الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما ذكره السائل، وما نقله عن كتاب الروح، قد اطلعت عليه في كتاب الروح، ولكن ينبغي أن يعلم السائل أن الأدلة الشرعية منحصرة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وفي إجماع أهل العلم.
أما ما يتعلق بأقوال أفراد الصحابة فهي تعرض على الكتاب والسنة، والعبادات توقيفية، لا يجوز منها إلا ما أجازه الشرع، ولم يثبت عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ولا عن خلفائه الراشدين أنهم كانوا يقرؤون عند القبور، ولا يصلون عند القبور.
أما ما فعله ابن عمر هذا اجتهاد منه ، وهكذا من فعله بعده من بعض السلف من باب الاجتهاد، والاجتهاد يخطئ ويصيب، والواجب هو عرض ما تنازع فيه الناس على كتاب الله، وعلى سنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وعلى ما أجمع عليه أهل العلم.
ومعلوم أن القراءة محلها البيوت والمساجد، وليس محلها المقابر، المقابر إنما تزار، ويدعى لأهلها، وهكذا الصلاة ليس محلها المقابر، وإنما محلها المساجد والبيوت، فكما أنه لا يصلى عند القبور، كذلك لا تتخذ محلًا للقراءة، لا عند الدفن، ولا بعد الدفن، لقول النبي ﷺ لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقوله ﷺ: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا.
فدل ذلك على أن القبور ليست محلًا للصلاة، قال: لا تتخذوها قبورًا يعني: بترك الصلاة فيها، قال: صلوا في بيوتكم وهكذا قوله ﷺ: لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها وكلها أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.
فالمقصود؛ أن المساجد والبيوت هي محل القراءة، وهي محل الصلاة، وليست المقابر محل صلاة، ولا محل قراءة، وإنما تزار للدعاء لأهلها؛ ولتذكر الآخرة، والزهد في الدنيا، وتذكر الموت، وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا زار القبور يدعو لأهلها، يسلم عليهم، ويدعو لهم، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية ولم يعلمهم أن يقرؤوا عندها القرآن.
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: كان -عليه الصلاة والسلام- إذا زار القبور يقول: السلام عليكم دار قوم المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.
فلم يكن -عليه الصلاة والسلام- يقرأ عند القبور، ولم يكن يصلي عند القبور -عليه الصلاة والسلام-، والخير كله في اتباعه والسير على منهاجه -عليه الصلاة والسلام-، ولهذا قال -جل وعلا- في كتابه العظيم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ولم يكن خلفاؤه الراشدون يفعلون ذلك، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ.
وابن عمر له اجتهادات خالف فيها السنة، فمن ذلك: أنه كان يغسل داخل عينيه، وهذا خلاف السنة، وهذا من اجتهاده ، ومن ذلك: أنه كان إذا حج أو اعتمر يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة، وهذا خلاف السنة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: قصوا الشوارب، ووفروا اللحى، خالفوا المشركين خرجه البخاري في صحيحه، وقال -عليه الصلاة والسلام-: قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين متفق على صحته، وكان يأخذ ماءً لأذنيه، والسنة أن تمسح الأذنان بماء الرأس.
فالحاصل: أنه له اجتهادات لا يوافق عليها من جهة السنة، فهكذا ما يروى عنه من القراءة عند القبر، وقت الدفن، هذا شيء اجتهد فيه والسنة بخلافه.
والإمام أحمد -رحمه الله- لما بلغه ذلك كان لاجتهاده -رضي الله عنه ورحمه- رأى أن يوافق ابن عمر، وأن يقر الكفيف على قراءته بعدما قال له: إنها بدعة، فقوله الأول هو الصواب، قول أحمد الأول هو الصواب، وهو الذي يوافق الأدلة الصحيحة الكثيرة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؛ ولأن القراءة عندها، والصلاة عندها وسيلة إلى عبادتها من دون الله؛ فالناس قد يظنون أن القراءة عندها لها مزية، ولها ثواب زائد، وهكذا الصلاة عندها، فيجرهم هذا إلى اتخاذها مساجد، وإلى دعاء أهلها، والاستغاثة بأهلها، والتوسل بأهلها، فيقع الشرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نعم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا.