07 قوله: (وأما كون الشعر في نفسه لا يستمع إليه إلا إذا كان من الكلام المباح...)

وَأما كَون الشِّعْر فِي نَفسه لَا يستمع إِلَيْهِ إِلَّا إِذا كَانَ من الْكَلَام الْمُبَاح أَو الْمُسْتَحبّ، وَالشِّعر الْمَقُول فِي سَماع المكاء والتَّصدية كثيرٌ مِنْهُ أَو أَكْثَره لَيْسَ كَذَلِك، فَهَذَا مقَامٌ آخر نُبينه إِن شَاءَ الله، فَصَارَ احتجاجهم بِمَا سَمعه النَّبِيُّ ﷺ من الشِّعْر على اسْتِمَاع الْغِناء مردودًا بِهَذِهِ الْوُجُوه الثَّلَاث.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَقد سمع الأكابرُ الأبيات بالألحان، فَمَن قَالَ بإباحته: مَالك بن أنس، وَأهل الْحجاز كلهم يُبيحون الْغِناء، فَأَما الحُداء فإجماعٌ مِنْهُم على إِبَاحَته.

قلتُ: هَذَا النَّقْل يتَضَمَّن غَلطًا بِإِثْبَات بَاطِلٍ، وَترك حقٍّ، وَقد تبع فِيهِ أَبَا عبدالرَّحْمَن على مَا ذكره فِي مَسْأَلَة السَّماع، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوف عِنْد أَئِمَّة السَّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ -مثل: عبدالله بن مَسْعُودٍ، وَعبدالله بن عمر، وَعبدالله بن عَبَّاس، وَجَابِر بن عبدالله، وَغَيرهم، وَعَن أَئِمَّة التَّابِعين- ذمّ الْغِناء وإنكاره.

وَكَذَلِكَ مَن بعدَهم من أَئِمَّة الْإِسْلَام فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة، حَتَّى ذكر زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِي فِي كِتَابه الَّذِي ذكر فِيهِ إِجْمَاع أهل الْعِلم وَاخْتِلَافهمْ، فَذكر أَنَّهم متَّفقون على كَرَاهَته إِلَّا رجلَينِ: إِبْرَاهِيم بن سعد من أهل الْمَدِينَة، وَعبيد بن الْحسن الْعَنْبَري من أهل الْبَصْرَة.

وَأما نقلهم لإباحته عَن مَالكٍ وَأهل الْحجاز كلهم: فَهَذَا غلطٌ، من أَسْوَأ الْغَلَط، فَإِنَّ أهلَ الْحجاز على كَرَاهَته وذمِّه، وَمَالك نَفسه لم يخْتَلف قَوْله وَقَول أَصْحَابه فِي ذمِّه وكراهته، بل هُوَ من المبالغين فِي ذَلِك، حَتَّى صنَّف أَصْحَابُه كتبًا مُفْردَةً فِي ذمِّ الْغِناء وَالسَّمَاع، وَحَتَّى سَأَلَهُ إِسْحَاقُ بن عِيسَى الطباع عَمَّا يترخَّص فِيهِ أهلُ الْمَدِينَة من الْغِناء فَقَالَ: إِنَّمَا يَفْعَله عندنَا الْفُسَّاق.

وَقد ذكر مُحَمَّدُ بن طَاهِر فِي مَسْأَلَة السَّماع حِكَايَةً عَن مَالكٍ أَنه ضرب بطبلٍ، وَأنْشَد أبياتًا، وَهَذِه الْحِكَايَة مِمَّا لَا يتنازع أهلُ الْمعرفَة فِي أَنَّهَا كذبٌ على مَالكٍ.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِي لم يخْتَلف قَوْله فِي كَرَاهَته، وَقَالَ فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بـ"أدب الْقُضَاة": الْغِناء لَهوٌ مَكْرُوه يُشبه الْبَاطِل، وَمَن استكثر مِنْهُ فَهُوَ سَفِيهٌ تُردّ شَهَادَته. وَقد قَالَ عَن السَّماع الدِّيني الْمُحدث: خلفتُ بِبَغْدَاد شَيْئًا أحدثته الزَّنَادِقَة يُسمونه "التَّغبير"، يصدُّون بِهِ النَّاسَ عَن الْقُرْآن.

نعم، كَانَ كثيرٌ من أهل الْمَدِينَة يسمع الْغِناء، وَقد دخل مَعَهم فِي ذَلِك بعضُ فُقهائهم، فَأَمَّا أَن يكون هَذَا قَولَ أهل الْحِجاز كلهم، أَو قَولَ مَالكٍ، فَهَذَا غلطٌ، وَكَانَ النَّاسُ يعيبون مَن اسْتحلَّ ذَلِك من أهل الْمَدِينَة، كَمَا عابوا على غَيرهم، حَتَّى كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُول: مَن أَخذ بقُول أهل الْكُوفَة فِي النَّبِيذ، وَبقول أهل مَكَّة فِي الْمُتْعَة وَالصَّرْف، وَبَقُول أهل الْمَدِينَة فِي الْغِناء -أَو قَالَ: الحشوش والغِناء- فقد جمع الشَّرَّ كُله. أَو كلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ.

وَأما فُقَهَاء الْكُوفَة فَمن أَشدّ النَّاس تَحْرِيمًا للغِناء، وَلم يتنازعوا فِي ذَلِك، وَلم يَكُونُوا يعتادونه كَمَا كَانَ يَفْعَله أهلُ الْمَدِينَة، بل كَانُوا بالنَّبيذ الْمُتَنَازع فِيهِ.

وَقد سُئِلَ مالكٌ عمَّا يترخص فِيهِ بعضُ أهل الْمَدِينَة من الْغِناء فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا يَفْعَله عندنَا الْفُسَّاق.

وَقد سُئِلَ الْقَاسِمُ بن مُحَمَّدٍ عَن الْغِناء فَقَالَ: إِذا ميَّز اللهُ الْحقَّ من الْبَاطِل، من أَي قسمٍ يكون الْغِناء؟

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَقد وَردت الْأَخْبَارُ واستفاضت الْآثَارُ فِي ذَلِك، ورُوي عَن ابْن جريج أَنه كَانَ يُرخص فِي السَّماع، فَقيل لَهُ: إِذا أَتَى بك يَوْم الْقِيَامَة، وَيُؤْتى بحسناتك وسيئاتك، فَفِي أَي الجنبين يكون سماعُك؟ فَقَالَ: لَا فِي الْحَسَنَات، وَلَا فِي السَّيِّئَات. يَعْنِي أَنه من الْمُبَاحَات.

قلتُ: لَيْسَ ابْنُ جريج وَأهلُ مَكَّة مِمَّن يُعرف عَنْهُم الْغِناء، بل الْمَشْهُور عَنْهُم أَنهم كَانُوا يُعيرون مَن يفعل ذَلِك من أهل الْمَدِينَة، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف عَنْهُم الْمُتْعَة وَالصَّرْف، ثمَّ هَذَا الْأَثرُ وَأَمْثَاله حُجَّة على مَن احْتجَّ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لم يَجْعَل مِنْهُ شَيْئًا من الْحَسَنَات، وَلم ينقل عَن السَّلف أَنه عدَّ شَيْئًا من أَنْوَاعه حَسَنَةً، فَقَوله على ذَلِك لَا يُخَالف الْإِجْمَاع.

وَمَن فعل شَيْئًا من ذَلِك على أنَّه من اللَّذَّة الْبَاطِلَة الَّتِي لَا مضرَّةَ فِيهَا وَلَا مَنْفَعَة، فَهَذَا كَمَا يُرخص للنِّسَاء فِي الْغِناء وَالضَّرْب بالدُّف فِي الأفراح، مثل: قدوم الْغَائِب، وَأَيَّام الأعياد، بل يُؤمَرون بذلك فِي العرسات، كَمَا رُوي: أعلنوا النِّكَاحَ، واضربوا عَلَيْهِ بالدُّفِّ، وَهُوَ مَعَ ذَلِك بَاطِل، كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي فِي السّنَن: أَنَّ امْرَأَةً نذرت أَن تضرب لقدوم رَسُول الله ﷺ، فَلَمَّا قدم عمرُ أمرهَا بِالسُّكُوتِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا رجلٌ لَا يُحب الْبَاطِل.

وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: كل لَهوٍ يلهو بِهِ الرجلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلَّا رميةً بقوسه، وتأديبه فرسه، ومُلاعبة امْرَأَته، فَإِنَّهُنَّ من الْحقِّ.

وَالْبَاطِل من الْأَعْمَال: هُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فَهَذَا يُرخص فِيهِ للنُّفوس الَّتِي لَا تصبر على مَا ينفع، وَهَذَا الْحقُّ فِي الْقَدر الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْأَوْقَات الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِك: الأعياد، والأعراس، وقدوم الْغَائِب، وَنَحْو ذَلِك.

وَهَذِه نفوس النِّسَاء وَالصِّبيان، فهن اللَّواتي كن يُغنين فِي ذَلِك على عهد النَّبِي ﷺ وخُلفائه، ويضربن بالدُّفِّ، وَأما الرِّجَال فَلم يكن ذَلِك فيهم، بل كَانَ السَّلف يُسمون الرجل المغني: "مُخَنَّثًا"؛ لتشبُّهه بِالنِّسَاء؛ وَلِهَذَا رُوي: اقرأوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَب، وَإِيَّاكُم وَلُحُون الْعَجم والمخانيث وَالنِّسَاء.

الشيخ: ومن هذا الحديث أنَّ الرسول ﷺ لعن المخنثين من الرِّجال، والمترجلات من النِّساء، والمخَنِّث -بكسر النون، ويقال بفتح النون- يعني المتشبِّه بالنِّساء في كلامه، وفي تكسره، وفي شعره، وفي أشباه ذلك، فالواجب على المؤمن أن يكون بعيدًا عن مُشابهة النِّساء: لا في كلامه، ولا في مشيه، ولا في غير ذلك.

س: ................؟

ج: هذا الذي يقع؛ ولهذا رأى عنده جاريتين أبو بكر الصّديق، كما وقع في يوم العيد، وأمر النبيُّ ﷺ بذلك في العُرس؛ لتمييزه عن السِّفاح، وأما ..... المرأة التي فعلت ذلك عند مقدم النبيِّ ﷺ سرورًا به عليه الصلاة والسلام، فأقرَّها، أقرَّ النِّساء على هذا، نعم.

س: وهل يفعله الرِّجال كما هو واقعٌ الآن؟

ج: لا، ليس من فعل الرجال هذا؛ لأنَّ هذا من فعل النِّساء؛ ولهذا كانوا يُسمون مَن فعل هذا "بالمخنّث"، قال مالك: إنما يفعله عندنا الفُسَّاق.

س: قد يفعله الرجال كما هو الواقع الأن؟

ج: لا، ما ينبغي فعل مثل هذا في هذه الأحوال؛ لأنَّ الشَّر قد انتشر، ينبغي البُعد عن هذه الأشياء، إلا في العُرس فقط.

س: ...............؟

ج: إذا كان بين النِّساء فهو سنة بين النساء؛ لإظهار النكاح، وإعلان النكاح بينهن خاصةً، من دون مُطربات، ومن دون مُكبرات، وقت من الليل ثم ينتهي.

............

ولهذا لما سُئِلَ الْقَاسِمُ بن مُحَمَّدٍ عَن الْغِناء، فَقَالَ للسَّائِل: يا ابْن أخي، أرأيتَ إِذا ميَّز اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَة بَين الْحقِّ وَالْبَاطِل، فَفِي أَيِّهمَا يَجْعَل الْغِناء؟ فَقَالَ: فِي الْبَاطِل. قَالَ: فَمَاذَا بعد الْحقِّ إِلَّا الضَّلال.

