04 من قوله: (وهذا من أصول أهل السنة وأئمة المشايخ)

وَهَذَا من أصُول أهل السُّنة وأئمة الْمَشَايِخ، خُصُوصًا مَشَايِخ الصُّوفِيَّة؛ فَإِنَّ أصل طريقهم الْإِرَادَة الَّتِي هِيَ أساس الْعَمَل، فهم فِي الإرادات والعبادات والأعمال والأخلاق أعظم رسوخًا مِنْهُم فِي المقالات والعلوم، وهم بذلك أعظم اهتمامًا، وَأكْثر عنايةً، بل مَن لم يَدْخل فِي ذَلِك لم يكن من أهل الطَّرِيق بِحَالٍ، وَهَذَا حقٌّ؛ فَإِنَّ الدِّين وَالْإِيمَانَ قَولٌ وَعملٌ، وأوله قَول الْقَلب وَعَمله، فَمَن لم يَنْقد بِقَلْبِه، وَلم يذلّ لله؛ لم يكن مُؤمنًا، وَلَا دَاخِلًا فِي طَرِيق الله؛ وَلِهَذَا لم يتنازع الْمَشَايِخُ أَنَّ الْإِيمَانَ يزِيد وَينْقص، وَأَنَّ النَّاس يتفاضلون فِيهِ، وَأَنَّ أَعمال الْقُلُوب من الْإِيمَان، كَمَا يتنازع غَيرهم.

وَذكر أَبُو الْقَاسِم بعد هَذَا كلَامًا عَن الْمَشَايِخ فِي جملٍ مُستحسنةٍ، قَالَ: أَخْبَرنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: سَمِعتُ مُحَمَّد بن عبدالله يَقُول: سَمِعتُ أَبَا الطّيب المراغي يَقُول: لِلْعَقْلِ دلَالَة، وللحكمة إِشَارَة، وللمعرفة شَهَادَة، فالعقل يدل، وَالْحكمَة تُشِير، والمعرفة تشهد أَنَّ صفاء الْعِبَادَات لَا يُنَال إِلَّا بصفاء التَّوْحِيد.

وَقَالَ: وَسُئِلَ الْجُنَيْد -وَلم يُسْندهُ- عَن التَّوْحِيد فَقَالَ: إِفْرَاد الموحد بتحقيق وحدانيته، بِكَمَال أحديته، أَنه الْوَاحِد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد، بنفي الأضداد والأنداد والأشباه، فَلَا تَشْبِيه، وَلَا تكييف، وَلَا تَصْوِير، وَلَا تَمْثِيل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

وَقَالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى الصُّوفِي: حَدَّثنَا عبدالله بن عَليّ، التَّمِيمِي، الصُّوفِي: يُحْكى عَن الْحُسَيْن بن عَليّ الدَّامغَانِي قَالَ: سُئِلَ أبو بكر الزَّاهِد عَن الْمعرفَة فَقَالَ: الْمعرفَة اسْمٌ، وَمَعْنَاهَا وجود تَعْظِيم فِي الْقَلب يمنعك عَن التَّعطيل والتَّشبيه.

وَقَالَ أَبُو الْحسن البوشنجي رَحمَه الله: التَّوْحِيد أَن يعلم أَنه غير مُشبه للذَّوات، وَلَا منفي الصِّفَات.

وَهَذَانِ قَولَانِ حسنان، وَلَا يتنازع في هَذِه الْجُمْلَة أهلُ السُّنة وَالْجَمَاعَة.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم القُشيري: سَمِعتُ أَبَا حَاتِم السّجستاني يَقُول: سَمِعتُ أَبَا نصر الطوسي السّراج يَحْكِي عَن يُوسُف بن الْحُسَيْن قَالَ: قَامَ رجلٌ بَين يَدي ذي النُّون، فَقَالَ: أَخْبرنِي عَن التَّوْحِيد مَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَن تعلم أَنَّ قُدرَة الله في الْأَشْيَاء بِلَا مزاجٍ، وصنعه للأشياء بِلَا علاجٍ، وَعلّة كل شيءٍ صنعه، وَلَا عِلّة لصنعه، وَلَيْسَ فِي السَّمَوَات الْعُلَا، وَلَا في الْأَرْضين السُّفْلى مُدبر غير الله، وكل مَا تُصور في وهمك فَالله بِخِلَافِهِ.

هَذَا الْكَلَام غالبه فِي ذكر فعل الْحقِّ سُبْحَانَهُ وربوبيته، أخبر أَنه ربُّ كل شيءٍ، لَا مُدبر غَيره؛ ردًّا على الْقَدَرِيَّة وَنَحْوهم مِمَّن يَجْعَل بعض الْأَشْيَاء خَارِجَة عَن قُدرَة الله وتدبيره، وَأَخْبر أَنَّ قُدرته وصنعه لَيْسَ مثل قُدرَة الْعِباد وصنعهم، فَإِنَّ قُدرَة أبدانهم عَن امتزاج الأخلاط، وأفعالهم عَن مُعالجةٍ، وَالله تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِك.

وَأما قَوْله: (عِلّة كل شيءٍ صنعه، وَلَا عِلّة لصنعه) فقد تقدم أَنَّ هَذَا يُرِيد بِهِ أهلُ الْحقِّ مَعْنَاهُ الصَّحِيح: أَنَّ الله سُبْحَانَهُ لَا يَبْعَثهُ ويدعوه إِلَى الْفِعْل شيءٌ خَارجٌ عَنهُ، كَمَا يكون مثل ذَلِك للمخلوقين، فَلَيْسَ لَهُ عِلّة غَيره، بل فعله عِلّة كل شيءٍ، مَا شَاءَ الله كَانَ، وَمَا لم يَشَأْ لم يكن.

ومقصود أَبي الْقَاسِم يُبين أَنَّ الْقَوْم لم يَكُونُوا على رأي الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة، وَهَذَا حقٌّ، فَمَا نعلم في الْمَشَايِخ المقبولين في الْأُمة مَن كَانَ على رأي الْمُعْتَزلَة: لَا فِي قَوْلهم فِي الصِّفَات بقول جهم، وَلَا فِي قَوْلهم فِي الْأَفْعَال بقول الْقَدَرِيَّة، بل هم أعظم النَّاس إِثْبَاتًا للقدر، وشهودًا لَهُ، وافتقارًا إِلَى الله، والتجاءً إِلَيْهِ، حَتَّى أَنَّ من المنتسبين إِلَى الطَّرِيق مَن غلوا فِي هَذَا حَتَّى يذهب إِلَى الْإِبَاحَة والجبر، ويُعرض عَن الشَّرْع وَالْأَمر والنَّهي، فَهَذِهِ الآفةُ تُوجد كثيرًا فِي المتصوفة والمتفقرة، وَأما التَّكْذِيب بِالْقَدرِ فقليلٌ فيهم جدًّا.

ثمَّ ذكر عَنْهُم فِي الْإِيمَان كَلِمَتَيْنِ يدل بهما على أَنَّ الْإِيمَان عِنْدهم مُجَرّد التَّصْدِيق، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَب الْقَوْم، بل الَّذِي حَكَاهُ عَن الْجُنَيْد فَقَالَ: وَقَالَ الْجُنَيْد: التَّوْحِيد علمك وإقرارك بِأَنَّ الله فَردٌ فِي أزليَّته، لَا ثَانِي مَعَه، وَلَا شيء يفعل فعله. وَقَالَ أَبُو عبدالله ابن خَفِيف: الْإِيمَان تَصْدِيق الْقُلُوب بِمَا أعمله الْحقّ من الغيوب.

وَهَذَا الْمَذْكُور عَن الْجُنَيْد وَابْن خَفِيف حسنٌ وصوابٌ، لَكِن لم يدل على أَنَّ أَعمال الْقُلُوب لَيست من الْإِيمَان.

الشيخ: وله كتاب، كتاب أبي القاسم هذا كتاب مدخول، كتاب مشبوه، فيه حقٌّ كثير، وباطل كثير، وهو لا يصلح؛ ولهذا نبَّه المؤلفُ على كثيرٍ من ذلك، مع تساهل المؤلف في كثيرٍ من كلماته.

الحاصل أنَّ كلام هؤلاء الصوفية وإن كان فيه حقٌّ، لكن فيه إجمالٌ، فيه احتمالات، وفيه باطل كثير، ولا أحسن ولا أطيب ولا أكمل من كلام الله وكلام رسوله، فهو الكافي الشَّافي، ما في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة الصَّحيحة فيه الغنى والشِّفاء والحقّ والهدى، كلام واضح في صفات الله وأسمائه، وبيان حقّه، لا يكون فيه إجمالٌ، ولا شبهة، ولا ريب، بخلاف كلام غيرهم من المتصوفة والقدرية والمعتزلة والجهمية، ففي كلامهم من الباطل الكثير ما لا يُحصى، والمتصوفة عندهم من الإجمالات والإشارات التي تخفى على كثيرٍ من الناس، نعم.

ثمَّ ذكر عَنْهُم فِي مَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِيمَان شَيْئًا حسنًا فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس السياري: عطاؤه على نَوْعَيْنِ: كَرَامَة، واستدراج، فَمَا أبقاه عَلَيْك فَهُوَ كَرَامَة، وَمَا أزاله عَنْك فَهُوَ اسْتِدْرَاج، فَقل: أَنا مُؤمنٌ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَالَ أبو الْعَبَّاس السياري: كَانَ شيخ وقته.

وَقَالَ: سَمِعتُ الْأُسْتَاذ أَبَا علي الدّقاق يَقُول: غمز رجلٌ رِجلَ أَبي الْعَبَّاس السياري، فَقَالَ: تغمز رِجْلًا مَا نقلتُها قطُّ فِي مَعْصِيَةِ الله تَعَالَى!

قَالَ: وَقَالَ أَبُو بكر الواسطي: مَن قَالَ: أَنا مُؤمنٌ بِاللَّه حَقًّا. قيل لَهُ: الْحَقِيقَة تُشِير إِلَى إشرافٍ واطِّلاعٍ وإحاطةٍ، فَمَن فَقده فقد بَطل دَعْوَاهُ مِنْهَا.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: يُرِيد بذلك مَا قَالَه أهلُ السُّنة من أَنَّ الْمُؤمن الْحَقِيقِيَّ مَن كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْجنَّةِ، فَمَن لم يعلم ذَلِك من سرِّ حِكْمَة الله تَعَالَى فدعواه بِأَنَّهُ مُؤمنٌ حَقًّا غير صَحِيحَةٍ.

قلتُ: الِاسْتِثْنَاء فِي الإيمان سنة عِنْد عَامَّة أهل السُّنة، وَقد ذكره طَائِفَةٌ من المرجئة وَغَيرهم، وأوجبه كثيرٌ من أهل السُّنة، وَمن وجوهه وَجْهَان حسنان:

أَحدهمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي أوجبه الله على العَبْد من الأمور الْبَاطِنَة أو الظَّاهِرَة لَا يتَيَقَّن أَنَّه أَتَى بهَا على الْوَجْه الَّذِي أمر بِهِ كَامِلًا، بل قد يكون أخلَّ بِبَعْضِه، فيُستثنى لذَلِك.

وَالْوَجْه الثَّانِي: أنَّ الْمُؤمن الْمُطلق من علم الله أَنه يُوافى بِالْإِيمَان، فَأَمَّا الْإِيمَان الَّذِي تتعقبه الرِّدَّة فَهُوَ بَاطِلٌ: كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة الَّذِي يبطل قبل فَرَاغه، فَلَا يعلم العَبْدُ أَنه مُؤمنٌ حَتَّى يقْضي جَمِيع إيمَانه، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بِالْمَوْتِ.

