الشيخ: وهذا الذي نبَّه عليه الشيخُ أمرٌ يجب أن يُنبه عليه، ولا شكَّ في ذلك إجماعًا: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17- 18]، يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يعني: القول الذي فيه الفائدة، فيه الخير، وهو القرآن الكريم، والعِظة والتَّذكير وما ينفع الناس، فإذا سمعوا هذا انتفعوا به، واتَّبعوا أحسنه، وليس المرادُ كلَّ قولٍ، فإنَّ الأقوال فيها المنكر من السَّب، ومن الشتم، ومن اللَّعن، وفيها الأغاني، وفيها أشياء مُنكرة، فليست داخلةً في هذا في الآية الكريمة، إنما المراد ما ينفع الناس، وأعظم ذلك القرآن الكريم.
وَقَالَ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58].
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83].
وَقَالَ تَعَالَى: أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107- 109].
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى فِي ذمِّ المعرضين عَنهُ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22- 23].
وَقَالَ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة:171].
وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [الفرقان:73].
وقال تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26].
وَقَالَ تَعَالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49- 51].
وَقَالَ تَعَالَى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59- 61].
قَالَ غيرُ وَاحِدٍ من السَّلف: هُوَ الْغِناء. فَقَالَ: "اسمد لنا" أَي: غَنِّ لنا.
فذمَّ المعرضَ عَمَّا يجب من اسْتِمَاع المشتغل عَنهُ باستماع الْغِناء، كَمَا هُوَ فعل كثيرٍ من الَّذين أضاعوا الصَّلَاة وَاتَّبعُوا الشَّهَوَات، وَحَال كثيرٍ من المتنسِّكة فِي اعتياضهم بِسَمَاع المكاء والتَّصدية عَن سَماع قَول الله تَعَالَى.
وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6].
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ثمَّ قَالَ: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:6- 7].
وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:5].
الشيخ: وفي هذه الآيات والكلمات وما جاء في معناها أخذ أهلُ العلم كراهةَ الاستماع لما يضرّ ويصدّ عن الحقِّ، بل حرَّموا ذلك، ومن ذلك ما في قوله جلَّ وعلا: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ، فأنكر عليهم عملَهم هذا، وأنَّ هذا مما لا يليق بالمؤمن: كونه يضحك ويُعرض ويستمع للغناء والملاهي، ولا يستمع لكتاب الله ؛ ولهذا قال عن السّمود: أنه الغناء، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ يعني: مُغنون، يعني: مُشتغلون بالغناء.
ومن هذا الآية الكريمة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا [لقمان:6- 7].
قال أكثرُ أهل العلم: إنه الغناء، وأنه يُورِث هذه الآفات المتعددة، وهو من أسباب الضَّلال والإضلال. وقد قرأ بعضُهم: ليَضلّ، وقرأ آخرون: لِيُضِلَّ، فاستماع الأغاني والتَّشاغل بها من أسباب الضَّلال عن الحقِّ والإضلال عنه، وذلك من عواقبه الوخيمة أنه يُسبب الاستهزاء بآيات الله وبدينه، فأهل المجون والأغاني يثقل عليهم سماع القرآن، وسماع الخير، ويُفضي بهم إلى الاستهزاء.
ثالثًا: أنه أيضًا يُفضي إلى التَّكبر عن سماع القرآن والتَّثاقل: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا [لقمان:7].
فمن تلذذه بالغناء واعتياده له ينشأ عن هذا تثاقل عن سماع القرآن، واستكبار عن سماعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلى غير هذا مما يُسبب أيضًا من سماع ألحان النِّساء وأصوات النِّساء، وما يُفضي إليه من الزنا والفواحش، إلى غير هذا من الشُّرور، أو قد يُفضي أيضًا إلى اللِّواط، وهو أقبح من الزنا.
وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16].
وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ [يونس:42].
وَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ [يونس:43].
وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25].
الْوَجْه الرَّابِع: أَنَّهم لَا يستحسنون اسْتِمَاع كلِّ قَولٍ منظومٍ ومنثورٍ، بل هم من أعظم النَّاس كَرَاهَةً ونفرةً لما لَا يُحبونه من الْأَقْوَال: منظومها ومنثورها، ونفورهم عَن كثيرٍ من الْأَقْوَال أعظم من نفور المنازع لَهُم فِي سَماع المكاء والتَّصدية عَن هَذَا السَّماع، وَإِذا لم يكن الْعُمُومُ مُرَادًا بالِاتِّفَاقِ كَانَ حمل الْآيَة عَلَيْهِ بَاطِلًا.
الْوَجْه الْخَامِس: أَنه قَالَ: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17- 18]، فمدحهم باستماع القَوْل وَاتِّبَاع أحْسَنه.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كثيرًا من القَوْل لَيْسَ فِيهِ حسنٌ، فضلًا عَن أن يكون فِيهِ أحسن، بل فِيهِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26].
وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ [العنكبوت:68].
وَقَالَ: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152].
وَقَالَ: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12].
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات:11].
وَقَالَ: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ [المجادلة:9].
وَقَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء:81].
وَهُوَ قد اسْتدَلَّ بقوله: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18] على الْعُمُوم، وَهُوَ حُجَّة على صدق ذَلِك كَمَا تقدَّم.
وَقَوله: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ كَقَوْلِه فِي هَذِه السُّورَة: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55]، فَهَذِهِ الْكَلِمَة مثل هَذِه الْكَلِمَة سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَهَذَا من مَعَاني تشابه الْقُرْآن، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23].
الشيخ: ومعنى التَّشابه هنا هو التَّماثل، وكونه يُفسر بعضُه بعضًا، ويُوضح بعضُه بعضًا، ويدل بعضُه على بعضٍ، فما أُجمل في مكانٍ وُضِّح في مكانٍ، وما اختُصِرَ في مكانٍ بُسِطَ في مكانٍ، فأوضح بعضُه بعضًا: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، فهو أحسن الحديث، وهو أحسن القصص: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]، وهو أصدق القول؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23] يعني: يُثنى ويُكرر في الصَّلوات وفي الختمات، بخلاف التَّشابه في قوله جلَّ وعلا: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، فهو معنى آخر، يعني: أُخر فيها بعض الاشتباه، فتُفسر بالمحكم، ويدل عليها المحكم، وهو الشيء الواضح، فيردّ المشتبه الذي قد يخفى معناه إلى الآيات المحكمات الواضحات المعنى، فيُفسر هذا بهذا.
فإذا علم المؤمنُ هذا تدبر الآيات التي تشتبه عليه، فوجد حلّها، ووجد بيانها في الآيات الواضحة التي فيها البيان والإيضاح، فهذا معنى: مُتَشَابِهًا.
وهكذا قوله: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود:1]، فهي محكمة مُتقنة، ليس فيها تناقضٌ ولا خللٌ، بل هي آيات محكمات، صادقات، واضحات، مُتشابهات، يُشبه بعضُها بعضًا.
الشيخ: وأحسنها: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أحسنه هو ما أُمرنا به، وترك ما نُهينا عنه، هذا هو المراد، يعني: ما نُهيتم عنه اتركوه، وما أُمرتم به فخذوا به، والعكس أن يدع الأوامر، ويرتكب النَّواهي، هذا هو المنهي عنه، فالمؤمنون مأمورون بأن يأخذوا بالأحسن، ويتَّبعوا الأحسن: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وهكذا: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ يعني: يتَّبعون أحسن ما أُنزل إليهم من قولٍ وعملٍ، فيشتغلون بذكر الله، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، ويشتغلون بفعل ما شرع الله من: الصَّلوات، والصِّيام، والحجِّ، والصدقات، وغير ذلك، ويدعون ما نهاهم الله عنه، فإن فعل ذلك ليس هو الأحسن، بل ترك المنهي هو الأحسن، وفعل المأمور هو الأحسن، فترك المأمور ليس هو الأحسن، وفعل المنهي ليس هو الأحسن.
ثمَّ قَالَ أبو الْقَاسِم: وَقَالَ تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم:15]، جَاءَ فِي التَّفْسِير أَنه السَّماع.
قلتُ: فَهَذَا قد ورد عَن طَائِفَةٍ من السَّلف أَنه السَّماع الْحَسن فِي الْجنَّة، وأنَّ الْحُور الْعِين يُغنين بِأَصْوَاتٍ لم يسمع الْخَلَائقُ بِأَحْسَن مِنْهَا، لَكِن تنعيم الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ بالأصوات الْحَسَنَة فِي الْجنَّة واستماعها لَا يَقْتَضِي أَنه يشرع أَو يُبِيح سَماع كل صَوتٍ فِي الدُّنْيَا، فقد وعد فِي الْآخِرَة بأَشْيَاء حرَّمهَا فِي الدُّنْيَا: كَالْخَمرِ، وَالْحَرِير، وأواني الذَّهَب وَالْفِضَّة.
بل قَالَ ﷺ: مَن شرب الْخَمر فِي الدُّنْيَا لم يَشْربهَا فِي الْآخِرَة، وَقَالَ: مَن لبس الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لم يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَة، وَقَالَ: لَا تَشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحافها؛ فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا وَلكم فِي الْآخِرَة.
وَهَذِه الْأَحَادِيث من الصِّحَاح الْمَشَاهِير الْمُجمع على صِحَّتهَا، فقد أخبر أَنه مَن اسْتَعْمَل هَذِه الأمور فِي الدُّنْيَا من المطعوم والملبوس وَغَيرهَا لم يستعمله فِي الْآخِرَة.
فَلَو قيل لَهُ: هَذَا السَّماع الْحَسن الْمَوْعُود بِهِ فِي الْجنَّة هُوَ لمن نزَّه مسامعه فِي الدُّنْيَا عَن سَماع الملاهي، لَكَانَ هَذَا أشبهَ بِالْحَقِّ وَالسُّنة، وَقد ورد بِهِ الْأَثرُ؛ يَقُول الله يَوْمَ الْقِيَامَة: أَيْن الَّذين كَانُوا يُنزِّهون أنفسهم وأسماعهم عَن اللَّهْو وَمَزَامِير الشَّيَاطِين؟ أدخلوهم وأسمعوهم تحميدي وتمجيدي وَالثَّنَاء عليَّ، وأخبروهم أَنَّهم لَا خوفٌ عَلَيْهِم، ولا هم يَحْزَنُونَ.
ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَاعْلَم أَنَّ سَماع الْأَشْعَار بالألحان الطّيبَة والنَّغم المستلذة إِذا لم يَعْتَقد المستمعُ مَحْظُورًا، وَلم يسمع على مَذْمُومٍ فِي الشَّرْع، وَلم ينجرّ فِي زمَان هَوَاهُ، وَلم ينخرط فِي سلك لهوه؛ مُبَاحًا فِي الْجُمْلَة، وَلَا خلافَ أَنَّ الْأَشْعَار أُنشدت بَين يَدي النَّبِي ﷺ، وَأَنَّه سَمعهَا وَلم يُنكر عَلَيْهِم فِي إنشادها، فَإِذا جَازَ سماعهَا بِغَيْر الألحان الطّيبَة فَلَا يتَغَيَّر الحكمُ بِأَن يسمع بالألحان، هَذَا ظَاهرٌ من الْأَمر، ثمَّ مَا يُوجِب للمُستمع توفر الرَّغْبَة على الطَّاعَات، وتذكر مَا أعدَّ الله لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ من الدَّرَجَات، ويحمله على التَّحَرُّز من الزَّلات، وَيُؤَدِّي إِلَى قلبه فِي الْحَال صفاء الواردات؛ مُسْتَحبٌّ فِي الدِّين، ومختارٌ فِي الشَّرْع.
قَالَ: وَقد جرى على لفظ الرَّسُول ﷺ مَا هُوَ قريبٌ من الشِّعْر، وَإِن لم يَقْصد أَن يكون شعرًا. وَذكر الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ عَن أنس بن مَالكٍ قَالَ: كَانَت الْأَنْصَارُ يحفرون الخَنْدَقَ، فَجعلُوا يَقُولُونَ:
نَحن الَّذين بَايعُوا مُحَمَّدًا | على الْجِهَاد مَا بَقينَا أبدًا |
فأجابهم رَسُولُ الله ﷺ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْش الْآخِرَه ، فَأَكْرم الْأَنْصَار والمهاجره
وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ ﷺ على وزن الشِّعْر.
قلتُ: تضمن هَذَا الْكَلَامُ شَيْئَيْنِ:
أَحدهمَا: إِبَاحَة سَماع الألحان والنَّغمات المستلذّة بِشَرْط أَلا يعْتَقد المستمعُ مَحْظُورًا، وَألا يسمع مذمومًا فِي الشَّرْع، وَألا يتبع مِنْهُ هَوَاهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ما أوجد للمُستمع الرَّغْبَة فِي الطَّاعَات، والاحتراز من الذُّنُوب، وتذكر وعد الْحقِّ، ووصول الْأَحْوَال الْحَسَنَة إِلَى قلبه؛ فَهُوَ مُسْتَحبٌّ.
وعَلى هَاتين المقدمتين بنى مَن قَالَ باستحباب ذَلِك، مثل: أبي عبدالرَّحْمَن السّلمي، وَأبي حَامِد، وَغَيرهمَا، وَفِي هَؤُلَاءِ مَن قد يُوجِبهُ أَحْيَانًا إِذا رَأَوْا أَنَّه لَا يُؤَدَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ.
وَكَذَلِكَ يُفضلونه على سَماع الْقُرْآن إِذا رَأَوْا أَنَّ مَا يحصل بِسَمَاع الألحان أَكثر مِمَّا يحصل بِسَمَاع الْقُرْآن، وهم فِي ذَلِك يُضاهون لمن يُوجِب من الْكَلَام الْمُحدث مَا يُوجِبهُ، وَلمن يُفضل مَا فِيهِ من الْعِلم على مَا يُسْتَفَاد من الْقُرْآن والْحَدِيث.
لَكِن فِي أُولَئِكَ مَن يرى الْإِيمَانَ لَا يتمّ إِلَّا بِمَا ابتدعوه من الْكَلَام، وَفِيهِمْ مَن يكفر بمُخالفته أو يفسق.
وَأهل السَّماع أَيْضًا فيهم مَن يرى الْإِيمَانَ لَا يتمّ إِلَّا بِهِ، وَفِيهِمْ مَن يَقُول فِي مُنكره الْأَقْوَال الْعَظِيمَة، وَقد يكون يَسْعَى فِي قتل مُنكره، لَكِن جنسهم كَانَ خيرًا من جنس المتكلمة مِمَّا فعلوا غير ذَلِك من الذُّنُوب، كَمَا يستحبُّون علمَ الْكَلَام ويُوجبونه، ويذمُّون تَاركَه، ويسبونه، ويُعاملونه من الْعَدَاوَة بِمَا يُعَامَل بِهِ الْكَافِرُ.
وبإزاء اسْتِحْبَاب هَؤُلَاءِ أَو إيجابهم: أَنَّ قومًا من أهل الْعِلم يُكفِّرونهم باستحباب ذَلِك أَو إِيجَابه؛ وَلِهَذَا تَجِد فِي المستحبين لَهُ وَفِي المنكرين لَهُ من الغُلو مَا أوجب الِافْتِرَاقَ والعداوةَ والبغضاء، وأصل ذَلِك ترك الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا لما شَرعه الله من السَّماع الشَّرْعِيّ الَّذِي يُحِبهُ اللهُ وَرَسُوله وعباده الْمُؤْمِنُونَ.
وَهَاتَانِ المقدمتان كِلَاهُمَا غلط مُشْتَمل على دَلِيلٍ مُجملٍ من جنس استدلالهم بِمَا ظنُّوه من الْعُمُوم فِي قَوْله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18]، وَبِمَا وعد اللهُ بِهِ فِي الْآخِرَة من السَّماع الْحَسن؛ وَلِهَذَا نَشأ من هَاتين المقدمتين اللَّتَيْنِ لبس فيهمَا الْحقّ بِالْبَاطِلِ قَولٌ لم يَذهب إِلَيْهِ أحدٌ من سلف الْأمة وَلَا أئمّتها، فَإِنَّهُ وَإِن نُقل عَن بعض أهل الْمَدِينَة وَغَيرهم أَنه سمع الْغِناء، فَلم يقل أحدٌ مِنْهُم أَنه مُسْتَحبٌّ فِي الدِّين، ومختارٌ فِي الشَّرْع أصلًا، بل كَانَ فَاعلُ ذَلِك مِنْهُم يرى مَعَ ذَلِك كَرَاهَته، وَأَنَّ تَركه أفضل، أَو يرى أَنه من الذُّنُوب، وغايته أَن يطلب سَلَامَته من الْإِثْم، أو يرَاهُ مُبَاحًا: كالتَّوسع فِي لذَّات المطاعم والمشارب والملابس والمساكن، فَأَمَّا رَجَاء الثَّوَاب بِفِعْلِهِ، والتَّقرب إِلَى الله، فَهَذَا لَا يُحفظ عَن أحدٍ من سلف الْأمة وأئمّتها، بل الْمَحْفُوظ عَنْهُم أَنهم رَأَوْا هَذَا من ابتداع الزَّنَادِقَة، كَمَا قَالَ الْحسنُ بن عبدالْعَزِيز الجروي: سَمِعتُ الشَّافِعِيَّ يَقُول: خلفتُ بِبَغْدَاد شَيْئًا أحدثتْه الزَّنَادِقَةُ يُسمونه: "التَّغبير"، يصدُّون بِهِ النَّاسَ عَن الْقُرْآن.
والتَّغبير: هُوَ الضَّرْب بالقضيب، غبَّر أَي: أثار غُبارًا، وَهُوَ آلَةٌ من الْآلَات الَّتِي تقرن بتلحين الْغِناء.
وَالشَّافِعِيّ بِكَمَال علمه وإيمانه علم أنَّ هَذَا مِمَّا يصدّ الْقُلُوب عَن الْقُرْآن، ويُعوضها بِهِ عَنهُ، كَمَا قد وَقع أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَقْصِدهُ زنديقٌ مُنَافِقٌ من مُنافقة الْمُشْركين أَو الصَّابئين وَأهل الْكِتاب، فَإِنَّهُم هم الَّذين أمروا بِهَذَا فِي الأَصْل، كَمَا قَالَ ابْنُ الراوندي: اخْتلف الْفُقَهَاءُ فِي السَّماع: فَقَالَ بَعضُهم: هُوَ مُبَاحٌ. وَقَالَ بَعضُهم: هُوَ مُحَرَّمٌ. وَعِنْدِي أَنه وَاجِبٌ، وَهَذَا مِمَّا اعتضد بِهِ أَبُو عبدالرَّحْمَن فِي مَسْأَلَة السَّماع، وَهَذَا مُتَّهم بالزندقة.
وَكَذَلِكَ ابْنُ سينا فِي إشاراته أَمر بِسَمَاع الألحان، وبعشق الصُّور، وَجعل ذَلِك مِمَّا يُزكي النُّفُوس ويُهذبها ويُصفيها، وَهُوَ من الصَّابئة الَّذين خلطوا بهَا من الحنيفة مَا خلطوا، وَقَبله الفارابي كَانَ إِمَامًا فِي صناعَة التصويت، موسيقيًّا عَظِيمًا.
فَهَذَا كُله يُحَقّق قَول الشَّافِعِي ، وَنحن نتكلم على المقدمتين إِن شَاءَ الله بِكَلَامٍ يُنَاسِب مَا كتبته هُنَا.
فَأَمَّا احتجاجه بِأَنَّ النَّبِي ﷺ سمع مَا أُنْشِد بَين يَدَيْهِ من الْأَشْعَار، وَلم يُنْكِره، وَأَنَّه قَالَ مَا يُشبه الشِّعْر، فَيُقَال: بل الشِّعْر أعظم مِمَّا وَصفته، فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: إِنَّ من الشِّعْر حِكْمَةً، وَقَالَ: جاهدوا الْمُشْركين بِأَيْدِيكُمْ وألسنتِكم وَأَمْوَالِكُمْ.
وَكَانَ ينصب لحسان منبرًا ليُنشد الشِّعْر الَّذِي يهجو فِيهِ الْمُشْركين، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أيِّده بِروح الْقُدس، وَقَالَ ﷺ لَهُ: إِنَّ روحَ الْقُدس مَعَك مَا دمتَ تُنافح عَن نبيِّه.
