بسم الله الرحمن الرحيم[1]
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز[2] إلى جناب الأخ المكرم محمد بن أحمد بن سنان وفقني الله وإياه للفقه في السنة والقرآن آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعده:
كتابك المكرم وصل، وما تضمنه من المسائل عُلم، وهذا نص السؤال والجواب:
الأولى: ما قولكم فيمن أدرك الإمام راكعاً، ودخل معه في الركوع هل يعتد بتلك الركعة أم لا؟
الجواب: قد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين:
أحدهما: لا يعتد بهذه الركعة لأن قراءة الفاتحة فرض، ولم يأت به روي هذا القول عن أبي هريرة، ورجحه البخاري في كتابه جزء القراءة، وحكاه عن كل من يرى وجوب قراءة الفاتحة على المأموم كذا في عون المعبود، وقد حكي هذا القول عن ابن خزيمة، وجماعة من الشافعية، ورجحه الشوكاني في النيل، وبسط أدلته.
والقول الثاني: يعتد بها حكاه الحافظ ابن عبدالبر عن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت وابن عمر - رضي الله عنهم - وحكاه أيضاً عن جماهير أهل العلم منهم الأئمة الأربعة، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور، ورجحه الشوكاني في رسالة مستقلة نقلها عنه صاحب عون المعبود.
وهذا القول أرجح عندي؛ لحديث أبي بكرة الذي في البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: لم يأمره بقضاء الركعة.
ولو كان ذلك واجبًا عليه لأمره به؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
وقوله في الحديث: زادك الله حرصًا ولا تعد.
يعني لا تعد إلى الركوع دون الصف؛ لأن المسلم مأمور بالدخول مع الإمام في الصلاة على أي حالة يجده عليها.
ومن أدلة الجمهور أيضًا على ذلك ما رواه أبو داود، وابن خزيمة، والدارقطني، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة.
وفي لفظ لابن خزيمة والدارقطني والبيهقي ومن أدرك الركعة في الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه.
فهذا الحديث نص واضح الدلالة لقول الجمهور من وجوه:
أحدها: قوله في السجود: ولا تعدوها شيئًا فإنه يفهم منه أن من أدرك الركوع يعتد به.
الثاني: أن لفظ الركعة إذا ذكر مع السجود يراد به الركوع كما جاء ذلك في أحاديث منها حديث البراء: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه، فَرَكْعَته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته الحديث.
ومنها أحاديث الكسوف وقول الصحابة فيها: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات في أربع سجدات يعنون أربع ركوعات
الوجه الثالث: قوله في رواية ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي قبل أن يقيم صلبه- نص واضح في أنه أراد بالركعة الركوع، وحديث أبي هريرة المذكور قد جاء في طريقين يشد أحدهما الآخر، وتقوم بمثلهما الحجة على ما قد تقرر في مصطلح الحديث، ويعتضد بعمل من ذُكِر أعلاه من الصحابة بما دل عليه.
وقال النووي رحمه الله في شرح المهذب ص215 مجلد4 بعد كلام سبق ما نصه: "وهذا الذي ذكرناه من إدراك الركعة بإدراك الركوع هو الصواب الذي نص عليه الشافعي، وقاله جماهير الأصحاب، وجماهير العلماء، وتظاهرت به الأحاديث وأطبق عليه الناس.
وفيه وجه ضعيف مزيف أنه لا يدرك الركعة، حكاه صاحب التتمة عن إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة من أكبر أصحابنا الفقهاء المحدثين، وحكاه الرافعي عنه وعن أبي بكر الصيفي من أصحابنا، وقال صاحب التتمة هذا ليس بصحيح؛ لأن أهل الأعصار اتفقوا على الإدراك به؛ فخلاف من بعدهم لا يعتد به " انتهى كلامه.