وَهَذَا معنى مَا يُرْوى عَن ابْن مَسْعُودٍ أَنه قيل لَهُ: إِنَّ فلَانًا يَقُول: إِنَّه مُؤمنٌ. قَالَ: فَقُولُوا لَهُ: أهو فِي الْجنَّة؟ فَقَالَ: الله أعلم. قَالَ: فَهَلا وكلت الأولى كَمَا وكلت الثَّانِيَة؟

وَهَذَا الْوَجْه تختاره طَائِفَةٌ من مُتكلِّمي أهل الحَدِيث المائلين إِلَى الإرجاء: كالأشعري وَغَيره مِمَّن يَقُول بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يُدْخِل الأعمال فِي مُسَمَّى الإيمان، فَيَجْعَل الاستثناء يعود إِلَى النَّوايا فَقَط، وَهُوَ الَّذِي ذكره أَبُو الْقَاسِم، وَفسّر بِهِ كَلَام أبي بكر الوَاسِطِيّ.

الشيخ: وأهل السُّنة -مثلما قال الشيخ- على الاستثناء، فيقولون: مؤمن إن شاء الله. وليس بقصد الشَّك، وإنما هو لأجل المراعاة للأمرين المذكورين:

أحدهما: أنه لا يدري: هل كمل أو ما كمل؟ لأنَّ الواجبات والحقوق التي عليه كثيرة، وهكذا ترك المحرَّمات، فهو لا يدري: هل وفَّى أو ما وفَّى؟ فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

وكذلك من جهةٍ ثانيةٍ وهي: لا يدري هل يموت على الإيمان، أو ما يموت على الإيمان؟ فالله الذي يعلم هذه الأحوال، وإنما يكون من أهل الجنَّة إذا مات على الإيمان، إنما يكون مؤمنًا حقًّا إذا مات على الإيمان.

فهم يستثنون بهذا لأنَّهم لا يدرون ماذا يُوافون به؟ ولا يدرون هل استكملوا، أو ما استكملوا؟ ولهذا استثنوا من باب الورع والحيطة، من غير شكٍّ.

وَكَلَام الوَاسِطِيّ يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ فَإِنَّ الإشرافَ والاطلاعَ قد يكون على الْحَقِيقَة الَّتِي هِيَ عِنْد الله فِي هَذَا الْوَقْت، وَقد يكون على مَا يُوافى بِهِ العَبْدُ.

وَأمَّا كَلَام أبي الْعَبَّاس فَظَاهرٌ فِي أَنَّه رَاعى الخاتمة، فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ الْقدرُ السَّابِق لَا يُنافي الْأَسْبَاب، فَمَا وَجه مَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة ؟

قَالَ: قلتُ: يَا رَسُول الله، إِنِّي رجلٌ شَابٌّ، وَأَنا أَخَاف على نَفسِي الْعَنَتَ، وَلَا أجد مَا أَتزوّج بِهِ النِّسَاء. فَسكت عنِّي، ثمَّ قلتُ مثل ذَلِك، فَسكت عنِّي، ثمَّ قلتُ مثل ذَلِك، فَسكت عنِّي، ثمَّ قلتُ مثل ذَلِك، فَقَالَ النَّبِي ﷺ: يَا أَبَا هُرَيْرَة، جفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْت لَاقٍ، فاختص على ذَلِك أَو دع.

فَهَذَا يقتضي أَنَّ اختصاءه الَّذِي قصد أَن يمْتَنع بِهِ من الْفَاحِشَة لَا يَدْفع الْمَقْدُور.

وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح عَن أبي سعيدٍ الْخُدْرِيّ: أَنهم سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ عَن الْعَزْلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَا عَلَيْكُم أَن تَفعلُوا، فَمَا من نسمَةٍ كتب اللهُ أَن تكون إِلَّا وَهِي كائنةٌ، فَهَذَا يقتضي أنَّ عزل المَاء -وَهُوَ سَبَبٌ لعدم الْعُلُوق- لَا فَائِدَةَ فِيهِ لدفع مَا كتبه الله من الأولاد.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْن عَبَّاسٍ، وَهُوَ فِي مُسلمٍ عَن عمرَان بن حُصَيْن، وَهَذَا لَفظه: أَنَّ النَّبِي ﷺ قَالَ: يَدْخُل الْجنَّةَ من أُمَّتِي سَبْعُونَ ألفًا بِغَيْر حِسَابٍ، قَالَ: وَمَن هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: هم الَّذين لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يسْتَرقونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ، فَقَالَ عكاشةُ: ادْعُ الله يَجْعَلنِي مِنْهُم. قَالَ: أَنْتَ مِنْهُم، فَقَامَ رجلٌ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، ادْعُ الله أن يَجْعَلنِي مِنْهُم. فَقَالَ: سَبَقَك بهَا عكاشة.

فقد جعل التَّوَكُّل هَاهُنَا مُوجبًا لترك الاكتواء والاسترقاء، وهما من الْأَسْبَاب.

وَفِي "صَحِيح مُسلم" عَن عبدالله بن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَت أمُّ حَبِيبَة زوج النَّبِي ﷺ: اللَّهُمَّ أمتعني بزوجي رَسُول الله، وبأبي أبي سُفْيَان، وبأخي مُعَاوِيَة. قَالَ: فَقَالَ النَّبِي ﷺ: قد سَأَلتِ الله لآجالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وأرزاقٍ مقسومةٍ، لن يُعجل اللهُ شَيْئًا قبل أَجله، وَلنْ يُؤَخِّر شَيْئًا عَن أَجله، وَلَو كنتِ سَأَلتِ الله أَن يُعيذك من عَذَابٍ فِي النَّار، أَو عَذَابٍ فِي الْقَبْر كَانَ خيرًا وَأفضل.

قَالَ: وَذُكرت عِنْدَه القِردة والخنازير: هِيَ من مسخٍ؟ فَقَالَ: إِنَّ الله لم يَجْعَل لمسخٍ نَسْلًا وَلَا عقبًا، وَقد كَانَت القِردةُ والخنازير قبل ذَلِك.

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ رجلٌ: يَا رَسُول الله، القِردة والخنازير هِيَ مِمَّا مُسخ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ الله لم يُهْلِك قومًا أَو يُعذِّب قومًا فَيَجْعَل لَهُم نَسْلًا.

فَهَذَا الحَدِيثُ أخبر فِيهِ أَنَّ الدُّعَاء -وَهُوَ من الْأَسْبَاب- لَا يُفِيد فِي إطالة الْأَعْمَار، ويُفيد فِي النَّجَاة من عَذَاب الْآخِرَة.

قيل: لَيْسَ كلُّ مَا يَظُنّهُ الْإِنْسَانُ سَببًا يكون سَببًا، وَلَيْسَ كلُّ سَبَبٍ مُبَاحًا فِي الشَّرِيعَة، بل قد تكون مضرّته أعظم من منفعَته فينتهي عَنهُ، وَلَيْسَ كلُّ سَبَبٍ مَقْدُورًا للْعَبد، فَالْعَبْد يُؤمَر بِالسَّبَبِ الَّذِي أحبَّه الله، وَيُؤذن لَهُ فِيمَا أذن اللهُ فِيهِ، مَعَ أمره بالتَّوكل على الله تَعَالَى، فَأَمَّا مَا لَا قُدرَة لَهُ فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّوَكُّل على الله، وَالدُّعَاء لَهُ، وَذَلِكَ من أعظم الْأَسْبَاب الَّتِي يُؤمَر بهَا العَبْدُ أَيْضًا.

وَمَا كَانَ من الْأَسْبَاب مُحرَّمًا -لرجحان فَسَاده على صَلَاحه- أَو غير نَافِعٍ لَا يُفِيد، بل يظنّ أَنه نَافِعٌ، فَإِنَّهُ لَا يُؤمر بِهِ أَيْضًا، فَلَا يُؤمر بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَمَا كَانَ فَسَاده راجحًا نهي عَنهُ.

وجماع الْأَمر أَنَّ الْأَسْبَاب: إِمَّا أَن تكون مقدورةً، أَو غير مقدورةٍ. فَغير الْمَقْدُور لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الدُّعَاء والتَّوكل، والمقدور: إِمَّا أَن يكون فَسَاده راجحًا، أَو لَا يكون. فَإِن كَانَ فَسَاده راجحًا نهي عَنهُ، وَإِن لم يكن فَسَاده راجحًا فيُنهى عَنهُ كَمَا يُنْهَى عَن إِضَاعَة المَال والعبث، وَأما السَّبَب الْمَقْدُور النَّافع مَنْفَعَةً راجحةً فَهُوَ الَّذِي ينفع وَيُؤمَر بِهِ، وَيُنْدَب إليه.

وأيضًا فينبغي أَنَّ التَّوَكُّل على الله من أعظم الْأَسْبَاب، فَرُبمَا كَانَ بعض الْأَسْبَاب يُضعف التَّوَكُّل، فَإِذا ترك ذَلِك كمل توكله، فَهَذَا التَّقْسِيم حاصرٌ، وَالْقَدر يأتي على جَمِيع الكائنات، وَبِهَذَا يتَبَيَّن فقه الْأَحَادِيث.

س: على هذا يكون الدُّعاء بـ"أمد الله عمرك" أو "أطال الله عمرك" يكون لا ينبغي؟

ج: لا، إذا قال: "على خير" مثلما في الحديث الأول مقدرة فلا حرج من الدّعاء، إذا قال: "على خير"، "فسح الله في أجلك على خير، أو على هدى، أو على صلاحٍ، أو على الإسلام"، أو ما أشبه ذلك؛ لأنه قد يمده الله بعمرٍ على شرٍّ.

فالحاصل أنَّ الأسباب أقسام مثلما قال المؤلفُ رحمه الله:

أسباب مُحرَّمة لا يجوز تعاطيها: كالتَّداوي بالمحرَّمات، والدعاء بالإثم وقطيعة الرحم، وأشباه ذلك.

وهناك أسباب جائزة، لكنها مكروهة، مثل: الكي، هذا تركه أولى، إلا عند الحاجة، عند عدم وجود أسبابٍ أخرى: آخر الطبّ الكي؛ ولهذا قال: ما أُحبّ أن أكتوي، مع أنه قال: الشِّفاء في ثلاثةٍ: كيَّة نارٍ، أو شرطة محجمٍ، أو شربة عسلٍ، وما أُحبّ أن أكتوي، وأنهى أمتي عن الكيِّ، فالاكتواء آخر الطب.

ومنها أسباب مشروعة: كالطاعات: طاعة الله، والاستقامة على أمره، فهي أسباب دخول الجنَّة، وترك المعاصي التي هي من أسباب دخول النار، هذه مشروعة، بل واجبة.

ومنها أسباب مُباحة، مثل: التَّداوي بالمباح، وعند الجمهور أنها مُستحبَّة: التَّداوي المباح، والأكل، والشرب، ونحو ذلك مما تكون فيه مصلحة العبد، وقد يجب إذا كان يخشى بتركه الموت.

فهي متعددة الأسباب، فيستعمل منها ما كان مباحًا، أو مشروعًا، أما ما كان مكروهًا فتركه أولى: كالكي، إلا عند الحاجة، عند عدم وجود دواءٍ آخر، والاسترقاء وسؤال الناس المساعدات مهما أمكن الاستغناء عنهم، فلا يسأل، وهناك أسباب مشروعة مأمورٌ بها: إما أمر وجوبٍ: كالطاعات الواجبة. وإما أمر استحبابٍ: كالنَّوافل ونحوها.

س: شفاء أمتي في ثلاثٍ هذا حديث؟

ج: رواه البخاري في "الصحيح".

س: ترك التَّداوي هل يُقال: أفضل من التَّداوي؟

ج: للعلماء فيه أربعة أقوال، أحسنها وأصحّها أنه مشروع، ومن الأسباب المباحة، وقال قومٌ: تركه أولى. وقال قومٌ: مستوي الطرفين. وقال بعضُهم: مكروه. والصواب أنَّه مستحبٌّ؛ لأنَّ الرسول ﷺ تداوى، وداوى أصحابه عليه الصلاة والسلام، ورقى، ورُقِيَ، وقال: عباد الله، تداووا.

س: الذي دعت به المرأةُ في الحديث الآنف الذِّكر، من أي الأقسام؟

ج: كأنه من الأقسام المفضولة؛ لأنه قال: كان أفضل، كان خيرًا لكِ وأفضل.

...............