الشيخ: روح القدس هو جبريل عليه الصلاة والسلام، يُقال له: روح القدس، ويقال له: الروح الأمين.
لأنه جهاد، جهاد شرعي، جهاد في سبيل الله: في ذمِّ المشركين، وهجوهم، والتَّنديد بهم، ودعوتهم إلى الحقِّ، وتسفيه ما هم عليه من الباطل، هذا غير ما تفعله الصُّوفية من الألحان الفاسدة بالعشق والصور وأشياء أخرى مما يمدحونه ويذمُّونه.
وَقَالَ عَن عبدالله بن رَوَاحَة: إِنَّ أَخًا لكم لَا يَقُول الرَّفَث، وَقد استنشد الشّريد بن سُوَيْد الثَّقَفِيّ مئَة قافية من شعر أُميَّة ابن أبي الصَّلْت، وَهُوَ يَقُول: هيه، هيه.
وَسمع قصيدةَ كَعْب بن زُهَيْر، وَهَذَا بَابٌ وَاسعٌ.
وَقد قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابه بعد أن قَالَ: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:224- 227].
فَلم يذمّ الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَذكروا الله كثيرًا من الشُّعَرَاء المنتصرين من بعد مَا ظُلِمُوا.
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لِأَن يمتلئ جَوفُ أحدكم قَيْحًا حَتَّى يرِيه خيرٌ من أَن يمتلئ شعرًا، فذمَّ الممتلئ بالشعر الَّذِي لم يُسْتَعْمل بِمَا يُوجِب الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وَذكر الله كثيرًا، وَلم يذمّ الشِّعْر مُطلقًا، بل قد يُبين معنى الحَدِيث مَا قَالَه الشَّافِعِي: "الشِّعْر كَلَامٌ، فحسنه كحسن الْكَلَام، وقبيحه كقبيحه"، هَذَا قَوْله فِي الشِّعْر، مَعَ قَوْله فِي التَّغبير؛ ليُبين أَنَّ إِبَاحَة أَحدهمَا غير مُستلزمة الآخر.
وَأما قَوْله: (فَإِذا جَازَ سماعُهَا بِغَيْر الألحان الطّيبَة فَلَا يتَغَيَّر الحكمُ بِأَن تُسمع بالألحان الطّيبَة، هَذَا ظَاهرٌ من الْأَمر)، فَإِنَّ هَذِه حُجَّة فَاسِدَة جدًّا، وَالظَّاهِر إِنَّمَا هُوَ عكس ذَلِك، فَإِنَّ نفس سَماع الألحان مُجَرَّدًا عَن كَلَامٍ يحْتَاج إِلَى أن تكون مُبَاحَةً مَعَ انفرادها، وَهَذَا من أكبر مواقع النِّزاع، فَإِنَّ أَكثر الْمُسلمين على خلاف ذَلِك.
الشيخ: كأن كلمة ساقطة: "يحتاج إلى دليلٍ يدل"، "يحتاج إلى ما يدل"، ساقطة كلمة.
وَلَو كَانَ كلٌّ من الشِّعْر أَو التَّلحين مُبَاحًا على الِانْفِرَاد لم يَلْزم الْإِبَاحَة عِنْد الِاجْتِمَاع إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، فَإِنَّ التَّركِيبَ لَهُ خَاصَّة يتَعَيَّن الحكمُ بهَا.
وَهَذِه الْحُجَّة بِمَنْزِلَة حُجَّة مَن قَالَ: إِنَّ خبرَ الْوَاحِد إِذا لم يُفد الْعِلم عِنْدَ انْفِرَاده لم يُفد الْعِلم مَعَ نَظَائِره، وَمَعَ الْقَرَائِن، فَجَحَدَ الْعِلمَ الْحَاصِلَ بالتَّواتر.
وبمنزلة مَا يُذكر عَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة: أَنَّ رجلًا قَالَ لَهُ: مَا تَقول فِي المَاء؟ قَالَ: حَلَالٌ. قَالَ: وَالتَّمْر؟ قَالَ: حَلَالٌ. قَالَ: فالنَّبيذ؟ قَالَ: مَاء وتمر. فَقَالَ لَهُ إِيَاسُ بن مُعَاوِيَة: أَرَأَيْتَ لَو ضربتُك بكفٍّ من تُرَابٍ، أَكنتُ أَقْتُلُكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن ضربتُك بكفٍّ من تبنٍ أَكنتُ أَقْتلك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن ضربتُك بِمَاءٍ أَكنتُ أَقْتلك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن أخذتُ المَاءَ والتِّبنَ وَالتُّرَابَ فَجَعَلتُهمَا طينًا، وَتركته حَتَّى جفَّ، وضربتُك بِهِ، أَقْتلك؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: كَذَلِك النَّبِيذ.
يَقُول: إِنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْقُوَّة الْحَاصِلَة بالتَّركيب، والمفسد لِلْعَقْلِ هُوَ الْقُوَّة المسكرة الْحَاصِلَة بالتركيب.
وَكَذَلِكَ هُنَا الَّذِي يُسكر النُّفُوس ويُلهيها ويصدّها عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة قد يكون فِي التَّركِيب، وَلَيْسَت الْأَصْوَات المجتمعة فِي استفزازها للنفوس وإزعاجها: إِمَّا بنياحةٍ وتحزينٍ، وَإِمَّا بإطرابٍ وإسكارٍ، وَإِمَّا بإغضابٍ وحميةٍ بِمَنْزِلَة الصَّوْت الْوَاحِد.
وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ كَلَام الله، وَقد ندب النَّبِيُّ ﷺ إِلَى تَحْسِين الصَّوْت بِهِ، وَقَالَ: زَينُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، وَقَالَ لأبي مُوسَى: لقد مَرَرْتُ بك البارحة وَأَنت تَقْرَأ، فَجعلتُ أستمع لقراءتك، فَقَالَ: لَو علمتُ أَنَّك تستمع لحبَّرتُه لَك تحبيرًا.
وَكَانَ عمرُ يَقُول: يَا أَبَا مُوسَى، ذكرنَا رَبنَا. فَيقْرَأ أَبُو مُوسَى وهم يَسْتَمِعُون. وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَا أذن اللهُ لشيءٍ كأذنه لنَبِيٍّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ويجهر بِهِ، وَقَالَ: لله أَشدّ أذنًا إِلَى الرَّجل الْحَسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته.
وَمَعَ هَذَا فَلَا يسوغ أَن يُقْرَأ الْقُرْآن بألحان الْغِناء، وَلَا أَن يُقرن بِهِ من الألحان مَا يُقرن بِالْغِنَاءِ من الْآلَات وَغَيرهَا، لَا عِنْد مَن يَقُول بِإِبَاحَة ذَلِك، وَلَا عِنْد مَن يُحرمه، بل الْمُسلمُونَ متَّفقون على الْإِنْكَار لِأَن يُقرن بتحسين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ الْآلَات المطربة بالفم: كالمزامير، وباليد: كالغرابيل.
فَلَو قَالَ قَائِلٌ: النَّبِي ﷺ قد قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَقد استقرأه من ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقدِ اسْتمع لقِرَاءَة أبي مُوسَى وَقَالَ: لقد أُوتي مِزْمَارًا من مَزَامِير دَاوُد، فَإِذا قَالَ قَائِلٌ: إِذا جَازَ ذَلِك بِغَيْر هَذِه الألحان، فَلَا يتَغَيّر الحكمُ بِأَن يُسمع بالألحان. كَانَ هَذَا مُنْكرًا من القَوْل وزورًا باتِّفاق النَّاس.
وَأما الْمُقدمَة الثَّانِيَة: وَهِي قَوْله بعد أَن أثبت الْإِبَاحَة: (إِنَّ مَا أوجب للمُستمع أَن يُوفر الرَّغْبَة على الطَّاعَات، وَيذكر مَا أعدَّ اللهُ لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ من الدَّرَجَات، ويحمله على التَّحَرُّز من الزَّلات، وَيُؤَدِّي إِلَى قلبه فِي الْحَال صفاء الواردات؛ مُسْتَحبٌّ فِي الدِّين، ومختارٌ فِي الشَّرْع).
فَنَقُول: تَحْقِيق هَذِه الْمُقدمَة أَنَّ الله سُبْحَانَهُ يُحب الرَّغْبَة فِيمَا أَمر بِه،ِ والحذر مِمَّا نهى عَنهُ، وَيُحب الْإِيمَان بوعده ووعيده، وتذكر ذَلِك وَمَا يُوجِبهُ من خَشيته، ورجائه، ومحبَّته، والإنابة إِلَيْهِ، وَيُحبّ الَّذين يُحبونه، فَهُوَ يُحب الْإِيمَانَ، أُصُوله وفروعه، وَالْمُؤمنِينَ، وَالسَّمَاع يحصّل المحبوب، وَمَا حصل المحبوب فَهُوَ مَحْبُوبٌ، فالسَّماع مَحْبُوبٌ.
وَهَذِه الْمُقدمَة مبناها على أصلين:
أَحدهمَا: معرفَة مَا يُحِبهُ الله.
وَالثَّانِي: أَنَّ السَّماع يحصّل مَحْبُوبَ الله خَالِصًا أَو راجحًا.
فَإِنَّهُ إِذا حصّل محبوبه ومكروهه، وَالْمَكْرُوه أغلب، كَانَ مذمومًا، وَإِن تكافأ فِيهِ المحبوبُ وَالْمَكْرُوه لم يكن محبوبًا وَلَا مَكْرُوهًا، أما الأَصْل الأول -وَهُوَ معرفَة مَا يُحِبّهُ الله- فَهِيَ أسهل، وَإِن كَانَ غلط فِي كثيرٍ مِنْهَا كثيرٌ من النَّاس.
وَأما الأَصْل الثَّانِي: وَهُوَ أنَّ السماع الْمُحدث يحصّل هَذِه المحبوبات، فالشَّأن فِيهَا؛ فَفِيهَا زلَّ مَن زلَّ، وضلَّ مَن ضلَّ، وَلَا حول وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه.
