رسالة إلى علماء المجاهدين الأفغان لتجنب الفتن التي يثيرها الأعداء

من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى عموم إخواننا علماء المجاهدين الأفغان، وفقهم الله لكل خير، وأقام بهم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فتعلمون -وفقنا الله وإياكم- أن الله تعالى قد أكرمكم بالعلم، وزينكم به، وأعلى به مقامكم، ورفع به درجاتكم، وجعلكم بذلك شهداء على الناس، وبكم يقتدي الناس، ومنكم يعرفون الأحكام والحلال والحرام، وقد أخذ الله تعالى العهد والميثاق على العلماء الذين هم ورثة الأنبياء أن يبينوا الحق للناس ولا يكتمونه، وذلك عهد واجب الوفاء، وميثاق يتحتم أداؤه وعدم نقضه، ومن أخلَّ به أو تهاون في أدائه فقد عرض نفسه للوعيد الأكيد والعذاب الشديد، وبهذه الخصائص تأكدت الفضيلة وتوحد الواجب بين العلماء رغم تباعد ديارهم واختلاف أقطارهم، وجمع بينهم الإيمان والبحث عن الحق القائم على الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ وما عليه أئمة الدين من الهدى والخير.
ولا يخفاكم - أعانني الله وإياكم - أن العلماء هم أهل الذكر، وأن عامة الناس متعلقون بذمة العلماء، والعَالِم يسأل عن نفسه وعن غيره، وَهَدْي العالِمِ هدي لغيره وصلاحه صلاح لغيره، إذ العلماء هم أهل البصيرة والحكمة والخشية من الله تعالى، والناس على آثارهم يقتدون، وبأقوالهم وأفعالهم يهتدون، وقد وفقكم الله تعالى لإقامة فريضة الجهاد في سبيل الله ضد أعداء الله، وكنتم بذلك أهلا للعلم الذي أعطاكم الله، وبرَّره بالميثاق الذي أخذه الله والوقوف معكم، ونحمد الله الذي أكرمنا بأن أفتينا الناس بوجوب الجهاد معكم ومناصرتكم ضد أعداء الدين والقيام بحق الأخوة الإسلامية، فهبَّ المسلمون -ولله الحمد- من كل مكان يرجون الأجر والثواب، ويطلبون الجنة وينصرون إخوانهم المستضعفين، وبذلك أخذ الجهاد صورته الإسلامية العالمية، وتأكدت في نفوس المسلمين جميعًا حقيقة الرابطة الدينية والأخوة الإيمانية؛ فأغاظ ذلك الكافرين على اختلاف مللهم، وأحبط خططهم في تفريق وحدة المسلمين وشتات كلمتهم، وكتب الله هزيمة الكافرين ونصر المجاهدين، فلجأ أعداء الدين إلى وسيلة أخرى لإيقاع الفرقة بين المسلمين عن طريق الخلافات المذهبية الموجودة بين الأمة منذ قديم الزمان، فأشعلوا الفتنة وأثاروا العامة، وأرادوا بذلك إيقاع الفساد بين المجاهدين الأفغان وبين إخوانهم المسلمين، وليس لهذه الفتنة من يدرؤها ويحبطها بعد الله إلا أنتم أيها الإخوة العلماء.
وأنتم تعلمون -حفظكم الله- أن الخلاف المذهبي في أمور الفروع واقع منذ قديم الزمان، ولم يؤد ذلك إلى البغضاء والتشاحن والشقاق؛ لأن الأمة الإسلامية متفقة في الأصول والقواعد، وقد وجد الخلاف الفقهي بين الأئمة الأربعة ابتداء بالإمام أبي حنيفة رحمه الله، والإمام مالك رحمه الله، ثم الإمام الشافعي رحمه الله، ثم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولم يحدث بينهم رغم ذلك شيء من النفرة والفتنة، بل كانوا رغم اختلافهم في النظر والاجتهاد إخوة متحابين يُثني كل واحد منهم على الآخر، ويُقدِّمه على نفسه، وهذا هو الذي يجب أن يسود بين العلماء وإن اختلفت آراؤهم في مسائل الفروع.
وأنتم أيها الإخوة العلماء المجاهدون الأفغان تعلمون أن المسلمين قد نفروا للجهاد معكم من مختلف البلدان، وهم على مذاهب مختلفة، فمنهم الحنفي، ومنهم المالكي، ومنهم الشافعي، ومنهم الحنبلي، وأنتم -وفقنا الله وإياكم- أولى من يبين للعامة ذلك، ويحذرهم من خطر الوقوع في حبائل كيد الكافرين بما يُشيعونه بين العامة من أن المجاهدين من العرب خاصة جاءوا لهدم المذهب الحنفي، وأنتم تدركون أن هذا من دَسِّ الكافرين للتفريق بين المسلمين وبذر الفتنة بينهم، ولا يخفاكم أن أتباع الأئمة المجتهدين لم يكونوا يُفَسِّقون من يخالفهم فضلا عن أن يُكَفِّروه، ولم يكونوا يروا اتباع إمام غير إمامهم منكرا تجب محاربته، وهذه هي عقيدة علماء المسلمين جميعا، وواجبكم أيها الإخوة أن تَحُولُوا دون وقوع الفتن بين المسلمين، وذلك ببيان الحق وتبصير العامة ودرء المفسدة والاعتصام بالكتاب والسنة، وبيان أن أتباع الأئمة الأربعة كلهم إخوة في الله يصلي بعضهم خلف بعض ويعرف له حقه وفضله، وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وأتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله كلهم من الحنابلة ويعترفون بفضل الأئمة الأربعة، ويعتبرون أتباع المذاهب الأربعة إخوة لهم في الله، فأرجو إيضاح هذا الأمر للناس حتى لا ينجح العدو فيما أراده من التفرقة بين المجاهدين الأفغان وإخوانهم من العرب وغيرهم من أتباع الأئمة الثلاثة (مالك والشافعي وأحمد) رحمهم الله.
سدد الله رأيكم، وبارك في جهودكم، ونصر بكم الحق، وجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين الناصرين لدين الله، والذابين عن شريعته والدعاة إليه على بصيرة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه[1].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  1. نشرت في مجلة الفرقان العدد السابع السنة الأولى ـ ذو الحجة 1409هـ تصدر عن دار الفرقان بقبرص، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 5/ 148).