س: قوله ﷺ: ما لم يَدْعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ المعنى؟

ج: الإثم يدعو بمعصيةٍ، يقول: اللهم العنه، اللهم أخزه. وقطيعة الرحم: اللهم افعل بفلانٍ، اللهم اقتله، اللهم شدد عليه، على أخيه، أو أبيه، أو عمِّه. يكون فيه قطيعة رحمه.

أما حَدِيث الاختصاء: فَإِنَّ الاختصاء مُحرَّمٌ لرجحان مفسدته، وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن سعد بن أبي وَقَّاصٍ قَالَ: زجر رَسُولُ الله ﷺ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ عَن التَّبتل، وَلَو أذن له لاختصينا.

وَبَيَّن النَّبِيُّ ﷺ أَنه مَعَ ركُوب الاختصاء الْمُحرم لَا يسلم من الزِّنَا، بل لَا بُدَّ أَن يفعل مَا كُتب عَلَيْهِ مِنْهُ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: كتب اللهُ على ابْنِ آدم حَظَّه من الزِّنَا، فَهُوَ مُدركٌ ذَلِك لَا محَالةَ؛ فالعينان تزنيان، وزناهما النّظر، وَاللِّسَان يَزْنِي، وزناه المنطق، والأذنان تزنيان، وزناهما الِاسْتِمَاع، وَالْيَد تَزني، وزناها الْبَطْش، وَالرِّجْل تَزني، وزناها الخُطا، وَالنَّفس تتمنَّى، والفرج يُصدِّق ذَلِك أَو يُكذِّبهُ.

وَأما حَدِيث الْعَزْل: فالعزل لَا يمْنَع انْعِقَاد الْوَلَد، وَلَا تَركه يُوجِب الْولادَة؛ وَلِهَذَا لَو عزل عَن سريته وَأَتَتْ بِولدٍ أُلحق بِهِ، فَإِنَّ المَاء سبَّاق، مَعَ مَا فِيهِ من ترك لَذَّة الْجِمَاع، فَأخْبر النَّبِي ﷺ بِأَنَّ الْوَلَد الْمَكْتُوب يكون، عزلت أَو لم تعزل، كَمَا قَالَ، لَيْسَ من كل المَاء يكون الْوَلَدُ، فَلَا يكون تركُ الْعَزْل سَببًا للولادة، وَلَا الْعَزْل سَببًا لمنعها، وَالْقَدر مَاضٍ بالأمرين، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.

وَمثل هَذَا مَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه نهى عَن النَّذر وَقَالَ: لَا يَأْتِي بِخَيرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل، فَأخْبر أَنَّ النَّذرَ لَيْسَ من الْأَسْبَاب الَّتِي تجتلب بهَا الْمَنْفَعَة، وتدفع بهَا الْمضرَّة، وَلَكِن نلقيه إِلَى مَا قدر لَهُ، فَنهى عَنهُ لعدم فَائِدَته.

وَأما حَدِيث السَّبْعين ألفًا: فَلم يصفهم بترك سَائِر التَّطبب، وَإِنَّمَا وَصفهم بترك الاكتواء والاسترقاء، والاكتواء مَكْرُوهٌ، وَقد نهى عَنهُ ﷺ فِي غير هَذَا الحَدِيث، لما قَالَ: وَأَنا أنهى أمَّتِي عَن الكي، والمسترقي لم يفعل شَيْئًا إِلَّا اعْتِمَاده على الراقي، فتوكله على الله سُبْحَانَهُ وَحده لَا شريكَ لَهُ أَنْفَعُ لَهُ من ذَلِك.

وَهَذَا الْجَوابُ الآخر -وَهُوَ أن المسترقي يُضعف توكُّله على الله- فَإِنَّهُ إِنَّمَا طلب دُعَاء الْغَيْر ورُقيته، فاعتماد قلبه على الله وَحده وتوكله عَلَيْهِ أكمل لإيمانه، وأنفع لَهُ.

وَأما حَدِيث أمّ حَبِيبَة: فَفِيهِ أَنَّ الدُّعَاء يكون مَشْرُوعًا نَافِعًا فِي بعض الْأَشْيَاء دون بعضٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ؛ وَلِهَذَا لَا يُحبّ الله الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاء، فالأعمار الْمُقدرَة لم يُشرع الدُّعَاء بتغييرها، بِخِلَاف النَّجَاة من عَذَاب الْآخِرَة؛ فَإِنَّ الدُّعَاء مَشْرُوعٌ لَهُ، نَافِعٌ فِيهِ.

وَقد كتبتُ مَسْأَلَة زِيَادَة الْعُمر بصلَة الرَّحِم فِي غير هَذَا الْمَوضع، وَلَا يَلْزم من تَأْثِير صلَة الرَّحِم وَنَحْو ذَلِك أَن يزِيد الْعُمر، كَمَا قد يُقَال بِزِيَادَة الْعُمر بتأثير الدُّعَاء؛ وَلذَلِك كَانَ يكره أَحْمدُ أَن يُدعى لَهُ بطول الْعُمر، وَيَقُول: هَذَا فُرغ مِنْهُ.

ثمَّ ذكر مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَة: قَالَ أَبُو الْقَاسِم: سَمِعتُ الشَّيْخ أَبَا عبدالرَّحْمَن السّلمي رَحمَه الله يَقُول: سَمِعتُ مَنْصُور بن عبدالله يَقُول: سَمِعتُ أَبَا الْحسن العنبري يَقُول: سَمِعتُ سهل بن عبدالله التُّستري يَقُول: ينظر إِلَيْهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنُونَ بأبصارٍ من غير إحاطةٍ وَلَا إِدْرَاك نِهَايَةٍ.

وَهَذَا الْكَلَام من أحسن الْكَلَام، وَكَلَام سهل بن عبدالله فِي السُّنة وأصول الاعتقادات أَسدّ وأصوب من كَلَام غَيره، وَكَذَلِكَ الفُضيل بن عِيَاضٍ وَنَحْوه، فَإِنَّ الَّذين كَانُوا من الْمَشَايِخ أعلم بِالْحَدِيثِ وَالسُّنة وَأتبع؛ لذَلِك هم أعظم علمًا وإيمانًا، وَأجلُّ قدرًا فِي ذَلِك من غَيرهم.

وَقَول سهل: (وَلَا إِدْرَاك نِهَايَة) يتَضَمَّن شَيْئَيْنِ:

أَحدهمَا: نفي الْإِدْرَاك الَّذِي نَفَاهُ اللهُ عَنهُ يجمع بَين مَا أثْبَته الْكتابُ وَالسُّنة وَمَا نَفَاهُ.

وَالثَّانِي: أَنه نفى إِدْرَاك النِّهَايَة، وَلم يَنْفِ نفس النِّهَايَة، وَهَذَا فِي الظَّاهِر يُخَالِف قَول أبي الْقَاسِم: "لَا حدَّ لذاته".

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم: قَالَ أَبُو الْحُسَيْن النّوري: شَاهد الْحقُّ الْقُلُوبَ، فَلم يرَ قلبًا أشوق إِلَيْهِ من قلب مُحَمَّدٍ ﷺ، فَأكْرمه بالمعراج؛ تعجيلًا للرؤية والمكالمة.

وقصده بِهَذِهِ الْحِكَايَة: إِثْبَات رُؤْيَة مُحَمَّدٍ ﷺ ربَّه لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَهَذَا هُوَ قَول أَكثر أهل السّنة: أَنه رأى ربَّه بفُؤاده.

ثمَّ ذكر مَا جَاءَ فِي الْعُلُوّ فَقَالَ: سَمِعتُ الإِمَامَ أَبَا بكر مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك يَقُول: سَمِعتُ مُحَمَّد بن المحبوب -خَادِم أبي عُثْمَان المغربي- يَقُول: قَالَ لي أَبُو عُثْمَان المغربي يَوْمًا: يَا مُحَمَّد، لَو قيل لَك: أَيْن معبودك؟ أيش تَقول؟ قلت: أَقُول: حَيْثُ لم يزل. قَالَ: فَإِن قَالَ: فَأَيْنَ كَانَ فِي الْأَزَل؟ أيش تَقول؟ قلتُ: أَقُول: حَيْثُ هُوَ الآن. قَالَ: يَعْني أَنه كَانَ وَلَا مَكَان، فَهُوَ الآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ. فارتضى مني ذَلِك، وَنزع قَمِيصَه وأعطانِيه.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: سَمِعتُ أَبَا بكر ابن فورك يَقُول: سَمِعتُ أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول: كنتُ أعتقد شَيْئًا من حَدِيث الْجِهَة، فَلَمَّا قدمتُ بَغْدَاد زَالَ ذَلِك عَن قلبِي، فَكتبتُ إِلَى أَصْحَابنَا بِمَكَّة أَني أسلمتُ الآن إسلامًا جَدِيدًا.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام الَّذِي ذكره عَن أبي عُثْمَان كَلَامٌ مُجملٌ، لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ على أنه كَانَ يَقُول: لَيْسَ فَوق السَّمَاوَات ربّ، وَلَا هُنَاكَ إِلَهٌ. كَمَا يَقُول مَن يَقُول: إِنَّ الله لَيْسَ فَوق الْعَرْش.

وَقد يُعبر عَن ذَلِك بَعضُهم بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجِهَة، بل إِقْرَاره لِخَادِمِهِ على جَوَاب السَّائِل لَهُ: أَيْن معبودك؟ يُخَالف مَا ذكره أَبُو الْقَاسِم الَّذِي قَالَ فِي خُطْبَة كِتَابه: تَعَالَى عَن أن يُقَال: كَيفَ هُوَ؟ أَو أَيْن هُوَ؟

فَلَو أَرَادَ مَا ذكره أَبُو الْقَاسِم لقَالَ: لَا يُقَال: أَيْن هُوَ؟ بل قَالَ: حَيْثُ لم يزل. وَهَذَا لَا يُوَافق قَول مَن يَقُول: لَيْسَ بداخل الْعَالم وَلَا خَارجه، وَلَا هُوَ فَوق الْعَرْش، وَلَا فِي جِهَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْله "حَيْثُ لم يزل" إخْبَاره بِأَنَّهُ حَيْثُ لم يزل، وَ"حَيْثُ" ظرفٌ من ظروف الْمَكَان، لَا يُطلَق إِلَّا على الْجِهَة والحيز، وَعند النُّفاة لَا يُقَال: حَيْثُ لم يزل، وَلَا كَانَ فِي الْأَزَل بِحَيْثُ.

الشيخ: وهذه الأشياء من أخطاء الصوفية أو بعض العُبَّاد لأجل قلة العلم؛ ولهذا أخطأوا في هذا، ولم ينتبهوا للحقِّ والصواب في إثبات العلو لله ، ووفق اللهُ أهلَ السنة والجماعة وعرفوا الحقَّ بأدلة الكتاب والسنة، وأنَّ الله سبحانه فوق العرش، فوق جميع الخلق في جهة العلو، وأنه سبحانه استوى على عرشه، وهذا أمرٌ واضحٌ، من أعظم الواضحات، ومن أبين الأشياء، ولكن مَن حاد عن الكتاب والسنة، وأخذ علومه عن أهل الكلام، وأصحاب الكلام، والقيل والقال، تلتبس عليه الأمور، ويضيع عليه الحقّ، نسأل الله السلامة، حتى يقبل ما لا ينبغي أن يُقال.

وأهل الحقِّ من أهل السنة والجماعة الذين أملَوا عقيدتهم على الكتاب والسنة وُفِّقوا للحقِّ من غير تكلُّفٍ ولا تعبٍ، مع أنهم على أمرٍ واضحٍ لا ريبَ فيه، ولا شكَّ فيه، وهو أنه فوق العرش، فوق جميع خلقه على الوجه اللائق به عزَّ وجلَّ.

س: قوله: رآه بفؤاده؟

ج: يعني: علمه، من باب الرؤية التي هي العلم، علم القلب.

س: ................؟

ج: مثلما قال: ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة مثلما قال النبيُّ ﷺ؛ لأنَّ العزلَ لا يمنع وجود الولد، وإن كان ليس مثل العزل له نوع تسبب، لكنه لا يمنع، نعم.

س: ................؟

ج: ..... بالزنا نفسه، الزنا الذي هو الجماع، لكن ما يسقط زنا العين وزنا اليد، فإنَّ لها آثامها.