وقد حكى الحافظ ابن حجر في التلخيص عن ابن خزيمة ما يدل على موافقته للجمهور على أن الركعة تدرك بإدراك الركوع والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا نسي المأموم قراءة الفاتحة ما حكمه؟
الجواب: ذكر النووي رحمه الله أن في أصل المسألة للعلماء قولين:
أحدهما: أن حكم من نسي الفاتحة حكم من نسي غيرها من الأركان إن ذكر في الركوع، أو ما بعده قبل أن يقوم إلى الثانية لزمه أن يرجع فيأتي بالفاتحة وما بعدها وإن ذكر بعد قيامه للثانية لغت التي لم يقرأ فيها الفاتحة، وقامت الثانية مقامها وإن لم يذكر إلا بعد السلام والفصل قريب عاد إلى الصلاة، وأتى بركعة عوَضَ الركعة التي ترك الفاتحة منها، وسجد للسهو، إن كان مسبوقاً، وإن لم يكن مسبوقاً فلا سجود عليه للسهو بل يتحمله عنه الإمام؛ فإن طال الفصل قبل أن يذكر لزمه استئناف الصلاة.
وذكر النووي أن هذا القول هو الجديد عن الشافعي وأنه الأصح باتفاق الأصحاب إلا أنه جزم بأنه يسجد للسهو، ولم يفصّل، والصواب التفصيل كما تقدم.
والقول الثاني: أن من ترك قراءة الفاتحة ناسياً حتى ركع أو سلم سقطت عنه القراءة، وتمت صلاته.
حكاه النووي عن جماعة من الشافعية وهذا القول أرجح عندي في حق المأموم خاصة.
والقول الأول أرجح في حق الإمام والمنفرد، ووجه ذلك أن المأموم مأمور بمتابعة إمامه، والاقتداءِ به في الركوع وغيره من أفعال الصلاة، فإذا ركع إمامه لزمه أن يتابعه في الركوع وإن كان قد نسي قراءة الفاتحة، ولم يَجُزْ له أن يقف ليقرأها وإمامه راكع لعموم قوله: وإذا ركع فاركعوا.
والفاء للترتيب باتصال، وظاهر الحديث يعم من ترك الفاتحة ناسياً، وغيره.
وإنما أوجبنا على المأموم قراءة الفاتحة؛ لعموم النصوص الدالة على وجوبها، فإذا نسيها حتى ركع إمامه سقطت عنه؛ لعذر النسيان، ووجوب المتابعة.
والجاهلُ وجوبَ قراءة الفاتحة على المأموم حُكْمُهُ حُكْمُ الناسي فيما يظهر لي سواء كان مقلداً لمن لم ير وجوبها؛ لعدم ظهور الحجة عنده على ذلك، أو مجتهداً لم ير وجوبها؛ لأن كُلاً منهما معذور إما بعذر الجهل، أو بعذر النسيان؛ فحالهما تشبه حال مَنْ أدرك الإمام راكعاً، وقد تقدم أنه تجزئه الركعة، وتسقط عنه القراءة.
بل الجاهل والناسي هنا أولى بأن تُجزأهما الركعة؛ لأن من أدرك الإمام راكعاً قد فاتته القراءة والقيام لها.
والجاهل والناسي هنا لم يَفتْهما إلا القراءة فقط والله أعلم.
وأما سجود السهو في حق الناسي هنا فعلى التفصيل السابق قي القول الأول، وأما الجاهل فلا سجود عليه مطلقاً.
المسألة الثالثة: من نسي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ما حكمه؟
الجواب قد ذكر النووي والحافظ ابن القيم وغيرهما في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أقوالاً ثلاثة:
الأول: أنها فرض لا تسقط لا عمداً ولا سهواً، روي ذلك عن عمر، وابنه، وابن مسعود، وأبى مسعود الأنصاري، وقال به الشعبي من التابعين، وذهب إليه الشافعي، وأحمد في المشهور عنه.
والقول الثاني: أنها واجبة بمعنى أن من تركها عمداً بطلت صلاته ومن تركها سهواً أجزأته صلاته، وهو قول ابن راهويه، ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخِرَقي، وذكر في المغني أنها ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه.