فَكَانَ الْعِلم بِأَنَّهُ من الْبَاطِل مُسْتَقرًّا فِي نُفُوسهم كلهم، وَإِن فعله بَعضُهم مَعَ ذَلِك، إِذْ مُجَرّد كَون الْفِعْل بَاطِلًا إِنَّمَا يَقْتَضِي عدم منفعَته، لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمه إِلَّا أَن يتَضَمَّن مفْسدَةً.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَأما الشَّافِعِي رَحمَه الله فَإِنَّهُ لَا يُحرمه، ويجعله فِي الْعَوامِّ مَكْرُوهًا، حَتَّى لَو احترف الْغِناء، أو اتّصف على الدَّوَام بِسَمَاعِهِ على وَجه التَّلهي بِهِ، تُردّ بِهِ الشَّهَادَة، ويجعله مِمَّا يُسْقط الْمُرُوءَة، وَلَا يُلْحقهُ بالمحرَّمات.

قَالَ: وَلَيْسَ كلامُنا فِي هَذَا النَّوْع من السَّماع؛ فَإِنَّ هَذِه الطَّائِفَة جلَّت مرتبتهم عَن أَن يسمعوا بلهوٍ، أَو يقعدوا للسَّماع بسهوٍ، أَو يَكُونُوا بقلوبهم مُتفكرين فِي مَضْمُون لَغْوٍ، أَو يستمعوا على صفة غير كُفْءٍ.

قلتُ: لم يَخْتَلف قَولُ الشَّافِعِي فِي كَرَاهَته والنَّهي عَنهُ للعوام والخواصّ، لَكِن هَل هِيَ كَرَاهَة تَحْرِيمٍ أَو تَنْزِيه أَو تَفْضِيلٍ بَين بعضٍ وَبَعضٍ؟ هَذَا مِمَّا يتنازع فِيهِ أَصْحَابُه، وَهَذَا قَوْلُه فِي سَماع الْعَامَّة، وَأما السَّماع الدِّيني الَّذِي جعله أَبُو الْقَاسِم للخاصَّة فَهُوَ عِنْد الشَّافِعِي من فعل الزَّنَادِقَة، كَمَا قَالَ: خلفتُ بِبَغْدَاد شَيْئًا أحدثته الزَّنَادِقَةُ يُسمونه: "التغبير"، يصدُّون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن.

فَعنده أَنَّ هَذَا السَّماع أعظم من أن يُقَال فِيهِ: مَكْرُوه، أَو حرَام، بل هُوَ عِنْدَه مضادٌّ للْإيمَان، وَشرع دينٍ لم يَأْذَن اللهُ بِهِ، وَلم يُنزل بِهِ سُلْطَان.

وَإِن كَانَ من الْمَشَايِخ الصَّالِحين مَن تَأَوَّل فِي ذَلِك، وبتأويله واجتهاده يَغْفر اللهُ لَهُ خطأه، ويُثيبه على مَا مَعَ التَّأْوِيل من عملٍ صَالحٍ، فَذَلِك لَا يَمْنَع أَن يُقَال: مَا فِي الْفِعْل من الْفَساد؛ إِذِ التَّأْوِيل من بَاب الْمُعَارض فِي حقِّ بعض النَّاس، تدفع بِهِ عِنْد الْعقُوبَة، كَمَا تدفع بِالتَّوْبَةِ والحسنات الماحية، وَهَذَا لمن استفرغ وَسعَه فِي طلب الْحقِّ.

فَقَوْل الشَّافِعِي فِي هَؤُلَاءِ كَقَوْلِه فِي أهل الْكَلَام: حكمي فِي أهل الْكَلَام أَن يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعال، وَيُطَاف بهم فِي العشائر والقبائل، وَيُقَال: هَذَا جَزَاءُ مَن ترك الْكِتابَ وَالسُّنة وَأَقْبل على الْكَلَام.

وَقَوله: لأَن يُبتلى العَبْدُ بِكُل ذَنْبٍ مَا خلا الشِّرك بِاللَّه خيرٌ لَهُ من أَن يُبتلى بالْكلَام.

وَمَعَ هَذَا فقد ابتُلي بِبَعْض ذَلِك على وَجه التَّأْوِيل طوائف من أهل الْعِلم وَالدِّين والتَّصوف وَالْعِبَادَة؛ وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي السَّماع على وَجْهَيْن:

أحدهما: سَماع اللَّعب والطَّرب، فَهَذَا يُقَال فِيهِ: مَكْرُوه، أم محرم. أَو بَاطِل، أَو مُرخص فِي بعض أَنْوَاعه.

الثَّانِي: السَّماع الْمُحدَث لأهل الدِّين والقرب، فَهَذَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه بِدعَة وضلالة، وَإنَّهُ مُخَالفٌ لكتاب الله، وَسنَّة رَسُوله، وَإِجْمَاع السَّلف جَمِيعهم.

الشيخ: وهذا هو الذي وقع للصُّوفية، وهو التَّعبد، وجعله دينًا وقُربةً، يعني: سماع الأغاني والملاهي بينهم، وضرب القصب وغيره، حتى صار شغلهم الشَّاغل، شغلهم عن القرآن، فصار هذا من المصائب التي ابتُلوا بها، وأنكره عليهم الشَّافعي وقال: إنَّ هذا أحدثه الزَّنادقة.

وَإِنَّمَا حدث فِي الْأُمَّة لما أُحدث الْكَلَام، فَكثر هَذَا فِي الْعُلمَاء، وَهَذَا فِي الْعُبَّاد.

ولهَذَا كَانَ يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ -وَهُوَ من أَتبَاع التَّابِعين، وأواخر الْقُرُون الثَّلَاثَة- تجتمع فِي مَجْلِسه الْأُمَم الْعَظِيمَة، وَكَانَ أجلّ مَشَايِخ الْإِسْلَام إِذْ ذَاك، فَكَانَ يَنْهَى عَن الجهمية، وَعَن الْمُغبرَة.

الشيخ: المغبرة: أهل السَّماع، أهل الشِّعر.

هَؤُلَاءِ أهل الْكَلَام الْمُخَالِف للكِتاب وَالسُّنة، وَهَؤُلَاء أهل السَّماع الْمُحدَث الْمُخَالف للكتاب وَالسُّنة.

وَلِهَذَا لم يَسْتَطع أحدٌ مِمَّن يَسْتَحبّ السَّماع الْمُحدَث ويستحسنه أَن يحْتَجَّ لذَلِك بأثرٍ عَمَّن مضى، وَلَا بِأَصْلٍ فِي الْكِتاب وَالسُّنة.

س: أحسن الله إليك، ما يُسمَّى بالعرضات الآن؟

ج: هذا يختلف: إذا كان بالسلاح والرَّمي لا بأس، وإذا كان بالدُّفوف أو الطبول ما ينبغي.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَقد رُوي عَنِ ابْن عمر آثار فِي إباحته للسَّماع، وَكَذَلِكَ عبدالله بن جَعْفَر بن أبي طَالب.

قلتُ: أما النَّقْل عَن ابْنِ عمر فَبَاطِلٌ، بل الْمَحْفُوظ عَن ابن عمر ذمّه للغِناء، وَنَهْيه عَنهُ، وَكَذَلِكَ عَن سَائِر الصَّحَابَة: كابن مَسْعُودٍ، وَابْن عَبَّاسٍ، وَجَابِر، وَغَيرهم مِمَّن ائتمَّ بهم الْمُسلمُونَ فِي دينهم.

وَأمَّا مَا يُذكر من فعل عبدالله بن جَعْفَر فِي أَنَّه كَانَ لَهُ جَارِيَة يسمع غناءها فِي بَيته، فعبدالله بن جَعْفَر لَيْسَ مِمَّن يصلح أَن يُعَارِض قَوْلُه فِي الدِّين -فضلًا عَن فعله- لقَوْلِ ابْن مَسْعُودٍ، وَابْن عمر، وَابْن عَبَّاسٍ، وَجَابِر، وأمثالهم.

وَمَن احْتجَّ بِفعل مثل عبدالله فِي الدِّين فِي مثل هَذَا لزمَه أَن يحْتَجَّ بِفعل مُعَاوِيَة فِي قِتَاله لعليٍّ، وبفعل ابْن الزبير فِي قِتَاله فِي الْفُرْقَة، وأمثال ذَلِك مِمَّا لا يصلح لأهل الْعِلم وَالدِّين أَن يُدخلوه فِي أَدِلَّة الدِّين وَالشَّرْع، لَا سِيمَا النُّسَّاك والزُّهاد وَأهلُ الْحَقَائِق، لَا يصلح لَهُم أَن يَتْرُكُوهُ سَبِيل الْمَشْهُورين بالنُّسك والزُّهد بَين الصَّحَابَة، ويتَّبعوا سَبِيل غَيرهم.

وَمَا أحسن مَا قَالَ حُذَيْفَةُ : يَا معشر الْقُرَّاء، اسْتَقِيمُوا وخذوا طَرِيقَ مَن كَانَ قبلكُمْ، فوَاللَّه لَئِن اتَّبعتُموهم لقد سبقتم سبقًا بَعيدًا، وَلَئِن أَخَذْتُم يَمِينًا وَشمَالًا لقد ضللتُم ضلالًا بَعيدًا.

ثمَّ الَّذِي فعله عبدالله بن جَعْفَر كَانَ فِي دَاره، لم يكن يجْتَمع عِنْدَه على ذَلِك، وَلَا يسمعهُ إِلَّا من مملوكته، وَلَا يعدّه دينًا وَطَاعَةً، بل هُوَ عِنْدَه من الْبَاطِل، وَهَذَا مثلمَا يَفْعَله بعضُ أهل السَّعَة من اسْتِمَاع غناء جَارِيَته فِي بَيته وَنَحْو ذَلِك، فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا؟! هَذَا لَو كَانَ مِمَّا يصلح أَن يحْتَجَّ بِهِ فَكيف؟ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ أصلًا.

قَالَ: وَكَذَلِكَ عَن عمر وَغَيره فِي الحُدَاء.

قلتُ: أما الحُداء فقد ذكر الِاتِّفَاق على جَوَازه، فَلَا يحْتَجّ بِهِ فِي موارد.

وَقد ثَبت أَنَّ عَامر بن الْأَكْوَع كَانَ يَحْدُو الصَّحَابَة مَعَ النَّبِي ﷺ، قَالَ: مَن السَّائِق؟ قَالُوا: عَامر بن الأكوع، فَقَالَ: يرحمه الله، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، لَوْلَا أمتعتنا بِهِ.

فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ: خرجنَا مَعَ رَسُول الله ﷺ، فسرنا لَيْلًا، فَقَالَ رجلٌ من الْقَوْم لعامر بن الْأَكْوَع: أَلا تُسمعنا من هنياتك. وَكَانَ عَامر رجلًا شَاعِرًا، فَنزل يَحْدُو بالقوم يَقُول:

وَالله لَوْلَا أَنْتَ مَا اهتدينا وَلَا تصدّقنا وَلَا صلّينَا
فَاغْفِر فدَاءً لَك مَا اقتفينا وَثَبت الْأَقْدَام إِن لاقينا
وألقين سكينَةً علينا إِنَّا إِذا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
وبالصياح عوَّلوا علينا  

فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: مَن هَذَا السَّائِق؟ قَالُوا: عَامر بن الْأَكْوَع. فَقَالَ: يرحمه الله، فَقَالَ رجلٌ من الْقَوْم: وَجَبت يَا نَبِيَّ الله، لَوْلَا أمتعتنا بِهِ. فَذكر الحَدِيثَ فِي استشهاده فِي تِلْكَ الْغَزْوَة -غَزْوَة خَيْبَر.