وَنحن نتكلم على ذَلِك بِوُجُوهٍ نبين بهَا إِن شَاءَ اللهُ الْمَقْصُود:
الْوَجْه الأول: أَن نقُول: يجب أَن يعرف أَنَّ الْمَرجع فِي الْقُرَب والطَّاعات والدِّيانات والمستحبَّات إِلَى الشَّرِيعَة، لَيْسَ لأحدٍ أَن يبتدع دينًا لم يَأْذَن اللهُ بِهِ وَيَقُول: هَذَا يُحِبّهُ الله. بل بِهَذِهِ الطَّرِيق بُدِّل دينُ الله وشرائعه، وابتُدِعَ الشِّركُ وَمَا لم يُنزل اللهُ بِهِ سُلْطَانًا.
وكلُّ مَا فِي الْكِتاب وَالسُّنة وَكَلَام سلف الْأمة وأئمّة الدِّين ومشايخه من الحضِّ على اتِّبَاع مَا أُنزل إِلَيْنَا من رَبِّنَا، وَاتِّبَاع صراطه الْمُسْتَقيم، وَاتِّبَاع الْكِتاب، وَاتِّبَاع الشَّرِيعَة، وَالنَّهْي عَن ضدِّ ذَلِك، فكله نهي عَن هَذَا، وَهُوَ ابتداع دينٍ لم يَأْذَن اللهُ بِهِ، سَوَاء كَانَ الدّينُ فِيهِ عبَادَة غير الله، وَعبادَة الله بِمَا لم يَأْمر بِهِ.
بل دين الْحقّ أَن نَعْبد الله وَحده لَا شريكَ لَهُ بِمَا أمرنَا بِهِ على أَلْسِنَة رسله، كَمَا قَالَ الفُضيل بن عِيَاض فِي قَوْله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، قَالَ: أخلصه وأصوبه. قيل: يَا أَبَا عَليّ، مَا أخلصه وأصوبه؟ فَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذا كَانَ خَالِصًا وَلم يكن صَوَابًا لم يُقبل، وَإِذا كَانَ صَوَابًا وَلم يكن خَالِصًا لم يُقبل حَتَّى يكون خَالِصًا صَوَابًا، والخالص: أَن يكون لله، وَالصَّوَاب: أَن يكون على السُّنَّة.
الشيخ: والمعنى أنه لا بدَّ من الأمرين، المسلم ليس له أن يتقرب لغير الله، بل عليه أن يعبد الله وحده، وعليه مع ذلك أن يعبد الله بما شرع، ما هو بآرائه وأهوائه وقول زيدٍ وعمرو، لا يتقرب إلى الله إلا بما شرع: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا [الجاثية:18]، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
ويقول ﷺ: مَن عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ، فلا بدَّ أن تكون العبادةُ على الوجه الذي شرعه الله، فإذا اجتمع الأمران: الإخلاص والصَّواب قُبلت، وإلا فلا. نعم.
وَكَلَام الْمَشَايِخ الَّذين ذكرهم أَبُو الْقَاسِم فِي هَذَا الأَصْل كثيرٌ، مثل مَا ذكره عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي أَنه قَالَ: رُبمَا يَقع النُّكْتَة فِي قلبِي من نُكت الْقَوْم أَيَّامًا، فَلَا أقبل مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدين عَدْلَيْنِ: الْكِتاب وَالسُّنة.
وَعَن صَاحبه أَحْمد ابن أبي الْحوَاري أَنه قَالَ: مَن عمل بِلَا اتِّباع سُنَّةٍ فَبَاطِلٌ عمله.
وَعَن سهل بن عبدالله التُّسترِي أَنه قَالَ: كلُّ فعلٍ يَفْعَله العَبْدُ بِغَيْر اقْتِدَاءٍ -طَاعَةً كَانَ أَو مَعْصِيةً- فَهُوَ عَيْش النَّفس، وكل فعلٍ يفعله بالاقتداء فَهُوَ عَذَابٌ على النَّفس.
الشيخ: يعني شاقٌّ عليها، تحتاج إلى جهادها؛ لأنه ليس لهواها.
وَعَن أبي حَفْصٍ النَّيْسَابُورِي أَنه قَالَ: مَن لم يزن أَفعالَه وأحوالَه كل وَقتٍ بِالْكِتاب وَالسُّنة، وَلم يتَّهم خواطره، فَلَا تعدّه فِي ديوَان الرِّجَال.
وَعَن الْجُنَيْد بن مُحَمَّدٍ أَنه قَالَ: الطُّرق كلهَا مسدودة على الْخَلق إِلَّا مَن اقتفى أثر الرَّسُول ﷺ.
وَعَن الْجُنَيْد أَيْضًا أَنه قَالَ: مَن لم يحفظ الْقُرْآنَ، وَلم يَكْتب الحَدِيثَ لَا يُقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الْأَمر؛ لِأَنَّ علمنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتاب وَالسُّنة.
وَعَن أبي عُثْمَان النَّيْسَابُورِي أَنه قَالَ: مَن أَمَرَّ السُّنة على نَفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، وَمَن أَمَرَّ الْهوى على نَفسه نطق بالبدعة، قَالَ الله تَعَالَى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54].
وَعَن أبي حَمْزَة الْبَغْدَادِيّ قَالَ: مَن علم طَرِيقَ الْحقِّ تَعَالَى سهل عَلَيْهِ سلوكه، وَلَا دَلِيَل على الطَّرِيق إِلَى الله إِلَّا مُتَابعَة الرَّسُول فِي أَحْوَاله وأقواله وأفعاله.
وَعَن أبي عَمْرو ابن نجيد قَالَ: كل حَالٍ لَا يكون نتيجة علمٍ فَإِنَّ ضَرَره أَكثر على صَاحبه من نَفعه.
وَسُئِلَ عَن التَّصوف فَقَالَ: الصَّبْر تَحت الْأَمر والنَّهي.
وَعَن أبي يَعْقُوب النهرجوري قَالَ: أفضل الْأَحْوَال مَا قَارن الْعِلم.
وَمثل هَذَا كثيرٌ فِي كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ، وهم إِنَّمَا وصوا بذلك لما يعلمونه من حَال كثيرٍ من السَّالكين أَنه يَجْرِي مَعَ ذوقه ووجده وَمَا يرَاهُ ويهواه، غير مُتَّبعٍ لسبيل الله الَّتِي بعث بهَا، وَهَذَا نوع الْهوى بِغَيْر هدى من الله.
وَالسَّمَاع الْمُحدث يُحَرِّك الْهوى؛ وَلِهَذَا كَانَ بعضُ الْمَشَايِخ المصنفين فِي ذمِّه سمّى كِتَابه: "الدَّلِيل الْوَاضِح فِي النَّهي عَن ارْتِكَاب الْهَوى الفاضح"؛ وَلِهَذَا كثيرًا مَا يُوجد فِي كَلَام الْمَشَايِخ الْأَمر بمتابعة الْعِلم، يعنون بذلك الشَّرِيعَة، كَقَوْل أبي يزِيد البسطامي رَحمَه الله: عملتُ فِي المجاهدة ثَلَاثِينَ سنةً، فَمَا وجدتُ شَيْئًا أَشدّ عَليَّ من الْعِلم ومُتابعته، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْعُلمَاء لتفتت، وَاخْتِلَافُ الْعُلمَاء رَحْمَة إِلَّا فِي تَجْرِيد التَّوْحِيد.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن النُّوري: مَن رَأَيْتَه يدَّعي مَعَ الله حَالَةً تُخرجه عَن حدِّ الْعِلم الشَّرْعِيِّ فَلَا تقربنَّ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَان النَّيْسَابُورِي: الصُّحْبَة مَعَ الله بِحُسن الْأَدَب ودوام الهيبة والمراقبة، والصُّحبة مَعَ الرَّسُول ﷺ باتِّباع سنته، وَلُزُوم ظَاهر الْعِلم، والصُّحبة مَعَ أَوْلِيَاء الله بالاحترام والخدمة، والصُّحبة مَعَ الْأَهْل بِحُسن الْخُلق، والصُّحبة مَعَ الإخوان بدوام الْبِشْر مَا لم يكن إِثْمًا، والصُّحبة مَعَ الجُهَّال بِالدُّعَاءِ لَهُم وَالرَّحْمَة عَلَيْهِم.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لما كَانَ أصلُ الطَّرِيق هُوَ الْإِرَادَة وَالْقَصْد، وَالْعَمَل فِي ذَلِك فِيهِ من الْحبِّ والوجد مَا لَا يَنْضَبِط، فكثيرٌ مَا يَعْمل السَّالك بِمُقْتَضى مَا يجده فِي قلبه من الْمحبَّة، وَمَا يُدْرِكهُ ويذوقه من طعم الْعِبَادَة، وَهَذَا إِذا لم يكن مُوَافقًا لأمر الله وَرَسُوله، وَإِلَّا كَانَ صَاحبُه فِي ضلالٍ من جنس ضلال الْمُشْركين وَأهل الْكِتاب الَّذين اتَّبعُوا أهواءهم بِغَيْر هدًى من الله.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43].
وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [الأنعام:119].
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة:120].
وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77].
وَكَثِيرًا مَا يُبتلى من أهل السَّماع بشعبةٍ من حَال النَّصَارَى من الغُلو فِي الدِّين، وَاتِّبَاع أهواء قومٍ قد ضلّوا من قبل، وَإِن كَانَ فيهم مَن فِيهِ فضلٌ وَصَلَاحٌ، فهم فِيمَا ابتدعوه من ذَلِك ضالُّون عَن سَبِيل الله، يحسبون أَنَّ هَذِه الْبِدْعَة تهديهم إِلَى محبَّة الله، وَإِنَّهَا لتصدّهم عَن سَبِيل الله، فَإِنَّهُم عشوا عَن ذكر الله الَّذِي هُوَ كِتَابه: عَن استماعه، وتدبره، واتِّباعه، وَقد قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:36- 39].
وَقد قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18- 19].
