08 من قوله: (الوجه الخامس: تشبيه الرجال بالنساء)

الْوَجْه الْخَامِس: تَشْبِيه الرِّجَال بِالنِّسَاء: فَإِنَّ المغاني كَانَ السَّلف يُسمونهم: مخانيث؛ لِأَنَّ الْغِناء من عمل النِّسَاء، وَلم يكن على عهد النَّبِي ﷺ يُغني فِي الأعراس إِلَّا النِّسَاء: كالإماء، والجواري الحديثات السن، فَإِذا تشبَّه بهم الرجلُ كَانَ مُخنَّثًا، وَقد لعن رَسُولُ الله ﷺ المخنَّثين من الرِّجَال، والمترجلات من النِّسَاء.

الشيخ: والمخنَّث: هو المتشبه بالنِّساء، من التَّخنث: وهو اللِّين والتَّكسر، فمَن تشبَّه بالنِّساء في صوته ومشيه وغناه يُسمَّى: مُخنَّثًا، نسأل الله السَّلامة.

وَهَكَذَا فِيمَن يَحْضرُون فِي السَّماع من المردان الَّذين يُسمونهم: الشُّهُود، فيهم من التَّخنث بِقدر مَا تشبَّهوا بِالنِّسَاء، وَعَلَيْهِم من اللَّعْنَة بِقدر ذَلِك.

وَقد ثَبت عَن النَّبِي ﷺ أَنه أَمر بِنَفْي المخنَّثين، وَقَالَ: أخرجوهم من بُيُوتكُمْ، فَكيف نُقربهم ونُعظمهم ونجعلهم طواغيت؟!

الطالب: فكيف نمرُّ بقُربهم.

الشيخ: فكيف؟

الطالب: فكيف نمرُّ بقُربهم.

الشيخ: لعلها: نُقربهم، أو نأمر بقُربهم.

فكيف نُقربهم ونُعظِّمهم ونجعلهم طواغيت؟

الشيخ: لعل (نمرّ) نأمر، والسَّاقط الهمزة.

فَكيف نأمر بقربهم ونُعظِّمهم ونجعلهم طواغيت مُعظَّمون بِالْبَاطِلِ الَّذِي حرَّمه الله وَرَسُوله، وَأمر بعقوبة أَهله وإذلالهم؟!

وَهَذَا مضادٌّ فِي أمره؛ فَإِنَّ النَّبِي ﷺ قَالَ: مَن حَالَتْ شَفَاعَته دون حدٍّ من حُدُود الله فقد ضادَّ الله فِي أمره رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الشَّفَاعَة بالْكلَام فَكيف بِالَّذِي يُعظِّم المتعدين لحدود الله ويُعينهم على ذَلِك، وَيجْعَل ذَلِك دينًا، لَا سِيَّمَا التَّعْظِيم لما هُوَ من جنس الْفَوَاحِش، فَإِنَّ هَذَا من شَأْنه إِذا كَانَ مُبَاحًا ستره أَو إخفاؤه، وَأَهله لَا يجوز أَن يُجْعَلُوا من وُلَاة الْأُمُور، وَلَا يكون لَهُم نصيبٌ من السُّلْطَان بِمَا فيهم من نقص الْعَقل وَالدِّين، فَكيف بِمَن هُوَ من جنس هَؤُلَاءِ مِمَّن لَعنه الله وَرَسُوله؟ فَإِنَّ مَن يعظم الْقَيْنَات الْمُغَنِّيَات، وَيجْعَل لَهُنَّ رياسةً وَحكمًا لأجل مَا يستمع مِنْهُنَّ من الْغِناء وَغَيره عَلَيْهِ من لعنة الله وغضبه أعظم مِمَّن يُؤمِّر الْمَرْأَة الْحرَّة ويملكها، وَقد قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَا أَفْلح قومٌ ولّوا أَمرهم امْرَأَة.

فَالَّذِي يُعظم المخنثين من الرِّجَال، وَيجْعَل لَهُم من الرياسة وَالْأَمر على الْأَمر الْمُحرم مَا يَجْعَل؛ هُوَ أحقّ بلعنة الله وغضبه من أُولَئِكَ، فَإِنَّ غناء الْإِمَاء والاستمتاع بِهنَّ من جنس الْمُبَاح، وَمَا زَالَ الْإِمَاءُ وغيرهن من النِّسَاء يُغنين على عهد النَّبِي ﷺ وَأَصْحَابه فِي الأفراح: كالعرس، وقدوم الْغَائِب، وَنَحْو ذَلِك، بِخِلَاف مَن يَسْتَمِعُون الْغِناء من المردان وَالنِّسَاء الأجنبيَّات، ويجتمعون مَعَهم على الْفَوَاحِش، فَإِنَّمَا يكون ذَلِك من أعظم الْمُحرَّمَات، فَكيف إِذا جعل ذَلِك من الْعِبَادَات؟

وَقد كتبنَا فِي غير هَذَا الْمَوضع مِمَّا يتَعَلَّق بذلك مَا لَا يحْتَملهُ هَذَا الْمَوضع.

الشيخ: غفر الله له، الله المستعان، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، هذا مثلما قال المؤلفُ: التَّبديل معناه: تبديل الدِّين وتغييره بالنَّظريات، والمخنَّثين، وسماع أقوالهم، والاجتماع عليهم، وجعلهم دينًا وقُربةً يتقرَّبون بهم إلى الله، هذا انتكاسة، نعوذ بالله.

الْوَجْه السَّادِس: أَنَّ رفع الْأَصْوَات فِي الذِّكْر الْمَشْرُوع لَا يجوز إِلَّا حَيْثُ جَاءَت بِهِ السُّنة: كالأذان، والتَّلبية، وَنَحْو ذَلِك، فَالسُّنة لِلذَّاكِرِينَ والدَّاعين أَلا يرفعوا أَصْوَاتَهم رفعًا شَدِيدًا، كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي مُوسَى أَنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله ﷺ، فَكُنَّا إِذا علونا على شرفٍ كبَّرنا، فارتفعت أصواتنا، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاس، أربعوا على أنفسكم؛ فَإِنَّكُم لَا تدعُون أَصمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تدعون سميعًا قَرِيبًا، إِنَّ الَّذِي تدعون أقرب إِلَى أحدكم من عنق رَاحِلَته.

وَقد قَالَ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، وَقَالَ عَن زَكَرِيَّا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3]، وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205].

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ السُّنة خفض الصَّوت وعدم رفعه في الأذكار والدُّعاء، هذا هو الأصل، إلا ما جاء الشرع برفع الصوت فيه: كالأذان، والإقامة، والتَّلبية، ونحو ذلك مما جاء به رفع الصَّوت والذكر بعد الصلاة؛ حتى يتعلم الجاهلُ، ويتذكر النَّاسي، وما جاء فيه رفع الصَّوت مشروعٌ لذلك، وما لم يأتِ فيه فخفض الصَّوت فيه وعدم الجهر به أولى، لا سيما الدُّعاء، فإنَّ كونه بين العبد وبين ربِّه أنفع، إلا ما كان يستمع له: كالقنوت، والاستسقاء، ونحو ذلك.

فالحاصل أنَّ هذه الأمور تتعلق بما جاء به الشرع في هذا، فالأصل في الدُّعاء السِّر، والذِّكر عدم الجهر، إلا ما جاء به الشرع، إلا ما دلَّ عليه الشرع من شرعية رفع الصوت به: كرفع الصوت في الأذان، والإقامة، والتَّلبية، والسَّلام من الصَّلاة؛ لما في هذا من المصالح: من تعليم الجاهل، وإرشاد الضَّال، والدَّعوة إلى الحقِّ، وتلبية دعوة الله إلى الحجِّ، هذا هو الأصل؛ ولهذا قال للصَّحابة الذين كانوا يرفعون أصواتهم قال: أربعوا على أنفسكم يعني: ارفقوا فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنَّ الذي تدعونه سميع قريب، هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، فلا حاجةَ إلى هذا الجهر الزائد.

وَفِي هَذِه الْآثَار عَن سلف الْأُمَّة وأئمّتها مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه، كَمَا قَالَ الْحسنُ الْبَصْرِيّ: رفع الصَّوْت بِالدُّعَاءِ بِدعَة. وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره.

وَقَالَ قيس بن عباد -وَهُوَ من كبار التَّابِعين من أَصْحَاب عليٍّ عَلَيْهِ السَّلَام- روى عَنهُ الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: كَانُوا يستحبّون خفض الصَّوْت عِنْد الذّكر، وَعند الْجَنَائِز، وَعند الْقِتَال.

وَهَذِه المواطن الثَّلَاثَة تطلب النُّفُوس فِيهَا الْحَرَكَة الشَّدِيدَة، وَرفع الصَّوْت عِنْد الذّكر وَالدُّعَاء؛ لما فِيهِ من الْحَلَاوَة، ومحبَّة ذكر الله ودُعائه، وَعند الْجَنَائِز بالحزن والبكاء، وَعند الْقِتَال بِالْغَضَبِ وَالْحمية، ومضرّته أكبر من منفعَته، بل قد يكون ضَرَرًا مَحْضًا، وَإِن كَانَت النَّفسُ تطلبه كَمَا فِي حَال المصائب؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي ﷺ: لَيْسَ منا مَن لطم الخدود، وشقَّ الْجُيُوب، ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة، وتبرأ النَّبِيُّ ﷺ من الصَّالقة، والحالقة، والشَّاقة. والصَّالقة: الَّتِي ترفع صَوتهَا بالمصيبة.

الشيخ: وهذه الصِّفات يخفض الصَّوت عندها؛ لأنه يدعو إلى الذِّكر والتَّأمل، فعند الذكر يخفض صوته، يتأمل ما يتعلق بحقِّ الله وتعظيمه، وفي اتِّباع الجنائز لا حاجةَ لرفع الصَّوت، كان السَّلف يخفضون أصواتهم؛ لأنهم يتفكَّرون في مصير الجنازة وما لها من نعيمٍ أو عذابٍ بعد ذلك، فهو محلّ تفكيرٍ، ومحلّ اعتبارٍ، ليس محلًّا لرفع الصوت.

وبهذا يُعلم أنَّ ما يفعله بعضُ الناس من رفع الصَّوت مع الجنائز: اذكروا الله، وحِّدوا الله، هذا لا أصلَ له، كما أنه عند القتال محل تفكيرٍ، ومحل نظرٍ، ومحل إخلاصٍ لله ، وتأمل في مواطن التَّمكن من العدو، فليس محلَّ رفع الصَّوت.

فهذه المواطن التي كان السَّلفُ يستحبُّون فيها خفض الصَّوت: عند الذكر، وعند الجنائز، وعند القتال؛ لما في هذه المقامات من الحاجة إلى الإخلاص، والتَّدبر، والتَّعقل، وعدم رفع الصَّوت؛ لأنه قد يشغله عمَّا هو أهمّ.

