تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ)

السؤال:

نرجو من سماحة الوالد إعادة شرح قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] إلى آخر الآية، كما قمتم بشرحها في مسجد الرئاسة، وجزاكم الله خيرًا؟

الجواب:

هذه الآية العظيمة لها شأن عظيم، وهي قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] الله سبحانه يأمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم عذاب الله ، وإن كان جميع الناس مأمورين بهذا، لكن المؤمنين لهم خصوصية؛ لأنهم أعلم الناس بالله، وأقومهم بحقه، وأرعاهم لحدوده، فلهذا خاطبهم كثيرًا سبحانه بالأوامر التي يأمر بها فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] في آيات كثيرة. 

ويقول هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وفي مواضع أخرى يأمر الناس؛ لأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله، وليمتثلوا أمره، وليحذروا عذابه، فيقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] هذا عام للكفار والمسلمين جميعًا، والنفس الواحدة أبونا آدم، خلقه الله من التراب، وخلق منها زوجها -زوجته حواء- خلقت منه، وهذا من آيات الله  وهو على كل شيء قدير.

فيأمر الناس جميعًا أن يتقوا الله، فالكافر من تقوى الله أن يدخل في الإسلام، وأن يعتنق الإسلام، ويستقيم عليه، والمؤمن من تقوى الله أن يلزم التقوى ويستقيم عليها ويثبت عليها حتى الموت.

ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1] يذكرهم بالساعة، يذكرهم بقيامها، وأنه لا بد منها، فيأمر الناس جميعًا كافرهم ومسلمهم أن يتقوا الله، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3]، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]. 

ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33] يعني الشيطان.

فهذه الآيات فيها دعوة الناس إلى تقوى الله، والإيمان بما أخبر به، والاستقامة على دينه، والحذر من أن يغرهم الشيطان، أو تغرهم الدنيا بزهرتها وزينتها.

وفي هذه الآية التي سئل عنها يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6] بماذا؟ بتقوى الله، وطاعة أمره، وترك نهيه  هذا طريق السلامة، إنما يقي العبد نفسه وأهله عذاب الله بالالتزام بالتقوى، والاستقامة على أمر الله، وترك محارم الله، وأن يقوم على أولاده، وأهل بيته وأقاربه، وخدمه الذين له سيطرة عليهم، وغير ذلك حتى يوصيهم بتقوى الله، حتى يأمرهم بتقوى الله، فعليك أيها المؤمن أن تقوم على نفسك وأن تجاهدها لله.

وهكذا أهل بيتك من زوجة وولد، من ذكر وأنثى، وأخوات وغيرهم ممن في بيتك من أهلك، تقوم عليهم، وتوجههم إلى الخير، وتلزمهم بأمر الله، وتكفهم عن محارم الله، وبهذا تقيهم عذاب الله، وهذه النار وقودها الناس والحجارة، فاحذر أن تكون من هؤلاء الناس أنت وأهلك.

ثم يذكر ويقول سبحانه: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ [التحريم:6] ما في طمع أنهم يرحمونك إذا أمر بك إلى النار، ما في طمع متى جاءت الأوامر من الله لك ولأهلك بالنار، فإن هؤلاء الملائكة لا يرحمونك، ولا يرحمونهم، بل لا بد من التنفيذ، ثم هم مع ذلك لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ما في رشوة ولا مداهنة، حراس الدنيا حراس السجون قد يرحمون، قد يأخذون الرشوة، ويطلقون السجين، لكن هؤلاء الملائكة لا، هؤلاء الملائكة مأمورون بإنفاذ الأوامر لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. 

وهم غلاظ شداد لا قدرة لك على التخلص منهم، ولا التملص منهم، فمن أمر به إلى النار؛ فهو إليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالواجب الحذر اليوم، وأن تقي نفسك وأهلك من هذا البلاء العظيم، وأنت بحمد الله قد يسر لك الأمر، وبلغت الطريق، وعلمت ما هو السبيل، وهو أن تلزم توحيد ربك، والإخلاص له في عبادتك، واتباع رسوله ﷺ والاستقامة على ما جاء به من فعل الأوامر، وترك النواهي، والوقوف عند حدود الله حتى تلقى ربك، حتى الموت وأنت على ذلك، كما قال الله لنبيه ﷺ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] يعني الموت، قال في الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. 

يعني الزموا التقوى، يعني استقيموا عليها ولو عمرت ألف عام فاستقم حتى يأتيك الموت، لا تمل هكذا ولا هكذا، استقم على أداء الفرائض، وترك المحارم، والوقوف عند حدود الله ما دمت حيًا تعقل حتى تلقى ربك، هذا هو طريق النجاة، وهذا هو معنى الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]. 

قال بعض السلف: معنى ذلك: اتقوا الله، وأوصوهم بتقوى الله، وقال بعضهم: علموهم وأدبوهم، والمعنى متقارب، المعنى خذوا على أيديهم، وجوههم إلى الخير، ألزموهم بالحق، حذروهم من الباطل؛ حتى يستقيموا على هدى الله -جل وعلا- رزق الله الجميع التوفيق والهداية. 

فتاوى ذات صلة