وحجة القولين ما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية كعب بن عجرة، وأبي سعيد، وأبي حميد، وأبي مسعود الأنصاري، وغيرهم، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
هذا لفظ البخاري في أحاديث الأنبياء من كتاب بدء الخلق في صحيحه في رواية كعب بن عجرة رضي الله عنه، وله ألفاظ أُخر عند البخاري ومسلم وغيرهما ولكن هذا اللفظ الذي ذكرناه هو أتمها وأكملها وفي حديث أبي جميل جعل بدل آل محمد أزواجه وذريته وهو مفسر لمعنى الآل في بقية الأحاديث.
وأي لفظ أتى به المصلي من الألفاظ الصحيحة أجزأه، وحصلت به السنة.
ولفظ حديث أبي مسعود عند مسلم قال: قال بشير بن سعد يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك، فسكت ثم قال: قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم.
وأخرجه ابن خزيمة، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، والحاكم بلفظ: " فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا "
قال الدارقطني: إسناده حسن، وصححه الحاكم
ففي هذه الأحاديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، وقد صرح في حديث بشير المذكور أن ذلك في الصلاة، والأمر يقتضي الوجوب كما قد علم في كتب الأصول، وقد أمر الله بذلك في كتابه في قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
والأحاديث المذكورة تفسر الصلاة والسلام المذكورين في الآية.
والقول الثالث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة لا شيء على من تركها مطلقاً وهو قول أكثر الفقهاء، ورواية عن أحمد اختاره بعض أصحابه، ولكنه أضعف الأقوال؛ لمخالفته ظاهر الأحاديث المذكورة وقد بسط القول في هذه المسألة النووي في شرح المهذب، والعلامة ابن القيم في جلاء الأفهام، ونقل كلا مهما، وبسط القول في هذه المسألة يطول، وفيما أشرنا إليه كفاية.
إذا عرفت ذلك فعلى القول الأول من تركها ناسياً لزمه أن يعود إلى الصلاة، فيأتي بها، ثم يسلم، ويسجد للسهو، والأفضلُ أن السجود هنا يكون بعد السلام؛ لأنه قد سلم عن نقص؛ فأشبه ما جاء في حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وإن سجد قبل السلام أجزأه وإن طال الفصل لزمه أن يستأنف الصلاة كسائر الأركان.
وعلى القول الثاني إن ذكر قريبًا سجد للسهو، وإن طال الفصل سقط عنه السجود، وتمت صلاته.
وهذا القول أقرب عندي؛ لحديث فضالة بن عبيد عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو في صلاته ولم يحمد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عجل هذا، ثم دعاه فقال له: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء انتهى.
ولم يأمره بالإعادة، والظاهر - والله أعلم - أن ذلك؛ لجهله؛ فيستدل به على سقوطها عن الجاهل بوجوبها؛ ومثلُه الناسي.
وتقدم لك أن هذا قول إسحاق، ورواية منصوصة عن أحمد اختارها من ذكر آنفًا.
وعلى هذا القول تجتمع الأحاديث الواردة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالقول الأول أحوط؛ لما فيه من العمل بكل الأحاديث والخروج من الخلاف.
واعلم أن المعتمد عند القائلين بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب منها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقط دون الصلاة على آله وما بعدها؛ ولكن ينبغي للمؤمن أن يأتي بها على الصفة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولا يترك منها شيئًا؛ لأن ظاهر تعليمه لهم يقتضي وجوب ذلك، وقد فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الأمر القرآني؛ فالسنة أن يأتي بها المصلي على الوجه الذي أرشد إليه عليه الصلاة والسلام لأن ذلك أكمل في الاتباع، وأحوط للدين والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
10/ 6/ 1365هـ
قرأته على سماحته في صباح يوم الثلاثاء 4/ 1/ 1420هـ وأَقَرَّه رحمه الله.