وَفِي "صَحِيح مُسلم" عَن سَلمَة بن الأكوع قَالَ: لما كَانَ يَوْم خَيْبَر قَاتل أخي قتالًا شَدِيدًا مَعَ رَسُول الله ﷺ، فَارْتَدَّ عَلَيْهِ سَيْفُه فَقتله، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُول الله ﷺ فِي ذَلِك، وَشَكُّوا فِيهِ: رجلٌ مَاتَ فِي سلاحه! قَالَ سَلمَةُ: فقفل رَسُولُ الله ﷺ من خيبر، فَقلتُ: يَا رَسُول الله، ائذن لي أَن أرجز لَك، فَأذن لَهُ رَسُولُ الله ﷺ، فَقَالَ عمر: أعلم مَا تَقول. قَالَ: فَقلتُ:

لَوْلَا الله مَا اهتدينا وَلَا تصدَّقنا وَلَا صلينَا

فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: صدقتَ.

فأنزلن سكينَةً علينا وَثَبت الْأَقْدَام إِن لَاقينا
وَالْمُشْرِكُونَ قد بغوا علينا  

فَلَمَّا قضيتُ رجزي قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: مَن قَالَ هَذَا؟ قلتُ لَهُ: أخي. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: يرحمه الله، قَالَ: فَقلتُ: يَا رَسُول الله، وَالله إِنَّ نَاسًا ليهابون الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، يَقُولُونَ: رجلٌ مَاتَ بسلاحه. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: كذبُوا، مَاتَ جاهدًا مُجَاهدًا، فَلهُ أجره مرَّتَيْنِ.

الشيخ: وذلك لأنَّ الإنسانَ إذا أصابه سيفُه من غير قصدٍ فإنه لا يضرّه ذلك، ولا بأس عليه، فإنه أراد أن ..... في قتل مرحب رئيس اليهود، فطعنه سيفه في ركبته، وكان من أسباب موته رضي الله عنه وأرضاه، فهذا الذي شكّوا فيه لا محلَّ للشَّك فيه؛ ولهذا بيَّن لهم النبيُّ ﷺ أنه جاهد مجاهد، وأنَّ له أجره مرتين؛ لأنَّه إنما أراد قتل الأعداء، فأراد اللهُ أنَّ طرف السَّيف يُصيبه من غير قصدٍ منه، ولا قصد قتل نفسه، فلا يضرّه ذلك، إنما المحذور أن يتعمّد قتل نفسه، أما إذا أصابه بغير قصدٍ سيفه أو غير ذلك مما يُصيب الإنسان من غير قصدٍ فإنه لا يضرّه ذلك.

وَكَذَلِكَ قد ثَبت فِي الصَّحِيح حَدِيثُ أَنْجَشَة الحبشي الَّذِي كَانَ يَحْدُو حَتَّى قَالَ النَّبِي ﷺ: رُويدك أَنْجَشَة سوقك بِالْقَوَارِيرِ يَعْنِي: النِّسَاء، أمره بالرِّفق بِهنَّ؛ لِئَلَّا تُزعجهنَّ الْإِبِل فِي السَّير إِذا اشْتَدَّ سَيرهَا، وينزعجن بِصَوْت الْحَادِي.

الشيخ: والحُداء نوعٌ من الشعر، يُستَعمل في تشجيع الإبل على السَّير، وإيناس السّراة في وقت الليل، ويستعملون ذلك من الأشعار الطيبة السَّليمة التي كان يفعلها الصحابة وغيرهم، فليس فيها محذورٌ، وهكذا بقية الشعر الذي ليس فيه محذور، كما قال النبيُّ ﷺ: إنَّ من الشعر حكمةً، فالأشعار التي ليس فيها محذور تُقال عند الحاجة بالحُداء، أو بالاستشهاد في الحقِّ، أو في الردّ على باطلٍ، أو لتشجيع الدُّعاة، أو لتشجيع المجاهدين، أو ما أشبه ذلك؛ غير داخلةٍ فيما ذمَّه الله وعابه من أمر الشُّعراء؛ ولهذا قال النبيُّ لحسان: اهجُهم، فوالذي نفسي بيده إنه لأشدّ عليهم من وقع النَّبْل، وقال: اللهم أيِّده بروح القدس، وفي لفظٍ قال: اهجُهم وروح القدس معك.

وهكذا لما قال عامر:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا
إنَّ المشركين قد بغوا علينا  

قال: صدقتَ.

فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أنسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله ﷺ فِي بعض أَسْفَاره، وَغُلَامٌ أسود يُقَال لَهُ: أَنْجَشَة يحدوا، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: وَيحك أنجشة، رُويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ، قَالَ أَبُو قلَابَة: يَعْنِي النِّسَاء. وَأَخْرَجَاهُ من حَدِيث ثَابتٍ، عَن أنسٍ بِنَحْوِهِ.

وَمن حَدِيث قَتَادَة عَن أنسٍ قَالَ: كَانَ للنَّبِيِّ ﷺ خَادِمٌ يُقَال لَهُ: أَنْجَشَة، وَكَانَ حسنَ الصَّوْت، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: رُويدك يَا أَنْجَشَة، لَا تكسر الْقَوَارِير، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي ضعفة النِّسَاء.

وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن أبي قِلَابَة قَالَ: كَانَت أمُّ سليم فِي الثّقل، وأنجشة غُلَام النَّبِي ﷺ يَسُوق بِهنَّ، فَقَالَ النَّبِي ﷺ: يَا أنجش، رُويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ.

وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: عَن ثَابتٍ، عَن أنسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِي ﷺ فِي سفرٍ، فحدا الْحَادِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: أَرْفِق يَا أَنْجَشَة، وَيحك بِالْقَوَارِيرِ.

واحتجاجهم بإنشاد الشِّعْر كَمَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَأُنْشد بَين يَدي النَّبِي ﷺ الأشعار فَلم ينْهَ عَنْهَا، ورُوي أَنه ﷺ استنشد الْأَشْعَار.

وَهَذَا من الْقِيَاس الْفَاسِد كَمَا تقدَّم.

قَالَ: وَمن الْمَشْهُور الظَّاهِر حَدِيث الجاريتين. وَذكر حَدِيث الجاريتين اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُغنيَانِ فِي بَيت عَائِشَةَ بِمَا تقاولت بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْم بُعَاث، فَقَالَ أَبُو بكر: مزمور الشَّيْطَان! فَقَالَ النَّبِي ﷺ: دعهما يَا أَبَا بكر؛ فَإِنَّ لكل قومٍ عيدًا، وعيدنا هَذَا الْيَوْم.

وَقد تقدَّم أَنَّ الرُّخْصَة فِي الْغِناء فِي أَوْقَات الأفراح للنِّسَاء وَالصِّبيان أَمرٌ مَضَت بِهِ السُّنة، كَمَا يُرخص لَهُم فِي غير ذَلِك من اللَّعب، وَلَكِن لَا يَجْعَل الْخَاصّ عَامًّا؛ وَلِهَذَا لما قَالَ أَبُو بكر: أمزمور الشَّيْطَان فِي بَيت رَسُول الله ﷺ؟! لم يُنكِر النَّبِيُّ ﷺ هَذِه التَّسْمِيَة، وَالصَّحَابَة لم يَكُونُوا يُفضلون شَيْئًا من ذَلِك، وَلَكِن ذكر النَّبِي ﷺ أمرًا خَاصًّا بقوله: إِنَّ لكل قومٍ عيدًا، وَهَذَا عيدنا.

وَمثل هَذَا قَوْله لعمر: لَو رآكَ سالِكًا فجًّا لسلك فجًّا غير فجِّك، لما خَافَ مِنْهُ النِّسَاء فِيمَا كنَّ يفعلنه بِحَضْرَة النَّبِي ﷺ.

فَعُلم أَنَّ هَذَا وَإِن كَانَ من الشَّيْطَان لَكِن الرُّخْصَة فِيهِ لهَؤُلَاء لِئَلَّا يَدعُوهُم إِلَى مَا يُفْسِد عَلَيْهِم دينَهم، إِذْ لَا يُمكن صرفهم عَن كلِّ مَا تتقاضاه الطَّبائع من الْبَاطِل.

الشيخ: وهذا معناه أنَّ ما يتعلق بالجواري والنِّساء في الأعراس والأفراح والصِّبيان أمرٌ خاصٌّ لا يُقاس عليه غيره من الرِّجال وأمر الكبار، واتّخاذ ذلك عادةً وطريقةً كما اتّخذتها الصُّوفية، وهذا من باب التَّرويح عن النفوس لهؤلاء الذين اعتادوا ذلك، ولو مُنعوا لربما جرَّهم إلى ما يضرّهم، ما يتعلق بالنِّساء في الأعياد في بيوتهن، والجواري والأعراس أمرٌ سمحت به الشَّريعة؛ لما فيه من إظهار النكاح، وإعلان النكاح، وفسح للجواري والصبيان في أيام العيد، من غير أمرٍ يضرّ المسلمين، أو يُدخل عليهم باطلًا، فأمَّا أن يحتجّ بذلك على أن يفعله الكبار والناس في المجامع، ويتّخذ دينًا وقُربةً تُضرب معه الطبول، وتُضرب معه الأعواد، كما تفعله الصُّوفية، هذا هو المنكر الذي أنكره الشيخُ رحمة الله عليه.

والشَّريعة جَاءَت بتحصيل الْمصَالح وتكميلها، وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها، فَهِيَ تحصل أعظم المصلحتين بِفَوَات أدناهما، وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما، فَإِذا وصف الْمُحْتَمل بِمَا فِيهِ من الْفَساد مثل: كَونه من عمل الشَّيْطَان، لم يمْنَع ذَلِك أَن يكون قد وَقع بِهِ مَا هُوَ أحبّ إِلَى الشَّيْطَان مِنْهُ، وَيكون إقرارهم على ذَلِك من الْمَشْرُوع، فَهَذَا أصلٌ يَنْبَغِي التَّفطن لَهُ.

والشيطان يُوسوس لبني آدم فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ من الْمُبَاحَات: كالتَّخلي، وَالنِّكَاح، وَغير ذَلِك، وَهُوَ يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم، فَلَا يُمكن حفظ جميع بني آدم من كلِّ مَا للشَّيْطَان فِيهِ نصيبٌ، لَكِن الشَّارِع يَأْمُر بالتَّمكن من ذَلِك، كَمَا شرع التَّسْمِيَة والاستعاذة عِنْد التَّخلي وَالنِّكَاح وَغير ذَلِك، وَلَو لم يفعل الرجلُ ذَلِك لم نُقل أنَّه يَأْثَم بالتَّخلي وَنِكَاح امْرَأَته وَنَحْو ذَلِك.

وَكَذَلِكَ ذكر الْعُرس وَقَول النَّبِي ﷺ: إِنَّ الْأَنْصَار فيهم غزلٌ، وَلَو أرسلتُم مَن يَقُول: أَتَيْنَاكُم، أَتَيْنَاكُم، فحيَّانا وحيَّاكم، وَقد تقدم أنَّ الْخَاصَّ لا يُجعل عامًّا.

ومدار الْحُجَج فِي هَذَا الْبَاب وَنَحْوه: إِمَّا على قِيَاسٍ فَاسدٍ، وتشبيه الشَّيء بِمَا لَيْسَ مثله. وَإِمَّا على جعل الْخَاصِّ عَامًّا، وَهُوَ أَيْضًا من الْقِيَاس الْفَاسِد. وَإِمَّا احتجاجهم بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ أصلًا.