وَقَالَ: إِنَّ الله لَا يُؤَاخِذ على دمع الْعَين، وَلَا على حُزن الْقَلب، وَلَكِن يُؤَاخِذ على هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه أَو يرحم.

وَقَالَ: إِنَّ النائحةَ إِذا لم تتب فَإِنَّهَا تلبس يَوْم الْقِيَامَة درعًا من جربٍ، وسربالًا من قطرانٍ.

وَهَذِه الْأَحَادِيث وَغَيرهَا فِي الصِّحَاح؛ وَلِهَذَا عظم نهي الْعُلمَاء عَمَّا ابتدع فِيهَا، مثل: الضَّرْب بِالدُّفُوفِ، وَنَحْو ذَلِك، وَرَأَوا تقطيع الدُّفِّ فِي الْجِنَازَة، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمد وَغَيره، بِخِلَاف الدُّفِّ فِي الْعُرس؛ فَإِنَّ ذَلِك مَشْرُوعٌ.

وَأمَّا الْقِتَال فَالسُّنة أَيْضًا فِيهِ خفض الصَّوْت؛ وَلِهَذَا قَالَ حماس بن قيس بن خَالِد لامْرَأَته يَوْم فتح مَكَّة ....:

إِنَّك لَو شهِدت يَوْم الخندمه إِذْ فرَّ صَفْوَان وفرَّ عِكْرِمَه
وَأَبُو يزِيد قَائِمٌ كالموتمه واستقبلتهم بِالسُّيُوفِ الْمُسلمَه
يقطعن كل ساعدٍ وجُمجمه ضربًا فَلَا يُسْمَع إِلَّا غمغمه
لَهُم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي فِي اللَّوم أدنى كَلمه

وَهَذِه الدّقادق والأبواق الَّتِي تُشبه قرن الْيَهُود وناقوس النَّصَارَى لم تكن تُعرف على عهد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَلَا مَن بعدهمْ من أُمَرَاء الْمُسلمين، وَإِنَّمَا حدث فِي ظَنِّي من جهة بعض مُلُوك الْمشرق من أهل فَارس، فَإِنَّهُم أَحْدَثُوا فِي أَحْوَال الْإِمَارَة والقتال أمورًا كَثِيرَةً، وانبثت فِي الأَرْض لكَون ملكهم انْتَشَر، حَتَّى ربا فِي ذَلِك الصَّغِير، وهرم فِيهَا الْكَبِير، لَا يَعْرفُونَ غير ذَلِك، بل يُنكِرُونَ أَن يتَكَلَّم أحدٌ بِخِلَافِهِ، حَتَّى ظنَّ بعضُ النَّاس أَنَّ ذَلِك من إِحْدَاث عُثْمَان بن عَفَّان، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل وَلَا فعله عَامَّةُ الْخُلَفَاء والأمراء بعد عُثْمَان ، وَلَكِن ظهر فِي الْأُمَّة مَا أخبر بِهِ النَّبِي ﷺ حَيْثُ قَالَ: لتأخذنَّ مَأْخَذ الْأُمَم قبلكُمْ، شبْرًا بشبرٍ، وذراعًا بِذِرَاعٍ، قَالُوا: فَارس وَالروم؟ قَالَ: وَمَن النَّاس إِلَّا هَؤُلَاءِ؟.

كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث الآخر: لتركبنَّ سنَن مَن كَانَ قبلكُمْ حَذْو القُذة بالقُذة، حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَبٍّ لدخلتُموه، قَالُوا: يَا رَسُول الله، الْيَهُود وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَن؟.

وكلا الْحَدِيثين فِي الصَّحِيح: أخبر بِأَنَّهُ يكون فِي الْأُمة مَن يتشبَّه باليهود وَالنَّصَارَى، وَيكون فِيهَا مَن يتشبَّه بِفَارِس وَالروم؛ وَلِهَذَا ظهر فِي شَعَائِر الْجند المقاتلين شَعَائِر الْأَعَاجِم من الْفُرس وَغَيرهم، حَتَّى فِي اللِّبَاس وأعمال الْقِتَال والأسماء الَّتِي تكون لأسباب الإمرة، مثل: الْأَلْفَاظ المضافة إِلَى دَارٍ، كَقَوْلِهِم: ركاب دَارٍ، وطشت دَارٍ، وخان دَارٍ، فَإِنَّ ذَلِك فِي لُغَة الْفُرس بِمَعْنى: صَاحب، وحافظ، فَإِذا قَالُوا: جَان دَار، فالجان هِيَ الرّوح فِي لغتهم، فالجان دَار بِمَعْنى: حَافظ الرّوح، وَصَاحب الرّوح، وَكَذَلِكَ الركاب دَار، أَي: صَاحب الركاب، وحافظ الركاب، وَهُوَ الَّذِي يسرج الْفَرَس ويُلجمه، وَيكون فِي ركاب الرَّاكِب.

الشيخ: هذا عاداتهم، يُقدمون المضاف على المضاف إليه مثلما ذكر المؤلف ..... ونحو ذلك ..... وأشباه ذلك .....، الحاصل أنَّ الناس ابتُلوا بأعرافهم ..... من النَّصارى والفرس بعدما مرت القرون المفضلة، وكثرت هذه الاتصالات بين المسلمين والكُفَّار، حتى جرى ما جرى من ظهور شعائر الكفَّار وعوائدهم في الحروب وغير الحروب: من الطبول والمزامير وغير هذا مما اعتادوه في حروبهم، وفي جيوشهم، حتى عمَّت البلوى في الناس: لتتبعنَّ سنن مَن كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، الله المستعان.

وَكَذَلِكَ صَاحب الطّشت الَّذِي يغسل الثِّيَاب والأبدان.

وَكَذَلِكَ برد دَار، وَهُوَ صَاحب العتبة، وَهُوَ الْمُوكّل بدار الْأَمِير: كالحداد والبواب الَّذِي يمْنَع من الدُّخُول وَالْخُرُوج وَيَأْذَن فِيهِ.

وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: جمدار، وَسلَاح دَار، وجوكان دَار، وبندق دَار، ودوادار، وخزندار، واستادار: لصَاحب الثِّيَاب الَّذِي يحفظ الثِّيَاب وَمَا يتَعَلَّق بذلك، وَلِصَاحِب السِّلَاح، والجوكان، والبندق، والدّواه، وخزانة المَال، والاستدانة، وَهِي التَّصَرُّف فِي إِخْرَاج المَال وَصَرفه فِيمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ من الطَّعَام واللِّباس وَغير ذَلِك.

وَيَتَعَدَّى ذَلِك إِلَى وُلَاة الطَّعَام وَالشَّرَاب، فَيَقُولُونَ: مرق دَار، أَي: صَاحب المرقة وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وشراب دَار: لصَاحب الشَّرَاب، وَيَقُولُونَ: مهماندار، أَي: صَاحب المهم، كَمَا يَقُولُونَ: مهمان خاناه، أَي: بَيت المهم والمهمة، وَهُوَ فِي لغتهم الضَّيْف، أَي: بَيت الْإِضَافَة، وَصَاحب الضِّيَافَة، مهمان دَار: لمثل رَسُولٍ يرد على الْأَمِير، والعيون الَّذين هم الجواسيس، وَنَحْو ذَلِك مِمَّن يتَّخذ لَهُ ضِيَافَة، وَيُوجد مِنْهُ أَخْبَار وَكتب، وَيُعْطى ذَلِك، وَنَحْو ذَلِك.

فَإِنَّ الألف وَالنُّون فِي لغتهم جمع، كَمَا يَقُولُونَ: مسلمان، وفقيهان، وعالمان، أَي: مُسلمُونَ، وفُقهاء، وعُلماء، وَنَحْو ذَلِك.

قَوْلهم: فرَاش خاناه، أَي: بَيت الْفَرس، والفراش يُسمونه بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ وَيَقُولُونَ: زرد خاناه، أَي: بَيت الزرد.

وَهَذَا الْخَاصّ هُوَ عَامٌّ فِي الْعُرف، يُرَاد بِهِ بَيت السِّلَاح مُطلقًا، وَإِن ذُكر لفظ الزرد خَاصَّةً كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُعبرون عَن السِّلَاح بالحلقة، وَالْحَلقَة هِيَ الدّروع المسرودة، من السّرد الَّذِي يُقَال لَهُ: الزرد، فنُقلت السِّين زايًا، وَرُبمَا قَالُوا: الْحلقَة وَالسِّلَاح، أَي: الدُّروع وَالسِّلَاح.

وَلِهَذَا لما صَالح النَّبِيُّ ﷺ مَن صَالحه من يهود، صَالحهُمْ على أَنَّ لَهُ الْحلقَة، وَفِي السِّيرَة كَانَ فِي بني فلَان وَفُلَان من الْأَنْصَار الْحلقَة والحصون، أَي: هم الَّذين لَهُم السِّلَاح، الَّذين يُقَاتلُون بهَا، والحصون الَّتِي يأوون إِلَيْهَا، كَمَا يكون لأُمراء النَّاس من أَصْنَاف الْمُلُوك: المعاقل والحصون والقلاع، وَلَهُم السِّلَاح، فَإِنَّ هَذِه الْأُمُور هِيَ جنن الْقِتَال، وَبهَا يمْتَنع الْمُقَاتل وَالْمَطْلُوب، بِخِلَاف مَن لَا سلَاحَ لَهُ وَلَا حصن، فَإِنَّهُ مُمكن من نَفسه، مَقْدُور عَلَيْهِ فِي مثل الْأَمْصَار، وَإِن كَانَ الْقِتَالُ على الْخَيل بِالسِّلَاحِ هُوَ أَعلَى وَأفضل من الْقِتَال فِي الْحُصُون بِالسِّلَاحِ، فالحصان خيرٌ من الْحُصُون، وَمَن لم يكن قِتَاله إِلَّا فِي الْحُصُون والجدر فَهُوَ مَذْمُومٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْيَهُود: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [الحشر:14].

والمحدثات فِي أَمر الْإِمَارَة وَالْمُلك والقتال كَثِيرَة جدًّا، لَيْسَ هَذَا موضعهَا، فَإِنَّ الْأُمَّة هِيَ فِي الأَصْل أربعة أَصْنَافٍ، كَمَا ذكر ذَلِك فِي قَوْله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20].

فالصنف الْوَاحِد: الْقُرَّاء، وهم جنس الْعُلمَاء والعُبَّاد، وَيدخل فيهم مَن تفرع من هَذِه الْأَصْنَاف من المتكلمة والمتصوفة وَغَيرهم.

والصنف الآخر: المكتسب بِالضَّرْبِ فِي الأَرْض، وَأما المقيمون من أهل الصِّناعات والتِّجارات فَيُمكن أَن يَكُونُوا من الْقُرَّاء المقيمين أَيْضًا، بِخِلَاف الْمُسَافِر، فَإِنَّ النَّبِي ﷺ قَالَ: إِذا مرض العَبْدُ أَو سَافر كُتِبَ لَهُ من الْعَمَل مثل مَا كَانَ يَعْمل وَهُوَ صَحِيحٌ مُقيمٌ أَخْرجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أبي مُوسَى.