س: تعاطي بعض حبوب منع الحمل يُقاس على العزل؟

ج: لا، فيه تفصيل، هو من الأسباب، فيه تفصيل؛ إذا دعت الحاجةُ إليه لا بأس: إما مرضها، أو مرض رحمها، أو خطر عليها، أو توالي الأولاد عليها حتى لا تستطيع التربية، فتأخذ بعض الحبوب ..... إذا كان ما فيها ضرر، وإذا قرر الأطباء أن ما فيها ضرر، ووافق الزوج.

ومثلما كانت الأسباب لا تمنع، حتى الحبوب لا تمنع، إذا أراد اللهُ شيئًا تمَّ.

وَكَذَلِكَ قَوْله: (فَإِن قَالَ: فَأَيْنَ كَانَ فِي الْأَزَل؟ فَقَالَ: أقول: حَيْثُ الْآن) لَا يَسْتَقِيم عِنْد مَن ينفي الْجِهَة، فَإِنَّهُ لَا يُقَال: أَيْن كَانَ فِي الْأَزَل؟ وَلَا يُقَال: حَيْثُ الْآن. بل هَذَا السُّؤال وَالْجَوَاب مُمْتَنعٌ عِنْدَهم، وَإِن كَانُوا فِي ذَلِك مُخالفين للنصوص وَإِجْمَاع السّلف وأئمة الدِّين، فَإِنَّ النَّبِي ﷺ سَأَلَ بأين، فَقَالَ: أَيْن الله؟ فَقَالَ لَهُ الْمَسْؤُول: فِي السَّمَاء. فَحكم بإيمان مَن قَالَ ذَلِك. وَكَذَلِكَ سُئِلَ فَقيل لَهُ: أَيْن كَانَ رَبنَا قبل أن يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض؟ فَأجَاب عَن ذَلِك، وَلَكِن جَوَاب أَبي عُثْمَان يُوَافق قَول أهل الْإِثْبَات، وهم أهل الْفِطْرَة الْعَقْلِيَّة السَّليمة من الأوَّلين والآخرين الَّذين يَقُولُونَ: إِنَّه فَوق الْعَالم، إِذْ الْعِلم بذلك فطري، عقلي، ضَرُورِيّ، لَا يتَوَقَّف على سمعٍ.

أما الْعِلم بِأَنَّهُ اسْتَوَى على الْعَرْش بعد أن خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّامٍ، فَهَذَا سَمْعِي، إِنَّمَا عُلم من جِهَة أَخْبَار الْأَنْبِيَاء؛ وَلِهَذَا شرع اللهُ تَعَالَى لأهل الْمِلَل الِاجْتِمَاع كل أُسْبُوعٍ يَوْمًا وَاحِدًا؛ ليَكُون الْأُسْبُوع الدَّائر دَلِيلًا على الْأُسْبُوع الَّذِي خلق اللهُ فِيهِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض، ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش؛ وَلِهَذَا لَا يُعرف الْأُسْبُوع إِلَّا من جِهَة أهل الْكُتب الإلهية، بِخِلَاف الْيَوْم فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بالحسِّ، وَكَذَلِكَ الشَّهْر وَالسَّنة يُعلم بالحسِّ وسير القمر، فَيُعلم بالحسِّ والحساب، وَأما الْأُسْبُوع فَلَيْسَ لَهُ سَبَبٌ حسيّ، وَكَذَلِكَ لَا يُوجد لأيام الْأُسْبُوع ذكرٌ عِنْد الْأُمَم الَّذين لَا كتابَ لَهُم، وَلَا أخذُوا عَن أهل الْكُتب: كالتُّرك البَاقِينَ فِي بواديهم، فِي لغتهم اسْمُ الْيَوْم والشَّهر وَالسَّنة دون أَيَّام الْأُسْبُوع، بِخِلَاف الْفُرس وَنَحْوهم مِمَّن أَخذ عَن الْمُرْسلين، فَإِنَّ فِي لغتهم أَيَّام الْأُسْبُوع.

وَأهل الْإِثْبَات مُنازعون.

الشيخ: مُتنازعون، ساقطة التاء.

س: رقية الإنسان لنفسه؟

ج: المكروه الطَّلب، أما الرُّقية فهي مُستحبَّة: مَن استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه من دون طلبٍ، يرقي نفسه، أو يرقي غيره من دون طلبٍ، وهكذا الطَّلب عند الحاجة، إذا دعت الحاجةُ قد أمر النبيُّ ﷺ أسماء أن تسترقي لأولاد جعفر.

س: تكون للاستحباب في هذه الحالة؟

ج: نعم، النبي رقى نفسه، ورقى غيره.

س: بيع الرُّقى، رُقى مكتوبة تُباع؟

ج: ما أعرف لهذا أصلًا، ما ينبغي هذا، بيعها ما ينبغي هذا، أما كون الإنسان يرقي أخاه لا بأس، أما بيعها ما أعرف له أصلًا، قد يكون الكاتبُ لا خيرَ فيه، ما يصلح هذا، ولا ينبغي.

س: ................؟

ج: إذا نفع أخاه فلا بأس.

س: في السؤال الأول يعني: في بعض الناس يعملون احتفالًا في ليلة سبعٍ وعشرين رجب، ويُسمونها: فضل المعراج؟

ج: هذا بدعة، كتبنا فيه، هذا مكتوبٌ فيه.

س: الثاني ما يُسمونه بمولد النبي ﷺ ويعملون حفلات؟

ج: كل هذه الاحتفالات: الاحتفال بالمولد، وليلة المعراج، كلها بدعة.

وَأهل الْإِثْبَات مُتنازعون فِي أَنَّ الاسْتوَاء هَل هُوَ مُجَرّد نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ بَين الله وَبَين الْعَرْش، من غير أَن يكون الْبَارِي تصرَّف بِنَفسِهِ بصعودٍ أَو علوٍّ وَنَحْو ذَلِك، أَو هُوَ يتَصَرَّف بِنَفسِهِ، وَأَنَّه اسْتَوَى على الْعَرْش بعد أَن لم يكن مستويًا؟ وَكَذَلِكَ استواؤه إِلَى السَّمَاء ونزوله وَنَحْو ذَلِك، عَن قَوْلَيْنِ مشهورين:

وَالْأَوَّل: قَول كثيرٍ مِمَّن يمِيل إِلَى الْكَلَام، وَقَول طَائِفَةٍ من الْفُقَهَاء والصُّوفيَّة.

وَالثَّانِي: قَول أهل الحَدِيث، وَقَول كثيرٍ من أهل الْكَلَام وَالْفُقَهَاء والصُّوفيَّة.

فَكَلَام أبي عُثْمَان ظَاهِره يُوَافق القَوْلَ الأولَ، وَأمَّا الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدهُ فِي الْجِهَة ثمَّ رَجَعَ عَنهُ فَهُوَ أَمرٌ مُجملٌ لم يذكرهُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ يعْتَقد من التَّجسيم والتَّمثيل مَا يَقُوله أهلُ الضَّلال من الرافضة والمجسمة، فَرجع عَن ذَلِك، فَإِنَّ هَذَا مُمكنٌ، وَلَعَلَّه كَانَ يعْتَقد أَنَّ الباري تَعَالَى مَحْصُورٌ فِي السَّمَاوَات، تُظلّه وتقرّه، وَأَنه مُفتقرٌ إِلَى عرشٍ يحملهُ، فَرجع عَن ذَلِك.

وَأعظم مَا يُقَال: إِنَّه كَانَ يعْتَقد أَنَّ الاسْتوَاء من الصِّفَات الفعلية المتجددة، أَنه يَفْعَله بِنَفسِهِ. ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك إِلَى أَنه على مَا كَانَ عَلَيْهِ، مَعَ كَونه مُستويًا على الْعَرْش، لكنه خلق الْعَرْش بعد أَن لم يكن مخلوقًا، فَيَلْزم أَن يكون مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ فَوق الْعَرْش، وَهَذَا يَقُوله كثيرٌ من المثبتة، وَإِن كَانَ هَذَا لَيْسَ مَوضِع الْكَلَام فِيهِ.

فَأَمَّا أَن يُقَال: إِنَّ أَبَا عُثْمَان رَجَعَ عَن اعْتِقَاد علو الله على خلقه، وَأَنه سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَن مخلوقاته، عَالٍ عَلَيْهِم، فَلَيْسَ فِي كَلَامه مَا يُفهم مِنْهُ ذَلِك بِحَالٍ، ثمَّ لو فُرض أَنَّ أَبَا عُثْمَان قَالَ قولًا فِيهِ غلطٌ، لم يصلح أَن يُجْعَل ذَلِك أصلًا لاعتقاد الْقَوْم، فَإِنَّ كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ الْمُصَرّح بِأَنَّ الله فَوق الْعَرْش كثيرٌ مُنتشرٌ، فَإِذا وُجد عَن بَعضهم مَا يُخَالف ذَلِك كَانَ ذَلِك خلافًا لَهُم.

والصُّوفية يُوجد فيهم الْمُصِيب والمخطئ، كَمَا يُوجد فِي غَيرهم، وَلَيْسوا فِي ذَلِك بِأَجلّ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَلَيْسَ أحدٌ مَعْصُومًا فِي كلِّ مَا يَقُوله إِلَّا رَسُول الله ﷺ.

نعم، وُقُوع الْغَلَط فِي مثل هَذَا يُوجِب مَا نقُوله دَائِمًا: إِنَّ الْمُجْتَهد فِي مثل هَذَا من الْمُؤمنِينَ إِن استفرغ وَسعه فِي طلب الْحقِّ؛ فَإِنَّ الله يَغْفر لَهُ خطأه، وَإِن حصل مِنْهُ نوعُ تَقْصِيرٍ فَهُوَ ذَنْبٌ لَا يجب أن يبلغ الْكُفْر، وَإِن كَانَ يُطلق القَوْل بِأَنَّ هَذَا الْكَلَام كفرٌ، كَمَا أطلق السَّلفُ الْكُفْرَ على مَن قَالَ بِبَعْض مقالات الْجَهْمِية، مثل: القَوْل بِخلق الْقُرْآن، أَو إِنْكَار الرُّؤْيَة، أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ دون إِنْكَار علو الله على الْخَلق، وَأَنَّه فَوق الْعَرْش، فَإِنَّ تَكْفِير صَاحب هَذِه الْمقَالة كَانَ عِنْدَهم من أظهر الْأُمُور، فَإِنَّ التَّكْفِير الْمُطلق مثل الْوَعيد الْمُطلق، لَا يَسْتَلْزم تَكْفِير الشَّخْص الْمُعين حَتَّى تقوم عَلَيْهِ الْحُجَّة الَّتِي تُكفر تاركها.

كَمَا ثَبت فِي الصِّحَاح عَن النَّبِي ﷺ فِي الرَّجل الَّذِي قَالَ: إِذا أَنا متّ فأحرقوني، ثمَّ اسحقوني، ثمَّ ذروني فِي اليمِّ، فوَاللَّه لَئِن قدر الله عليَّ ليُعذبني عذَابًا لَا يُعذبه أحدًا من الْعَالمين. فَقَالَ الله لَهُ: مَا حملك على مَا فعلتَ؟ قَالَ: خشيتك. فغفر لَهُ.

فَهَذَا الرَّجل اعْتَقد أَنَّ الله لَا يقدر على جمعه إِذا فعل ذَلِك، أَو شكَّ، وَأَنه لَا يَبْعَثهُ، وكلٌّ من هذَيْن الاعتقادين كفرٌ يكفر مَن قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة، لكنَّه كَانَ يجهل ذَلِك، وَلم يبلغهُ الْعِلم بِمَا يردّهُ عَن جَهله، وَكَانَ عِنْدَه إِيمَانٌ بِاللَّه وبأمره وَنَهْيه ووعده ووعيده، فخاف من عِقَابه، فغفر اللهُ لَهُ بخشيته.