ثمَّ احْتجَّ أَبُو الْقَاسِم بِمَا هُوَ من جنس الْقِيَاس الْفَاسِد، فَذكر حَدِيثَ الْبَراء بن عَازِبٍ قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُول: حسِّنوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحسنَ يزِيد الْقُرْآنَ حسنًا، وحديثًا عَن أنسٍ مَرْفُوعًا: لكل شيءٍ حلية، وَحلية الْقُرْآن الصَّوْت، وَهَذَا ضَعِيفٌ عَن النَّبِي ﷺ من رِوَايَة عبدالله بن محرز، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجّ بِهِ بِحَالٍ.

الشيخ: حطّ على ابن محرز، لعله ابن محرر، يُراجع، حطّ عليه إشارة، انظر عندك في "التقريب".

وَقَالَ: دلَّ هَذَا الْخَبَرُ على فَضِيلَة الصَّوْت.

قلتُ: هَذَا دلَّ على فضل الصَّوْت الْحَسن بِكِتَاب الله، لم يدل على فضيلته بِالْغِنَاءِ، وَمَن شبَّه هَذَا بِهَذَا فقد شبَّه الْبَاطِلَ بأعظم الْحقِّ.

وَقد قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69]، فَكيف نُشبّه مَا أَمر اللهُ بِهِ من تِلَاوَة كِتَابه وتحسينه بالصَّوت بِمَا لم يَأْمُر بتحسين الصَّوْت بِهِ؟!

هَذَا مثل مَن قَالَ: إِذا أَمر اللهُ بِالْقِتَالِ فِي سَبيله بِالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالرَّمْي دلَّ على فَضِيلَة الضَّرْب والطَّعن! ثمَّ يحْتَجّ بذلك على الضَّرْب والطَّعن وَالرَّمْي فِي غير سَبِيل الله.

وَمثل مَن قَالَ: إِذا أَمر اللهُ بإنفاق المَال فِي سَبيله دلَّ على فَضِيلَة المَال! ويحتجّ بذلك على إِنْفَاق المَال فِي غير سَبيله.

أَو قَالَ: إِذا أَمر اللهُ بالاستعفاف بِالنِّكَاحِ دلَّ على فَضِيلَة النِّسَاء! ويحتجّ بذلك على فَضِيلَة النِّسَاء، ويحتجّ بذلك على فَضِيلَة النِّكَاح، ويحتجّ بذلك على فَضِيلَة مَا لم يَأْذَن اللهُ بِهِ من النِّكَاح.

وَكَذَلِكَ كل مَا يُعين على طَاعَة الله من تفكُّرٍ، أَو صَوتٍ، أَو حَرَكَةٍ، أَو قُوَّةٍ، أَو مَالٍ، أَو أعوانٍ، أَو غير ذَلِك، فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي حَال إعانته على طَاعَة الله ومحابّه ومراضيه، وَلَا يُسْتَدلّ بذلك على أَنه فِي نَفسه مَحْمُودٌ على الْإِطْلَاق، ويحتجّ بذلك على أَنه مَحْمُودٌ إِذا استُعين بِهِ على مَا هُوَ من طَاعَة الله، وَلَا يحْتَجّ بِهِ على مَا لَيْسَ هُوَ من طَاعَة الله، بل هُوَ من الْبِدَع فِي الدِّين، أَو الْفُجُور فِي الدُّنْيَا.

وَمثل هَذَا قَوْله ﷺ: لله أَشدّ أذنًا إِلَى الرَّجل الْحَسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته، وَقَالَ: مَا أذن اللهُ لشيءٍ كأذنه لنَبِيٍّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَر بِهِ، بل قَوْله ﷺ: لَيْسَ منَّا مَن لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّغَنِّي الْمَشْرُوعَ هُوَ بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَن تغنَّى بِغَيْرِهِ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَلَا يُقَال: هَذَا يدل على اسْتِحْبَاب حُسن التَّغَنِّي.

وَقَوله: لَيْسَ منا مَن لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ إِمَّا أَن يُرِيد بِهِ الحضّ على أصل الْفِعْل، وَهُوَ نفس التَّغني بِالْقُرْآنِ. وَإِمَّا أَن يُرِيد بِهِ مُطلق التَّغني، وَهُوَ على صفة الْفِعْل.

وَالْأول هُوَ أَن يكون تغنيه إِذا تغنَّى بِالْقُرْآنِ لَا بِغَيْرِهِ، وَهَذَا كَمَا وَقع فِي قَوْله تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، هَل هُوَ أَمرٌ بِأَصْل الحكم أَو بِصفتِهِ إِذا حكم؟

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: ذمٌّ لمن تغنَّى بِغَيْرِهِ مُطلقًا، دون مَن ترك التَّغَنِّي بِهِ وَبِغَيْرِهِ.

والمعنى الأول: ذمٌّ لمن ترك التَّغني بِهِ، دون مَن تغنَّى بِهِ وَمَن تغنَّى بِغَيْرِهِ.

ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم حَدِيثَ ابْن عَاصِم، عَن شبيب بن بشر، عَن أنس بن مَالكٍ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: صوتان ملعونان: صَوت ويل عِنْد مُصِيبَةٍ، وَصَوت مزمارٍ عِنْد نِعْمَةٍ.

الشيخ: نغمة.

عِنْد نغمَة.

مَفْهُوم الْخِطاب يَقْتَضِي إِبَاحَة غير هَذَا فِي غير هَذِه الْأَحْوَال، وَإِلَّا لبطل التَّخْصِيص.

قلتُ: هَذَا الحَدِيث من أَجود مَا يحْتَجّ بِهِ على تَحْرِيم الْغِناء، كَمَا فِي اللَّفْظ الْمَشْهُور عَن جَابر بن عبدالله ، عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: إِنَّمَا نُهيتُ عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين: صَوت عِنْد نغمة لَهوٍ وَلعبٍ وَمَزَامِير الشَّيْطَان، وَصَوت عِنْد مُصِيبَة لطم خدود، وشقِّ جُيُوب، وَدَعوى بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة.

فَنهى عَن الصَّوْت الَّذِي يُفعل عِنْد النِّعْمَة، كَمَا نهى عَن الصَّوْت الَّذِي يُفعل عِنْد الْمُصِيبَة، وَالصَّوْت الَّذِي عِنْد النَّغمة هُوَ صَوت الْغِناء.

وَأما قَوْله: (صَوت مزمار) فَإِنَّ نفسَ صَوت الْإِنْسَان يُسمَّى: مِزْمَارًا، كَمَا قيل لأبي مُوسَى: لقد أُوتي هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد، وكما قَالَ أَبُو بكرٍ : أبمزمور الشَّيْطَان فِي بَيت رَسُول الله ﷺ؟!

وَأما قَوْله: مَفْهُوم الْخِطاب يَقْتَضِي إِبَاحَة غير هَذَا.

جَوَابُه من وَجْهَيْن:

أَحدهمَا: أَنَّ مثل هذا اللَّفْظ الَّذِي ذكره لَا مَفْهُومَ لَهُ عِنْد أَكثر أهل الْعِلم، هذا والتَّخصيص فِي مثل هَذَا كَقَوْلِه ﷺ: ثَلَاثٌ فِي أُمَّتي من أَمر الْجَاهِلِيَّة، وَمَن قَالَ: إِنَّه يكون لَهُ مَفْهُومٌ، فَذَلِك إِذا لم يكن للتَّخصيص سَبَبٌ آخر، وَهَذَا التَّخْصِيص لكَون هَذِه الْأَصْوَات هِيَ الَّتِي كَانَت مُعْتَادَةً فِي زَمَنه، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء:31].

وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظ الَّذِي ذكره الرَّسُولُ يدل على مورد النِّزاع، فَإِنَّهُ صَوت النَّغمة، وَلَو لم تكن نغمة لَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذا نهى عَن ذَلِك عِنْد النَّغمة، وَالْإِنْسَان مَعْذُورٌ فِي ذَلِك، كَمَا رخّص فِي غناء النِّسَاء فِي الأعراس والأعياد وَنَحْو ذَلِك؛ فَلِأَن يَنْهَى عَن ذَلِك بِدُونِ ذَلِك بِدُونِ أولى وَأَحْرَى.

والآلات الملهية قد صَحَّ فِيهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي "صَحِيحه" تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ، دَاخِلًا فِي شَرطه عَن عبدالرَّحْمَن بن غنم الْأَشْعَرِيّ: أَنه سمع النَّبِيَّ ﷺ يَقُول: لَيَكُوننَّ فِي أمَّتِي أَقوامٌ يسْتَحلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخمرَ وَالْمَعَازِفَ، ولينزلنَّ أَقوامٌ إِلَى جنب علمٍ يروح بسارحةٍ لَهُم، يَأْتِيهم لحاجتهم فَيَقُولُونَ: ارْجع إِلَيْنَا غَدًا، فيُبيتهم الله، وَيَضَع الْعَلم، ويمسخ آخَرين قردةً وَخَنَازِير إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَقد رُوي أَنَّ رجلًا أنْشد بَين يَدي النَّبِي ﷺ فَقَالَ:

أَقبلت فلاح لَهَا عارضان كالسبج أَدْبَرت فَقلتُ لَهَا والفؤاد فِي وهج

هَل على ويحكما إن عشقتُ من حرجٍ

فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: لَا حرج إِن شَاءَ الله.

قلتُ: هَذَا الحَدِيث مَوْضُوعٌ باتِّفاق أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ، لَا أصلَ لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي شيءٍ من دواوين الْإِسْلَام، وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ، بل هُوَ من جنس الحَدِيث الآخر الَّذِي قيل فِيهِ: إِنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى إِلَى النَّبِي ﷺ وأنشده:

قد لسعت حَيَّةُ الْهوى كبدي فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا راقي
إِلَّا الحبيب الَّذِي شغفت بِهِ فَعنده رُقيتي وترياقي

وَهَذَا أَيْضًا مَوْضُوعٌ باتِّفاق أهل الْعِلم، كذب، مُفترى.

وَكَذَلِكَ مَا يُرْوى من أَنَّهم تواجدوا، وَأَنَّهُمْ مزَّقوا الْخِرْقَةَ، وَنَحْو ذَلِك، كل ذَلِك كذبٌ لم يكن فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة: لَا بالحجاز، وَلَا بِالشَّام، وَلَا بِالْيمن، وَلَا بالعراق، وَلَا خُرَاسَان، مَن يجْتَمع على هَذَا السَّماع الْمُحدَث، فضلًا عَن أَن يكون كَانَ نَظِيره على عهد النَّبِي ﷺ، وَلَا كَانَ أحد يمزق ثِيَابه، وَلَا يرقص فِي سَماعٍ وَلَا شيءٍ من ذَلِك أصلًا، بل لما حدث التَّغبير فِي أَوَاخِر الْمِئَة الثَّانِيَة، وَكَانَ أَهلُه من خِيَار الصُّوفِيَّة، وَحدث من جِهَة الْمَشْرق الَّتِي يطلع مِنْهَا قرنُ الشَّيْطَان، وَمِنْهَا الْفِتَن.

قَالَ الشَّافِعِي : خلفتُ بِبَغْدَاد شَيْئًا أحدثته الزَّنَادِقَةُ يُسمونه "التغبير"، يصدُّون بِهِ النَّاسَ عَن الْقُرْآن.