وَالله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذكر هَذِه الْأَصْنَاف فِي الْآيَة ليُبين مَن يَسْقط عَنهُ قيام اللَّيْل من أهل الْأَعْذَار، فَذكر الْمَرِيض وَالْمُسَافر اللَّذين ذكرا فِي الحَدِيث، وَذكر الْمُسَافِرين فِي ضَرْبَيْنِ: الضَّاربين فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله، والمقاتلين فِي سَبِيل الله، وهم التُّجَّار والأجناد.

وَالْمَقْصُود هُنَا أنَّ الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة من الْمُقَاتلَة والتُّجار وَمَن يُلْحَق بهم من الصُّناع والقُرَّاء وَأهل الْأَعْذَار -كالمرضى وَنَحْوهم- كل هَؤُلَاءِ قد حصل فيهم من الْأَنْوَاع الْمُخْتَلفَة مَا يطول وَصفُه.

وأمورهم مَا بَين حسن مَأْمُورٍ بِهِ، وَبَين قَبِيحٍ منهيٍّ عَنهُ، ومباح.

واشتمال أَكثر أُمُورهم على هَذِه الثَّلَاثَة: الْمَأْمُور بِهِ، والمنهي عَنهُ، والمباح. وَالْوَاجِب الْأَمر بِمَا أَمر الله بِهِ، وَالنَّهْي عَمَّا نهى عَنهُ، وَالْإِذْن فِيمَا أَبَاحَهُ الله، لَكِن إِذا كَانَ الشَّخْصُ أَو الطَّائِفَةُ لَا تفعل مَأْمُورًا إِلَّا بمحظورٍ أعظم مِنْهُ، أَو لَا تَتْرك مَأْمُورًا إِلَّا لمحظورٍ أعظم مِنْهُ؛ لم يَأْمُر أمرًا يَسْتَلْزم وُقُوع مَحْظُورٍ رَاجِحٍ، وَلم ينْهَ نهيًا يَسْتَلْزم وُقُوع مَأْمُورٍ رَاجِحٍ، فَإِنَّ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنَّهي عَن الْمُنكر هُوَ الَّذِي بُعثت بِهِ الرُّسُل، وَالْمَقْصُود تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها، وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها بِحَسب الْإِمْكَان.

فَإِذا كَانَ الْأَمرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن الْمُنكر مُستلزمًا من الْفَساد أَكثر مِمَّا فِيهِ من الصَّلاح لم يكن مَشْرُوعًا، وَقد كره أَئِمَّةُ السُّنة الْقِتَال فِي الْفِتْنَة الَّتِي يُسميها كثيرٌ من أهل الْأَهْوَاء: الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، فَإِنَّ ذَلِك إِذا كَانَ يُوجِب فتْنَةً هِيَ أعظم فَسَادًا مِمَّا فِي ترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لم يَدْفع أدنى الفسادين بأعلاهما، بل يَدْفع أعلاهما بِاحْتِمَال أدناهما، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ: أَلا أُنبئكم بِأَفْضَل من دَرَجَة الصّيام وَالصَّلَاة وَالصَّدَقَة والأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر؟ قَالُوا: بلَى يَا رَسُول الله، قَالَ: إصْلَاح ذَات الْبَين، فَإِنَّ فَسَاد ذَات الْبَين هِيَ الحالقة، لَا أَقُول: تحلق الشَّعْر، وَلَكِن تحلق الدِّين.

لَكِن الْمَقْصُود هُنَا أنَّ هَذِه الْأَصْوَات المحدثة فِي أَمْر الْجِهَاد، وَإِن ظنَّ أَنَّ فِيهَا مصلحَةً راجحةً، فَإِنَّ الْتِزَام الْمَعْرُوف هُوَ الَّذِي فِيهِ الْمصلحَة الرَّاجحة، كَمَا فِي أصوات الذّكر، إِذِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلونَ والتَّابعون لَهُم بِإِحْسَانٍ أفضل من الْمُتَأَخِّرين فِي كل شيءٍ من الصَّلَاة وجنسها: من الذّكر، وَالدُّعَاء، وَقِرَاءَة الْقُرْآن، واستماعه، وَغير ذَلِك، وَمن الْجِهَاد، والإمارة، وَمَا يتَعَلَّق بذلك من أَصْنَاف السياسات والعقوبات والمعاملات فِي إصْلَاح الْأَمْوَال وصرفها، فَإِنَّ طَرِيقَ السَّلف أكمل فِي كل شيءٍ، وَلَكِن يفعل الْمُسلم من ذَلِك مَا يقدر عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وَقَالَ النَّبِي ﷺ: إِذا أَمرتكُم بِأَمْرٍ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَلَا حولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه.

............

قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقُشيرِي: وَإِنَّ حُسن الصَّوْت مِمَّا أنعم اللهُ تَعَالَى بِهِ على صَاحبه من النَّاس، قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، قيل فِي التَّفْسِير: من ذَلِك الصَّوْت الْحسن، وذمّ الله سبحانه الصَّوْت الفظيع، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19].

قلتُ: كَون الشيء نعْمَة لَا يقتضي اسْتِبَاحَة اسْتِعْمَاله فِيمَا شَاءَ الْإِنْسَان من الْمَعاصِي، وَلَا يَقْتَضِي إِلَّا حُسن اسْتِعْمَاله، بل النِّعَم المستعملة فِي طَاعَة الله يحمد صَاحبهَا عَلَيْهَا، وَيكون ذَلِك شكرًا لله يُوجِب الْمَزِيد من فَضله، فَهَذَا يَقْتَضِي حُسن اسْتِعْمَال الصَّوْت الْحسن فِي قِرَاءَة الْقُرْآن، كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يفعل، وكما كَانَ النَّبِي ﷺ يستمع لقرَاءَته، وَقَالَ: مَرَرْتُ بك البارحة وَأَنت تقْرَأ، فَجعلتُ أَسْتَمع لقراءتك، فَقَالَ: لَو علمتُ أَنَّك تستمع لحبرتُه لَك تحبيرًا. وَقَالَ: لقد أُوتي هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد.

فَأَمَّا اسْتِعْمَال النِّعَم فِي الْمُبَاح الْمَحْضِ فَلَا يكون طَاعَةً، فَكيف فِي الْمَكْرُوه أَو الْمُحرم؟! وَلَو كَانَ ذَلِك جَائِزًا لم يكن قُربَةً وَلَا طَاعَةً إِلَّا بِإِذن الله، وَمَن جعله طَاعَةً لله بِدُونِ ذَلِك فقد شرع من الدِّين ما لم يَأْذَن بِهِ الله.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُوَّة نِعْمَة، وَالْجمال نعْمَة، وَغير ذَلِك من نِعم الله الَّتِي لَا يُحصيها إِلَّا هُوَ، فَهَل يَجْعَل أحدٌ مُجَرّد كَون الشَّيء نعْمَةً دَلِيلًا على اسْتِحْبَاب إعماله فِيمَا شَاءَ الْإِنْسَان، أم يُؤمَر الْمُنْعَم عَلَيْهِ بألا يستعملها فِي مَعْصِيَةٍ، وَيُنْدب إِلَى أَلا يستعملها إِلَّا فِي طَاعَة الله تَعَالَى.

فالاستدلال بِهَذَا منزلَة مَن اسْتدلَّ بإنعام الله بالسُّلطان وَالْمَال على مَا جرت عَادَة النُّفُوس بِاسْتِعْمَال ذَلِك فِيهِ من الظُّلم وَالْفَوَاحِش وَنَحْو ذَلِك، فاستعمال الصَّوْت الْحسن فِي الأغاني وآلات الملاهي مثل: اسْتِعْمَال الصُّور الْحَسَنَة فِي الْفَوَاحِش، وَاسْتِعْمَال السُّلْطَان بالكبرياء وَالظُّلم والعدوان، وَاسْتِعْمَال المَال فِي نَحْو ذَلِك.

ثمَّ يُقَال لَهُ: هَذِه النِّعْمَة يستعملها الْكُفَّار والفُسَّاق فِي أَنْوَاع من الْكُفْر والفسوق أَكثر مِمَّا يستعملها الْمُؤْمِنُونَ فِي الْإِيمَان، فَإِنَّ استمتاع الْكُفَّار والفُسَّاق بالأصوات المطربة أَكثر من استمتاع الْمُسلمين، فَأَيّ حمدٍ لَهَا بذلك إِن لم تُسْتَعْمَل فِي طَاعَة الله وَرَسُوله.

وَأمَّا قَوْله: (إِنَّ الله ذمَّ الصَّوْت الفظيع) فَهَذَا غلطٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الله لَا يذمّ مَا خلقه، وَلم يكن فعلًا للْعَبد، إِنَّمَا يذمّ العَبْد بأفعاله الاختيارية، دون مَا لَا اخْتِيَار لَهُ فِيهِ، وَإِن كَانَ صَوتُه قبيحًا فَإِنَّهُ لَا يذمّ على ذَلِك، وَإِنَّمَا يذمّ بأفعاله.

وَقد قَالَ اللهُ فِي الْمُنَافِقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204].

وَإِنَّمَا ذمّ الله مَا يكون باختيار العَبْد من رفع الصَّوْت الرَّفْع الْمُنكر، كَمَا يُوجَد ذَلِك فِي أهل الغلظ والجفاء، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْجفَاء والغلظ وقسوة الْقُلُوب فِي الْفَدادِين من أهل الْوَبر، وهم الصّياحون صياحًا مُنْكرًا.

وَقد قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فَأمره أَن يغضّ من صَوته، كَمَا أَمر الْمُؤمنِينَ أَن يغضّوا من أَبْصَارهم، وكما أمره أَن يَقْصِد فِي مَشْيه، وَذَلِكَ كُلّه فِيمَا يكون بِاخْتِيَارِهِ، لَا مَدْخل لذة الصَّوْت وَعدم لذَّته فِي ذَلِك.

وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4]، وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ [الحجرات:2]، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3].

وَفِي "صَحِيح البُخَارِيّ" عَن عبدالله بن عَمْرو فِي صفة النَّبِي ﷺ فِي التَّوْرَاة قَالَ: "لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غليظٍ، ولا صخَّابٍ بالأسواق، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة، وَلَكِن يعْفُو وَيَغْفر".

وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا أنه أُمِرَ أن يُبشِّر خَدِيجَة بِبَيْتٍ فِي الْجنَّة من قصبٍ، لَا صخبَ فِيهِ وَلَا نصبَ.

وَعنهُ ﷺ قَالَ: إِنَّمَا نهيتُ عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين: صَوت عِنْد نعْمَةٍ؛ صَوت لَهوٍ وَلعبٍ وَمَزَامِير الشَّيْطَان. وَصَوت عِنْد مُصِيبَةٍ؛ لطم خدود، وشقّ جُيُوبٍ، وَدُعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة.