فَمَن أَخطَأ فِي بعض مسَائِل الِاعْتِقَاد من أهل الْإِيمَان بِاللَّه وبرسوله وباليوم الآخر وَالْعَمَل الصَّالح لم يكن أَسْوَأ حَالًا من الرجل، فَيَغْفر اللهُ خطأه، أَو يُعذبه إِن كَانَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي اتِّبَاع الْحقِّ على قدر دينه، وَأما تَكْفِير شخصٍ عُلم إيمَانه بِمُجَرَّد الْغَلَط فِي ذَلِك فعظيمٌ؛ فقد ثَبت فِي "الصَّحِيح" عَن ثَابت بن الضَّحَّاك، عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: لعنُ الْمُؤمن كقتله، وَمَن رمى مُؤمنًا بالْكُفْر فَهُوَ كقتله.

وَثَبت فِي "الصَّحِيح" أَنَّ مَن قَالَ لِأَخِيهِ: "يَا كَافِر" فقد بَاء بِها أَحدهمَا.

وَإِذا كَانَ تَكْفِيرُ الْمُعين على سَبِيل الشَّتم كقتله، فَكيف يكون تكفيرُه على سَبِيل الِاعْتِقَاد؟! فَإِنَّ ذَلِك أعظم من قَتله، إِذْ كل كَافِرٍ يُبَاح قَتله، وَلَيْسَ كلُّ مَن أُبِيح قَتله يكون كَافِرًا، فقد يُقتل الدَّاعِي إِلَى بِدعَةٍ لإضلاله النَّاس وإفساده، مَعَ إِمْكَان أَنَّ الله يَغْفر لَهُ فِي الْآخِرَة؛ لما مَعَه من الْإِيمَان، فَإِنَّهُ قد تَوَاتَرَت النُّصُوصُ بِأَنَّهُ يخرج من النَّار مَن فِي قلبه مِثْقَال ذرَّةٍ من إِيمَانٍ.

وَقد رَوَاهُ مُسلمٌ فِي "صَحِيحه" عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: بَينا جِبْرِيل قَاعِدًا عِنْد النَّبِي ﷺ إِذْ سمع نقيضًا من فَوْقه، فَرفع رَأسَه فَقَالَ: هَذَا بَابٌ من السَّمَاء فُتِحَ الْيَوْم، لم يُفتح قطّ إِلَّا الْيَوْم، فَنَزل مِنْهُ ملكٌ، فَقَالَ: هَذَا ملكٌ نزل إِلَى الأَرْض، لم ينزل قطّ إِلَّا الْيَوْم، فَسلَّم وَقَالَ: أبشر بنورين أُوتِيتهُمَا، لم يُؤتهما نَبِيٌّ قبلك: فَاتِحَة الْكتاب، وخواتيم سُورَة الْبَقَرَة، لن تَقْرَأ بِحرفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعطيته.

وَفِي "صَحِيح مُسلم" عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: لما نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، دخل فِي قُلُوبهم مِنْهَا شيءٌ لم يَدْخل قُلُوبَهم من شيءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: قُولُوا: سمعنَا وأطعنا، قَالَ: فَألْقى اللهُ الإيمانَ فِي قُلُوبهم، فَأنْزل اللهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قَالَ: قد فعلتُ.

وَكَلَام الْمَشَايِخ فِي مَسْأَلَة الْعُلُوِّ كثيرٌ مثلمَا ذكر مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي، الْحَافِظ، الصُّوفِي، الْمَشْهُور، الَّذِي صنَّف للصُّوفية كتاب "صفة التصوف"، وَ"مَسْأَلَة السماع"، وَغير ذَلِك، ذكر عَن الشَّيْخ الْجَلِيل أبي جَعْفَر الْهَمدَانِي: أَنه حضر مجلِس أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ وَهُوَ يَقُول: كَانَ اللهُ وَلَا عرشَ، وَهُوَ على مَا عَلَيْهِ كَانَ. أَو كلَامًا من هَذَا الْمَعْنى، فَقَالَ: يَا شيخ، دَعْنَا من ذكر الْعَرْش، أخبرنَا عَن هَذِه الضَّرُورَة الَّتِي نجدها فِي قُلُوبنَا؛ فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِفٌ قطّ: يَا الله، إِلَّا وجد من قلبه ضرورةً بِطَلَب الْعُلُوّ، وَلَا يَلْتَفت يمنةً ولا يسرةً، فَكيف ندفع هَذِه الضَّرُورَة عَن قُلُوبنَا؟! قَالَ: فَصَرَخَ أَبُو المعالي وَلَطم على رَأسه، وَقَالَ: حيَّرني الهمداني، حيرني الْهَمدَانِي.

وَقَالَ الإِمَامُ الْعَارِفُ معمر بن أَحْمد الأصبهاني شيخ الصُّوفِيَّة فِي أَوَاخِر الْمِئَة الرَّابِعَة قبل الْقُشيرِي فِي رِسَالَةٍ لَهُ: أَحْبَبْتُ أَن أُوصي أَصْحَابِي بِوَصِيَّةٍ من السُّنة، وموعظةٍ من الْحِكْمَة، وَأجْمَع مَا كَانَ عَلَيْهِ أهلُ الحَدِيث والأثر، وَأهل الْمَعرفَة والتَّصوف من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين.

قَالَ فِيهَا: وإنَّ الله اسْتَوَى على عَرْشِه بِلَا كَيف، وَلَا تَشْبِيه، وَلَا تَأْوِيل، والاستواء مَعْقُولٌ، والكيف فِيهِ مَجْهُولٌ، وَأَنه عزَّ وَجلَّ مُستوٍ على عَرْشِه، بَائِنٌ من خلقه، والخلق بائنون مِنْهُ بِلَا حُلُولٍ، وَلَا مُمازجةٍ، وَلَا اخْتِلَاطٍ، وَلَا مُلاصقةٍ؛ لِأَنَّهُ الْفَرد، الْبَائِن من الْخَلق، الْوَاحِد، الْغَنِيّ عَن الْخَلق، وَأَنَّ الله سميع، بَصِير، عليم، خَبِير، يتَكَلَّم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلَّى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ضَاحِكًا، وَينزل كل لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كَيفَ شَاءَ، فَيَقُول: هَل من دَاعٍ فأستجيب لَهُ؟ هَل من مُسْتَغْفِرٍ فأغفر لَهُ؟ هَل من تائبٍ فأتوب عَلَيْهِ؟ حَتَّى يطلع الْفجْرُ، ونزول الربّ إِلَى السَّمَاء بِلَا كَيف، وَلَا تَشْبِيه، وَلَا تَأْوِيل، فَمَن أنكر النُّزُولَ أَو تَأَوَّل فَهُوَ مُبْتَدعٌ، ضالٌّ.

الشيخ: وكلام معمر هذا كلام طيب، كلام مُوافق لكلام السَّلف -سلف الأمة- وهذا هو الحقّ: أنَّ إثبات الاستواء على العرش استواء يليق بجلال الله، لا يُشابه خلقه في شيءٍ من صفاته، وهو استواء بلا كيف، لا يعلم كيفيته إلا هو ، وهكذا رضاه، وغضبه، ونزوله، وغير ذلك، كلٌّ يجب إثباته لله على الوجه اللائق بالله، بلا كيف .

ثمَّ ذكر كَلَامَهم فِي الْقَدر: قَالَ أَبُو الْقَاسِم: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السّلمي يَقُول: سَمِعتُ أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول، وَقد سُئِلَ عَن الْخَلق فَقَالَ: قوالب وأشباح تَجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَامُ الْقُدْرَة.

قَالَ: وَقَالَ الوَاسِطِيّ: لما كَانَت الْأَرْوَاح والأجساد قامتا بِاللَّه، وظهرتا بِهِ، لَا بذواتها، كَذَلِك قَامَت الخطرات والحركات بِاللَّه، لَا بذواتها؛ إِذِ الخطرات والحركات فروع الأجساد والأرواح.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: صرَّح بِهَذَا الْكَلَام أَنَّ أكسابَ الْعِباد مخلوقة لله، وكما أَنَّه لَا خَالقَ للجواهر إِلَّا الله، فَكَذَلِك لَا خَالقَ للأعراض إِلَّا الله.

وَهَذَا الَّذِي قَالَه صَحِيحٌ، وَهُوَ مُتَّفقٌ عَلَيْهِ بَين الْمَشَايِخ، لَا يُعرف مِنْهُم مَن أنكر شَيْئًا من أصُول السُّنة فِي مسَائِل الْقَدر.

وَقَالَ: سَمِعتُ الشَّيْخ أَبَا عبدالرَّحْمَن السَّامِي يَقُول: سَمِعتُ مُحَمَّد بن عبدالله: سَمِعتُ أَبَا جَعْفَر الصيدلاني: سَمِعتُ أَبَا سعيدٍ الخراز يَقُول: مَن ظنَّ أَنه ببذل الْجُهد يصل فمُتَعَنٍّ، وَمَن ظنَّ أَنه بِغَيْر الْجُهد يصل فمُتَمَنٍّ.

وَهَذَا كَلَامٌ حسنٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الحَدِيث الصَّحِيح: احرص على مَا ينفعك، واستعن بِاللَّه، وَلَا تعجز، وَإِن أَصَابَك شيءٌ فَلَا تقل: لَو أَنِّي فعلتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِن قل: ما قدر الله، وَمَا شَاءَ فعل.

الشيخ: قل: "قدر الله"، "ما" زائدة، غلط، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل.

ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل.

الشيخ: يعني: هذا قدر الله، ويحتمل أن يُقال: قدَّر الله، يعني: قدَّر الله هذا، والمفعول محذوف، والمقصود أنَّ "ما" هذه ما لها محل، رواه مسلم في "الصحيح" بدون "ما".

ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فَإِنَّ لو تفتح عمل الشَّيْطَان.

وَقَالَ: لن يُدْخل أحدًا عملُه الْجنَّة، قَالُوا: وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَلَا أَنا، إِلَّا أَن يتغمَّدني الله بفضله وَرَحمته.

الشيخ: والمعنى أنَّ مَن بذل الجهد يصل بتوفيق الله ورحمته، لا بمجرد بذله جهده هو، إنما بذل الجهد من أسباب التوفيق والهداية، عليه بذل الجهد، وعليه العناية، وعليه الحرص، وأما كونه يصل ويُوفق فهذا إلى الله جلَّ وعلا، لكن من أسباب ذلك أنه يبذل المستطاع، ومن سنة الله ومن رحمته وفضله أنه يُوفِّق مَن اجتهد وطلب الحقَّ، ولكن مثلما قال في الحديث الصحيح: لن يدخل الجنةَ أحدٌ منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منه وفضل.

فدخول الجنَّة، والنَّجاة من النار، وقبول الأعمال فضلٌ من الله ، لكن مَن أعرض وغفل فقد هلك، كما قال جلَّ وعلا: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، هذه باء السَّبب، يعني: بأسباب الأعمال، ولكن التَّوفيق بيد الله، وهو الذي يُوفق، وهو الذي يهدي، وهو الذي يقبل، وهو الذي يتفضل بإدخال الجنَّة، والنَّجاة من النار.

ثمَّ قَالَ: وَقَالَ الوَاسِطِيّ: المقامات أَقسَام قُسمت، ونعوت أُجريت، كَيفَ تُستجلب بحركات، أَو تُنَال بسعايات؟!

وَهَذَا الْكَلَام الظَّاهِر لَيْسَ بجيدٍ، بل هُوَ مَرْدُودٌ، وَهَذِه الْمَسْأَلَة بِعَينهَا سُئِلَ عَنْهَا النَّبِيُّ ﷺ، كَمَا ثَبت عَنهُ فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح: من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، وعَلي بن أبي طَالب، وَغَيرهمَا، لما أخبر بِالْقَدرِ، فَقَالُوا: أَلا نَدَعُ الْعَمَلَ ونتَّكل على الْكِتاب؟ فَقَالَ: لَا، اعْمَلُوا، فَكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن عَليّ بن أبي طَالبٍ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيع الْغَرْقَد، فَأَتَانَا رَسُولُ الله ﷺ، فَقعدَ، وقعدنا حوله، وَمَعَهُ مخصرة، فَنَكَّس وَجعل ينكت بمخصرته، ثمَّ قَالَ: مَا مِنْكُم من أحدٍ إِلَّا وَقد كُتب مَقْعَده من النَّار، ومقعده من الْجنَّة، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، أَفلا نَتَّكِل على كِتَابنَا؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا، فَكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ، أما مَن كَانَ من أهل السَّعَادَة فسيصير لعمل السَّعادة، وأما مَن كَانَ من أهل الشَّقَاء فسيصير لعمل الشَّقاء، ثمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5- 7].