فالشَّريعة الَّتِي جعله عَلَيْهَا تَتَضَمَّن مَا أَمر بِهِ، وكل حبٍّ وذوقٍ وَوجدٍ لَا تشهد لَهُ هَذِه الشَّرِيعَة فَهُوَ من أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ، فَإِنَّ الْعِلم بِمَا يُحِبّهُ اللهُ إِنَّمَا هُوَ مَا أنزلهُ اللهُ إِلَى عباده من هُداه.
وَلِهَذَا قَالَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119]، وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].
فَكل مَن اتَّبع ذوقًا أَو وجدًا بِغَيْر هدًى من الله، سَوَاء كَانَ ذَلِك عَن حبٍّ أَو بُغضٍ، فَلَيْسَ لأحدٍ أَن يتَّبع مَا يُحِبّهُ فيأمر بِهِ، ويتّخذه دينًا، وَيَنْهى عَمَّا يبغضه ويذمّه، ويتّخذ ذَلِك دينًا، إِلَّا بهدى من الله، وَهُوَ شَرِيعَة الله الَّتِي جعل عَلَيْهَا رَسُوله، وَمَن اتَّبع مَا يهواه حبًّا وبُغْضًا بِغَيْر الشَّرِيعَة فقد اتَّبع هَوَاهُ بِغَيْر هدًى من الله.
وَلِهَذَا كَانَ السّلفُ يعدّون كلَّ مَن خرج عَن الشَّرِيعَة فِي شيءٍ من الدِّين من أهل الْأَهْوَاء، ويجعلون أهلَ الْبِدع هم أهل الْأَهْوَاء، ويذمّونهم بذلك، ويأمرون بألَّا يُغترَّ بهم، وَلَو أظهرُوا مَا أظهروه من الْعِلم وَالْكَلَام وَالْحِجاج، أَو الْعِبَادَة وَالْأَحْوَال مثل: المكاشفات، وخرق الْعَادَات، كَقَوْل يُونُس بن عبدالْأَعْلَى: قلتُ للشَّافِعِيّ: تَدْرِي يَا أَبَا عبدالله مَا كَانَ يَقُول فِيهِ صاحبُنا؟ أُرِيد اللَّيْث بن سعدٍ وَغَيره، كَانَ يَقُول: لَو رَأَيْتَه يمشي على المَاء لَا تثق بِهِ، وَلَا تعبأ بِهِ، وَلَا تُكَلمه. قَالَ الشَّافِعِي: فَإِنَّهُ وَالله مَا قصَّر.
الشيخ: يعني: لا تغترَّ بأحوال المبتدعة وأتباع الهوى ولو رأيتَ منهم العبادة الكثيرة، أو الكرامات التي يدَّعونها من المشي على الماء، أو غير ذلك، لا تغترَّ بهم حتى تزنهم بميزان الشَّريعة، حتى تنظر أحوالهم من جهة الشريعة، وحتى تعرف تمسّكهم بها، وتعظيمهم لها، ومُحاربتهم لما خالفها، هذا هو الميزان، أما ما يدَّعون من الكرامات فلا قيمةَ لها؛ لأنها قد تكون من خوارق الشَّياطين، تكون ابتلاءً وامتحانًا يضرّهم.
فالواجب على مَن أراد أن يزن الناسَ ويعرف حالهم أن يزنهم بالشرع: هل استقاموا عليه بأقوالهم وأعمالهم، أو انحرفوا؟ هذا هو الميزان، وأما ما يدَّعون من الكرامات أو المكاشفات أو غير ذلك، فهذه أشياء قد تكون لها أسباب أخرى.
وَعَن عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: تعلَّمُوا الْإِسْلَام، فَإِذا تعلَّمتُموه فَلَا ترغبوا عَنهُ، وَعَلَيْكُم بالصِّراط الْمُسْتَقيم، فَإِنَّهُ الْإِسْلَام، وَلَا تُحرفوا الْإِسْلَام يَمِينًا وَشمَالًا، وَعَلَيْكُم بِسُنة نَبِيكُم، وَالَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابه، وَإِيَّاكُم وَهَذِه الْأَهْوَاء الَّتِي تُلقي بَين النَّاس الْعَدَاوَة والبغضاء.
فَحدَّثتُ الْحَسن، قَالَ: صدق، ونصح. قَالَ: فَحدَّثتُ حَفْصَة بنت سِيرِين، فَقَالَت: أَبَا عَليّ، أَنْت حدَّثتَ مُحَمَّدًا بِهَذَا؟ قلت: لَا. قَالَت: فحدّثه إِذًا.
وَقَالَ أُبي بن كَعْبٍ: عَلَيْكُم بالسَّبيل وَالسُّنة، فَإِنَّهُ مَا على الأَرْض عبدٌ على السَّبِيل وَالسُّنة ذكر الله فَفَاضَتْ بِهِ عَيناهُ من خشيَة الله فيُعذبه، وَمَا على الأَرْض عبدٌ على السَّبِيل وَالسُّنة ذكر الله فِي نَفسه فاقشعرَّ جلده من خشيَة الله، إِلَّا كَانَ مثله كَمثل شَجَرَةٍ قد يبس وَرقهَا، فهي كَذَلِك إِذْ أصابتها ريحٌ شَدِيدَةٌ، فتحات عَنْهَا وَرقُهَا، ولتحطّ عَنهُ خطاياه كَمَا تحاتّ عَن تِلْكَ الشَّجَرَة وَرقُهَا، وَإِنَّ اقتصادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنةٍ خيرٌ من اجْتِهَادٍ فِي خلاف سَبِيلٍ وَسنةٍ، فانظروا أَن يكون عَمَلُكُمْ إِن كَانَ اجْتِهَادًا أَو اقتصادًا أَن يكون على منهاج الْأَنْبِيَاء وسُنَّتهم.
وَكَذَلِكَ قَالَ عبدالله بن مَسْعُودٍ: الاقتصاد فِي السُّنة خيرٌ من الِاجْتِهَاد فِي الْبِدْعَة.
وَقيل لأبي بكر ابن عَيَّاش: يَا أَبَا بكر، مَن السُّني؟ قَالَ: الَّذِي إِذا ذُكرت الْأَهْوَاء لم يَغْضب لشيءٍ مِنْهَا.
وَهَذَا أصلٌ عَظِيمٌ من أصُول سَبِيل الله وَطَرِيقه، يجب الاعتناء بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ كثيرًا من الْأَفْعَال قد يكون مُبَاحًا فِي الشَّرِيعَة، أَو مَكْرُوهًا، أَو مُتنازعًا فِي إِبَاحَته وكراهته، وَرُبمَا كَانَ مُحَرَّمًا، أَو مُتنازعًا فِي تَحْرِيمه؛ فتستحبّه طَائِفَةٌ من النَّاس يَفْعَلُونَهُ على أَنه حسنٌ مُسْتَحبٌّ، وَدينٌ وَطَرِيقٌ يَتَقَرَّبُون بِهِ، حَتَّى يعدّون مَن يفعل ذَلِك أفضل مِمَّن لَا يَفْعَله، وَرُبمَا جعلُوا ذَلِك من لَوَازِم طريقتهم إِلَى الله، أَو جَعَلُوهُ شعار الصَّالِحين وأولياء الله، وَيكون ذَلِك خطأً وضلالًا وابتداعَ دينٍ لم يَأْذَن بِهِ الله.
مِثَال ذَلِك: حلق الرَّأْس فِي غير الْحَجِّ وَالْعُمْرَة لغير عذرٍ، فَإِنَّ الله قد ذكر فِي كِتَابه حلق الرَّأْس وتقصيره فِي النُّسك، وَذكر حلقه لعذرٍ فِي قَوْله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].
وَأما حلقه لغير ذَلِك فقد تنَازع الْعُلمَاء فِي إِبَاحَته وكراهته نزاعًا مَعْرُوفًا على قَوْلَيْنِ، هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد، وَلَا نزاعَ بَين عُلَمَاء الْمُسلمين وأئمّة الدِّين أَنَّ ذَلِك لَا يُشرع، وَلَا يُسْتَحبّ، وَلَا هُوَ من سَبِيل الله وَطَرِيقه، وَلَا من الزُّهْد الْمَشْرُوع للْمُسلمين، وَلَا مِمَّا أثنى اللهُ بِهِ على أحدٍ من الْفُقَرَاء.
وَمَعَ هَذَا فقد اتَّخذهُ طوائف من النُّسَّاك الْفُقَرَاء والصُّوفية دينًا، حَتَّى جَعَلُوهُ شعارًا وعلامةً على أهل الدِّين والنُّسك وَالْخَيْر وَالتَّوْبَة والسُّلوك إِلَى الله، المشير إِلَى الْفَقر والصُّوفية، حَتَّى أَنَّ مَن لم يفعل ذَلِك يكون منقوصًا عِنْدهم، خَارِجًا عَن الطَّرِيقَة المفضلة المحمودة عِنْدهم، وَمَن فعل ذَلِك دخل فِي هديهم وطريقهم.
وَهَذَا ضلالٌ عَن طَرِيق الله وسبيله باتِّفاق الْمُسلمين، واتِّخاذ ذَلِك دينًا وشعارًا لأهل الدِّين من أَسبَاب تَبْدِيل الدِّين، بل جعله عَلامَةً على المروق من الدِّين أقرب، فَإِنَّ الَّذِي يكرههُ -وَإِن فعله صَاحبه عَادَةً لَا عبَادَةً- يحْتَجّ بِأَنَّهُ من سيماء الْخَوَارِج المارقين الَّذين جَاءَت الْأَحَادِيثُ الصِّحَاح عَن النَّبِي ﷺ بذمِّهم من غير وَجهٍ، ورُوي عَنهُ ﷺ: سِيمَاهُم التَّحليق.
فَإِذا كَانَ هَذَا سيماء أُولَئِكَ المارقين، وَفِي "الْمُسند" وَالسُّنَن عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: مَن تشبَّه بِقومٍ فَهُوَ مِنْهُم، كَانَ هَذَا على بُعده من شعار أهل الدِّين أولى من الْعَكْس؛ وَلِهَذَا لما جَاءَ صبيغ بن عسل التَّمِيمِي إِلَى عمر بن الْخطَّاب وَسَأَلَهُ من الْمُتَشَابه؛ ابْتِغَاء الْفِتْنَة، وابتِغاء تَأْوِيله، وضربه ضربًا عَظِيمًا، كشف رَأسه فَوَجَدَهُ ذَا ضفيرتين، فَقَالَ: "لَو وَجَدْتُك محلوقًا لضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك"؛ لِأَنَّهُ لَو وجده محلوقًا اسْتدلَّ بذلك على أَنه من الْخَوَارِج المارقين، وَكَانَ يَقْتله لأمر النَّبِي ﷺ بقتالهم.