ثمَّ قَالَ أبو الْقَاسِم: واستلذاذ الْقُلُوب واشتياقها إِلَى الْأَصْوَات الطّيبَة واسترواحها إِلَيْهَا مِمَّا لَا يُمكن جحوده، فَإِنَّ الطِّفْل يسكن إِلَى الصَّوْت الطّيب، والجمل يُقاسي تَعب السّير ومشقة الحمولة، فيُهون عَلَيْهِ بالحُداء، قَالَ الله تَعَالَى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17].

وَحكى إِسْمَاعِيل بن عُلية قَالَ: كنتُ أمشي مَعَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَقت الهاجرة، فجزنا بِموضعٍ يَقُول فِيهِ أحدٌ شَيْئًا، فَقَالَ: مِلْ بِنَا إِلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: أيُطربك هَذَا؟ فَقلتُ: لَا. فَقَالَ: مَا لك حسٌّ.

قلتُ: قد كَانَ مُستغنيًا عَن أَن يستشهد على الأمور الحسية بحكاية مكذوبة على الشَّافِعِي؛ فَإِنَّ إِسْمَاعِيل بن عُلية شيخ الشَّافِعِي لم يكن مِمَّن يمشي مَعَه، وَلم يروِ هَذَا عَن الشَّافِعِي، بل الشَّافِعِي روى عَنهُ، وَهُوَ من أجلاء شُيُوخ الشَّافِعِي، وَابْنه إبراهيم بن إِسْمَاعِيل كَانَ مُتكلِّمًا تلميذًا لعبدالرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَمّ، أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة، وَكَانَ قد ذهب إِلَى مصر، وَكَانَ بَينه وَبَين الشَّافِعِي مناوأة، حَتَّى كَانَ الشَّافِعِي يَقُول فِيهِ: أَنا مُخَالفٌ لِابْنِ عُلية فِي كل شيءٍ، حَتَّى فِي قَول "لَا إِلَه إِلَّا الله"؛ لِأَنِّي أَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله الَّذِي كلَّم مُوسَى من وَرَاء الْحِجاب، وَهُوَ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله الَّذِي خلق فِي الْهَوَاء كلَامًا يسمعهُ مُوسَى. وَهَذَا يذكر لَهُ أول رِسَالَة فِي أصُول الْفِقْه، ويظنّ بعضُ النَّاس أَنَّ ابْنَه يشْتَبه بِأَبِيهِ، فَإِنَّهُ شيخ الشَّافِعِي وَأحمد وطبقتهما.

الشيخ: وإبراهيم هذا ابن إسماعيل بن عُلية مُعتزلي، خبيث، من أئمة الكلام، ولا ينبغي أن يشتبه أمره، وأما إسماعيل فهو إمامٌ، شيخ الشافعي رحمه الله، وشيخ أحمد رحمه الله، من رجال الشَّيخين، وهو له ولد اسمه: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أيضًا، إمامٌ، من شيخ المشايخ رحمه الله، وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، يشتبه في البخاري في اسمه، واسم أبيه، واسم جدّه، ولكن هذا ينفصل في محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عُلية، ينفصل عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله.

المقصود أنَّ إبراهيم هذا قد يشتبه على بعض الناس، وهو مُعتزلي، ليس بشيءٍ، وأما أبوه فهو إمامٌ من الأئمة.

فَهَذِهِ الْحِكَايَة يعلم أنها مُفتراة مَن لَهُ أدنى معرفَة بِالنَّاسِ، وَلَو صحَّت عَمَّن صحَّت عَنهُ لم يكن فِيهَا إِلَّا مَا هُوَ مُدرك بالإحساس؛ من أنَّ الصَّوْتَ الطّيب لذيذ مطرب، وَهَذَا يَشْتَرك فِيهِ جَمِيعُ النَّاس، لَيْسَ هَذَا من أُمُور الدّين حَتَّى يُسْتَدلّ فِيهِ بالشَّافعي، بل ذِكر الشَّافِعِي فِي مثل هَذَا غضٌّ من منصبه، مثلمَا ذكر ابْنُ طَاهِر عَن مَالكٍ رَحمَه الله حِكَايَةً مكذوبةً، وَأهل المواخر أعلم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة من أَئِمَّة الدِّين، وَلَو حكى مثل هَذَا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم النّديم، وَأبي الْفَرج الْأَصْبَهَانِيّ صَاحب "الأغاني" لَكَانَ أنسب من أن يحكيها عَن الشَّافِعِي.

ثمَّ يُقَال: كَون الصَّوْت الْحسن فِيهِ لذة أَمر حسي، لَكِن أَي شيءٍ فِي هَذَا مِمَّا يدل على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من كَونه مُبَاحًا أو مَكْرُوهًا أو مُحرَّمًا، وَمن كَون الْغِناء قُربَةً أَو طَاعَةً.

بل مثل هَذَا أن يَقُول الْقَائِل: استلذاذ النفوس بِالْوَطْءِ مِمَّا لَا يُمكن جحوده، واستلذاذها بِالْمُبَاشرَةِ للجميل من النِّسَاء وَالصِّبيان مِمَّا لَا يُمكن جحوده، واستلذاذها بِالنَّظرِ إِلَى الصُّور الجميلة مِمَّا لَا يُمكن جحوده، واستلذاذها بأنواع المطاعم والمشارب مِمَّا لَا يُمكن جحوده، فَأَي دَلِيلٍ فِي هَذَا لمن هداه الله على مَا يُحِبهُ ويرضاه، أَو يُبيحه ويُجيزه؟

وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ هَذِه الْأَجْنَاس فِيهَا الْحَلَال وَالْحرَام، وَالْمَعْرُوف وَالْمُنكر، بل كَانَ الْمُنَاسبُ لطريقة الزُّهْد فِي الشَّهَوَات وَاللَّذَّات وَمُخَالفَة الْهوى أن يسْتَدلّ بِكَوْن الشيء لذيذًا مُشْتَهًى، على كَونه مُباينًا لطريق الزّهْد والتَّصوف، كَمَا قد يفعل كثيرٌ من الْمَشَايِخ، يزهدون بذلك فِي جنس الشَّهَوَات وَاللَّذَّات.

وَهَذَا وَإِن لم يكن فِي نَفسه دَلِيلًا صَحِيحًا فَهُوَ أقْرَب إِلَى طَريقَة الزُّهْد والتَّصوف من الِاسْتِدْلَال بِكَوْن الشَّيء لذيذًا على كَونه طَرِيقًا إِلَى الله.

وكل من الاستدلالين بَاطِلٌ، فَلَا يُسْتَدلّ على كَونه مَحْمُودًا أَو مذمومًا، أَو حَلَالًا أو حَرَامًا إِلَّا بالأدلة الشَّرْعِيَّة.

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ كون الأصوات الحسنة التي يستلذّها الناس ليس بحُجَّةٍ على إباحة الأغاني والاستماع لها، وجعلها دينًا وقُربةً، كالصُّوفية وأشباههم، بل هذا من الأغلاط الكبيرة، والافتراء، وانتكاس الأمور، وإنما يُقال في مثل هذا: أنَّ الصَّوت الحسن بقراءة القرآن، وبالدَّعوة إلى الله والتَّوجيه إليه ونحو ذلك هذا مطلوبٌ، أما أن يُقال: أنَّ الصَّوت الحسن شيء لذيذ، شيء طيب، فلا مانع من استماع الأغاني بالأصوات الحسنة من الرجال والنساء، فهذا انتكاسٌ في الفِطَر، وفسادٌ في القلوب، نسأل الله العافية.

وكل من الاستدلالين بَاطِلٌ، فَلَا يُسْتَدلّ على كَونه مَحْمُودًا أَو مذمومًا، أَو حَلَالًا أو حَرَامًا إِلَّا بالأدلة الشَّرْعِيَّة، لَا بِكَوْنِهِ لذيذًا فِي الطَّبْع أَو غير لذيذٍ.

وَلِهَذَا يُنكر على مَن يتَقرَّب إِلَى الله بترك جنس اللَّذَّات، كَمَا قَالَ ﷺ للَّذين قَالَ أحدهم: أما أَنا فأصوم ولَا أُفطر. وَقَالَ الآخر: أما أَنا فأقوم ولَا أَنَام. وَقَالَ الآخر: أما أَنا فَلَا أتزوج النِّسَاء. وَقَالَ الآخر: أما أَنا فَلَا آكل اللَّحْم. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لكني أَصوم وَأُفْطِر، وأقوم وأنام، وأتزوج النِّسَاء، وآكل اللَّحْم، فَمَن رغب عَن سُنَّتي فَلَيْسَ مني.

وَقد أنزل اللهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87].

ثمَّ إِنَّ أَبَا الْقَاسِم وَطَائِفَةً مَعَه تَارَةً يمدحون التَّقَرُّب إِلَى الله بترك جنس الشَّهَوَات، وَتارَةً يجْعَلُونَ ذَلِك دَلِيلًا على حُسنه، وَكَونه من القُربات، وَهَذَا بِحَسب وجد أحدهم وهواه، لَا بِحَسب مَا أنزل الله وأوحاه، وَمَا هُوَ الْحقّ وَالْعَدْل، وَمَا هُوَ الصّلاح والنَّافع فِي نفس الْأَمر.

وَالتَّحْقِيق أَنَّ الْعَمَل لَا يُمدح وَلَا يُذمّ لمُجَرّد كَونه لَذَّةً، بل إِنَّمَا يُمدح مَا كَانَ لله أطوع، وَلِلْعَبْدِ أَنْفَع، سَوَاء كَانَ فِيهِ لَذَّة، أَو مشقّة قربٍ لذيذ، هُوَ طَاعَة وَمَنْفَعَة، وَرُبَّ مشقٍّ هُوَ طَاعَة وَمَنْفَعَة، وَرُبَّ لذيذٍ أَو مشقٍّ صَار مَنْهِيًّا عَنهُ.

ثمَّ لَو اسْتدلَّ بِهَذَا على تَحْسِين الْقُرْآن بِهِ لَكَانَ مناسبًا، فَإِنَّ الِاسْتِعَانَة بِجِنْس اللَّذَّات على جنس الطَّاعَات مِمَّا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة، كَمَا يُستعان بِالْأَكْلِ وَالشُّرب على الْعِبَادَات.

قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172]، وَقَالَ: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51].

وَفِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لسعد: إِنَّك لن تُنْفِق نَفَقَةً تبتغي بهَا وَجه الله إِلَّا ازددتَ بهَا دَرَجَةً ورفعةً، حَتَّى اللُّقْمَةَ ترفعها إِلَى فِي امْرَأَتك، وَقَالَ: فِي بُضع أحدكُم صَدَقَة.

وَكَذَلِكَ حَمده فِي النِّعَم، كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: إِنَّ الله ليرضى عَن العَبْد أَن يَأْكُل الْأكلَة فيحمده عَلَيْهَا.