الشيخ: يعني مَن أخذ بالأسباب الطيبة يُيسر لليُسرى ويُوفَّق، ومَن أخذ بالأسباب الأخرى يُيَسَّر للشَّقاء، نعوذ بالله، نسأل الله العافية.

الحاصل من هذا أنَّ القَدر سابقٌ، والعبد مأمورٌ ومنهيٌّ، وقد أعطاه اللهُ العقلَ والإرادةَ والمشيئةَ، فمَن استعمل ما أعطاه الله فيما يُرضي الله، واجتهد، وطلب من ربه التَّوفيق؛ يُسِّر لليُسرى، ووُفِّق، وحمد العاقبةَ، ومَن أعرض وغفل وتابع الهوى والشيطان يُيَسَّر للعُسرى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

وَفِي "الصَّحِيح" عَن عمرَان بن حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رجلٌ: يَا رَسُول الله، أيُعرف أهلُ الْجنَّة من أهل النَّار؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَلِمَ يَعْمل الْعَامِلُونَ؟! قَالَ: كلٌّ يَعْمل لما خُلِقَ لَهُ -أَو لما يُسِّر لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ.

وَفِي "صَحِيح مُسلم" من حَدِيث أبي الْأسود الديلي قَالَ: قَالَ لي عمرَانُ بن حُصَيْن: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمل النَّاسُ الْيَوْم ويكدحون فِيهِ، أشيءٌ قضى عَلَيْهِم وَمضى عَلَيْهِم من قدرٍ قد سبق، أَو فِيمَا يستقبلون مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيُّهم، وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم؟ فَقلتُ: بل شيء قضى عَلَيْهِم، وَمضى عَلَيْهِم. قَالَ: فَقَالَ: أَفلا يكون ظلمًا؟ قَالَ: فَفَزِعتُ من ذَلِك فَزعًا شَدِيدًا، وَقلتُ: كل شيءٍ خلق الله، وَملك يَده، فَلَا يُسْأَل عَمَّا يفعل وهم يُسْأَلُون. فَقَالَ لي: يَرْحَمك الله، إِنِّي لم أُرد بِمَا سَأَلتُك إِلَّا لأحزر عقلك، إِنَّ رجلَيْنِ من مُزينة أَتَيَا رَسُولَ الله ﷺ فَقَالَا: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمل النَّاسُ الْيَوْم ويكدحون فِيهِ، أشيءٌ قضى عَلَيْهِم وَمضى فيهم من قدرٍ قد سبق، أَو فِيمَا يستقبلون مِنْهُ مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيُّهم، وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم؟ قَالَ: لَا، بل شيء قضى عَلَيْهِم، وَمضى فيهم، وتصديق ذَلِك فِي كتاب الله: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7- 8].

وَفِي "السّنَن" حَدِيث عمر: أَنه سُئِلَ عَن تَفْسِير الْآيَة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172]، قَالَ عمرُ : سَمِعتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُول: إِنَّ الله خلقَ آدم، ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ، فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خلقتُ هَؤُلَاءِ للجنَّة، وبعمل أهل الْجنَّة يَعْملُونَ، ثمَّ مسح ظَهره، فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خلقتُ هَؤُلَاءِ للنَّار، وبعمل أهل النَّار يَعْملُونَ، فَقَالَ رجلٌ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُول الله؟! فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: إِنَّ الله إِذا خلق العَبْدَ للنار اسْتَعْمَلهُ بِعَمَل أهل النَّار، حَتَّى يَمُوت على عملٍ من أَعمال النَّار فَيَدْخل بِهِ النَّار، وَإِذا خلق العَبْدَ للجنَّة اسْتَعْمَلهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة، حَتَّى يَمُوت على عملٍ من أَعمال الْجنَّة، فيُدخله بِهِ الْجنَّة.

وَفِي "صَحِيح مُسلم" عَن جَابر بن عبدالله قَالَ: جَاءَ سُراقَة بن مَالك بن جُعْشم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، بَيِّن لنا ديننَا كأنَّا خُلقنَا الْآن، فيمَ الْعَمَلُ الْيَوْم؟ أفيما جَفَّتْ بِهِ الأقلامُ، وَجَرت بِهِ الْمَقَادِير، أم فِيمَا يسْتَقْبل؟ قَالَ: لَا، بل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأقلامُ، وَجَرت بِهِ الْمَقَادِير، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا، فَكلٌّ مُيَسَّرٌ، وفي لفظٍ: كلُّ عَاملٍ مُيَسَّرٌ لعمله.

وَفِي "السّنَن" عَن ابْن أبي خزامة، عَن أَبِيه.

الشيخ: انظر ابن أبي خزامة في "التقريب".

س: عن ذكر الرجل الذي أذنب ومات وأوصى أن يُحرق؟

ج: يعني أنه خفي عليه الأمر، خفي عليه كمالُ القُدرة، وجهل كمال قدرة الله، وظنَّ أنه بهذا يفوت الله، ولما كان الحاملُ له خشية الله وخوفه ومُراقبته غفر الله له؛ لأنه كان مُؤمنًا بالله مُوحِّدًا، لكن ظنَّ أنه بسبب المعاصي التي فعلها أو المعصية التي فعلها أو اعتقد أنها معصية خاف من ذلك.

س: ...............؟

ج: يعني أنَّ الإنسان قد يجهل، قد تخفى عليه بعض الأمور، وهو مُؤمن، فإذا كان خفيت عليه بعض الأمور، ولا قامت عليه الحجَّة يُعفا عنه.

الطالب: ابن أبي خزامة، عن أبيه. وقيل: عن أبي خزامة، عن أبيه. وهو الصَّحيح، مجهول، من الثالثة. الترمذي وابن ماجه.

الشيخ: يُراجع الترمذي في "الأدوية والطب" الحديث هذا.

مداخلة: ..... وقال الترمذي: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، كتاب "القدر" باب "ما جاء لا تردّ الرُّقى ولا الدَّواء من قدر الله شيئًا"، وانظر تعليق الترمذي، "سنن ابن ماجه": كتاب "الطب"، باب "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء".

الشيخ: والأسانيد؟

الطالب: ما ذكر.

الشيخ: يُراجع.

وَفِي "السّنَن" عَن ابْن أبي خزامة، عَن أَبِيه قَالَ: قلتُ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْتَ رُقًى نسترقيها، ودواءً نتداوى بِهِ، وتُقاةً نتَّقيها، هَل تردّ من قدر الله شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ من قدر الله.

فَهَذِهِ السُّنَن وَغَيرهَا تبين أَنَّ الله سُبْحَانَهُ وَإِن كَانَ قد تقدَّم علمه وكتابه وَكَلَامه بِمَا سَيكون من السَّعَادَة والشَّقاوة، فمما قدَّره أَن يكون ذَلِك بالأسباب الَّتِي قدَّرهَا، فالسَّعادة بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، والشَّقاوة بِالْفُجُورِ، وَكَذَلِكَ الشِّفَاء الَّذِي يُقدره للْمَرِيض يُقدره بالأدوية والرُّقى، وَكَذَلِكَ سَائِر مَا يُقدر من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

فَقَوْل الْقَائِل: كَيفَ تُستجلب الْأَقْسَام بالحركات؟ جَوَابه: أن الْأَقْسَام تناولت الحركات، كَمَا تناولت السَّعادات، وَالله تَعَالَى قدَّر أن يكون هَذَا بِهَذَا، فَإِذا ترك العَبْدُ الْعَمَلَ ظَانًّا أَنَّ السَّعَادَة تحصل لَهُ، كَانَ هَذَا التَّرْك سَببًا لكَونه من أهل الشَّقاوة.

وَهنا ضلَّ فريقان:

فريق كذَّبُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدر، وَصَدَّقُوا بِالْأَمر والنَّهي.

وفريق آمنُوا بِالْقضَاءِ والقدر، لَكِن قصروا فِي الْأَمر والنَّهي. وَهَؤُلَاء شَرٌّ من الْأَوَّلين؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ من جنس الْمُشْركين الَّذين قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]، وَأُولَئِكَ من جنس الْمَجُوس.

لَكِن إِذا عَنى بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ العَبْدَ لَا يتَّكِل على عمله، وَلَا يظنّ أَنه ينجو بسعيه، فَهَذَا معنى صَحِيح، فالأسباب الَّتِي من الْعِباد -بل وَمن غَيرهم- لَيست مُوجبَات: لَا لأمر الدُّنْيَا، وَلَا لأمر الْآخِرَة، بل قد يكون لَا بُدَّ مِنْهَا وَمن أُمُورٍ أُخْرَى من فضل الله وَرَحمته خَارِجَة عَن قُدرَة العَبْد، وَمَا ثمَّ مُوجِب إِلَّا مَشِيئَة الله، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لم يَشَأْ لم يكن.

وكل ذَلِك قد بَيَّنه النَّبِيُّ ﷺ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْد مَن نوَّر الله بصيرته.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الأسباب غير مُوجبة، وإنما هي فضلٌ من الله، وأمرٌ منه، فالعبد عليه أن يفعل الأسبابَ حتى في أمور الدنيا، وهكذا في أمور الآخرة، والطاعات غير مُوجبة، مثلما قال عليه الصلاة والسلام: واعلموا أنه لن يدخل الجنةَ أحدٌ منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منه وفضل، فالأعمال أسباب: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] بأسبابها، فالله رتَّب رحمته وفضله وإحسانه على هذه الأسباب، كما رتَّب غضبه وعقابه على الكفر والشِّرك والمعاصي.

وهكذا أمور الدنيا أيضًا: جعل اللهُ سبحانه في الزِّراعة والبيع والشِّراء وأشباه ذلك أسبابًا للرزق، فقد ينجح، وقد لا ينجح، فإن شاء الله نجاحَه ربح في البيع، وربح في الزِّراعة، وإذا أراد اللهُ عدم النَّجاح لم يربح من البيع، ولم تنجح الزراعة، فالأمور كلها بيده ، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

وكل ذَلِك قد بَيَّنه النَّبِيُّ ﷺ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْد مَن نوَّر الله بصيرته.

وَأما التَّفْرِيق بَين الْمَقْدُور عَلَيْهِ والمعجوز عَنهُ: فَفِي "صَحِيح مُسلم" عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: الْمُؤمن الْقَوي خيرٌ وَأحبُّ إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف، وَفِي كلٍّ خيرٌ، احرص على مَا ينفعك، واستعن بِاللَّه، وَلَا تعجز، وَإِن أَصَابَك شيءٌ فَلَا تقل: لَو أَنِّي فعلتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِن قل: قدر الله وَمَا شَاءَ فعل، فَإِن لو تفتح عمل الشَّيْطَان.

وَفِي "سنَن أبي دَاوُد" عَن النَّبِي ﷺ أَنه اخْتصم إِلَيْهِ رجلَانِ، فَقضى على أَحدهمَا، فَقَالَ المقضي عَلَيْهِ: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل. فَقَالَ النَّبِي ﷺ: إِنَّ الله يلوم على الْعَجز، وَلَكِن عَلَيْك بالكيس، فَإِذا أحزنك أَمرٌ فَقل: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَسُئِلَ الوَاسِطِيّ عَن الْكُفْر بِاللَّه أو لله، فَقَالَ: الْكُفْر وَالْإِيمَانُ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة من الله، وَإِلَى الله، وَبِاللَّهِ، وَللَّه، من الله ابْتِدَاءً وإنشاءً، وَإِلَى الله مرجعًا وانتهاءً، وَبِاللَّهِ بَقَاءً وفناءً، وَللَّه مُلْكًا وخَلْقًا.