وَقد قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صفتهمْ: يحقر أحدُكُم صلَاتَه مَعَ صلَاتهم، وصيامه مَعَ صِيَامهمْ، وقراءَته مَعَ قراءتهم، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوز حَنَاجِرَهمْ، يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام كَمَا يَمْرُق السَّهْم من الرَّميَّة.
وَلَا ريبَ أَنَّ الْخَوَارِج كَانَ فيهم من الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة والورع مَا لم يكن فِي الصَّحَابَة، كَمَا ذكره النَّبِيُّ ﷺ، لَكِن لما كَانَ على غير الْوَجْه الْمَشْرُوع أَفْضَى بهم إِلَى المروق من الدِّين؛ وَلِهَذَا قَالَ عبدُالله بن مَسْعُودٍ وَأُبي بن كَعْبٍ: اقتصاد فِي سنةٍ خيرٌ من اجْتِهَادٍ فِي بِدعَةٍ.
الشيخ: حتى جرَّهم ذلك إلى تكفير أهل الذنوب وتخليدهم في النار، فهذا من غلوهم -غلو الخوارج- اجتهدوا في العبادات، وزعموا أنَّهم بذلك فاقوا مَن قبلهم، ثم جرَّهم هذا إلى الخروج عن الدِّين، وتكفير المسلمين؛ ولهذا قال ﷺ: أينما لقيتُموهم فاقتلوهم؛ لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتل عادٍ؛ لبدعتهم العظيمة، وتكفيرهم المسلمين، وخروجهم عن الصراط المستقيم.
وكان من شأنهم تحليق الرؤوس، والإلزام بذلك، وأنه من دينهم، ومن عبادتهم وقُرباتهم، كان علامةً لهم؛ ولهذا قال: سيماهم التَّحليق، وإنما التَّحليق جائزٌ فقط، ليس بواجبٍ ولا مشروعٍ، بل قُصاراه أن يكون جائزًا، وقد كرهه بعضُ أهل العلم إلا من حاجةٍ: كالحلق في العمرة، أو في الحجِّ، أو لأسبابٍ أخرى.
فالحاصل أنَّ هؤلاء الخوارج ابتُلوا بالغلو: الزيادة في الدِّين، حتى جرَّهم ذلك إلى التَّنطع، ثم كفَّروا المسلمين وقالوا: مَن زنا كفر، ومَن سرق كفر، ومَن عقَّ والديه كفر، ومَن قطع الرَّحم كفر. فأخرجوهم من الدِّين بهذه المعاصي، ثم جعلوهم مُخلدين في النار كالكفرة، نسأل الله العافية.
وَقد تَأَوَّل فيهم عليُّ بن أبي طَالبٍ الَّذِي قَاتلهم بِأَمْر النَّبِي ﷺ، وَكَانَ قِتَالُه لَهُم من أعظم حَسَنَاته وغزواته الَّتِي يُمدح بهَا؛ لِأَنَّ النَّبِي ﷺ حضَّ على قِتَالهمْ وَقَالَ: لَئِن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتل عَادٍ، وَقَالَ: أَيْنَمَا لقيتُموهم فاقتلوهم، فَإِنَّ فِي قَتلِهمْ أجرًا عِنْدَ الله لمن قَتَلهمْ يَوْمَ الْقِيَامَة.
وَفِي الصَّحِيح عَن عَليٍّ أَيْضًا: "لَو يعلم الَّذين يُقاتلونهم مَاذَا لَهُم على لِسَان مُحَمَّدٍ لنكلوا عَنِ الْعَمَل".
وَكَانُوا يتشدَّدون فِي أَمر الذُّنُوب والمعاصي حَتَّى كفَّرُوا الْمُسلمين، وأوجبوا لَهُم الخلود فِي النَّار.
وَلَا ريبَ أَنَّ كثيرًا من النُّساك والعُبَّاد والزُّهاد قد يكون فِيهِ شُعْبَةٌ من الْخَوَارِج، وَإِن كَانَ مُخَالفًا لَهُم فِي شُعبٍ أُخْرَى، فلزوم زِيٍّ مُعينٍ من اللِّبَاس، سَوَاء كَانَ مُبَاحًا، أَو كَانَ مِمَّا يُقَال: إِنَّه مَكْرُوهٌ، بِحَيْثُ يَجْعَل ذَلِك دينًا ومُستحبًّا وشعارًا لأهل الدِّين؛ هُوَ من الْبِدَع أَيْضًا، فَكَمَا أَنه لَا حرَامَ إِلَّا مَا حرَّمه اللهُ، فَلَا دينَ إِلَّا مَا شَرعه الله.
الْوَجْه الثَّانِي: أنَّ قَوْلهم: (إِنَّ هَذَا السَّماع يحصّل مَحْبُوبَ الله، وَمَا حصَّل محبوبَه فَهُوَ مَحْبُوبٌ لَهُ) قَولٌ بَاطِلٌ، وَكثيرٌ من هَؤُلَاءِ أَو أَكْثَرهم حصل لَهُم الضَّلال والغواية من هَذِه الْجِهَة، فظنوا أَنَّ السَّماع يُثير محبَّة الله، ومحبَّة الله هِيَ أصل الْإِيمَان الَّذِي هُوَ عمل الْقَلب، وبكمالها يكمل، وَهِي فِيمَا يذكرهُ أَبُو طَالب وَغَيره نِهَايَة المقامات، وَرُبمَا قَالَ بَعضُهم: هِيَ الْمقَام الَّتِي يرتقي مُقَدّمَه الْعَامَّة، وَسَاقه الْخَاصَّة.
وَيَقُول مَن يَقُول مِنْهُم: إِنَّ السَّماع هُوَ من تَوَابِع الْمحبَّة، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوهُ لما يُحركه من محبَّة الله ؛ إِذ السَّماع يُحَرك من كل قلبٍ مَا فِيهِ، فَمَن كَانَ فِي قلبه حبُّ الله وَرَسُوله حرَّك السَّماعُ هَذَا الْحبَّ، وَمَا يتبع الْحبَّ من الوجد والحلاوة وَغير ذَلِك، كَمَا يُثير من قُلُوبٍ أُخْرَى محبَّة الْأَوْثَان والصُّلبان والإخوان والخِلَّان والأوطان والعُشراء والمردان والنِّسوان؛ وَلِهَذَا يُذكر عَن طَائِفَةٍ من أعيانهم سَماع القصائد فِي بَاب الْمحبَّة، كَمَا فعل أبو طَالبٍ.
فَيُقَال: إِنَّ مَا يهيجه هَذَا السَّماع المبتدع وَنَحْوه من الْحبِّ وحركة الْقَلب لَيْسَ هُوَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُوله، بل اشتماله على مَا لَا يُحِبّهُ الله، وعَلى مَا يبغضه أَكثر من اشتماله على مَا يُحِبّهُ وَلَا يبغضه، وَحدّه عَمَّا يُحِبّهُ الله، وَنَهْيه عَن ذَلِك أعظم من تحريكه لما يُحِبهُ الله، وَإِن كَانَ يُثير حبًّا وحركةً، ويظنّ أَنَّ ذَلِك يُحِبّهُ الله، وَأَنه مِمَّا يُحِبهُ الله، فَإِنَّمَا ذَلِك من بَاب اتِّبَاع الظَّنِّ وَمَا تهوى الْأَنْفُس: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23].
وَمِمَّا يُبين ذَلِك: أَنَّ الله بَيَّن فِي كِتَابه محبَّته، وَذكر مُوجباتها وعلاماتها، وَهَذَا السَّماع يُوجِب مُضادًّا لذَلِك، مُنافيًا لَهُ.
وَذَلِكَ أَنَّ الله يَقُول فِي كِتَابه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
وَقَالَ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
وَيَقُول: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [المائدة:54].
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أصُولٍ لأهل محبَّة الله: إخلاص دينهم، ومُتابعة رَسُوله، وَالْجهَاد فِي سَبيله.
الشيخ: يعني هذه ثمرات المحبَّة ومُوجباتها أيضًا، فهي تُوجبها، وهي من ثمراتها، فمن ثمرات المحبَّة لله الصَّادقة: اتِّباع الرسول ﷺ، واتِّباع الرسول يُنمي هذه المحبَّة ويُقويها ويُثبتها، وهكذا الإخلاص لله، وترك الإشراك من ثمرات المحبَّة، فإنَّ هذا المحبوبَ لا يرضى أن يُشارَك، من كمال هذه المحبَّة وتمامها وصحَّتها أن يُخصَّ بها المولى ، وأن يُعبد وحده ، وهذه العبادة له، والتَّخصيص له مما يُنمي هذه المحبَّة ويُقويها ويُكملها، وهكذا الجهاد في سبيل الله، ومُعاداة أعدائه، ومحبَّة أوليائه، هي من أسباب محبَّة الله، ومن مُقوماتها، ومن مُوجباتها، كما أنها من مُكملاتها أيضًا.
فَإِنَّهُ أخبر عَن الْمُشْركين الَّذين يتَّخذون الأنداد أَنهم يُحبونهم كَمَا يُحبونَ الله، ثمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، فالمؤمنون أَشدّ حبًّا لله من الْمُشْركين الَّذين يُحبونَ الأنداد كَمَا يُحبونَ الله، فَمَن أحبَّ شَيْئًا غير الله كَمَا يُحب الله فَهُوَ من الْمُشْركين، لَا من الْمُؤمنِينَ.
ومحبَّة رَسُوله من محبَّته؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ الله ﷺ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي "الصَّحِيحَيْنِ": وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤمِن أحدُكُم حَتَّى أكونَ أحبَّ إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ.