فَلَو قَالَ: إِنَّ الله خلق فِينَا الشَّهَوَات وَاللَّذَّات لنستعين بهَا على كَمَال مصالحنا: فخلق فِينَا شَهْوَةَ الْأكل واللَّذة بِهِ، فَإِنَّ ذَلِك فِي نَفسه نعْمَة، وَبِه يحصل بَقَاء جسومنا فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ شَهْوَة النِّكَاح واللَّذة بِهِ هُوَ فِي نَفسه، وبه يحصل بَقَاء النَّسْل، فَإِذا استُعين بِهَذِهِ القوى على مَا أُمرنَا كَانَ ذَلِك سَعَادَةً لنا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَكُنَّا من الَّذين أنعم اللهُ عَلَيْهِم نعْمَةً مُطلقَةً، وَإِن استعملنا الشَّهَوَات فِيمَا حظره علينا بِأَكْل الْخَبَائِث فِي نَفسهَا، أَو كسبها كالمظالم، أَو بالإسراف فِيهَا، أَو تعدينا أَزوَاجنَا، أَو مَا ملكت أَيْمَاننَا؛ كُنَّا ظالمين، مُعتدين، غير شاكرين لنعمته، لَكَانَ هَذَا كلَامًا حسنًا.

وَالله قد خلق الصَّوْتَ الْحسنَ، وَجعل النُّفُوسَ تحبّه وتلتذّ بِهِ، فَإِذا استعنا بذلك فِي اسْتِمَاع مَا أُمرنا باستماعه -وَهُوَ كِتَابه- وَفِي تَحْسِين الصَّوْت بِهِ كَمَا أُمرنَا بذلك، حَيْثُ قَالَ: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بأصواتكم، وكما كَانَ يفعل أَصْحَابه بِحَضْرَتِهِ، مثل: أبي مُوسَى وَغَيره، كُنَّا قد استعملنا النِّعْمَةَ فِي الطَّاعَة، وَكَانَ هَذَا حسنًا مَأْمُورًا بِهِ، كَمَا كَانَ عمرُ بن الْخطَّاب يَقُول لأبي مُوسَى: "يَا أَبَا مُوسَى، ذكرنَا رَبَّنَا"، فَيقْرَأ وهم يَسْتَمِعُون، وَكَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذا اجْتَمعُوا أمروا وَاحِدًا مِنْهُم أَن يَقْرَأ، وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُون.

فَهَذَا كَانَ استماعهم، وَفِي مثل هَذَا السّماع كَانُوا يستعملون الصَّوْتَ الْحسن، ويجعلون التذاذهم بالصوت الْحسن عونًا لَهُم على طَاعَة الله وعبادته باستماع كِتَابه، فيُثابون على هَذَا الالتذاذ؛ إِذ اللَّذَّة الْمَأْمُور بهَا الْمُسلم يُثَاب عَلَيْهَا، كَمَا يُثَاب على أكله وشربه ونكاحه، وكما يُثَاب على لذات قلبه بِالْعِلمِ وَالْإِيمَان، فَإِنَّهَا أعظم اللَّذَّات، وحلاوة ذَلِك أعظم الحلاوات.

وَنَفس التذاذه وَإِن كَانَ مُتولدًا عَن سعته، وَهُوَ فِي نَفسه ثَوَاب، فالمسلم يُثَاب على عمله وَعمل مَا يتولد عَن عمله، ويُثاب عَمَّا يلتذّ بِهِ من ذَلِك مِمَّا هُوَ أعظم لَذَّة مِنْهُ، فَيكون مُتقلبًا فِي نعْمَة ربِّه وفضله.

فَأَمَّا أَن يُسْتَدلّ بِمُجَرَّد استلذاذ الْإِنْسَان للصَّوت، أَو ميل الطِّفْل إِلَيْهِ، أَو استراحة الْبَهَائِم بِهِ على جَوَازٍ أَو اسْتِحْبَابٍ فِي الدِّين فَهُوَ من أعظم الضَّلال، وَهُوَ كثيرٌ فِيمَن يعبد الله بِغَيْر الْعِلم الْمَشْرُوع.

وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ الأطفال والبهائم تستروح بِالْأَكْلِ وَالشُّرب، فَهَل يُسْتَدلّ بذلك على أنَّ كل أكلٍ وَشربٍ فَهُوَ حسنٌ، مَأْمُورٌ بِهِ، وأصل الْغَلَط فِي هَذِه الْحُجَج الضَّعيفة أَنَّهم يجْعَلُونَ الْخَاصَّ عَامًّا فِي الْأَدِلَّة المنصوصة.

س: هل الأفضل قراءة القرآن بالتجويد؟

ج: الأفضل التَّجويد لما يحسن به تلاوة القرآن، وقراءة القرآن بحروفه الكاملة، وتفخيمه، وترقيقه، ومدوده، لكن ليس بواجبٍ كما يقول بعضُ المجودين، بل هو مما يُستحبّ، ومما ينبغي؛ لأنه من باب تحسين الصَّوت بالقرآن وتلاوته كما أمر الله.

س: ..............؟

ج: لا، هذا التطويل الزائد ما ينبغي، إنما هو الشيء الذي درج عليه السَّلف الصَّالح.

س: ..............؟

ج: ورد في حديثٍ ضعيفٍ ما فيه تكبير، يقرؤون بدون تكبيرٍ، ما يُقال أنه شرع التَّكبير من الضُّحى إلى آخره، فهو حديث ضعيف، كما نبَّه عليه ابنُ كثيرٍ وغيره، هذا ذكره بعضُ القُرَّاء أنه يُكبر عندما يبدأ قراءة الضُّحى إلى آخره، ولكن الأحاديث في هذا ضعيفة.

وأصل الْغَلَط فِي هَذِه الْحُجَج الضَّعيفة أَنهم يجْعَلُونَ الْخَاصَّ عَامًّا فِي الْأَدِلَّة المنصوصة، وَفِي عُمُوم الْأَلْفَاظ المستنبطة، فيجنحون إِلَى أَنَّ الْأَلْفَاظ فِي الْكِتاب وَالسُّنة أَبَاحَتْ أَو حمدت نوعًا من السَّماع، يُدرجون فِيهَا سَماع المكاء والتَّصدية، أَو يجنحون إِلَى الْمعَانِي الَّتِي دلَّت على الْإِبَاحَة أَو الِاسْتِحْبَاب فِي نوعٍ من الْأَصْوَات وَالسَّمَاع، يجْعَلُونَ ذَلِك مُتناولًا لسَمَاع المكاء والتَّصدية.

وَهَذَا جمعٌ بَين مَا فرَّق الله بَينه، بِمَنْزِلَة قِيَاس الَّذين قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، وأصل هَذَا الْقيَاس الْمُشْركين الَّذين عدلوا بِاللَّه، وَجعلُوا لله أندادًا سوّوهم بِرَبّ الْعَالمين فِي عبادتها، أَو اتِّخاذها آلِهَةً، وَكَذَلِكَ مَن عدل رَسُوله مُتنبِّئًا كذَّابًا: كمُسيلمة الْكذَّاب، أَو عدل بكتابه وتلاوته واستماعه كلَامًا آخر، أَو قِرَاءَته أَو سَمَاعه، أَو عدل بِمَا شَرعه من الدِّين دينًا آخر شَرعه لَهُ شركاؤه.

فَهَذَا كُله من فعل الْمُشْركين، وَإِن دخل فِي بعضه من الْمُؤمنِينَ قومٌ مُتأوِّلون، فَالنَّاس كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

فالشِّرك فِي هَذِه الْأُمَّة أخْفَى من دَبِيب النَّمْل، وَهَذَا مقَامٌ يَنْبَغِي للْمُؤْمِنين التَّدبر فِيهِ، فَإِنَّهُ مَا بدل دين الله فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة وَفِي هَذِه الْأُمَّة إِلَّا بِمثل هَذَا الْقيَاس؛ وَلِهَذَا قيل: مَا عُبدت الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بالمقاييس.

وأصل الشِّرك أَن تعدل بِاللَّه تَعَالَى مخلوقاته فِي بعض مَا يسْتَحقّهُ وَحده، فَإِنَّهُ لم يعدل أحدٌ بِاللَّه شَيْئًا من الْمَخْلُوقَات فِي جَمِيع الْأُمُور، فَمَن عبد غَيره أَو توكَّل عَلَيْهِ فَهُوَ مُشْركٌ بِهِ، كمَن عمد إِلَى كَلَام الله الَّذِي أنزلهُ وَأمر باستماعه فَعدل بِهِ سَماع بعض الأشعار.

وَقد رُوي عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الله على خلقه رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيره.

ورُوي أَيْضًا عَنهُ: مَا تقرَّب الْعِباد إِلَى الله بشيءٍ أحبّ إِلَيْهِ مِمَّا خرج مِنْهُ يَعْنِي: الْقُرْآن، وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَن خباب بن الْأَرَتّ، أحد الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين السَّابِقين، قَالَ: يَا هَناه، تقرَّب إِلَى الله بِمَا اسْتَطَعْتَ، فَلَنْ يتَقرَّب إِلَيْهِ بشيءٍ أحبّ إليه من كَلَامه.

فَإِذا عدل بذلك مَا نُزِّه اللهُ عَنهُ وَرَسُوله بقوله تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]، وَجعله قُرْآنًا للشَّيْطَان كَمَا فِي الحَدِيث: فَمَا قرآني؟ قَالَ: الشِّعْر. كَانَ هَذَا عدل كَلَام الرَّحْمَن بِكَلَام الشَّيْطَان، وَهَذَا قد جعل الشَّيْطَانَ عدلًا للرحمن، فَهُوَ من جنس الَّذين قَالَ الله فيهم: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ۝ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ۝ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ۝ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:94- 98].

وَالِاسْتِدْلَال بِكَوْن الصَّوْت الْحَسن نعْمَة، واستلذاذ النُّفُوس بِهِ على جَوَاز اسْتِعْمَاله فِي الْغِناء، أَو اسْتِحْبَاب ذَلِك فِي بعض الصُّور، مثل: الِاسْتِدْلَال بِكَوْن الْجَمال نعْمَة، ومحبَّة النُّفُوس الصُّور الجميلة على جَوَاز اسْتِعْمَال الْجمال الَّذِي للصبيان فِي إمتاع النَّاس بِهِ: مُشَاهدَةً، ومُباشرةً، وَغير ذَلِك، أو اسْتِحْبَاب ذَلِك فِي بعض الصُّور.