كتابك المكرم وصل، وما تضمنه من المسائل عُلم، وهذا نص السؤال والجواب:
الأولى: ما قولكم فيمن أدرك الإمام راكعاً، ودخل معه في الركوع هل يعتد بتلك الركعة أم لا؟
الجواب: قد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين:
أحدهما: لا يعتد بهذه الركعة لأن قراءة الفاتحة فرض، ولم يأت به روي هذا القول عن أبي هريرة، ورجحه البخاري في كتابه جزء القراءة، وحكاه عن كل من يرى وجوب قراءة الفاتحة على المأموم كذا في عون المعبود، وقد حكي هذا القول عن ابن خزيمة، وجماعة من الشافعية، ورجحه الشوكاني في النيل، وبسط أدلته.
والقول الثاني: يعتد بها حكاه الحافظ ابن عبدالبر عن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت وابن عمر - رضي الله عنهم - وحكاه أيضاً عن جماهير أهل العلم منهم الأئمة الأربعة، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور، ورجحه الشوكاني في رسالة مستقلة نقلها عنه صاحب عون المعبود.
وهذا القول أرجح عندي؛ لحديث أبي بكرة الذي في البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: لم يأمره بقضاء الركعة.
ولو كان ذلك واجبًا عليه لأمره به؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.
وقوله في الحديث: زادك الله حرصًا ولا تعد.
يعني لا تعد إلى الركوع دون الصف؛ لأن المسلم مأمور بالدخول مع الإمام في الصلاة على أي حالة يجده عليها.
ومن أدلة الجمهور أيضًا على ذلك ما رواه أبو داود، وابن خزيمة، والدارقطني، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة.
وفي لفظ لابن خزيمة والدارقطني والبيهقي ومن أدرك الركعة في الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه.
فهذا الحديث نص واضح الدلالة لقول الجمهور من وجوه:
أحدها: قوله في السجود: ولا تعدوها شيئًا فإنه يفهم منه أن من أدرك الركوع يعتد به.
الثاني: أن لفظ الركعة إذا ذكر مع السجود يراد به الركوع كما جاء ذلك في أحاديث منها حديث البراء: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه، فَرَكْعَته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته الحديث.
ومنها أحاديث الكسوف وقول الصحابة فيها: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات في أربع سجدات يعنون أربع ركوعات
الوجه الثالث: قوله في رواية ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي قبل أن يقيم صلبه- نص واضح في أنه أراد بالركعة الركوع، وحديث أبي هريرة المذكور قد جاء في طريقين يشد أحدهما الآخر، وتقوم بمثلهما الحجة على ما قد تقرر في مصطلح الحديث، ويعتضد بعمل من ذُكِر أعلاه من الصحابة بما دل عليه.
وقال النووي رحمه الله في شرح المهذب ص215 مجلد4 بعد كلام سبق ما نصه: "وهذا الذي ذكرناه من إدراك الركعة بإدراك الركوع هو الصواب الذي نص عليه الشافعي، وقاله جماهير الأصحاب، وجماهير العلماء، وتظاهرت به الأحاديث وأطبق عليه الناس.
وفيه وجه ضعيف مزيف أنه لا يدرك الركعة، حكاه صاحب التتمة عن إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة من أكبر أصحابنا الفقهاء المحدثين، وحكاه الرافعي عنه وعن أبي بكر الصيفي من أصحابنا، وقال صاحب التتمة هذا ليس بصحيح؛ لأن أهل الأعصار اتفقوا على الإدراك به؛ فخلاف من بعدهم لا يعتد به " انتهى كلامه.