وَفِي "صَحِيح البُخَارِيّ": أَنَّ عمر قَالَ لَهُ: يَا رَسُول الله، وَالله لأَنْت أحبُّ إِلَيَّ من كل شيءٍ إِلَّا من نَفسِي. فَقَالَ: لَا يَا عمر، حَتَّى أكونَ أحبَّ إِلَيْك من نَفسك، قَالَ: فَأَنت أحبُّ إِلَيَّ من نَفسِي. قَالَ: فَأَنت الْآنَ يَا عمر.
الشيخ: يعني: أنت الآن كامل الإيمان، تام الإيمان.
الشيخ: وهذه المحبَّة ليست بمجرد الدَّعوى، بل لها دلائل، فمَن أحبَّ الله المحبة الصَّادقة فللمحبَّة دلائل، أما مجرد أنه يدَّعي هذا وهو يعصي الله ويُخالف أوامره ويبتدع في دينه، فهذه دعوى باطلة، إنما يكون صادقًا في دعواه إذا تابع الشَّريعة، وتقيد بالشَّريعة، وسارع إلى الأوامر، وترك النَّواهي، ووقف عند الحدود، فهذه علامة دالَّة على صحَّة دعواه؛ ولهذا قال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وقال في الآية الأخرى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [المائدة:54]، هذه من دلائل صدق المحبَّة: مُوالاتهم للمؤمنين، وتواضعهم مع المؤمنين، وغلظتهم على الكافرين، وبُغضهم لله، وجهادهم في سبيله .
وَقد قَالَ اللهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24]، فَلم يرضَ مِنْهُم أَن يكون حبُّهم لله وَرَسُوله كحبِّ الْأَهْل وَالْمَال، وَأَن يكون حبُّ الْجِهَاد فِي سَبيله كحبِّ الْأَهْل وَالْمَال، بل حَتَّى يكون الْجِهَادُ فِي سَبيله الَّذِي هُوَ تَمام حبّه وَحبّ رَسُوله أحبَّ إِلَيْهِم من الْأَهْل وَالْمَال.
فَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون حبُّهم لله وَرَسُوله مُقدَّمًا على كل محبَّةٍ، لَيْسَ عِنْدَهم شيءٌ يُحبونه كحبِّ الله، بِخِلَاف الْمُشْركين.
وَيَقْتَضِي الأَصْلُ الثَّانِي، وَهُوَ أن يكون الْجِهَادُ فِي سَبيله أحبَّ إِلَيْهِم من الْأَهْل وَالْمَال، فَإِنَّ ذَلِك هُوَ تَمام الْإِيمَان الَّذِي ثَوَابه حبّ الله وَرَسُوله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا إِيمَانًا لَا يكون بعده ريبٌ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات:15].
وَبِذَلِك وصف أهل الْمحبَّة فِي قَوْله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [المائدة:54]، فَأخْبر سُبْحَانَهُ بذلهم للمُؤْمِنين، وعزّهم على الْكَافرين، وجهادهم فِي سَبيله، وَأَنَّهُمْ لَا يخَافُونَ لومةَ لائمٍ، فَلَا يخَافُونَ لوم الْخَلق لَهُم على ذَلِك.
وَهَؤُلَاء هم الَّذين يحْتَملُونَ الملام والعذلَ فِي حبِّ الله وَرَسُوله، وَالْجهَاد فِي سَبيله، وَالله يُحِبهُمْ، وهم يُحبونه، لَيْسُوا بِمَنْزِلَة مَن يحْتَمل الملام والعذل فِي محبَّة مَا لَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله، وَلَا بِمَنْزِلَة الَّذين أظهرُوا من مكروهات الْحق ِّمَا يُلامون عَلَيْهِ، ويُسمون بالملامتية، ظانين أَنهم لما أظهرُوا مَا يلومهم الْخلق عَلَيْهِ من الْمُنْكَرَات، مَعَ صحَّتهم فِي الْبَاطِن؛ كَانَ ذَلِك من صدقهم وإخلاصهم، وهم فِي ذَلِك إِنَّمَا يتبعُون الظَّنَّ وَمَا تهوى الْأَنْفس، فَإِنَّ ذَلِك الْمُنكر الَّذِي يكرههُ الله وَرَسُوله لَا يكون فعله مِمَّا يُحِبهُ الله وَرَسُوله، وَلَا يكون من الصِّدْق وَالْإِخْلَاص فِي حبِّ الله وَرَسُوله، وَالنَّاس يُلامون عَلَيْهِ.
وسنام ذَلِك الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، فَإِنَّهُ أَعلَى مَا يُحِبّهُ الله وَرَسُوله، واللَّائمون عَلَيْهِ كثيرٌ، إِذْ كثيرٌ من النَّاس الَّذين فيهم إِيمَانٌ يكرهونه، وهم إِمَّا مخذلون مُفترون للهمة والإرادة فِيهِ، وَإِمَّا مُرجفون مُضعفون للقوة وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ ذَلِك من النِّفَاق.
قَالَ الله تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18].
وَقَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60].
وَأما الأَصْل الثَّالِث: وَهُوَ مُتَابعَة السُّنة والشَّريعة النَّبَوِيَّة: قَالَ الله تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
قَالَ طَائِفَةٌ من السَّلف: ادَّعى قومٌ على عهد النَّبِي ﷺ أَنهم يُحبونَ الله، فَأنْزل اللهُ هَذِه الْآيَة، فَجعل حبَّ العَبْد لرَبِّه مُوجبًا ومُقتضيًا لاتِّباع رَسُوله، وَجعل اتِّبَاع رَسُوله مُوجبًا ومُقتضيًا لمحبَّة الرب عَبده، فَأهل اتِّبَاع الرَّسُول يُحِبهُمْ الله، وَلَا يكون حبًّا لله إِلَّا مَن يكون مِنْهُم.
الشيخ: وهذه الآية يُقال لها: آية المحنة، وهي قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، امتحن اللهُ بها مَن يدَّعي حبَّ الرسول ﷺ، أو حبَّ الله ، وأنَّ هذه الدَّعوى تحتاج إلى دليلٍ، ودليلها هو اتِّباع النبي ﷺ في الأقوال والأعمال، مَن كان مُتَّبعًا للرسول ﷺ في أقواله وأعماله علم أنه صادقٌ في دعواه أنه يُحب الله، وفي دعواه أنه يُحب الرسول ﷺ، أما مَن قال: إنه يُحب الله، أو يُحب الرسول ﷺ، وهو مُتخلِّفٌ عن طاعة الله ورسوله، فهذا كاذبٌ في الدَّعوى، ليس بصادقٍ، فإنَّ الصدقَ في الدَّعوى يُوجِب العمل، يقول الشَّافعي في هذا المعنى:
تعصي الإله وأنت تزعم حبّه | هذا لعمري في القياس بديع |
لو كان حبُّك صادقًا لأطعته | إنَّ المحبَّ لمن يُحب مُطيع |
والمقصود أنَّ كلام الربِّ في هذا أعظم وأكبر: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، فالدَّعوى تحتاج إلى عملٍ، تحتاج إلى اتِّباعٍ، والاتباع هو السَّير على المنهاج الذي رسمه اللهُ على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام في الأقوال والأعمال، فمَن فعل ذلك حصل له حبُّ الله، وحصلت له المغفرة، ومَن لم يفعل ذلك فليس بصادقٍ في دعواه أنه يُحب الله، وهو يرتكب محارمه، ويدع فرائضه، ليس بصادقٍ.
وَإِذا عرفت هَذِه الْأُصُول: فعامَّة أهل السَّماع الْمُحدَث مُقصِّرون فِي هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة، وهم فِي ذَلِك مُتفاوتون تَفَاوتًا كثيرًا بِحَسب قُوَّة اعتياضهم بِالسَّمَاعِ الْمُحدث عَن السَّماع الْمَشْرُوع وَمَا يتبع ذَلِك، حَتَّى آل الْأَمرُ بِأخرة إِلَى الانسلاخ من الْإِيمَان بِالْكُلِّيَّةِ، ومصيره مُنافقًا مَحْضًا، أَو كَافِرًا صرفًا.
وَأما عامَّتهم وغالبهم الَّذين فيهم حبّ الله وَرَسُوله وَمَا يتبع ذَلِك: فهم فِيهِ مُقصرون، تَجِد فيهم من التَّفْرِيط فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَمَا يَدْخل فِيهِ من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، والنَّهي عَن الْمُنكر، والتَّفريط فِي مُتَابعَة رَسُول الله ﷺ فِي شَرِيعَته، وسُنته، وأوامره، وزواجره أمرًا عَظِيمًا جدًّا، وَكَذَلِكَ فِي أَمر الْإِخْلَاص لله تَجِد فيهم من الشِّرك الْخَفي أَو الجليّ أمورًا كَثِيرَةً.
وَلِهَذَا كَانَ هَذَا السَّماعُ -سَماعَ المكاء والتَّصدية- إِنَّمَا هُوَ فِي الأَصْل سَماع الْمُشْركين، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35]، وَفِيهِمْ من اتِّخَاذ أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله مَا ضاهوا بِهِ النَّصَارَى فِي كثيرٍ من ذَلِك، حَتَّى أنَّ مِنْهُم مَن يعبد بعض البشر، ويعبد قُبُورهم: فيدعوهم، ويستغيث بهم، ويتوكل عَلَيْهِم، ويخافهم، ويرجوهم، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا هُوَ من حُقُوق الله وَحده لَا شريكَ لَهُ، ويُطيعون سادتهم وكبارهم فِي تَحْلِيل الْحَرَام، وَتَحْرِيم الْحَلَال، وَيَقُول بَعضُهم فِي اتِّحَاد الله بِبَعْض مخلوقاته وحلوله فيهم شَبيه مَا قالته النَّصَارَى فِي الْمَسِيح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
الشيخ: وهذا أراد به المؤلفُ الردَّ على مَن أحدث الطرق الصوفية، وأحدث السماع، قالوا: إنَّ السَّماع لنغمات القصائد والأشعار وضرب الدُّفوف والمزامير في ذلك، أنَّ هذا أخشع لقلوبهم، وأنَّ هذا أقرب إلى صفاء قلوبهم للاجتماع لهذا القرآن، وسماع القرآن والأحاديث. فأحدثوا هذا الذي يُسمونه: السَّماع، وهو سماع الأغاني والملاهي، وضرب الدفوف والمزامير والقصب، وغير هذا مما يخشعون عنده بزعمهم، بيَّن لهم المؤلفُ رحمه الله أنَّ هذا باطلٌ، وأنَّ هذه بدعة أحدثها هؤلاء، وأنَّ الواجب الاشتغال بذكر الله وقراءة القرآن بغير هذا السماع المنكر الذي أحدثوه، وجعلوا يطربون له، ويجعلون فيه أنواع المزامير، وأنواع الطبول، وأنواع الأشياء التي سموها بزعمهم: مُلينة للقلوب، ومُحركة للقلوب، وهي صادّة للقلوب عن الله وعن الآخرة.