وَالَّذين شهدُوا هَذَا اللَّغْو مُتأوِّلين من أهل الصِّدْق وَالْإِخْلَاص وَالصَّلَاح غمرت حسناتهم مَا كَانَ لَهُم فِيهِ وَفِي غَيره من السَّيِّئَات أَو الْخَطَأ فِي مواقع الاجتهاد، وَهَذَا سَبِيل كل صالحي هَذِه الْأُمَّة فِي خطئهم وزلَّاتهم.

قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ۝ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ۝ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر:33- 35]، وَذَلِكَ كالمتأولين فِي تنَاول الْمُسْكِر من صالحي أهل الْكُوفَة وَمَن اتَّبعهم على ذَلِك، وَإِن كَانَ المشروبُ خمرًا لَا يشكّ فِي ذَلِك مَن اطَّلع على أقوال النَّبِي ﷺ وأقوال الصَّحَابَة، وَكَذَلِكَ المتأوّلون للمُتعة وَالصَّرْف من أهل مَكَّة، مُتَّبعين لما كَانَ يَقُوله ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِن كَانَ قد رَجَعَ عَن ذَلِك، أَو زادوا عَلَيْهِ، إِذْ لَا يشكّ فِي ذَلِك وَأَنَّه من أَنْوَاع الرِّبَا الْمُحرم وَالنِّكَاح الْمُحرم مَن اطَّلع على نُصُوص النَّبِي ﷺ.

وَكَذَلِكَ المتأوّلون فِي بعض الْأَطْعِمَة والحشوش من أهل الْمَدِينَة، وَإِن كَانَ لَا يشكّ فِي تَحْرِيم ذَلِك مَن اطَّلع على نُصُوص النَّبِي ﷺ وَأَصْحَابه، وَكَذَلِكَ مَا دخل فِيهِ مَن دخل من السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ من الْقِتَال فِي الْفِتْنَة وَالْبَغي بالتَّأويل، مَعَ مَا علم فِي ذَلِك من نُصُوص الْكِتاب وَالسُّنة من ترك الْقِتَال وَالصُّلْح، فَمَا تَأَوّل فِيهِ قومٌ من ذَوي الْعِلم وَالدِّين: من مطعومٍ، أَو مشروبٍ، أو منكوحٍ، أَو مَمْلُوكٍ، أَو مِمَّا قد عُلم أَنَّ الله قد حرَّمه وَرَسُوله؛ لم يجز اتِّباعهم فِي ذَلِك مغفورًا لَهُم، وَإِن كَانُوا خِيَار الْمُسلمين، وَالله قد غفر لهَذِهِ الْأمة الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، كَمَا دلَّ عَلَيْهِ الْكِتاب وَالسُّنة، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يمحو السَّيِّئَات بِالْحَسَنَاتِ، وَيقبل التَّوْبَةَ عَن عباده، وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات.

الطالب: عبدالله بن محرر -بالمهملات- الجزري، القاضي، متروك، من السَّابعة، مات في خلافة أبي جعفر (ابن ماجه).

الشيخ: غيره ابن محرز؟

الطالب: ما في.

الشيخ: الذي أعرفه هو عبدالله بن محرر، صلحه: محرر، وهو ذكر له البخاري معلّقًا في آخر كتابه الصَّحيح: زيِّنوا القرآنَ بأصواتكم، ويدل على هذا المعنى: ليس منا مَن لم يتغَنَّ بالقرآن يجهر به، تحسين الصَّوت بالقراءة والعناية بها هذا من أفضل القُربات.

س: بعض الناس في هذه الأيام يأخذون هذا الحديثَ على ظاهره بالغناء من الخلاعة وما أشبه ذلك، نحن نريد أن نفهم الحديث؟

ج: أي حديثٍ؟

س: الرُّخصة في الغِناء في الأعراس والمناسبات، نريد أن نفهم الغِناء الذي يُستعمل للعُرْس؟

ج: الذي ما فيه محظور، الذي ما فيه دعوة للزنا، ولا الخمر، ولا شيء، فيما بينهم فقط: الزوج والزوجة، وأهل الزوج، وأهل الزوجة، وأشباه ذلك، الأمور التي جرت من عهد النبي ﷺ.

س: وإن خالطته موسيقى ومزمار؟

ج: لا، ما يكون فيه إلا الدُّف فقط، إذا كانت فيه موسيقى، أو فيه طبل، أو فيه عود على ما يفعلون، فكل هذا مُنكر، ما فيه إلا مجرد الدُّف، وهو بوجهٍ واحدٍ، يضربونه بين النِّساء خاصةً من دون اختلاطٍ.

س: وللرجال؟

ج: ما يجوز للرجال إلا ما كان يتعلق بالسلاح والتَّدرب، مثلما فعل الحبشةُ بالحِراب والسُّيوف والرِّماح، وأما بالدُّفوف والطُّبول فما يصلح إلا للنِّساء، ما يصلح للرِّجال.

س: في كل وقتٍ؟

ج: التَّدرب متى ما شاءوا، التَّدرب بالسلاح ما فيه وقتٌ مخصوصٌ، أقرَّ النبيُّ ﷺ الحبشةَ حتى في المسجد على التَّدرب بالسلاح.

وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَمَّا ذكره الشَّيْخ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ فِي كِتَابه "قوت الْقُلُوب"، حَيْثُ ذكر أَنه مَن أنكر السَّماع مُطلقًا غير مُقَيّدٍ فقد أنكر على سبعين صديقًا، وَلَعَلَّ الْإِنْكَارَ الْيَوْم يَقع على خلقٍ عَظِيمٍ من الصّديقين، لَكِن يُقَال: الَّذين أَنْكَرُوا ذَلِك أَكثر من سبعين صديقًا، وَسبعين صديقًا، وَسبعين صديقًا، وهم أعظم علمًا وإيمانًا، وَأَرْفَع دَرَجَةً، فَلَيْسَ الِانْتِصَار بطَائفَةٍ من الصّديقين على نُظرائهم -لَا سِيمَا مَن هُوَ أكبر وأكبر- بأدلّ من الْعَكْس.

فَإِنَّ الْقَائِل إِذا قَالَ: مَن شرع هَذَا السَّماع الْمُحدَث، وَجعله مِمَّا يتَقرَّب بِهِ، فقد خَالف جَمَاهِير الصّديقين من هَذِه الأمة، وردّ عَلَيْهِم. كَانَ قَوْلُه أصحَّ وَأقوى فِي الْحُجَّة، دع مَا سوى ذَلِك.

وَهنا أصلٌ يجب اعْتِمَاده: وَذَلِكَ أَنَّ الله سُبْحَانَهُ عصم هَذِه الْأُمة أَن تَجْتَمِع على ضَلَالَةٍ، وَلم يَعْصم آحادها من الْخَطَأ: لَا صديقًا، وَلَا غير صديقٍ، لَكِن إِذا وَقع بَعْضهَا فِي خطأ فَلَا بُدَّ أَن يُقيم اللهُ فِيهَا مَن يكون على الصَّوَاب فِي ذَلِك الْخَطَأ؛ لِأَنَّ هَذِه الْأُمة شُهَدَاء على النَّاس، وهم شُهَدَاء الله فِي الأرض، وهم خير أُمَّةٍ أُخرجت للنَّاس: يأمرون بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر، فَلَا بُدَّ أَن تَأمر بِكُل مَعْرُوفٍ، وتنهى عَن كل مُنكرٍ، فَإِذا كَانَ فِيهَا مَن يَأْمُر بمنكرٍ مُتأولًا فَلَا بُدَّ أَن يكون فِيهَا مَن يَأْمُر بذلك الْمَعْرُوف.

فَأَمَّا الِاحْتِجَاج بِفعل طَائِفَةٍ من الصّديقين فِي مَسْأَلَةٍ نازعهم فِيهَا أعداؤهم فَبَاطِل، بل لَو كَانَ المنازعُ لَهُم أقلَّ مِنْهُم عددًا وَأدنى منزلَةً لم تكن الْحُجَّةُ مَعَ أَحدهمَا إِلَّا بِكِتَاب الله وَسُنة رَسُوله، فَإِنَّهُ بذلك أُمرت الأُمَّة.

الشيخ: والمعنى أنَّ الكثرةَ لا تكفي، فإذا وقع النِّزاع واشتبه الأمرُ لم تكن الكثرةُ مُرجِّحًا أو كافيةً في أنَّ هذا هو الحقّ، بل لا بدَّ من مُراجعة الدليل حتى يتبين، فإن كان مع الكثير فهم أصحاب الصواب، وإن كان مع القليل فهم أصحاب الصواب؛ ولهذا وجب في مسائل النِّزاع الردّ إلى الله وإلى رسوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].

كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

فَإِذا تنازعت الْأُمَّةُ وولاة الْأُمُور من الصّديقين وَغَيرهم، فَعَلَيْهِم جَمِيعهم أَن يردّوا مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الله وَرَسُوله.

وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ الصّديقين الَّذين أباحوا بعض الْمُسْكِر كَانُوا أسبق من هَؤُلَاءِ وَأكْثر وأكبر، وَكَذَلِكَ الَّذين استحلّوا الْمُتْعَةَ وَالصَّرْف وَبَعض المطاعم الخبيثة والحشوش، وَالَّذين استحلّوا الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَة مُتأولين، مُعتقدين أَنهم على الْحقِّ، وَغير ذَلِك، هم أسبق من هَؤُلَاءِ وَأكْثر وأكبر.

فَإِذا نُهي عَمَّا نهى اللهُ عَنهُ وَرَسُوله لم يكن لأحدٍ أَن يَقُول: هَذَا الإِنْكَار على كَذَا وَكَذَا رجلًا من السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ، فَإِنَّ هَذَا الْإِنْكَار كَانَ من نُظرائهم، وَمَن هُوَ فَوْقهم، أَو قَرِيبًا مِنْهُم، وَعند التَّنَازُع فالمردّ إِلَى الله وَرَسُوله.

وَلَكِن مَن ذهب إِلَى القَوْل الْمَرْجُوح يَنْتَفع بِهِ فِي عذر المتأوّلين، فَإِنَّ عَامَّة مَا حرَّمه الله مثل: قتل النَّفس بِغَيْر حقٍّ، وَمثل: الزِّنَا، وَالْخمر، وَالْميسر، وَالْأَمْوَال، والأعراض، قد اسْتحلَّ بعض أَنْوَاعه طوائف من الأُمَّة بالتَّأويل، وَفِي المستحلِّين قومٌ من صالحي الْأُمَّة، وَأهل الْعِلم وَالْإِيمَان مِنْهُم.

لَكِن المستحلَّ لذَلِك لَا يعْتَقد أَنه من الْمُحرَّمَات، وَلَا أَنه دَاخلٌ فِيمَا ذمَّه الله وَرَسُوله، فالمقاتل فِي الْفِتْنَة مُتأوِّلًا، لَا يعْتَقد أَنه قتل مُؤمنًا بِغَيْر حقٍّ، والمبيح للمُتعة والحشوش وَنِكَاح الْمُحَلّل لَا يعْتَقد أَنه أَبَاحَ زنًا وسفاحًا، والمبيح للنَّبيذ المتأوّل فِيهِ، ولبعض أَنْوَاع الْمُعَامَلَات الرِّبويَّة وعقود المخاطرات لَا يعْتَقد أَنه أَبَاحَ الْخمرَ وَالْمَيسرَ والرِّبا.