وقد حكى الحافظ ابن حجر في التلخيص عن ابن خزيمة ما يدل على موافقته للجمهور على أن الركعة تدرك بإدراك الركوع والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا نسي المأموم قراءة الفاتحة ما حكمه؟
الجواب: ذكر النووي رحمه الله أن في أصل المسألة للعلماء قولين:
أحدهما: أن حكم من نسي الفاتحة حكم من نسي غيرها من الأركان إن ذكر في الركوع، أو ما بعده قبل أن يقوم إلى الثانية لزمه أن يرجع فيأتي بالفاتحة وما بعدها وإن ذكر بعد قيامه للثانية لغت التي لم يقرأ فيها الفاتحة، وقامت الثانية مقامها وإن لم يذكر إلا بعد السلام والفصل قريب عاد إلى الصلاة، وأتى بركعة عوَضَ الركعة التي ترك الفاتحة منها، وسجد للسهو، إن كان مسبوقاً، وإن لم يكن مسبوقاً فلا سجود عليه للسهو بل يتحمله عنه الإمام؛ فإن طال الفصل قبل أن يذكر لزمه استئناف الصلاة.
وذكر النووي أن هذا القول هو الجديد عن الشافعي وأنه الأصح باتفاق الأصحاب إلا أنه جزم بأنه يسجد للسهو، ولم يفصّل، والصواب التفصيل كما تقدم.
والقول الثاني: أن من ترك قراءة الفاتحة ناسياً حتى ركع أو سلم سقطت عنه القراءة، وتمت صلاته.
حكاه النووي عن جماعة من الشافعية وهذا القول أرجح عندي في حق المأموم خاصة.
والقول الأول أرجح في حق الإمام والمنفرد، ووجه ذلك أن المأموم مأمور بمتابعة إمامه، والاقتداءِ به في الركوع وغيره من أفعال الصلاة، فإذا ركع إمامه لزمه أن يتابعه في الركوع وإن كان قد نسي قراءة الفاتحة، ولم يَجُزْ له أن يقف ليقرأها وإمامه راكع لعموم قوله: وإذا ركع فاركعوا.
والفاء للترتيب باتصال، وظاهر الحديث يعم من ترك الفاتحة ناسياً، وغيره.
وإنما أوجبنا على المأموم قراءة الفاتحة؛ لعموم النصوص الدالة على وجوبها، فإذا نسيها حتى ركع إمامه سقطت عنه؛ لعذر النسيان، ووجوب المتابعة.
والجاهلُ وجوبَ قراءة الفاتحة على المأموم حُكْمُهُ حُكْمُ الناسي فيما يظهر لي سواء كان مقلداً لمن لم ير وجوبها؛ لعدم ظهور الحجة عنده على ذلك، أو مجتهداً لم ير وجوبها؛ لأن كُلاً منهما معذور إما بعذر الجهل، أو بعذر النسيان؛ فحالهما تشبه حال مَنْ أدرك الإمام راكعاً، وقد تقدم أنه تجزئه الركعة، وتسقط عنه القراءة.
بل الجاهل والناسي هنا أولى بأن تُجزأهما الركعة؛ لأن من أدرك الإمام راكعاً قد فاتته القراءة والقيام لها.
والجاهل والناسي هنا لم يَفتْهما إلا القراءة فقط والله أعلم.
وأما سجود السهو في حق الناسي هنا فعلى التفصيل السابق قي القول الأول، وأما الجاهل فلا سجود عليه مطلقاً.
المسألة الثالثة: من نسي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ما حكمه؟
الجواب قد ذكر النووي والحافظ ابن القيم وغيرهما في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أقوالاً ثلاثة:
الأول: أنها فرض لا تسقط لا عمداً ولا سهواً، روي ذلك عن عمر، وابنه، وابن مسعود، وأبى مسعود الأنصاري، وقال به الشعبي من التابعين، وذهب إليه الشافعي، وأحمد في المشهور عنه.
والقول الثاني: أنها واجبة بمعنى أن من تركها عمداً بطلت صلاته ومن تركها سهواً أجزأته صلاته، وهو قول ابن راهويه، ورواية عن الإمام أحمد اختارها الخِرَقي، وذكر في المغني أنها ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه.