فالواجب على الآخرين أن يسيروا على نهج الأولين من أصحاب النبي ﷺ في التَّأدب بالقرآن، وسماع القرآن، والإنصات للقرآن، وأن يقرؤوه مُنصتين، خاشعين، مُتدبرين، مُتعقلين، وألا يعتاضوا عنه بالقصائد وأنواع الملاهي التي أحدثها هؤلاء.
الشيخ: يعني أنَّ هذا الشعر، وهذه القصائد، وهذه الطبول، وهذه الدُّفوف، وهذه المزامير والأقصاب إنما في الحقيقة جرَّتهم إلى أن يُعظِّموا مشايخهم ويعبدوهم من دون الله، حتى صاروا بهذه القصائد وبهذا التَّعظيم للمشايخ يعبدونهم من دون الله، ويتَّخذونهم أندادًا، ويُحرمون ما حرَّموا، ويُحلون ما أحلوا من دون شرعٍ من الله، فصاروا بهذا من جنس اليهود والنَّصارى الذين اتَّخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله؛ فأحلوا ما أحلوا، وحرَّموا ما حرَّموا، من دون حُجَّةٍ، فصاروا بهذا عابدين لهم؛ لأنه مَن أحلَّ ما حرَّم الله، وحرَّم ما أحلَّ الله لمراعاة الشيخ، واعتقاد أنه لا ينطق عن الهوى، وأنه لا يغلط، وأنَّ ما أحلَّ هو الحلال، وما حرَّم هو الحرام، هذا شركٌ بالله، وعبادة لغيره، ومُوافقة لليهود والنَّصارى في عقائدهم الباطلة، نسأل الله العافية، هذا الذي أوقع الصُّوفية في هذا البلاء، نسأل الله العافية.
س: ...............؟
ج: الأشعار الجائزة ما فيها شيء، القصائد الجائزة على الإبل في السَّفر أو في الحضر، الأشعار مثلما كان حسان ينشد النبي ﷺ، ويهجو المشركين، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك، وغيرهم.
الأشعار والقصائد الشَّرعية التي فيها حبّ الله ورسوله، والدَّعوة إلى دين الله، والدَّعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ما فيها شيء: إنَّ من الشعر حكمةً.
لكن هؤلاء اتَّخذوها عبادةً، اتَّخذوها دينًا يُعظِّمون بها مشايخهم، ويخلطون معها آلات الملاهي، ويبكون عندها، ويُعرضون عن القرآن والسُّنة.
وَأما الشَّرِيعَة، وَمَا أَمر اللهُ بِهِ، وَنهى عَنهُ، وأحله، وَحرَّمه، ففيهم من الْمُخَالفَة لذَلِك، بل من الاستخفاف بِمَن يتَمَسَّك بِهِ مَا اللهُ بِهِ عليم، حَتَّى سقط من قلوبهم تَعْظِيمُ كثيرٍ من فَرَائض الله، وَتَحْرِيم كثيرٍ من مَحَارمه، فكثيرًا مَا يُضيعون فَرَائِضَه، ويستحلون مَحَارمه، ويتعدُّون حُدُوده: تَارَةً اعتقادًا، وَتارَةً عملًا.
وَكثيرٌ من خيارهم الَّذين هم مُؤمنُونَ يقعون فِي كثيرٍ من فروع ذَلِك، وَإِن كَانُوا مُستمسكين بأصول الْإِسْلَام.
وَأما غير هَؤُلَاءِ فيُصرحون بِسُقُوط الْفَرَائِض: كالصَّلوات الْخَمس وَغَيرهَا، وبحلِّ الْخَبَائِث من الْخَمر وَالْفَوَاحِش، أو الظُّلم، أَو الْبَغي، أَو غير ذَلِك لَهُم، وتزول عَن قُلُوبهم الْمحبَّة لكثيرٍ مِمَّا يُحِبهُ الله وَرَسُوله.
الشيخ: يقولون بزعمهم في هذا: أنهم وصلوا إلى درجةٍ ما عاد عليهم تكليف، وصلوا إلى درجةٍ من حبِّ الله والشَّوق إليه ما أسقط عنهم التَّكاليف، هذا مما قادهم إليه الشَّيطان حتى أسقطوا الصَّلوات والزَّكوات والصيام والحجّ والمحارم عن مشايخهم، وعمَّن زعموا أنه وصل إلى الحقيقة، وأنه وصل إلى الله، وأنه ما بقي عليه تكليف، فهذا يفعل ما يشاء من الحلال والحرام، وهذا غاية الردة عن الإسلام، نعوذ بالله، غاية الفجور والفساد، الله قال لنبيِّه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] يعني: حتى يأتي الموت.
التَّكاليف ما تسقط عن أحدٍ إلا إذا جاء الموتُ، إذا مات أو زال عقلُه بالجنون ونحوه، أما التَّكاليف فهي باقية.
أما هؤلاء فيقولون: إذا بلغ أصحابُهم ومشايخهم درجةً من وجدهم وتعظيمهم بزعمهم لله بطريق الأشعار، وطريق الوجد، وطريق الاجتماعات، وطريق ما يُسمونه: خوارق، إذا بلغ هذا الحدّ سقطت عنه التَّكاليف، نسأل الله العافية.
الشيخ: يعني: قد يقع لهم لما اشتغلوا بهذه القصائد وما معها من آلات الملاهي والبُكاء والوجد فيما بينهم، وبعضهم يسقط صريعًا مغشيًّا عليه بسبب هذا، قد يستثقلون الصَّلوات، ولا ينشطون لإقامة الصَّلاة، ولا ينشطون لقراءة القرآن، قد يستثقلون هذا، ويرون أنهم انتقلوا من أفضلٍ إلى مفضولٍ، ويُصيبهم ما أصاب المنافقين من أدائها رسمًا لا حقيقةً، ومجاملةً لا عبادةً، لما وقع في قلوبهم من الإعراض والغفلة، نسأل الله العافية.
وَأما الْجِهَاد فِي سَبِيل الله: فالغالب عَلَيْهِم أَنهم أبعد عَنهُ من غَيرهم، حَتَّى نجد فِي عوام الْمُؤمنِينَ من الْحبِّ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، والمحبّة والتَّعظيم لأمر الله، وَالْغَضَب والغيرة لمحارم الله، وَقُوَّة الْمحبَّة والموالاة لأولياء الله، وَقُوَّة البغض والعداوة لأعداء الله؛ مَا لَا يُوجد فيهم، بل يُوجد فيهم ضدّ ذَلِك.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أهل الْإِيمَان وَالصَّلَاح مِنْهُم لَا يفقدون هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِن هَذَا السّماع الْمُحدَث هُوَ وتوابعه سَبَب ومظنّة لضدّ الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، حَتَّى أنَّ كثيرًا مِنْهُم يعدّون ذَلِك نقصًا فِي طَرِيق الله، وعيبًا ومُنافيًا للسُّلوك الْكَامِل إِلَى الله.
وَمن السَّبَب الَّذِي ضلَّ بِهِ هَؤُلَاءِ وغووا مَا وجدوه فِي كثيرٍ مِمَّن ينتسب إِلَى الشَّرِيعَة من الدَّاعين إِلَى الْجِهَاد: من ضعف حَقِيقَة الْإِيمَان، وَسُوء النيات والمقاصد، وبُعدهم عَن النيات الْخَالِصَة لله، وَصَلَاح قُلُوبهم وسرائرهم، وَعَن أَن يقصدوا بِالْجِهَادِ أَن تكون كلمةُ الله هِيَ الْعُليا، وَأَن يكون الدّينُ كُله لله، كَمَا وجدوه فِي كثيرٍ مِمَّن يذمّ السَّماع الْمُحدث: من قسوة الْقَلب، والبُعد عَن مَكَارِم الْأَخْلَاق، وذوق حَقِيقَة الْإِيمَان.
فَهَذَا التَّفْرِيط فِي حُقُوق الله، والعدوان على حُدُوده الَّذِي وُجد فِي هَؤُلَاءِ وأمثالهم مِمَّن لَا يتدين بِالسَّمَاعِ الْمُحدث، بل يتدين بِبَعْض هَذِه الْأُمُور؛ صَار شُبْهَةً لأولئك، كَمَا أَنَّ التَّفْرِيط والعدوان الْمَوْجُود فِي أهل السَّماع الْمُحدث صَار شُبْهَةً لأولئك فِي ترك كثيرٍ مِمَّا عَلَيْهِ كثيرٌ مِنْهُم من حقائق الْإِيمَان، وَطَاعَة الله وَرَسُوله.
وَلِهَذَا تفرَّق هَؤُلَاءِ فِي الدِّين، وَصَارَت كلُّ طَائِفَةٍ مُبتدعةً لدينٍ لم يشرعه الله، ومُنكرةً لما مَعَ الطَّائِفَة الْأُخْرَى من دين الله، وَصَارَ فيهم شبه الْأُمَم قبلهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14].
وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113].
وَقَالَ تَعَالَى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85].
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105].
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159].
وَأما دين الله وهداه الَّذِي أنزل بِهِ كِتَابَه، وَبعث بِهِ رَسُوله، فَهُوَ اتِّبَاع كِتَابه وسُنته فِي جَمِيع الْأُمُور، وَترك اتِّبَاع مَا يُخَالف ذَلِك فِي جَمِيع الْأُمُور، وَالْإِجْمَاع على ذَلِك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:102- 107].
وَأما كَون الشِّعْر فِي نَفسه لَا يُستمع إِلَيْهِ إِلَّا إِذا كَانَ من الْكَلَام الْمُبَاح ..