وَلَكِن وُقُوع مثل هَذَا التَّأْوِيل من الْأَئِمَّة المتبوعين أهل الْعِلم وَالْإِيمَان صَار من أَسبَاب المحن والفتنة، فَإِنَّ الَّذين يُعظِّمونهم قد يقتدون بهم فِي ذَلِك، وَقد لَا يقفون عِنْد الْحَدِّ الَّذِي انْتَهى إِلَيْهِ أُولَئِكَ، بل يتعدّون ذَلِك وَيزِيدُونَ زيادات لم تصدر من أُولَئِكَ الْأَئِمَّة السَّادة، وَالَّذين يعلمُونَ تَحْرِيم جنس ذَلِك الْفِعْل قد يعتدون على المتأوّلين بِنَوْعٍ من الذَّمِّ فِيمَا هُوَ مغْفُورٌ لَهُم، ويتبعهم آخَرُونَ فيزيدون فِي الذَّمِّ مَا يسْتَحلُّونَ بِهِ من أَعْرَاض إخْوَانهمْ وَغير أعراضهم مَا حرَّمه الله وَرَسُوله، فَهَذَا وَاقعٌ كثيرٌ فِي موارد النِّزاع الَّذِي وَقع فِيهِ خطأ من بعض الْكِبَار.

وَاعْتُبر ذَلِك بِمَسْأَلَة السَّماع الَّتِي تكلمنا فِيهَا؛ فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ شرع للْأُمَّة مَا أغناهم بِهِ عَمَّا لم يشرعه، حَيْثُ أكمل الدِّين، وَأتمَّ عَلَيْهِم النِّعْمَة، ورضي لَهُم الْإِسْلَام دينًا، وَهُوَ سَماع الْقُرْآن الَّذِي شَرعه لَهُم فِي الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد دينهم، وَفِي غير الصَّلَاة مُجْتَمعين ومُنفردين، حَتَّى كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ إِذا اجْتَمعُوا أمروا وَاحِدًا مِنْهُم أن يَقْرَأ، وَالْبَاقُونَ يسمعُونَ، وَكَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول لأبي مُوسَى: "يَا أَبَا مُوسَى، ذكِّرنَا رَبَّنَا"، فَيَقْرَأ وهم يَسْتَمِعُون.

وَقد بسطنا القَوْلَ فِي ذَلِك فِي غير هَذَا الْمَوضِع.

الشيخ: وهكذا النبيُّ ﷺ كان إذا اجتمع بهم يقرأ عليه الصلاة والسلام، ويُفسر لهم كلام ربهم ، ويُعلمهم، وإذا مرَّ بالسَّجدة سجد وسجدوا معه عليه الصلاة والسلام، ومرة قال لابن مسعود: اقرأ عليَّ، فقال: كيف أقرأ عليك وعليك أُنزل؟! قال: إني أُحبّ أن أسمعه من غيري عليه الصلاة والسلام، فشرع ابن مسعودٍ في سورة النساء يقرأ حتى بلغ قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فقال: حسبك، قال عبدالله بن مسعود: فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام. تذكر هذا الموقف العظيم يوم القيامة؛ ولهذا بكى عليه الصلاة والسلام: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ على هذه الأمة.

وَإِنَّمَا ذكرنَا هُنَا نكتًا تتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].

وَذكر سَماع الْمُؤمنِينَ والعارفين وَالْعَالمِينَ والنَّبيين، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2].

وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ۝ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107- 109].

وَقَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58].

وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18].

وَقَالَ: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [الفرقان:73].

وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26].

وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].

وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ۝ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22- 23].

وَقَالَ: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ۝ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ۝ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49- 51].

وَقَالَ: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا الآية [الإسراء:45].

وَقَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة:6].

وَقَالَ تَعَالَى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45].

وَقَالَ: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَ منا مَن لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ: مَن قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلهُ بِكُل حرفٍ عشر حَسَنَاتٍ، أما إِنِّي لَا أَقُول: ألم حرف، وَلَكِن أَقُول: ألف حرف، وَلَام حرف، وَمِيم حرف.

وَهَذَا بَابٌ وَاسعٌ يضيق هَذَا الْمَوضع عَن ذكر جُزْءٍ مِنْهُ.

فَلَمَّا انقرضت الْقُرُون الفاضلة حصل فَتْرَةٌ فِي هَذَا السَّماع الْمَشْرُوع الَّذِي بِهِ صَلَاحُ الْقُلُوب وَكَمَالُ الدِّين، وَصَارَ أهلُ التَّغْيِير فِيهِ أحد رجلَيْنِ:

رجل مُعرض عَن السَّماع الْمَشْرُوع وَغير الْمَشْرُوع.

وَرجل احْتَاجَ إِلَى سَماع القصائد والأبيات، فأحدث سَماع القصائد والأبيات كالتَّغبير.

وَكَانَ الأكابرُ الَّذين حَضَرُوهُ لَهُم من التَّأْوِيل مَا لَهُم، فَأَقَامَ اللهُ فِي الْأُمَّة مَن أنكر ذَلِك، كَمَا هُوَ سُنَّة الله فِي هَذِه الْأُمَّة الآمرة بِالْمَعْرُوفِ، النَّاهية عَن الْمُنْكَر.

الشيخ: يعني سنته سبحانه: كلما حدثت بدعةٌ قيَّض اللهُ لها مَن يُنكرها ويُبين بطلانها، هكذا حتى ينتهي هذا العالم؛ لأنَّ الأُمَّةَ لا تجتمع على ضلالةٍ، فلا بدَّ من طائفةٍ على الحقِّ منصورة، تُنكر ما يُحدثه الناسُ، وتُبين خطأ مَن أحدث الباطل؛ حتى تقوم الحُجَّة، وتنقطع المعذرة.

س: معنى التَّغبير؟

ج: اصطلاح لهم فيما أحدثوا من السَّماع، أبيات يختارونها ويُردِّدونها بينهم أشعارًا بينهم في الحبِّ والوجد، أو في الخوف والخشية، يغبرون بأعوادٍ يضربونها، أو بمزمارٍ، أو قصبةٍ، حتى يكون عندهم خشوعٌ أكثر بزعمهم.

...............

س: ليس منا مَن لم يتغنَّ بالقرآن؟

ج: ظاهره الوعيد، يجهرون يعني: بتحسين الصَّوت.

وَهَؤُلَاء المنكرون فيهم المقتصد فِي إِنْكَاره، وَمِنْهُم المتأوّل بِزِيَادَةٍ فِي الْإِنْكَار غير مَشْرُوعَةٍ، كَمَا أحدث أُولَئِكَ مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا، وَصَارَ على تَمَادي الأيام يزْدَاد الْمُحدث من السَّماع، ويزداد التَّغْلِيظ فِي أهل الْإِنْكَار، حَتَّى آل الْأَمرُ من أَنْوَاع الْبِدَع والضَّلالات والتَّفرق والاختلافات إِلَى مَا هُوَ من أعظم القبائح الْمُنْكَرَات الَّتِي لَا يشكّ فِي عظم إثمها وتحريمها مَن لَهُ أدنى علمٍ وإيمانٍ.

وأصل هَذَا الْفَساد من ذَلِك التَّأْوِيل فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد، فَمَن ثبَّته اللهُ بالْقَوْل الثَّابِت أعْطى كلَّ ذِي حقٍّ حَقَّه، وَحفظ حُدُود الله فَلم يتعدّها: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]، فالشَّر فِي التَّفْرِيط بترك الْمَأْمُور، أَو الْعُدوان بتعدي الْحُدُود، وحصلت الزِّيَادَات فِي جَمِيع الْأَنْوَاع المبتدعة.

فَإِنَّ أصل سَماع القصائد كَانَ تلحينًا بإنشاد قصائد مُرققة للقلوب، تحرّك تَحْرِيك الْمحبَّة والشَّوق، أَو الْخَوْف والخشية، أَو الْحُزن والأسف، وَغير ذَلِك، وَكَانُوا يشترطون لَهُ الْمَكَان والإمكان والخلّان، فيشترطون أَن يكون المجتمعون لسماعها من أهل الطَّرِيق المريدين لوجه الله وَالدَّار الْآخِرَة، وَأَن يكون الشّعْرُ المنشد غير مُتَضَمّن لما يُكره سَمَاعه فِي الشَّرِيعَة.

وَقد يَشْتَرط بَعضُهم أَن يكون القوال مِنْهُم، وَرُبمَا اشْترط بَعضُهم ذَلِك فِي الشَّاعِر الَّذِي أنشأ تِلْكَ القصائد، وَرُبمَا ضمُّوا إِلَيْهِ آلَة تقوي الصَّوْت، وَهُوَ الضَّرْب بالقضيب على جلد مخدةٍ أَو غَيرهَا، وَهُوَ التَّغبير.

وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ اسْتِمَاع الْأَصْوَات يُوجِب حَرَكَة النَّفس بِحَسب ذَلِك الصَّوْت الَّذِي يُوجِب الْحَرَكَة، وَهُوَ يُوجِب الْحَرَكَة.

وللأصوات طبائع متنوعة، تتنوع آثارها فِي النَّفس، وَكَذَلِكَ للْكَلَام المسموع نظمه ونثره، فَيَجْمَعُونَ بَين الصَّوْت الْمُنَاسِب والحروف الْمُنَاسبَة لَهُم.

وَهَذَا الْأَمر يَفْعَله بَنو آدم من أهل الدِّيانَات البدعية: كالنَّصارى، والصَّابئة، وَغير أهل الدِّيانَات مِمَّن يُحَرّك بذلك حبّه وشوقه ووجده، أَو حزنه وأسفه، أَو حميته وغضبه، أَو غير ذَلِك، فخلف بعد أُولَئِكَ مَن صَار يجمع عَلَيْهِ أخلاطًا من النَّاس، ويرون اجْتِمَاعهم لذَلِك شبكة تصطاد النُّفُوس بزعمهم إِلَى التَّوْبَة والوصول فِي طَرِيق أهل الإرادة.

وأحدث بعد أُولَئِكَ أَيْضًا الِاسْتِمَاع من المخانيث المعروفين بِالْغِنَاءِ لأهل الفسوق وَالزِّنَا، وَرُبمَا استمعوه من الصّبيان المردان، أَو من النِّسوان الملاح، كَمَا يفعل أهلُ الدَّساكر والمواخير.

وَقد يجمعُونَ فِي السَّماع أَنْوَاع الْفُسَّاق والفُجَّار، وَرُبمَا قصدُوا التَّكاثر بهم والافتخار، لَا سِيَّمَا إِن كَانُوا من أهل الرِّياسة واليسار، وَكَثِيرًا مَا يحضر فِيهِ أَنْوَاع المردان، وَقد يكون ذَلِك من أكبر مَقَاصِد أهل السَّماع، وَرُبمَا ألبسوهم الثِّيَاب المصبغة الْحَسَنَة، وأرقصوهم فِي طابق الرقص والدَّوران، وَجعلُوا مُشاهدتهم بل مُعانقتهم مَطْلُوبًا لمن يحضر من الْأَعْيَان، وَإِذا غلبهم وجد الشَّيْطَان رفعوا الْأَصْوَات الَّتِي يبغضها الرَّحْمَن.

وَكَذَلِكَ زادوا فِي الابتداع فِي إنشاد القصائد، فكثيرًا مَا ينشدون أشعار الْفُسَّاق والفُجَّار، وَفِيهِمْ كثيرٌ يُنشدون أشعار الكفَّار.

الشيخ: هكذا البدع يجرّ بعضُها إلى بعضٍ، ويجرّ شرُّها إلى ما هو أشرّ منها، نسأل الله العافية.

بل ينشدون مَا لَا يستجيزه أَكثر أهل التَّكْذِيب، وَإِنَّمَا يَقُوله أعظم النَّاس كفرًا بِرَبِّ الْعَالمين، وأشدّهم بُعْدًا عَن الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ.