وَهَذَا أَيْضًا قد وَقع فِيهِ طوائف من المتفلسفة والمتصوفة والعامَّة، كَمَا وَقع فِي الصَّوْت أَكثر من هَؤُلَاءِ، لَكِن الواقعون فِي الصُّور فيهم مَن لَهُ من الْعَقل وَالدِّين مَا لَيْسَ لهَؤُلَاء، إِذْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ رجلٌ مَشْهُورٌ بَين النَّاس شهرةً عَامَّةً، بِخِلَاف أهل السَّماع، وَلَكِن هم طرقوا لَهُم الطَّرِيق، وذرعوا الذَّريعة، حَتَّى آل الْأَمر بِكَثِيرٍ من النَّاس أَن قَالُوا وفعلوا فِي الصَّوْت نَظِير مَا قَالَه هَؤُلَاءِ وفعلوه فِي الصُّور، يحتجّون على جَوَاز النَّظر إِلَيْهِ والمشاهدة بِمثل قوله ﷺ: إِنَّ الله جميلٌ يُحبُّ الْجَمَال، وينسون قَوْله: إِنَّ الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ، وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم، وَلَكِن ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ.

ويحتجّون بِمَا فِي ذَلِك من رَاحَة النُّفُوس ولذّاتها، كَمَا يحْتَجّ هَؤُلَاءِ، ويُكرمون ذَا الصُّورَة على مَا يبذله من صورته، وإشهادهم إِيَّاهَا، كَمَا يُكرم هَؤُلَاءِ ذَا الصَّوْت على مَا يبذله من صَوته، وإسماعهم إِيَّاه، بل كثيرًا مَا يجمع فِي الشَّخْص الْوَاحِد بَين الصُّورَة وَالصَّوْت، كَمَا يفعل فِي الْمُغَنِّيَات من الْقَيْنَات.

وَقد زيَّن الشَّيْطَانُ لكثيرٍ من المتنسِّكة والعُبَّاد أَنَّ محبَّة الصُّور الجميلة إِذا لم يكن بِفَاحِشَةٍ فَإِنَّهَا محبَّة لله، كَمَا زيَّن لهَؤُلَاء أَنَّ اسْتِمَاع هَذَا الْغِناء لله، ففيهم مَن يَقُول هَذَا اتِّفَاقًا، وَفِيهِمْ مَن يُظْهر أَنَّه يُحِبُّهُ لغير فَاحِشَةٍ، ويُبطِن محبَّة الْفَاحِشَة، وَهُوَ الْغَالِب.

لَكِن مَا أظهروه من الرَّأْي الْفَاسِد -وَهُوَ أَن يحبّ لله مَا لم يَأْمر الله بمحبَّته- هُوَ الَّذِي سلَّط الْمُنَافِق مِنْهُم على أَن يَجْعَل ذَلِك ذَرِيعَةً إِلَى الْكَبَائِر، وَلَعَلَّ هَذِه الْبِدْعَة مِنْهُم أعظم من الْكَبِيرَة، مَعَ الْإِقْرَار بِأَنَّ ذَلِك ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَالْخَوْف من الله من الْعقُوبَة، فَإِنَّ هَذَا غَايَته أَنه مُؤمن فَاسق، قد جمع سَيِّئَةً وَحسنةً، وَأُولَئِكَ مُبتدعة ضُلَّال حِين جعلُوا مَا نهى اللهُ عَنهُ مِمَّا أَمر الله بِهِ، وزيّن لَهُم سوء أَعْمَالهم فرأوه حسنًا، وبمثلهم يضلّ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يُنكروا الْمُنكر إِذا اعتقدوا أَنَّ هَذَا يكون عبَادَةً لله.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الذين يستحسنون الأغاني والملاهي والطرب، ويتعبدون بذلك، ويُؤثرون عليها أنواع الملاهي، كما يفعل بعض الصُّوفية، يكون حالهم أقبح من حال العاصي الذي يأتي بعض الكبائر؛ لأنَّ العاصي الذي يأتي بعض الكبائر قصاراه أنه مذنب، يعرف أنه مذنب، قد يتوب إلى الله، وقد يُبادر بالتوبة، وقد جمع سيئةً وتوحيدًا وحسنةً.

أما هؤلاء الذين جعلوا هذا الرَّقص وهذا السَّماع للأغاني جعلوه عبادةً، وجعلوه قربةً، وجعلوه طاعةً، قد ابتدعوا، والبدعة شرٌّ من المعصية؛ لأنَّ صاحب البدعة لا يتوب منها، يراها عبادةً، يراها قُربةً، فيُبتلى بالموت عليها، نعوذ بالله.

وأما صاحب المعصية فقد ينتبه، وقد يتوب، وقد يرجع إلى الله ، وهكذا مَن ابتُلي من الصُّوفية بالنَّظر إلى الصور، إلى المردان، إلى النساء، ويتعبدون بذلك، قالوا: لأنها جميلة، وأُحبّ أن أنظر إلى الجمال، لا لقصد الفاحشة، ولكن لكذا وكذا، فيجرّهم هذا إلى الفواحش والمنكرات واللِّواط والزِّنا، نعوذ بالله من ذلك.

هؤلاء ابتدعوا في النَّظر -نظر المردان والنِّساء- وجعلوه قربةً، وهؤلاء ابتدعوا في الأصوات والأغاني والملاهي، وجعلوه قربةً، وكلتا الطَّائفتين ابتدعا، لا فيما يتعلق بالصور، ولا فيما يتعلق بالأغاني، واستحسان ذلك، وجعل ذلك عبادةً، أما مَن تعاطى المعاصي من سائر المعاصي وهو مُسلم مُوحد فهذا قد ينتبه، وقد يتوب الله عليه، وقد يرجع؛ لأنه يعلم أنه مُذنب، وأنه عاصٍ، فهو حريٌّ بأن يتوب ويرجع ويُبادر، لكن أولئك ضلُّوا من جهة الابتداع، والمبتدع يرى أنه على هدى، ولا يتوب، نسأل الله العافية.

وَمَن جعل مَا لم يَأْمر الله بمحبَّته محبوبًا لله فقد شرع دينًا لم يَأْذَن الله بِهِ، وَهُوَ مبدأ الشِّرك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].

فَإِنَّ محبَّة النُّفُوس الصُّورَة وَالصَّوْت قد تكون عَظِيمَةً جدًّا، فَإِذا جعل ذَلِك دينًا وسمَّى لله صَار كالأنداد والطَّواغيت المحبوبة تدينًا وَعبادَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص:6].

بِخِلَاف مَن أحبَّ الْمُحرَّمَات مُؤمنًا بِأَنَّهَا من الْمُحرَّمَات، فَإِنَّ مَن أحبَّ الْخَمْر والغِناء وَالْبَغي والمخنث مُؤمنًا بِأَنَّ الله يكره ذَلِك ويبغضه، فَإِنَّهُ لَا يُحِبّهُ محبَّةً مَحْضَةً، بل عقله وإيمانه يبغض هَذَا الْفِعْلَ ويكرهه، وَلَكِن قد غَلبه هَوَاهُ، فَهَذَا قد يرحمه الله: إِمَّا بتوبةٍ إِذا قوي مَا فِي إيمَانه من بُغض ذَلِك وكراهته حَتَّى دفع حبّ الْهوى، وَإِمَّا بحسنات ماحية، وَإِمَّا بمصائب مُكفِّرة، وَإِمَّا بِغَيْر ذَلِك.

أما إِذا اعْتَقد أَنَّ هَذِه الْمحبَّة لله فإيمانه بِاللَّه يُقَوي هَذِه الْمحبَّة ويُؤيّدها، وَلَيْسَ عِنْده إِيمَانٌ يزعه عَنْهَا، بل يجْتَمع فِيهَا دَاعِي الشَّرْع والطَّبع: الْإِيمَان وَالْهُدى، وَذَلِكَ أعظم من شُرب النَّصْرَانِي للخَمر، فَهَذَا لَا يَتُوب من هَذَا الذَّنب، وَلَا يتَخَلَّص من وباله إِلَّا أَن يهديه الله.

فَتبين لَهُ أَنَّ هَذِه الْمحبَّة لَيست محبَّةً لله، وَلَا أَمر اللهُ بهَا، بل كرهها وَنهى عَنْهَا، وَإِلَّا فَلَو ترك أحدهم هَذِه الْمحبَّة لم يكن ذَلِك تَوْبَةً، فَإِنَّهُ يعْتَقد أَنَّ جِنْسهَا دينٌ، بِحَيْثُ يرضى بذلك من غَيره، ويأمره بِهِ، ويُقرّه عَلَيْهِ، وَتَركه لَهَا كَتَرْكِ الْمُؤمن بعض التَّطوعات والعبادات.

وَلَيْسَ فِي دين الله محبَّة أحدٍ لحُسنه قطّ، فَإِنَّ مُجَرّد الْحُسن لَا يُثيب اللهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَاقِب، وَلَو كَانَ كَذَلِك كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لمُجَرّد حُسنه أفضل من غَيره من الأنبياء لحُسنه، وَإِذا اسْتَوَى شخصان فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَكَانَ أَحدُهمَا أحسن صُورَةً، وَأحسن صَوتًا، كَانَا عِنْد الله سَوَاء، فَإِنَّ أكرمَ الْخَلق عِنْد الله أَتْقَاهُم، يعمّ صَاحب الصَّوْت الْحَسن، وَالصُّورَة الْحَسَنَة، إِذا اسْتُعْمِل ذَلِك فِي طَاعَة الله دون مَعْصِيَته كَانَ أفضل من هَذَا الْوَجْه، كصاحب المَال وَالسُّلْطَان إِذا اسْتَعْمل ذَلِك فِي طَاعَة الله دون مَعْصِيَته، فَإِنَّهُ بذلك الْوَجْه أفضل مِمَّن لم يشركهُ فِي تِلْكَ الطَّاعَة، وَلم يُمْتَحن بِمَا امتُحن بِهِ حَتَّى خَافَ مقَام ربِّه وَنهى النَّفس عَن الْهَوى، ثمَّ ذَلِك الْغَيْر إِن كَانَ لَهُ عملٌ صَالحٌ آخر يُسَاوِيه بِهِ، وَإِلَّا كَانَ الأولُ أفضل مُطلقًا.

وَهَذَا عَامٌّ لجَمِيع الْأُمُور الَّتِي أنعم اللهُ تَعَالَى بهَا على بني آدم وابتلاهم بهَا، فَمَن كَانَ فِيهَا شاكرًا صَابِرًا كَانَ من أَوْلِيَاء الله الْمُتَّقِينَ، وَكَانَ مِمَّن امتُحن بمحبَّةٍ حَتَّى صَبر وشكر، وَإِن لم يكن الْمُبْتَلى صَابِرًا شكُورًا، بل ترك مَا أَمر اللهُ بِهِ، وَفعل مَا نهى اللهُ عَنهُ؛ كَانَ عَاصِيًا، أَو فَاسِقًا، أَو كَافِرًا، وَكَانَ مَن سلم من هَذِه المحنة خيرًا مِنْهُ، إِلَّا أَن يكون لَهُ ذنُوبٌ أُخْرَى يُكافيه بهَا.

