم العاقل...، تجري فيه أحكام، يقع طلاقه، ويرتد بسبه الدين، ويحكم بقتله وردته، ويفرق بينه وبين أهله بين زوجته. 

ومنهم من قال: يلحق بالأول الذي فقد عقله؛ لأنه أقرب إليه؛ ولأن مثله مدفوع مكره إلى النطق، لا يستطيع التخلص من ذلك لشدة الغضب، وهذا القول أظهر وأقرب، وأن حكمه حكم من فقد عقله في هذا المعنى في عدم وقوع طلاقه، وفي عدم ردته؛ لأنه يشبه فاقد الشعور بسبب شدة غضبه، واستيلاء سلطان الغضب عليه، حتى لم يتمكن من التخلص من ذلك، واحتجوا على هذا بقصة موسى -عليه الصلاة والسلام-، فإنه لما وجد قومه على عبادة العجل اشتد غضبه عليهم، وجاء وألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، مع شدة غضب فلم يؤاخذه الله لا بإلقاء الألواح، ولا بجر أخيه، وهو نبي مثله هارون، من أجل شدة الغضب، ولو ألقاها تهاونًا بها وهو يعقل الإنسان لكان هذا عظيمًا، ولو جر النبي بلحيته أو رأسه وآذاه صار كفرًا، لو جره إنسان، لكن لما كان موسى في شدة الغضب العظيم غضبًا لله على ما جرى من قومه سامحه الله، ولم يؤاخذ بإلقاء الألواح، ولا بجر أخيه، هذه من حجج الذين قالوا: إن طلاق هذا -الذي اشتد به الغضب- لا يقع، وهكذا سبه لا تقع به الردة، وهو قول قوي ظاهر، وله حجج أخرى كثيرة بسطها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، والعلامة ابن القيم، واختارا هذا القول.

وهذا القول أرجح عندي، وهو الذي أفتي به؛ لأن من اشتد غضبه ينغلق عليه قصده، ويشبه المجنون بتصرفاته، وكلامه القبيح، فهو أقرب إلى المجنون والمعتوه منه إلى العاقل السليم، فهذا القول أظهر وأقوى، ولكن لا مانع من كونه يؤدب بعض الأدب إذا فعل شيئًا من أسباب الردة من وجوه الردة من باب الحيطة، ومن باب الحذر من التساهل بهذا الأمر، أو وقوعه منه مرة أخرى إذا أدب.
المقدم: تعزير مثلًا يعني.
الشيخ: من باب الضرب أو السجن أو نحو ذلك، هذا قد يكون فيه مصلحة كبيرة، لكن لا يحكم عليه بحكم المرتدين من أجل ما أصابه من شدة الغضب التي تشبه حال الجنون، والله المستعان.

أما المرتبة الثالثة، القسم الثالث: فهو الغضب العادي الذي لا يزال معه العقل، ولا يكون معه شدة تضيق عليه الخناق، وتفقده ضبط نفسه، بل هو دون ذلك، غضب عادي يتكدر ويغضب، لكنه سليم العقل، سليم التصرف، فهذا عند جميع أهل العلم تقع تصرفاته، يقع بيعه وشراؤه وطلاقه وغير ذلك؛ لأن غضبه خفيف، لا يغير عليه قصده، ولا قلبه، والله أعلم، نعم.

المقدم: بارك الله فيكم.

فتاوى ذات صلة