قَالَ: وَقَالَ الْجُنَيْد: سُئِلَ بعض الْعُلمَاء عَن التَّوْحِيد فَقَالَ: هُوَ الْيَقِين، فَقَالَ السَّائِل: بَيِّن لي مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ معرفتك أَنَّ حركات الْخَلق وسكونهم فعل الله وَحده، لَا شريكَ لَهُ، فَإِذا فعلتَ ذَلِك فقد وحَّدته.

الشيخ: وهذا فيه نظر، فيه نقصٌ؛ فإنَّ الإيمانَ بأنَّ حركات العباد وسكناتهم من تقدير الله، وأنه المقدر لها، والمدبر لها، ما يكفي، هذا هو توحيد الربوبية، ولعلَّ المؤلف يُنبه عليه بعد ذلك، فلا بدَّ مع هذا من إخلاص العبادة لله وحده، وكان المشركون الأوَّلون وغيرهم يعرفون أنَّ الله مُدبر الأمور وخالقها، وأنه خالق الحركات والسَّكنات، ولكن هناك أمرٌ وراء هذا، وهو أن يصرف العبدُ عباداته لله وحده، ويخصّ الله بعباداته: من صومه، وصلاته، ودعائه، وذبحه، ونذره، ونحو ذلك، حتى يكون اللهُ معبودَه وحده: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، فإذا ضمَّ هذا إلى هذا آمن بأنه هو الله سبحانه خالق الحركات والسَّكنات، ومُدبر الأمور، وضمَّ إلى هذا إخلاص العبادة لله وحده؛ استقام أمره.

وَقَالَ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول: سَمِعتُ عبدالْوَاحِد بن عَليّ يَقُول: سَمِعتُ الْقَاسِمَ بن الْقَاسِم: سَمِعتُ مُحَمَّد بن مُوسَى الوَاسِطِيّ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْجَوْهَرِي: سَمِعتُ ذَا النُّون الْمِصْرِيّ يَقُول، وجاءه رجلٌ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ لي. فَقَالَ: إِن كنتَ أُيدت فِي علم الْغَيْب بِصدق التَّوْحِيد، فكم من دَعْوَةٍ مُجابةٍ قد سبقت لَك، وَإِلَّا فَإِنَّ النِّداء لَا ينفع الغرقى.

قَالَ: وَقَالَ الوَاسِطِيّ: ادَّعى فِرْعَوْنُ الربوبيةَ على الْكَشْف، وَادَّعت الْمُعْتَزلَةُ على السِّرّ، تَقول: مَا شئتَ فعلتَ.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن النّوري: التَّوْحِيد كل خاطرٍ يُشِير إِلَى الله بعد أَن لَا تُزاحمه خواطر التَّشْبِيه.

قلتُ: كَلَام الوَاسِطِيّ والجُنيد الْمَذْكُور هُنَا هُوَ تَوْحِيد الرُّبوبية.

الشيخ: هنا جاء تنبيه المؤلف رحمه الله.

وَأَنَّ الله ربُّ كل شيءٍ ومليكه وخالقه، وَفِيه الرَّد على الْقَدَرِيَّة الَّذين يجْعَلُونَ أَفعَالَ العَبْد خَارِجَةً عَن قُدرته وخلقه وَمُلكه، وَكَذَلِكَ جعل فيهم الوَاسِطِيّ شبهًا من فِرْعَوْن؛ فَإِنَّ فِرْعَوْن كشف كفره وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24]، فَادَّعى الربوبية عَلَانيَةً، والقدرية تدَّعي أَنَّهَا ربُّ الْأَفْعَال وَمَا يتَوَلَّد عَنْهَا فقد ادَّعت ربوبيته، لَكِن فِي السِّرّ، وَهِي ربوبية أَفعَال الْأَعْيَان.

لَكِن مَقْصُود أهل التَّحْقِيق -كالجنيد وَنَحْوه- أَن يكون هَذَا التَّوْحِيدُ للْعَبد خلقًا ومقامًا، بِحَيْثُ يُعْطِيهِ ذَلِك كَمَال توكله على الله تَعَالَى، وتفويضه إِلَيْهِ، وَالصَّبْر لحكمه، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، ما لم يُخرجهُ ذَلِك إِلَى إِسْقَاط الْأَمر وَالنَّهْي، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب، والوعد والوعيد، كَمَا يَقع فِي بعض ذَلِك طَائِفَةٌ من المتصوفة.

وَأما قَول ذِي النُّون: (إِن كنتَ أُيدت فِي علم الْغَيْب بِصدق التَّوْحِيد) فَلَا يُرَاد بِهِ مُجَرّد الْإِقْرَار بالربوبية الْعَامَّة؛ فَإِنَّ الْمُشْركين كَانُوا يُوحدون هَذَا التَّوْحِيد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر:38]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، قَالُوا: إيمانهم هُوَ إِيمَانهم بِأَنَّهُ خَالق كل شيءٍ، وشركهم أَن عبدُوا مَعَه إِلَهًا آخر.

وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْقِيق تَوْحِيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وَهُوَ أَن يعبد الله وَحده لا يُشرك بِهِ شَيْئًا، فَهَذَا التَّوْحِيد الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل هُوَ يُسْعِد صَاحبه، وَيدخل الْجنَّةَ لَا محَالة لَهُ من دَعْوَةٍ مجابةٍ، وَمَن فَاتَهُ هَذَا التَّوْحِيد فَإِنَّ الله لَا يَغْفر أَن يُشْرَك بِهِ، فَلَا يَنْفَعهُ الدُّعَاء.

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيد الْمَذْكُور فِي قَول المراغي: صفاء الْعِبَادَات لَا يُنَال إِلَّا بصفاء التَّوْحِيد.

وَأما قَول النُّوري: (التَّوْحِيد كل خاطرٍ يُشِير إِلَى الله) فَهُوَ يعمّ ذَلِك، يَقُول: كل توجّه إِلَى الله وَحده بقولٍ أَو عملٍ فَهُوَ تَوْحِيدٌ إِذا لم يكن فِيهِ تَشْبِيهُ الْخَالِق بالمخلوق، أَو الْمَخْلُوق بالخالق، كَمَا فِي قَول الْجَهْمِية والممثلة والقدرية وَنَحْوهم، وَقد تقدم مَا ذكره الْمَشَايِخ من نفي التَّشْبِيه والتَّعطيل.

وَكَذَلِكَ مَا ذكره عَن الشَّيْخ أبي عبدالرَّحْمَن: سَمِعتُ عبدالْوَاحِد بن بكر: سَمِعتُ هِلَال بن أَحْمد يَقُول: سُئِلَ أَبُو عَليٍّ الرُّوذَبَارِي عَن التَّوْحِيد فَقَالَ: استقامة الْقَلب بِإِثْبَات مُفَارقَة التَّعطيل، وإنكار التَّشْبِيه، والتوحيد فِي كلمةٍ وَاحِدَةٍ: كل مَا صورته الأفهام والأفكار فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ بِخِلَافِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

قَالَ: وَقَالَ أبو الْقَاسِم النّصراباذي: الْجنَّة بَاقِيَةٌ بإبقائه، وَذكره لَك ومحبَّته لَك بَاقٍ بِبَقَائِهِ، فشتان بَين مَا هُوَ بَاقٍ بِبَقَائِهِ، وَبَين مَا هُوَ بَاقٍ بإبقائه.

قَالَ الْقُشيرِي: وَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّيْخ النصراباذي غَايَة التَّحْقِيق؛ فَإِنَّ أهل الْحقِّ قَالُوا: صِفَات ذَات الْقَدِيم سُبْحَانَهُ باقيات بِبَقَائِهِ تَعَالَى. فنبَّه على هَذِه الْمَسْأَلَة، وَنبَّهَ على أَنَّ الْبَاقِي بَاقٍ بِبَقَائِهِ، خلاف مَا قَالَه مخالفو الْحقِّ.

قلتُ: النّصراباذي مَقْصُوده التَّفْرِيق بَين مَن طلب النَّعيم بالمخلوق، وَطلب النَّعيم لحظِّه من الْخَالِق، فَقَالَ: مَا فِي الْمَخْلُوق بَاقٍ بإبقائه، وَأما محبَّته لَك وَذكره لَك فباقٍ بِبَقَائِهِ. وَلَيْسَ مَقْصُوده أَنَّ الْبَقَاء الَّذِي يُوصَف بِهِ الربّ هُوَ صفة زَائِدَة على الذَّات بِمَا لَيْسَ بِصفةٍ، كَمَا يُنَازع فِيهِ أهلُ الْكَلَام، مثل: مُتكلِّمة أهل الْإِثْبَات وَغَيرهم، بل القَاضِي أَبُو بكر الَّذِي يُعظمه الْقُشيرِي وَيَقُول: هُوَ أوحد وقته. كَانَ يَقُول: لَيْسَ الْبَاقِي بَاقِيًا بِبَقَاءٍ، ولا النِّزاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا حقق لم يرجع إِلَى معنًى مُحَصل يسْتَوْجِب النِّزاع.

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم: حَدَّثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: سَمِعتُ النَّصراباذي يَقُول: أَنْتَ مُتَرَدّدٌ بَين صِفَات الْفِعْل وصفات الذَّات، وَكِلَاهُمَا صفته تَعَالَى على الْحَقِيقَة، فَإِذا هيَّمك فِي مقَام التَّفْرِقَة، قرَّبك بِصِفَات فعله، وَإِذا بلَّغك إِلَى مقَام الْجَمع، قرَّبك بِصِفَات ذَاته.

قَالَ: وَأَبُو الْقَاسِم النَّصراباذي كَانَ شيخَ وقته.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام من النَّصراباذي يَقْتَضِي أَنه مَوْصُوفٌ بِصِفَات فعله على الْحَقِيقَة، مثل: الْخَلق والرِّزق، كَمَا أَنه مَوْصُوفٌ بِصِفَات الذَّات على الْحَقِيقَة: كَالْعِلم وَالْقُدْرَة، وَهَذَا هو الذي ذكره أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الكلاباذي عَن مَذْهَب الصُّوفِيَّة فِي كتاب "التعرف"، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث، وَطَوَائِف من أهل الْكَلَام، وَلَيْسَ هُوَ قَول الأشعرية الَّذين سلك سبيلهم أَبُو الْقَاسِم الْقُشيرِي.

قَالَ: الْخلق والرِّزق عِنْدَهم عين الْمَخْلُوق، وَلَا يسْتَحقّ أَن يُسمَّى بالخالق، الْبَاعِث، الْوَارِث، إِلَّا بعد وجود هَذِه المفعولات، والنِّزاع فِي أَنَّ الْفِعْلَ هَل هُوَ صفةٌ لله؟ وَهل يُوصَف بالأسماء الفعلية فِي الْأَزَل؟ وَقد بسطنا الْكَلَام فِي هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي مَوْضِعه.

وَقَالَ: سَمِعتُ الإِمَام أَبَا إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ يَقُول: لما قدمتُ من بَغْدَاد كنتُ أدرس فِي جَامع نيسابور فِي مَسْأَلَة الرّوح، وأشرح القَوْلَ أَنَّهَا مخلوقة، وَكَانَ أبو الْقَاسِم النّصراباذي قَاعِدًا مُتباعدًا عَنَّا، يُصغي إِلَى كَلَامي، فاجتاز بِنَا بعد ذَلِك بأيامٍ قَلَائِل فَقَالَ لمُحَمد الْفرَّاء: أشهد أني أسلمتُ جَدِيدًا على يَد هَذَا الرجل. وَأَشَارَ إِلَيَّ.

قلتُ: لَعَلَّه كَانَ عِنْدَه بعض شُبْهَةٍ أَو رَأْي فَاسد فِي خلقهَا، كَمَا يعرض مثل ذَلِك لبَعض النَّاس.