وَإِن جمع بَين طَاعَةٍ ومعصيةٍ: فَإِن ترجَّحت طَاعَتُه كَانَ أرجح مِمَّن لم يكن لَهُ مثل ذَلِك، وَإِن ترجَّحت مَعْصِيَته كَانَ السَّالِم من ذَلِك خيرًا مِنْهُ، فَإِن كَانَ لَهُ مَالٌ يتَمَكَّن بِهِ فِي الْفَوَاحِش وَالظُّلم، فَخَالف هَوَاهُ، وأنفقه فِيمَا يَبْتَغِي بِهِ وَجهَ الله؛ أحبَّ اللهُ ذَلِك مِنْهُ وأكرمه وأثابه.

وَمَن كَانَ لَهُ صَوتٌ حسنٌ فَترك اسْتِعْمَاله فِي التَّخنيث والغِناء، واستعمله فِي تَزْيِين كتاب الله والتَّغني بِهِ؛ كَانَ بِهَذَا الْعَمَل الصَّالح وبترك الْعَمَل السَّيئ أفضل مِمَّن لَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ يُثَاب على تِلَاوَة كتاب الله، فَيكون فِي عمله معنى الصَّلَاة وَمعنى الزَّكَاة؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي ﷺ: مَا أذن اللهُ لشيءٍ كأذنه لنبيٍّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهر بِهِ، وَقَالَ: لله أَشدّ أذنًا للرجل الْحَسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته.

وَمَن كَانَ لَهُ صُورَةٌ حَسَنَةٌ فعفَّ عَمَّا حرَّم اللهُ تَعَالَى، وَخَالف هَوَاهُ، وجمل نَفسه بلباس التَّقْوَى الَّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، كَانَ هَذَا الْجمالُ يُحِبّهُ الله، وَكَانَ من هَذَا الْوَجْه أفضل مِمَّن لم يُؤْتَ مثل هَذَا الْجَمال مَا لَا يُكساه وَجه العَاصِي، فَإِن كَانَت خلقتُه حَسَنَةً ازدادت حسنًا، وَإِلَّا كَانَ عَلَيْهَا من النُّور وَالْجمال بحسبها.

وَأمَّا أهلُ الْفُجُور فتعلو وُجُوههم ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَة، حَتَّى يكسف الْجَمال الْمَخْلُوق.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ للحسنة لنورًا فِي الْقَلب، وضياءً فِي الْوَجْه، وَقُوَّةً فِي الْبَدن، وَزِيَادَةً فِي الرِّزق، ومحبَّةً فِي قُلُوب الْخَلق، وَإِنَّ للسَّيئة لظُلمةً فِي الْقَلب، وغبرةً فِي الْوَجْه، وضعفًا فِي الْبَدن، ونقصًا فِي الرِّزق، وبغضةً فِي قُلُوب الْخَلق.

وَهَذَا يَوْم الْقِيَامَة يكمل حَتَّى يَظْهر لكل أحدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106- 107].

وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60].

وَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ۝ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ۝ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:22- 25].

وَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ۝ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ۝ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ۝ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:38- 42].

وَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ۝ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ۝ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2- 4]، ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ۝ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:8- 9].

وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29].

وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ۝ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:22- 24].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَا تزَال الْمَسْأَلَة بأحدهم حَتَّى يجِيء يَوْمَ الْقِيَامَة وَلَيْسَ فِي وَجهه مُزعةُ لحمٍ، وَقَالَ: مَن سَأَلَ النَّاسَ وَله مَا يَكْفِيهِ جَاءَت مَسْأَلتُه خدوشًا أَو كدوحًا فِي وَجهه يَوْمَ الْقِيَامَة.

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أول زُمرةٍ تلج الْجنَّةَ على صُورَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، وَالَّذين يَلُونَهُمْ كأشدّ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاء إضاءةً، وَقَالَ يَوْم حنين: شَاهَتِ الْوُجُوه لوجوه الْمُشْركين.

وأمثال هَذَا كثير مِمَّا فِيهِ وصفُ أهل السَّعَادَة بنهاية الْحُسن وَالْجمال والبهاء، وَأهل الشَّقَاء بنهاية السُّوء والقُبح وَالْعَيْب.

وَقد قَالَ تَعَالَى فِي وصفِهم فِي الدُّنْيَا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، فَهَذِهِ السِّيماء فِي وُجُوه الْمُؤمنِينَ، والسِّيماء: الْعَلامَة، وَأَصلهَا من الوسم، وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَل فِي الْحُسن، كَمَا جَاءَ فِي صفة النَّبِي ﷺ: وسيم، قسيم.

وَقَالَ الشَّاعِر:

غُلَامٌ رَمَاه الله بالْحُسنِ يافعًا لَهُ سيماء لَا تشقّ على الْبَصَر

الشيخ: تُستعمل للتَّخفيف والتَّشديد للشعر أيضًا: سيما، وسيماء، لأجل الشعر، أو أنها تُستعمل مُثقلةً ومُخففةً.

س: سيماء: العلامة؟

ج: العلامة، نعم.

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى فِي صفة الْمُنَافِقين: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30]، فَجعل لِلْمُنَافِقين سِيمَا أَيْضًا.

وَقَالَ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [الحج:72]، فَهَذِهِ السّيماء وَهَذَا الْمُنكر قد يُوجد فِي وَجه مَن صورته المخلوقة وضيئة، كَمَا يُوجد مثل ذَلِك فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان، لَكِن بالنِّفاق قبح وَجهه، فَلم يكن فِيهِ الْجَمال الَّذِي يُحِبّهُ الله، وأساس ذَلِك النِّفَاق وَالْكَذب.

وَلِهَذَا يُوصَف الْكَذَّاب بسواد الْوَجْه، كَمَا يُوصَف الصَّادِقُ ببياض الْوَجْه، كَمَا أخبر اللهُ بذلك؛ وَلِهَذَا روي عَن عمر بن الْخطاب أَنه أَمر بتعزيز شَاهد الزُّور بِأَن يُسود وَجهه، ويُركب مقلوبًا على الدَّابَّة، فَإِنَّ الْعُقُوبَة من جنس الذَّنب، فَلَمَّا اسودَّ وَجهه بِالْكَذِبِ وقلب الحَدِيث سوّد وَجهه، وقُلب فِي ركُوبه، وَهَذَا أَمرٌ محسوسٌ لمن لَهُ قلبٌ، فَإِنَّ مَا فِي الْقَلب من النُّور والظُّلمة وَالْخَيْر وَالشَّر يسري كثيرًا إِلَى الْوَجْه وَالْعَين، وهما أعظم الْأَشْيَاء ارتباطًا بِالْقَلْبِ.

وَلِهَذَا يُرْوى عَن عُثْمَان أَو غَيره أَنه قَالَ: مَا أسرَّ أحدٌ بسريرةٍ إِلَّا أبداها اللهُ على صفحات وَجهه وفلتات لِسَانه.

وَالله قد أخبر فِي الْقُرْآن أَنَّ ذَلِك قد يَظْهر فِي الْوَجْه، فَقَالَ: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30]، فَهَذَا تَحت الْمَشِيئَة، ثمَّ قَالَ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]، فَهَذَا مُقسم عَلَيْهِ مُحَقّق، لَا شَرطَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ ظُهُورَ مَا فِي قلب الْإِنْسَان على لِسَانه أعظم من ظُهُوره فِي وَجهه، لكنه يَبْدُو فِي الْوَجْه بدوًّا خفِيًّا يعلمهُ الله، فَإِذا صَار خلقًا ظهر لكثيرٍ من النَّاس، وَقد يقوى السَّوَاد وَالْقِسْمَة حَتَّى يَظْهر لجمهور النَّاس، وَرُبمَا مُسخ قردًا أَو خنزيرًا، كَمَا فِي الْأُمَم قبلنَا، وكما فِي هَذِه الْأُمَّة أَيْضًا، وَهَذَا كالصَّوت المطرب إِذا كَانَ مُشْتَمِلًا على كذبٍ وفجورٍ، فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ بالقُبح وَالسُّوء الْغَالِب على مَا فِيهِ من حلاوة الصَّوْت، فذو الصُّورَة الْحَسَنَة: إِمَّا أَن يتَرَجَّح عِنْدَه الْعِفَّة والخُلق الْحَسن، وَإِمَّا أَن يتَرَجَّح فِيهِ ضدّ ذَلِك، وَإِمَّا أَن يتكافأ.

فَإِن ترجَّح فِيهِ الصَّلاح كَانَ جمالُه بِحَسب ذَلِك، وَكَانَ أجمل مِمَّن لم يُمْتَحن تِلْكَ المحنة.

وَإِن ترجَّح فِيهِ الْفَساد لم يكن جميلًا، بل قبيحًا مذمومًا، فَلَا يَدْخل فِي قَوْله: إِنَّ الله جميلٌ يُحبُّ الْجَمَال.

وَإِن تكافأ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَانَ فِيهِ من الْجَمال والقُبح بِحَسب ذَلِك، فَلَا يكون محبوبًا وَلَا مُبغضًا.

والنبي ﷺ ذكر هَذِه الْكَلِمَة للْفَرق بَين الْكِبر الَّذِي يبغضه الله، وَالْجمال الَّذِي يُحِبّهُ الله، فَقَالَ: لَا يَدْخل الْجنَّةَ مَن كَانَ فِي قلبه مِثْقَالُ ذرَّةٍ من كبرٍ، فَقَالَ رجلٌ: يَا رَسُول الله، الرجل يُحب أَن يكون ثَوْبُه حسنًا، وَنَعله حسنًا، أَفَمن الْكِبر ذَلِك؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّ الله جميلٌ يُحبُّ الْجَمال، الْكِبر: بطر الْحقِّ، وغمط النَّاس.

فَأَخْبر أَنَّ تَحْسِين الثَّوْب قد يكون من الْجَمال الَّذِي يُحِبهُ الله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فَلَا يكون حِينَئِذٍ من الْكِبر.

وَقد يرد أَنه لَيْسَ كل ثوبٍ جميلٍ، وكل نعلٍ جميلٍ فَإِنَّ الله يُحِبّهُ، فَإِنَّ الله يبغض لِبَاس الْحَرِير، وَيبغض الْإِسْرَاف وَالْخُيَلَاء فِي اللِّبَاس، وَإِن كَانَ فِيهِ جمالٌ، فَإِذا كَانَ هَذَا فِي لبس الثِّيَاب الَّذِي هُوَ سَبَب هَذَا القَوْل، فَكيف فِي غَيره؟!

وَتَفْسِير هَذَا قَوْله ﷺ: إِنَّ الله لَا ينظر إِلَى صُوركُمْ، وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُم، وَلَكِن ينظر إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.

فَعُلم أَنَّ مُجَرّد الْجَمال الظَّاهِر فِي الصُّور وَالثِّيَاب لَا ينظر اللهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ينظر إِلَى الْقُلُوب والأعمال، فَإِن كَانَ الظَّاهِر مُزينًا مُجملًا بِحَال الْبَاطِن أحبَّه الله، وَإِن كَانَ مُقبحًا مُدنسًا بقُبح الْبَاطِن أبغضه الله، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحبّ الْحَسن الْجَمِيل، وَيبغض السَّيئ الْفَاحِش.