وحجة القولين ما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية كعب بن عجرة، وأبي سعيد، وأبي حميد، وأبي مسعود الأنصاري، وغيرهم، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
هذا لفظ البخاري في أحاديث الأنبياء من كتاب بدء الخلق في صحيحه في رواية كعب بن عجرة رضي الله عنه، وله ألفاظ أُخر عند البخاري ومسلم وغيرهما ولكن هذا اللفظ الذي ذكرناه هو أتمها وأكملها وفي حديث أبي جميل جعل بدل آل محمد أزواجه وذريته وهو مفسر لمعنى الآل في بقية الأحاديث.
وأي لفظ أتى به المصلي من الألفاظ الصحيحة أجزأه، وحصلت به السنة.
ولفظ حديث أبي مسعود عند مسلم قال: قال بشير بن سعد يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك، فسكت ثم قال: قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم.
وأخرجه ابن خزيمة، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، والحاكم بلفظ: " فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا "
قال الدارقطني: إسناده حسن، وصححه الحاكم
ففي هذه الأحاديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، وقد صرح في حديث بشير المذكور أن ذلك في الصلاة، والأمر يقتضي الوجوب كما قد علم في كتب الأصول، وقد أمر الله بذلك في كتابه في قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
والأحاديث المذكورة تفسر الصلاة والسلام المذكورين في الآية.
والقول الثالث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة لا شيء على من تركها مطلقاً وهو قول أكثر الفقهاء، ورواية عن أحمد اختاره بعض أصحابه، ولكنه أضعف الأقوال؛ لمخالفته ظاهر الأحاديث المذكورة وقد بسط القول في هذه المسألة النووي في شرح المهذب، والعلامة ابن القيم في جلاء الأفهام، ونقل كلا مهما، وبسط القول في هذه المسألة يطول، وفيما أشرنا إليه كفاية.
إذا عرفت ذلك فعلى القول الأول من تركها ناسياً لزمه أن يعود إلى الصلاة، فيأتي بها، ثم يسلم، ويسجد للسهو، والأفضلُ أن السجود هنا يكون بعد السلام؛ لأنه قد سلم عن نقص؛ فأشبه ما جاء في حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وإن سجد قبل السلام أجزأه وإن طال الفصل لزمه أن يستأنف الصلاة كسائر الأركان.
وعلى القول الثاني إن ذكر قريبًا سجد للسهو، وإن طال الفصل سقط عنه السجود، وتمت صلاته.
وهذا القول أقرب عندي؛ لحديث فضالة بن عبيد عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو في صلاته ولم يحمد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عجل هذا، ثم دعاه فقال له: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء انتهى.
ولم يأمره بالإعادة، والظاهر - والله أعلم - أن ذلك؛ لجهله؛ فيستدل به على سقوطها عن الجاهل بوجوبها؛ ومثلُه الناسي.
وتقدم لك أن هذا قول إسحاق، ورواية منصوصة عن أحمد اختارها من ذكر آنفًا.
وعلى هذا القول تجتمع الأحاديث الواردة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالقول الأول أحوط؛ لما فيه من العمل بكل الأحاديث والخروج من الخلاف.
واعلم أن المعتمد عند القائلين بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب منها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقط دون الصلاة على آله وما بعدها؛ ولكن ينبغي للمؤمن أن يأتي بها على الصفة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولا يترك منها شيئًا؛ لأن ظاهر تعليمه لهم يقتضي وجوب ذلك، وقد فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الأمر القرآني؛ فالسنة أن يأتي بها المصلي على الوجه الذي أرشد إليه عليه الصلاة والسلام لأن ذلك أكمل في الاتباع، وأحوط للدين والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
10/ 6/ 1365هـ
قرأته على سماحته في صباح يوم الثلاثاء 4/ 1/ 1420هـ وأَقَرَّه رحمه الله.
محمد بن موسى الموسى
- هذا الكتاب أرسله الشيخ بتاريخ 10/6/1365هـ، وقرأه الشيخ محمد الموسى على سماحة الشيخ عبدالعزيز في 4/1/1420هـ أي قبل وفاته بثلاثة وعشرين يومًا.(م)
- الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء (ص367)