وَزَادُوا أَيْضًا فِي الْآلَات الَّتِي تُستثار بهَا الْأَصْوَات مِمَّا يُصنع بالأفواه وَالْأَيْدِي: كأبواق الْيَهُود، ونواقيس النَّصَارَى، من بليغ الْمُنْكَرَات: كأنواع الشّبابات والصّفارات، وأنواع الصلاصل والأوتار المصوتات، مَا عظمت بِهِ الْفِتْنَةُ، حَتَّى رَبا فِيهَا الصَّغِيرُ، وهرم فِيهَا الْكَبِير، وَحَتَّى اتَّخذُوا ذَلِك دينًا وديدنًا، وجعلوه من الْوَظَائِف الرَّاتِبَة بِالْغَدَاةِ والعشي: كَصَلَاة الْفَجْر وَالْعَصر، وَفِي الْأَوْقَات والأماكن الفاضلات، واعتاضوا بِهِ عَن الْقُرْآن والصَّلوات.

وَصدق فيهم قَوْله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، وَصَارَ لَهُم نصيبٌ من قَوْله تَعَالَى: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35]، إِذ المكاء هُوَ الصَّفير وَنَحْوه من الْغِناء، والتَّصدية هِيَ التَّصفيق بِالْأَيْدِي.

فَإِذا كَانَ هَذَا سَماع الْمُشْركين الَّذِي ذمَّه الله فِي كِتَابه، فَكيف إِذا اقْتَرن بالمكاء الصّفارات المواصيل، وبالتَّصدية مصلصلات الغرابيل، وَجعل ذَلِك طَرِيقًا ودينًا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الْمَولى الْجَلِيل.

وَظهر تَحْقِيق قَول عبدالله بن مَسْعُودٍ : الْغِناء يُنْبِت النِّفَاق فِي الْقَلب كَمَا يُنْبِت المَاءُ البقلَ.

بل أفْضَى الْأَمرُ إِلَى أَن يجْتَمع فِي هَذَا السَّماع على الْكُفْر بالرحمن، والاستهزاء بِالْقُرْآنِ، والذمّ للمساجد والصَّلوات، والطَّعن فِي أهل الْإِيمَان والقُربات، وَالِاسْتِخْفَاف بالأنبياء وَالْمُرْسلِينَ، والتَّحضيض على جِهَاد الْمُؤمنِينَ، ومعاونة الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ، واتِّخاذ الْمَخْلُوق إِلَهًا من دون ربِّ الْعَالمين، وَشرب أَبْوَال المستمعين، وَجعل ذَلِك من أفضل أَحْوَال العارفين.

الشيخ: شرب أبوال المستمعين؟! نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وَجعل ذَلِك من أفضل أَحْوَال العارفين، وَرفع الْأَصْوَات الْمُنْكَرَات الَّتِي أَصْحَابهَا شَرٌّ من الْبَهَائِم السَّائمات الَّذين قَالَ اللهُ فِي مثلهم: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44].

وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، الَّذين يَفْعَلُونَ فِي سماعاتهم مَا لَا يَفْعَله الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ وَلِهَذَا يتولون مَن يتولاهم من الْيَهُود وَالنَّصَارَى والصَّابئة وَالْمُشْرِكين وَالْمَجُوس، ويجعلونهم من إخْوَانهمْ وأصحابهم وَأهل خرقتهم، مَعَ مُعاداتهم للأنبياء وَالْمُؤمنِينَ.

فَصَارَ السَّماع الْمُحدَث دائرًا بَين الْكُفْر والفُسوق والعصيان، وَلَا حولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه، وكفره من أغْلَظ الْكُفْر وأشدّه، وفسوقه من أعظم الفسوق؛ وَذَلِكَ أَنَّ تَأْثِير الْأَصْوَات فِي النُّفُوس من أعظم التَّأْثِير: يُغنيها ويُغذيها، حَتَّى قيل: إِنَّه لذَلِك سُمِّي: غناء؛ لِأَنَّهُ يُغني النَّفس، وَهُوَ يفعل فِي النُّفُوس أعظم من حميا الكؤوس.

الشيخ: يعني أنهم يستغنون عن الأكل والشُّرب وغير ذلك بسبب الطرب الذي يحصل لهم، يستغنون بذلك حتى عن الأكل والشُّرب.

حَتَّى يُوجِب للنفوس أحوالًا عَجِيبَةً، يظنّ أَصْحَابُهَا أَنَّ ذَلِك من جنس كرامات الْأَوْلِيَاء، وَإِنَّمَا هُوَ من الْأُمُور الطَّبيعية الْبَاطِلَة المبعدة عَن الله، إِذ الشَّيَاطِين تمدهم فِي هَذَا السَّماع بأنواع الْإِمْدَاد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]، وَقَالَ للشَّيْطَان: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]، فَرُبمَا يخفّ أحدُهم حَتَّى يرقص فَوق رؤوسهم، وَيكون شَيْطَانُه هُوَ المغوي لنفوسهم.

وَلِهَذَا كَانَ مرّةً فِي سَماعٍ يحضرهُ الشَّيْخ شبيب الشّطي، فَبَيْنَمَا هم فِي سَماع أحدهم وَإِذا بعفريت يرقص فِي الْهَوَاء على رؤوسهم، فتعجَّبوا مِنْهُ، وَطلب الشَّيْخُ لمريده الشَّيْخ أَبَا بكر ابن فينان، وَكَانَ لَهُ حَالٌ وَمَعْرِفَةٌ، فَلَمَّا رَآهُ صرخَ فِيهِ فَوَقع، فلمَّا فرغوا طلب مِنْهُ أن ينصفه وَقَالَ: هَذَا سلبني حَالي. فَقَالَ الشَّيْخ: لم يكن لَهُ حَالٌ، وَلَكِن كَانَ بالرحبة. فَحَمله شَيْطَانُه إِلَى هُنَا، وَجعل يرقص بِهِ، فَلَمَّا رَأَيْت الشَّيْطَان صرخت فِيهِ فهرب فَوَقع هَذَا.

والقصَّة مَعْرُوفَة، يعرفهَا أَصْحَابُ الشَّيْخ.

وَصَارَ فِي أهل هَذَا السَّماع الْمُحدَث الَّذين اتَّخذُوا دينَهم لَغوًا وَلَعِبًا ضدّ مَا أحبّه الله وشرعه فِي دين الْحقِّ الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله من عَامَّة الْوُجُوه، بل صَار مُشْتَمِلًا على جَمِيع مَا حرَّمه الله وَرُسُله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].

الشيخ: يعني اجتماعهم هذا فيه هذه الأشياء كلها: اجتمعت فيه الفواحش، والبغي، والشِّرك، والقول على الله بغير علمٍ، كله جمعوه في هذه الاجتماعات التي لهؤلاء الصُّوفية على سماعهم وغناهم، وما عندهم من الفواحش، ونحو ذلك، ونسأل الله العافية.

فَصَارَ فِيهِ من الْفَوَاحِش الظَّاهِرَة والباطنة، وَالْإِثْم، وَالْبَغي بِغَيْر الْحقِّ، والإشراك بِاللَّه مَا لم يُنزل بِهِ سُلْطَانًا، وَالْقَوْل على الله بِغَيْر علمٍ مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله، فَإِنَّهُ تنوع وتعدد وتفرّق أَهله فِيهِ، وصاروا شيعًا، لكل قومٍ ذوق ومشروب وَطَرِيق يُفارقون بِهِ غَيرهم، حَتَّى فِي الْحُرُوف المنشدة، والأصوات الملحنة، والأذواق الْمَوْجُودَة، والحركات الثَّائرة، وَالْقَوْم المجتمعين.

وَصَارَ مَن فِيهِ من الْعِلم وَالْإِيمَان مَا ينهاه عَمَّا ظهر تَحْرِيمه من أَنْوَاع الْكُفْر وَالظُّلم وَالْفَوَاحِش، يُرِيد أَن يحدَّ حدًّا للسَّماع الْمُحدَث، يفصل بِهِ بَين مَا يسوغ مِنْهُ وَمَا لَا يسوغ، فَلَا يكَاد يَنْضَبِط حدٌّ: لَا بالْقَوْل، وَلَا بِالْعَمَلِ، فَإِن قرب فِي الضَّبْط والتَّحديد بالْقَوْل لم يَنْضَبِط لَهُ بِالْعَمَلِ؛ إِذْ ينْدر وجود تِلْكَ الشُّرُوط، حَتَّى إِنَّه اجْتَمع مرّةً بِبَغْدَاد فِي حَال عمارتها وَوُجُود الْخلَافَة بهَا أَعْيَانُ الشُّيُوخ الَّذين يحْضرُون السَّماع الْمَفْتُون، فَلم يَجدوا مَن يصلح لَهُ فِي بَغْدَاد وسوادها إِلَّا نَفرًا: إِمَّا ثَلَاثَة، وَإِمَّا أَرْبَعَة، وَإِمَّا نَحْو ذَلِك.

وَسبب هَذَا الاضطراب أَنه لَيْسَ من عِنْد الله، وَمَا كَانَ من عِنْد غير الله وجدوا فِيهِ اخْتِلَافًا كثيرًا: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ۝ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:30- 32].

ثمَّ مَعَ اشتماله على الْمُحرَّمَات كلهَا أَو بَعْضهَا يرَوْنَ أَنَّه من أعظم القُربات، بل أعظمها وأجلّها قدرًا، وَأَنَّ أَهله هم الصَّفوة، أَوْلِيَاء الله، وَخيرته من خلقه.

الشيخ: يعني السَّماع الذي عندهم سماع الصُّوفية للأغاني وضرب القضيب، نعم.

وَلَا يرضون بمساواة السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين والأنصار وَسلف الْأُمَّة حَتَّى يتفضَّلوا عَلَيْهِم، وَفِيهِمْ مَن يُساوون أنفسهم بالأنبياء وَالْمُرْسَلِينَ، وَفِيهِمْ مَن يتفضَّل أَيْضًا على الأنبياء وَالْمُرْسلِينَ على أَنْوَاعٍ من الْكُفْر الَّتِي لَيْسَ هَذَا موضعهَا.

وجماع الْأَمر أنه صَار فِيهِ وَفِيمَا يتبعهُ فِي وَسَائِل ذَلِك ومقاصده فِي موجوده ومقصوده فِي صفته ونتيجته ضدّ مَا فِي السَّماع والعبادات الشَّرْعِيَّة فِي وسائلها ومقاصدها، موجودها ومقصودها، صفتهَا ونتيجتها، فَذَاك يُوجِب الْعِلم وَالْإِيمَان، وَهَذَا يُوجِب الْكُفْر والنِّفاق؛ وَلِهَذَا كَانَ أَعْرَابُ النَّاس -أهل الْبَوَادِي من الْعَرَب وَالتُّرْك والكرد وَغَيرهم- أَكثر اسْتِعْمَالًا لَهُ من أهل الْقُرى، فَإِنَّهُم كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97].

وَلِهَذَا كَانَ يحضرهُ الشَّيَاطِين، كَمَا أَنَّ سَماع أهل الْإِيمَان تحضره الْمَلَائِكَةُ، وتنزل عَلَيْهِم فِيهِ الشَّيَاطِين، وتُوحي إِلَيْهِم، كَمَا تنزل الْمَلَائِكَةُ على الْمُؤمنِينَ، وتقذف فِي قُلُوبهم مَا أمرهم اللهُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تنزل عِنْد سَماع الْقُرْآن، وَعند ذكر الله، كَمَا فِي الصَّحِيح: مَا اجْتَمع قومٌ فِي بَيتٍ من بيُوت الله، يَتلون كتابَ الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة، وَنزلت عَلَيْهِم السَّكينَة، وَحَفَّتْهُم الْمَلَائِكَةُ، وَذكرهُم الله فِيمَن عِنْدَه.