وَقَالَ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ يَقُول: سَمِعتُ أَنَّ حُسَيْن الْفَارِسِي يَقُول: سَمِعتُ إِبْرَاهِيم بن فاتك يَقُول: سَمِعتُ الْجُنَيْد يَقُول: مَتى يتَّصل مَن لا شبيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ بِمَن لَهُ شَبيهٌ وَنَظِيرٌ؟! هَيْهَات! هَذَا ظنٌّ عَجِيبٌ، إِلَّا بِمَا لطف اللَّطِيف من حَيْثُ لَا دَرك، وَلَا وهم، وَلَا إحاطة إِلَّا إِشَارَة الْيَقِين، وَتَحْقِيق الْإِيمَان.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام يَقْتَضِي أَنَّ الْعِباد إِنَّمَا عرفُوا رَبَّهم بِمَا ألطف بِهِ من تعرفه إِلَيْهِم، وهدايته إيَّاهُم بِمَا أَعْطَاهُم، لَا معرفَة إِدْرَاكٍ وإحاطةٍ، وَهَذَا حسنٌ، وَرُبمَا يتَضَمَّن نوعًا من الرَّد على طَريقَة أهل النَّظر الَّذين يجعلونه بِمُجَرَّدِهِ محصلًا للمعرفة الْمَطْلُوبَة.

وَقَالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: سَمِعتُ عبدَالْوَاحِد بن بكر: حَدَّثنِي أَحْمد بن مُحَمَّد البردعي: حَدَّثنَا طَاهِر بن إِسْمَاعِيل الرَّازِيّ قَالَ: قيل ليحيى بن معَاذ: أَخْبرنِي عَن الله. فَقَالَ: إِلَه وَاحِد. فَقَالَ: كَيفَ هُوَ؟ فَقَالَ: ملك، قَادر. فَقَالَ: أَيْن هُوَ؟ فَقَالَ: بالمرصاد. فَقَالَ السَّائِل: لم أَسأَلك عَن هَذَا. فَقَالَ: مَا كَانَ غير هَذَا كَانَ صفةَ الْمَخْلُوق، فَأَما صفته فَمَا أَخْبَرتُك عَنهُ.

قلتُ: لَا تعلم صِحَّة هَذَا الْكَلَام عَن يحيى بن معَاذ؛ إِذْ فِي الْإِسْنَاد مَن لَا نعرفه، وَكَلَام يحيى بن معَاذ عِنْدَهم دون كَلَام الْكِبَار من أهل التَّحْقِيق فِي الْمُعَامَلَات وَغَيرهَا، فَإِنَّهُ يتَكَلَّم فِي الرَّجَاء بِكَلَامٍ يُشبه كَلَامَ سفلَة المرجئة، لَا يُوَافق أصُول الْمَشَايِخ الْكِبَار المتمسِّكين بِالسنةِ، ويدَّعي فِي التَّوْحِيد مقَامًا هُوَ الْغَايَة، وَقد عَابَ عَلَيْهِ أبو يزِيد وَغَيره، وَكَلَامه يُشبه كَلَام الوعاظ، وَهِي طَريقَة أبي الْقَاسِم وَنَحْوه.

وَهَذَا الْكَلَام الْمَذْكُور من هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُ لَيْسَ كلُّ مَا لم يذكرهُ فِي هَذَا الْجَواب بِصفة الْمَخْلُوق لله، بل لله صِفَات كَثِيرَة عَظِيمَة لم تدخل فِي هَذَا الْكَلَام.

الشيخ: وهذا كله في الحقيقة كله كلام الصوفية هؤلاء، وإن كان بعضُهم له كلمات صحيحة، لكن غالب كلامهم يدخله من الشبهة والقلق والضَّعف وعدم الوضوح ما يدخله؛ ولهذا تجد كلامَهم دائمًا مُلتبسًا، فيه من الاحتمال والاشتباه ما يجعله ليس أهلًا؛ لأن يحتجّ به، ولأن يُذكر.

وكان كلامُ السَّلف من الصَّحابة والتَّابعين في غاية الوضوح، وغاية البيان؛ لأنهم استقوه من كلام الله وكلام رسوله، لا من أفكارهم وآرائهم وأذواقهم، فكانت كلماتهم واضحةً في وصف الربِّ جلَّ وعلا، وفي أحكامه، وفي أوامره ونواهيه؛ فلهذا ينبغي لطالب العلم أن تكون همَّته، وأن تكون مُراجعاته ومُطالعاته لكلام سلف الأمة؛ لأنَّ كلامهم أوضح وأبين وأبعد عن الشُّبهة، فهم يقولون فيما يقولون مثلما نطق الكتابُ والسنة، إن تكلَّموا عن الله تكلَّموا بما جاء في الكتاب والسنة: أنَّ الله فوق جميع خلقه، فوق العرش، قد استوى عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته، وإن تكلَّموا بصفاته وضَّحوا الصِّفات، وأنها صفات حقٍّ، وأنها لائقة به سبحانه، لا يُشابه فيها خلقه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وأتوا بعبارات واضحة كما جاء في الكتاب والسنة.

وإن تكلموا في الشَّرع والأوامر والنَّواهي بلغوا عن ذلك بأشياء واضحةٍ: أمر بكذا، ونهى عن كذا، وقال كذا، وأمر بكذا، بخلاف هؤلاء المتصوفة العُبَّاد الزُّهَّاد؛ فإنهم يقع لهم من الكلمات والعبارات والجمل ما هو محتمل، وما هو سقيم، وما هو يُؤدي إلى غاية البطلان والإلحاد، ويقع في كلامهم ما هو طيب، وما هو مستقيم، لكن بأسلوبٍ لا يفهمه كلُّ أحدٍ.

ولهذا أراد المؤلفُ بهذا التَّعليق على كلماتهم ما فيها من الأخطاء والأغلاط والإجمالات التي قد تشتبه على الناس، وقد يتسامح في بعض الكلمات رحمه الله، ويمرها كما جاءت، على ما فيها من إبهامٍ، بناءً على أنَّ مَن تأملها من أهل التَّحقيق والبصيرة فهمها، فهذا هو وجه ذكره لهذه الأشياء في كتابه هذا.

ثمَّ صفة الْمَخْلُوق إِن كَانَ لأجل الِاشْتِرَاك فِي الِاسْم فَقَوله: (ملك، قَادر، وَإنَّهُ بالمرصاد) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5].

وَأَيْضًا فَالْجَوَاب عَن "أَيْن" هُوَ خلاف الْجَواب الَّذِي رضيه رَسُولُ الله ﷺ وَأقرَّهُ وَحكم بِإِيمَان قَائِله، وَخلاف مَا أجَاب بِهِ هُوَ سائله؛ فَإِنَّهُ لما قَالَ: أَيْن الله؟ فَقيل لَهُ: فِي السَّمَاء، رضي بِهَذَا، وَأقرَّ صَاحبه، وَلم يقل: هَذَا صفة الْمَخْلُوق.

س: في السَّماء أو فوق السَّماء؟

ج: أين الله؟ قالت: في السَّماء. لما سأل الجارية قال: أين الله؟ قالت: في السَّماء. أي: في العلو، السَّماء المراد بها العلو، مثلما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يعني: في العلو؛ لأنَّ السماء يُطلق على أمرين: يُطلق على السَّماء المبنية، يُقال لها: سماء. ويُطلق على العلو يُقال: سماء.

وَقد روى شيخُ الْإِسْلَام الْأنْصَارِيّ الهروي -صَاحب "علل المقامات" و"منازل السائرين"- فِي كِتَابه الْمُسَمَّى بـ"الفاروق" بِإِسْنَادٍ عَن يحيى بن معَاذٍ أَنه قَالَ: إِنَّ الله على الْعَرْش، بَائِنٌ من خلقه، وَقد أحَاط بِكُلِّ شيءٍ علمًا، وأحصى كل شيءٍ عددًا، لا يشذّ عَن هَذِه الْمقَالة إِلَّا جهمي رديء ضليل، وهالك مُرتاب يمزج الله بخلقه، ويُخالط مِنْهُ الذَّات بالأقذار، والإتيان فِي هَيئته، وَهُوَ يُخَالف إِنْكَاره الأين فِي هَذِه الرِّوَايَة.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: حَدَّثنِي ابن الْحُسَيْن: سَمِعتُ أَبَا بكر الرَّازِيّ يَقُول: سَمِعتُ أَبَا عَليّ الروذباري يَقُول: كل مَا توهم مُتوهم بِالْجَهْلِ أَنه كَذَلِك، فالعقل يدل على أَنه بِخِلَافِهِ.

قَالَ: وَسَأَلَ ابْنُ شاهين الْجُنَيْد عَن معنى "مَعَ"، فَقَالَ: على مَعْنيين:

مَعَ الْأَنْبِيَاء بالنُّصرة والكلاءة، قَالَ الله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].

وَمَعَ الْعَامَّة بِالْعِلمِ والإحاطة، قَالَ الله تَعَالَى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7].

فَقَالَ ابْنُ شاهين: مثلك يصلح أَن يكون دَالًّا للْأُمة على الله.

قلتُ: هَذَا كَلَامٌ حسنٌ مُتَّفقٌ على صِحَّة مَعْنَاهُ بَين أئمة الْهُدى.

الشيخ: وهذا هو الحقّ الذي عليه أهلُ السنة والجماعة، المعية الواردة في الكتاب والسنة على معنيين:

أحدهما: بمعنى النُّصرة والتَّأييد والحفظ والكلاءة، وهذه هي المعية الخاصَّة التي جاءت في معنى قوله سبحانه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، هذه معناها المعية الخاصَّة: الكلاءة والحفظ والتَّأييد والنُّصرة، ونحو ذلك.

والمعنى الثاني: معنى عام، الذي يدل على العلم والإحاطة، وهي المعية العامَّة: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، فالمعنى: علمه بهم، وإحاطته بهم، واطِّلاعه على أحوالهم، ورؤيته لهم، وهم لا يخفون عليه، بل هو يعلم كل شيءٍ، وهو أعلم بهم من مُجالسيهم، ومن أصحابهم، ومن أنفسهم .

أما القول بأنَّ المعية معناها: المخالطة والحلول، فهذا هو قول أهل الاتحاد والفساد والإلحاد في الدِّين، نسأل الله العافية؛ ولهذا قال أبو عمر الطلمنكي وابنُ عبدالبر وأبو نصر ..... وجماعة قالوا: أجمع العلماء على أنَّ قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ معناه: العلم والإحاطة.

س: المعية معيّتان؟

ج: معية خاصَّة، ومعية عامَّة، نعم، معيَّة الكلأة والحفظ والتَّأييد، فهذه معية لأوليائه، ومعية العلم والإحاطة، معيته للعموم .

س: هذه المعية يقول بعضُ الناس أنَّ أهل السنة يُؤولونها؟

ج: لا، هذا ليس بتأويل، هذا إخبار عن الحقيقة التي أرادها الربُّ جلَّ وعلا.

وَكَانُوا يَقُولُونَ مثل هَذَا الْكَلَام ردًّا على مَن يَقُول من الْجَهْمِيَّة: إِنَّ الْحقَّ بِذَاتِهِ فِي كل مَكَانٍ، وَيُمكن أَن يَقُول: فَوق الْعَرْش. وَقد وَقع فِي ذَلِك طَائِفَةٌ من المتصوفة، حَتَّى جَعَلُوهُ عين الموجودات، وَنَفس المصنوعات، كَمَا يَقُوله أهلُ الِاتِّحَاد الْعَامّ.

قَالَ الْقُشيرِي: وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمِصْرِيّ عَن قَوْله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فَقَالَ: أثْبَتَ ذَاته، وَنفى مَكَانَهُ، فَهُوَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ، والأشياء مَوْجُودَة بِحكمِهِ كَمَا شَاءَ.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا عَن ذِي النُّون، وَفِي هَذِه الْكُتب من الحكايات المسندة شيءٌ كثيرٌ لَا أصلَ لَهُ، فَكيف بِهَذِهِ المنقطعة المسيئة الَّتِي تَتَضَمَّن أَن يُنْقلَ عَن الْمَشَايِخ كَلَامٌ لَا يَقُوله عَاقلٌ، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ مُنَاسبَة لِلْآيَةِ، بل هُوَ مُنَاقضٌ لَهَا، فَإِنَّ هَذِه الْآيَة لم تَتَضَمَّن إِثْبَات ذَاته وَنفي مَكَانه بِوَجْهٍ من الْوُجُوه، فَكيف تُفسّر بذلك؟