وَأهل جمال الصُّورَة يُبتلون بالفاحشة كثيرًا، وَاسْمهَا ضدّ الْجمال، فَإِنَّ الله سَمَّاهُ: فَاحِشَة، وسوءًا، وَفَسَادًا، وخبيثًا، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وَقَالَ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، وَقَالَ: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80]، وَقَالَ: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [هود:78]، وَقَالَ: وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ [الأنبياء:74]، وَقَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت:30]، وَقَالَ: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:84].

والفاحش والخبيث ضدّ الطّيب والجميل، فَإِذا كَانَ كَذَلِك أبغضه الله، وَلم يُحِبهُ، وَلم يكن مُندرجًا فِي الْجَمِيل.

وَنَظِير ذَلِك قَوْله ﷺ: إِنَّ الله لَا يُحبّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ، وَقَوله: إِنَّ الله يبغض الْفَاحِشَ البذيء، فَلَو أفحش الرجلُ وبذأ بِصَوْتِهِ الْحَسن كَانَ اللهُ يبغض ذَلِك.

وَنفي المخنَّثين سُنة من سُنَن النَّبِي ﷺ الثابتة عَنهُ فِي موضِعين: فِي حقِّ الزَّانِي والزَّانية اللَّذين لم يحصنا، كَمَا قَالَ: جلد مئَة، وتغريب عَام. وَفِي حقِّ المخنَّث، وَهُوَ إِخْرَاجه من بَين النَّاس، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَاحِشَةَ لَا تقع إِلَّا مَعَ قُدرَة ومكنة الْإِنْسَان، لَا يطْلب ذَلِك إِلَّا إِذا طمع فِيهِ بِمَا يرَاهُ من أَسبَاب المكنة، فَمن الْعقُوبَة على ذَلِك قطع أَسبَاب المكنة، فَإِذا تغرَّب الرجلُ عَن أَهله وأعوانه وأنصاره الَّذِين يُعاونونه وينصرونه ذلَّت نَفسُه وانقهرت، فَكَانَ ذَلِك جَزَاءً نكالًا من الله من الْجَلد؛ وَلِأَنَّهُ مُفسدٌ لأحوال مَن يُساكنه فيبعد عَنْهُم، وَكَذَلِكَ المخنّث يُفْسد أَحْوَال الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا، فَلَا يسكن مَعَ وَاحِدٍ من الصِّنْفَيْنِ.

وَقد كَانَ من سُنة النَّبِي ﷺ وَسُنة خُلفائه: التَّمْيِيز بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، والمتأهّلين والعزّاب، فَكَانَ الْمَنْدُوب فِي الصَّلَاة أَن يكون الرِّجَالُ فِي مُقدم الْمَسْجِد، وَالنِّسَاء فِي مُؤخره، وَقَالَ النَّبِي ﷺ: خير صُفُوف الرِّجَال أَوَّلهَا، وشرُّها آخرهَا، وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا، وشرّها أَولهَا، وَقَالَ: يَا معشر النِّسَاء، لَا ترفعن رؤوسكنَّ حَتَّى يرفع الرِّجَالُ رؤوسَهم من ضيق الأُزر.

وَكَانَ إِذا سلَّم لبث هنيهةً هُوَ وَالرِّجَال لينصرف النِّسَاء أَوَّلًا؛ لِئَلَّا يخْتَلط الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَكَذَلِكَ يَوْم الْعِيد كَانَ النِّسَاء يُصلين فِي نَاحيَةٍ، فَكَانَ إِذا قضى الصَّلَاةَ خطب الرِّجَال، ثمَّ ذهب فَخَطب النِّسَاء: فوعظهنَّ وحثَّهن على الصَّدَقَة، كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح.

وَقد كَانَ عمرُ بن الْخطَّاب -وَبَعْضُهمْ يرفعهُ إِلَى النَّبِي ﷺ- قد قَالَ عَن أحد أبواب الْمَسْجِد -أَظُنّهُ الْبَاب الشَّرْقِي- "لَو تركنَا هَذَا الْبَابَ للنِّسَاء"، فَمَا دخله عبدالله بن عمر حَتَّى مَاتَ.

وَفِي السُّنَن عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ للنِّسَاء: لَا تحققن الطَّرِيقَ، وامشين فِي حافّته أَي: لَا تمشين فِي حقِّ الطَّرِيق، وَهُوَ وَسطه.

وَقَالَ عليٌّ : "مَا يغار أحدُكُم أَن يُزاحم امْرَأَته العلوج بمنكبها" يَعْنِي: فِي السُّوقِ.

وَكَذَلِكَ لما قدم الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة كَانَ العزَّاب ينزلون دَارًا مَعْرُوفَةً لَهُم، متميزة عَن دور المتأهّلين، فَلَا ينزل العزبُ بَين المتأهّلين.

وَهَذَا كُله لِأَنَّ اخْتِلَاط أحد الصنفين بِالْآخرِ سَبَبُ الْفِتْنَة، فالرجال إِذا اختلطوا بِالنِّسَاء كَانَ بِمَنْزِلَة اخْتِلَاط النَّار والحطب، وَكَذَلِكَ العزب بَين الآهلين فِيهِ فتْنَة؛ لعدم مَا يمنعهُ، فَإِنَّ الْفِتْنَة تكون لوُجُود الْمُقْتَضى، وَعدم الْمَانِع، فالمخنّث الَّذِي لَيْسَ رجلًا مَحْضًا، وَلَا هُوَ امْرَأَةً مُحصنَةً لَا يُمكن خلطه بِوَاحِدٍ من الْفَرِيقَيْنِ، فَأمر النَّبِيُّ ﷺ بِإِخْرَاجِهِ من بَين النَّاس.

وعَلى هَذَا المخنّث من الصّبيان وَغَيرهم لَا يُمكن من مُعاشرة الرِّجَال، وَلَا يَنْبَغِي أَن تُعاشر الْمَرْأَة المتشبهة بِالرِّجَالِ النِّسَاء، بل يُفرق بَين بعض الذُّكران، وَبَين بعض النِّسَاء إِذا خيفت الْفِتْنَةُ، كَمَا قَالَ النبيُّ ﷺ: مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لعشرٍ، وَفرِّقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع.

وَقد نهى عَن مُبَاشرَة الرجل فِي ثوبٍ وَاحِدٍ، وَعَن مُبَاشرَة الْمَرْأَة الْمَرْأَة فِي ثوبٍ وَاحِدٍ، مَعَ أنَّ الْقَوْم لم يَكُونُوا يَعْرفُونَ التَّلوط، وَلَا السِّحاق، وَإِنَّمَا هُوَ من تَمام حفظ حُدُود الله، كَمَا أَمر اللهُ بذلك فِي كِتَابه.

الشيخ: ولا شكَّ أنَّ هذا من الأسباب التي تبعد الشَّر، فإنه إذا كان الرجلُ مع الرجل في ثوبٍ واحدٍ وقعت الفتنةُ، وهكذا المرأة مع المرأة في ثوبٍ واحدٍ -يعني: في محلٍّ واحدٍ- قد يقع السِّحاق.

والمقصود أنَّ الشريعة جاءت بتمييز هؤلاء عن هؤلاء، وإبعاد أسباب الشَّر مهما أمكن: لا في مسألة المخنَّثين، ولا في مسألة الشَّباب مع النساء، ولا في مسألة النساء مع الرجال، ينبغي على ولاة الأمور وأهل الحسبة أن يُراعوا هذه الأمور؛ حتى لا تقع الكوارث.

ومن ذلك: نزول العزَّاب بين المتأهّلين في عمارةٍ، أو في بيتٍ واحدٍ، أو ما أشبه ذلك، بل يكون هؤلاء في محلٍّ، وهؤلاء في محلٍّ؛ إبعادًا عن الفتنة.

وهكذا نوم الإنسان مع أخته، أو مع أخيه في لحافٍ واحدٍ، قد يقع الشيطان، هذا يكون له فراش، وهذا يكون له فراش.

وَقد رُوي أَنَّ عمر بلغه أَنَّ رجلًا يجْتَمع إِلَيْهِ نفرٌ من الصِّبيان، فَنهى عَن ذَلِك.

وأبلغ من ذَلِك أَنه نفى من شَبَّبَ بِهِ النِّسَاء، وَهُوَ نصر بن حجاج، لما سمع امْرَأَةً شبَّبت بِهِ وتشتهيه، وَرَأى هَذَا سَبَب الْفِتْنَة، فجزَّ شعره، لَعَلَّ سَبَب الْفِتْنَة يَزُول بذلك، فَرَآهُ أحسن النَّاس وجنتين، فَأَرْسَل بِهِ إِلَى الْبَصْرَة، ثمَّ إِنَّه بعث يَطْلب الْقُدوم إِلَى وَطنه، وَيذكر ألا ذَنْبَ لَهُ، فَأبى عَلَيْهِ وَقَالَ: "أما وَأَنا حَيٌّ فَلَا".

وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَة إِذا أُمرت بالاحتجاب وَترك التَّبرج وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ من أَسبَاب الْفِتْنَة بهَا وَلها.

س: الفتنة في البصرة كالفتنة في المدينة، أي: لا يكون إبعاده عن محل الصِّراع؟

ج: لأنَّ هناك ما يعرفونه، ووكل به الأمراء يُلاحظونه، أما الذين عرفوه في المدينة لا، الإنسان قد يُنفى إلى بلادٍ ما يُعرف، ولا يهتمّ به أحدٌ، لكن في المدينة قد عرفه النِّساء، وأنشدوا فيه الأشعار؛ ولهذا أبعده عمر.

فَإِذا كَانَ فِي الرِّجَال مَن قد صَار فتْنَةً للنِّسَاء أمر أَيْضًا بمُباعدة سَبَب الْفِتْنَة: إِمَّا بتغيير هَيئته، وَإِمَّا بالانتقال عَن الْمَكَان الَّذِي تحصل بِهِ الْفِتْنَة فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا يحصن دينه، ويحصن النِّسَاء دينهن، وَبِدُون ذَلِك مَعَ وجود الْمُقْتَضي مِنْهُ ومنهن لَا يُؤمَن ذَلِك، وَهَكَذَا يُؤمَر مَن يفتن النِّسَاء من الصّبيان أَيْضًا.

وَذَلِكَ أَنه إِذا احْتيجَ إِلَى المباعدة الَّتِي تُزيل الْفِتْنَة كَانَ تبعيدُ الْوَاحِد أيسر من تبعيد الْجَمَاعَة الرِّجَال أَو النِّسَاء؛ إِذْ ذَاك غير مُمكنٍ، فتُحفظ حُدُود الله، ويُجانب مَا يُوجِب تعدِّي الْحُدُود بِحَسب الْإِمْكَان، وَإِذا كَانَ هَذَا فِيمَن لَا رِيبَةَ فِيهِ وَلَا ذَنْبَ، فَكيف بِمَن يُعرف بالرِّيبة والذَّنب؟!