وَفِي الصَّحِيح: أَنَّ أُسيد بن الْحُضير كَانَ يقْرَأ سُورَةَ الْكَهْف، فَرَأى مثل الظّلة فِيهَا أَمْثَال المصابيح، فَقَالَ النَّبِي ﷺ: تِلْكَ السَّكينَة تنزَّلت لسَمَاع الْقُرْآن.

وَفِي الصَّحِيح: إِنَّ لله مَلَائِكَةً فضلًا عَن كتاب النَّاس، فَإِذا رَأَوْا قومًا يذكرُونَ الله تنادوا: هلموا إِلَى حَاجَتكُمْ .. الحَدِيث بِطُولِهِ.

وَهَذَا السَّماع الْمُحدَث تحضره الشَّيَاطِين، كَمَا رأى ذَلِك مَن كشف لَهُ، وكما تُوجد آثَار الشَّيَاطِين فِي أَهله، حَتَّى إنَّ كثيرًا مِنْهُم يغلب عَلَيْهِ الوجدُ فيُصعق كَمَا يُصعق المصروع، ويصيح كصياحه، وَيَجْرِي على لِسَانه من الْكَلَام مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ، وَلَا يكون بلغته، كَمَا يَجْرِي على لِسَان المصروع، وَرُبمَا كَانَ ذَلِك من شياطين قومٍ من الْكُفَّار الَّذِي يكون أهلُ ذَلِك السَّماع مُشابهين لقُلُوبِهِمْ، كَمَا يُوجد ذَلِك فِي أَقوامٍ كثيرين كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي وجدهم واختلاطهم بلغَة التُّرْك التَّتر الْكفَّار، فَينزل عَلَيْهِم شياطينهم ويُغوونهم، ويبقون مُنافقين مُوالين لَهُم، وهم يظنون أَنهم من أَوْلِيَاء الله، وَإِنَّمَا هم من أَوْلِيَاء الشَّيْطَان وَحزبه.

وَلِهَذَا يُوجد فِيهِ مِمَّا يُوجد فِي الْخَمْر من الصَّدِّ عَن ذكر الله، وَعَن الصَّلَاة، وَمن إِيقَاع الْعَدَاوَة والبغضاء حَتَّى يقتل بَعضُهم بَعْضًا فِيهِ؛ وَلِهَذَا يَفْعَلُونَهُ على الْوَجْه الَّذِي يُحِبهُ الشَّيْطَانُ، ويكرهه الرَّحْمَن، وَذَلِكَ من وُجُوهٍ:

أَحدهَا: أَنَّ الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة مثل: الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْحجّ قد شرع فِيهَا من مجانبة جنس الْمُبَاشرَة الْمُبَاحَة فِي غَيرهَا مَا هُوَ من كمالها وتمامها، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، وَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

وَأعظم ذَلِك الْحَجّ، فَلَيْسَ للْمُحرمِ أَن يُبَاشِر فِيهِ النِّسَاء، وَلَا ينظر إِلَيْهِم لشَهْوَةٍ، والمعتكف قريبٌ مِنْهُ، والصَّائم دونه، والمصلِّي لَا يصافّ النِّسَاء، بل يُؤخَّرن عَن صُفُوف الرِّجَال، ويُصلين خلف الرِّجَال، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ: خير صُفُوف الرِّجَال أَوَّلهَا، وشرُّها آخرهَا، وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا، وشرُّها أَوَّلهَا.

وَلَيْسَ للمُصلي فِي حَال صلَاته أَن ينظر إِلَى مَا يُلهيه عَن الصَّلَاة: لَا نسَاء، وَلَا غَيرهم، بل قد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه إِذا مرَّ أَمَامه الْمَرْأَةُ وَالْحمارُ وَالْكَلبُ الْأسود وضع صلَاته، وَإِن كَانَ قد ثَبت عَن النَّبِي ﷺ أَنه كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَة مُضْطَجِعَةٌ فِي قبلته بِاللَّيْلِ فِي الظُّلمَة، فَإِذا أَرَادَ أَن يَسْجُد غمزها، فاللَّابث غير الْمَارِّ، وَلم يكن ذَلِك يُلهيه؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِاللَّيْلِ فِي الظُّلمَة، وَكَذَلِكَ مسّ النِّسَاء لشَهْوَةٍ يَنْقُض الطَّهَارَة عِنْد أكثر الْعُلمَاء.

فَإِذا كَانَ هَذَا فِي النّظر والمباشرة الْمُبَاح فِي غير حَال الْعِبَادَة، نهى الله عَنهُ حَال الْعِبَادَة؛ لما فِي ذَلِك من المباينة لِلْعِبَادَةِ، والمنافاة لَهَا، فَكيف بِمَا هُوَ حرَامٌ خَارجٌ عَن الْعِبَادَة: كالنَّظر إِلَى الْبَغي، والمباشرة لَهَا؟! فَكيف بِالنَّظرِ إِلَى المردان الصَّباح المخانيث، وَغير المخانيث، والمباشرة لَهُنَّ؟!

ثمَّ هَذَا قد يُفعل لمُجَرّد شَهْوَة النَّظر، فَيكون قبيحًا مَكْرُوهًا خَارج الْعِبَادَة، فَكيف فِي حَال الْعِبَادَة؟!

وَهَؤُلَاء قد يجْعَلُونَ ذَلِك مِمَّا لَا يتمّ السَّماع إِلَّا بِهِ، بل ويتَّخذونه فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا من الْعِبَادَات، فيجعلون حضورهم فِي السَّماع، وَالسَّمَاع من النِّسَاء وَالصِّبيان من جملَة القُربات والطَّاعات.

وَهَذَا من أعظم تَبْدِيل الدِّين، فَإِنَّ الرجل لَو جعل النَّظر إِلَى امْرَأَته فِي الصَّلَاة أَو الصّيام أَو الِاعْتِكَاف من جملَة الْعِبَادَة كَانَ مُبتدعًا، بل كَانَ هَذَا كفرًا، فَكيف إِذا جعل النَّظر إِلَى الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة أَو الْأَمْرَد فِي الصَّلَاة من جملَة الْعِبَادَات؟! كَمَا يَفْعَله بَعضُهم وَقد أوقد شمعةً على وَجه الْأَمْرَد، فيستجليه فِي صلَاته، ويعدّ ذَلِك من عباداته، هَذَا من أعظم تَبْدِيل الدِّين ومُتابعة الشَّيَاطِين.

وَهَذَا إِذا كَانَ الْعَمَلُ عبَادَةً فِي نَفسه: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام، فَكيف إِذا كَانَ الْعَمَلُ بِدعَةً عَظِيمَةً، وَهُوَ سَماع المكاء والتَّصدية، وَضمّ إِلَيْهِ مُشَاهدَة الصُّور الجميلة، وَجعل سَماع هَذِه الْأَصْوَات ورؤية هَذِه الصُّور من الْعِبَادَات، فَهَذَا من جنس دين الْمُشْركين.

وَلَقَد حَدَّثنِي بعضُ الْمَشَايِخ أَنَّ بعض مُلُوك فَارس قَالَ لشيخٍ رَآهُ قد جمع النَّاسَ على مثل هَذَا الِاجْتِمَاع: يَا شيخ، إِن كَانَ هَذَا هُوَ طَرِيق الْجنَّة، فَأَيْنَ طَرِيق النَّار؟!

الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ التَّطريب بالآلات الملهية مُحرَّمٌ فِي السَّماع الَّذِي أحبَّه الله وشرعه، وَهُوَ سَماع الْقُرْآن، فَكيف يكون قُربَةً فِي السَّماع الَّذِي لم يشرعه الله؟ وَهل ضمّ مَا يشرعه الله إِلَى مَا ذمَّه يصير الْمَجْمُوع الْمُعين بعضه لبَعضٍ مِمَّا أحبَّه الله ورضيه؟

الْوَجْه الثَّالِث: كَثْرَة إيقاد النَّار بالشُّموع والقناديل وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يُشرع فِي الصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن، إِذْ فِيهِ من تَفْرِيق الْقُلُوب وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ خلاف الْمَقْصُود.

الْوَجْه الرَّابِع: التَّنوع فِي المطاعم والمشارب فِيهِ، وَلَيْسَ شَأْنُ الْعِبَادَات، وَإِنَّمَا شُرع نوع ذَلِك عِنْد الْفَرَاغ من الْعِبَادَة، وَأما أَن يكون هَذَا التَّنوع فِي المطاعم والمشارب فِي السَّماع من الْعِبَادَة الَّتِي يتَقرَّب بهَا إلى الله فَلَا، وَأما مُوجبه من الحركات الْمُخْتَلفَة والأصوات الْمُنكرَة والحركات الْعَظِيمَة فَهَذَا أجلُّ من أن يُوصَف، وَلَا يُمكن ردّ مُوجبه بعد قيام الْمُقْتَضى التَّام، كَمَا لَا يُمكن ردّ السُّكر عَن النَّفس بعد شرب مَا يُسكر من الْخَمر، بل إسكاره للنُّفوس، وصدّه عَن ذكر الله، وَعَن الصَّلَاة أعظم مِمَّا فِي الْخَمر بِكَثِيرٍ؛ فَإِنَّ الصَّلَاة كَمَا ذكر الله تَعَالَى: تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

وَهَذَا أَمرٌ مُجرَّبٌ محسوسٌ، يجد الْإِنْسَان من نَفسه أَنَّ الصَّلَاة تَنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر، ويجد أهل السَّماع أَن نُفُوسَهم تميل إِلَى الْفَحْشَاء وَالْمُنكر؛ وَلِهَذَا يتعاطى كل أحدٍ من الْفَاحِشَة، حَتَّى تعاطى كثيرٌ من المتصوفة صُحْبَة الْأَحْدَاث ومُشاهدتهم.

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: العينان تزنيان، وزناهما النَّظر، وغالب أَهله يُخالطون الْأَحْدَاث والنِّسوان الْأَجَانِب، وَمَن امْتنع مِنْهُم عَن ذَلِك لورعٍ أَو غَيره فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَهِي عَن ذَلِك بِغَيْر هَذَا السَّماع، وَأمَّا هَذَا السَّماع فلا ينهاه عَن ذَلِك قطعًا، بل يَدعُوهُ إِلَيْهِ، لَا سِيمَا النُّفُوس الَّتِي بهَا رقَّة ورياضة وزهد؛ فَإِنَّ سَماع الصَّوْت يُؤثر فِيهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ مُشَاهدَة الصُّور، وَيكون ذَلِك قوتًا لَهَا.

وَبِهَذَا اعتاض الشَّيْطَانُ فِيمَن يفعل ذَلِك من المتصوفة، فَإِنَّهُ لم يُبالِ بعد أَن أوقعهم فِيمَا يُفْسِد قُلُوبهم وسمعهم وأبصارهم أَلا يَشْتَغل بِجمع الْأَمْوَال وَالسُّلْطَان، إذ قد تكون فتْنَة أحدهم بذلك أعظم من الفتنة بالسلطان وَالْمَال، فَإِنَّ جنس ذَلِك مُبَاحٌ، وَقد يُستعان بِهِ على طَاعَة الله، وَأمَّا مَا يشغل بِهِ هَؤُلَاءِ أنفسهم فَإِنَّهُ دينٌ فَاسدٌ منهيٌّ عَنهُ، مضرَّته راجحة على منفعَته.