تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ...﴾ الآية

السؤال:
ما معنى قول الحق تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝  [الفرقان:68-69]؟
هل المقصود في الآية: أن يفعل الإنسان الكبائر الثلاث ثم يخلد في النار؟ أم المقصود إذا ارتكب إحدى هذه الكبائر يخلد في النار؟ فمثلًا: ارتكب جريمة القتل. هل يخلد في النار أم لا؟ نرجو أن تتفضلوا بالتفسير المفصل لهذه الآية الكريمة؟

الجواب:
هذه الآية العظيمة فيها التحذير من الشرك والقتل والزنا، والوعيد لأصحاب هذه الجرائم بما ذكره الله في قوله: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68] قال بعض المفسرين: إنه جُب في جهنم، وقال آخرون: معنى ذلك: إنه إثم كبير عظيم، فسره سبحانه بقوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:17]، فهذا جزاء من اقترف هذه الجرائم الثلاث؛ أنه يضاعف له العذاب، ويخلد فيه مهانًا لا مكرمًا. وهذه الجرائم الثلاث مختلفة في المراتب:
فجريمة الشرك: هي أعظم الجرائم وأعظم الذنوب، وصاحبها مخلد في النار أبد الآباد، لا يخرج من النار أبدًا بإجماع أهل العلم، كما قال الله تعالى في كتابه العظيم: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17]، وقال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال في حقهم: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [المائدة:37]. والآيات في هذا كثيرة.
فالمشرك إذا مات على شركه ولم يتب، فإنه مخلد في النار، والجنة عليه حرام، والمغفرة عليه حرام بإجماع المسلمين، قال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال سبحانه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]؛ فجعل المغفرة حرامًا على المشرك إذا مات على الشرك، أما ما دون الشرك فهو تحت مشيئة الله.
والخلاصة: أن المشرك إذا مات على شركه فهو مخلد في النار أبد الآباد -بإجماع أهل العلم- وذلك مثل الذي يعبد الأصنام أو الأحجار أو الأشجار أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء.
أو يعبد الأموات ومن يسمونهم بالأولياء، أو يستغيث بهم ويطلب منهم المدد أو العون عند قبورهم، أو بعيدًا منها. مثل قول بعضهم: يا سيدي فلان: المدد المدد، يا سيدي البدوي: المدد المدد، أو يا سيدي عبدالقادر، أو يا سيدي رسول الله: المدد، الغوث الغوث، أو يا سيدي الحسين أو يا فاطمة أو يا ست زينب، أو غير ذلك ممن يدعوه المشركون، وهذا كله من الشرك الأكبر -والعياذ بالله- فإذا مات عليه صاحبه صار من أهل النار -والعياذ بالله- والخلود فيها.
أما الجريمة الثانية وهي: القتل، والثالثة وهي: الزنا، فهاتان الجريمتان دون الشرك، وهما أكبر المعاصي وأخطرها، إذا كان من يتعاطهما لم يستحلهما، بل يعلم أنهما محرمتان، ولكن حمله الغضب أو الهوى أو غير ذلك على الإقدام على القتل، وحمله الهوى والشيطان على الزنا، وهو يعلم أن القتل بغير حق محرَّم، وأن الزنا محرم.
فأصحاب هاتين الجريمتين متوعدون بالعقوبة المذكورة، إلا ان يعفو الله عنهم، أو منّ عليهم بالتوبة النصوح قبل الموت. ولعظم هاتين الجريمتين وكثرة ما يحصل بهما من الفساد، قرنهما الله بجريمة الشرك في هذه الآية، وتوعد أهل هذهِ الجرائم الثلاث بمضاعفة العذاب والخلود فيه؛ تنفيرًا منها، وتحذيرًا للعباد من عواقبها الوخيمة.
ودلت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة، على أن القتل والزنا دون الشرك في حق من لم يستحلهما، وأنهما داخلان في قوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].
أما من استحلهما فهو كافر؛ حكمه حكم الكفرة في الخلود في العذاب يوم القيامة -نسأل الله العافية-.
أما من تاب من أهل هذه الجرائم الثلاث وغيرها توبةً نصوحًا فإن الله يغفر له، ويبدل سيئاته حسنات إذا أتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح، كما قال سبحانه بعدما ذكر هذه الجرائم الثلاث وعقوبة أصحابها: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:70].
فالله سبحانه يغفر لأهل المعاصي التي دون الشرك إذا شاء ذلك، أو يعذبهم في النار على قدر معاصيهم، ثم يخرجهم منها بشفاعة الشفعاء؛ كشفاعة النبي ﷺ وشفاعة الملائكة والأفراط والمؤمنين.
ويبقى في النار أقوامٌ من أهل التوحيد لا تنالهم الشفاعة من أحد فيخرجهم الله برحمته؛ لأنهم ماتوا على التوحيد والإيمان، ولكن لهم أعمال خبيثة ومعاصٍ دخلوا بها النار، فإذا طهروا منها ومضت المدة التي كتب الله عليهم، أُخرجوا من النار برحمة من الله ويلقون في نهر يقال له (نهر الحياة) من أنهار الجنة؛ ينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا تم خلقهم أدخلهم الله الجنة.
وبهذا يعلم: أن العاصي كالقاتل والزاني لا يخلد في النار خلود الكفار، بل له خلود خاص على حسب جريمته، لا كخلود الكفار.
فخلود الشرك خلودٌ دائم ليس له منه محيص، وليس له نهاية، كما قال تعالى في سورة (البقرة) في حق المشركين: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:168]، وقال تعالى في سورة (المائدة): إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [المائدة:36-37].
أما من دخل النار من العصاة، فإنهم يخرجون منها إذا تمت المدة التي كتب الله عليهم، وإما بشفاعة الشفعاء، وإما برحمة الله من دون شفاعة أحد، كما جاء ذلك في أحاديث الشفاعة المتواترة عن رسول الله ﷺ فإن فيها أنه يبقى في النار أقوامٌ لم يخرجوا بشفاعة الشفعاء، فيخرجهم سبحانه منها بدون شفاعة أحد؛ لكونهم ماتوا على التوحيد، وخلود من يخلَّد من العصاة في النار خلود مؤقت له نهاية. والعرب تسمي الإقامة الطويلة خلودًا، كما قال بعض الشعراء يصف قومًا: "أقاموا فأخلدوا"؛ أي: طولوا الإقامة.
فلا يخلد في النار الخلود الدائم إلا أهلها؛ وهم الكفرة؛ فتطبق عليهم ولا يخرجون منها، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ۝ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ [البلد:19-20]، وقال سبحانه: إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ۝ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ [الهمزة:8-9]، نسأل الله العافية والسلامة[1].
 
  1. مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (24/ 259).
فتاوى ذات صلة