09 من قوله: (وهكذا المرأة التي تعرف بريبة تفتن بها الرجال)

وَهَكَذَا الْمَرْأَة الَّتِي تُعرف بريبةٍ تفتن بهَا الرِّجَال تُبعد عَن مَوَاضِع الرَّيب بِحَسب الْإِمْكَان، فَإِنَّ دفعَ الضَّرَر عَن الدِّين بِحَسب الْإِمْكَان وَاجِبٌ، فَإِذا كَانَ هَذَا هُوَ السُّنة فَكيف بِمَن يكون فِي جمعه من أَسبَاب الْفِتْنَة مَا الله بِهِ عليم؟

وَالرجل الَّذِي يتشبَّه بِالنِّسَاء فِي زيِّهن، وَاسْتِعْمَال أَسمَاء الجمال.

الشيخ: لعلها: أسباب. أسماء ما هي مُناسبة.

وَالْحُسن والزِّينة وَنَحْو ذَلِك فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة، والقُبح والشَّين والدّنس فِي الْأَعْمَال الْفَاسِدَة أَمرٌ ظَاهرٌ فِي الْكِتاب وَالسُّنة وَكَلَام الْعُلمَاء، مثل: اسم الطّيب، وَالطَّهَارَة، والخبث، والنَّجاسة.

وَمن ذَلِك مَا فِي حَدِيث أبي ذَرٍّ الْمَشْهُور، وَقد رَوَاهُ أَبُو حَاتِم ابن حبان فِي "صَحِيحه" عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: من حِكْمَة آل دَاوُد: حقٌّ على الْعَاقِل أَن يكون لَهُ سَاعَة يُنَاجِي فِيهَا ربَّه، وَسَاعَة يُحَاسِب فِيهَا نَفسَه، وَسَاعَة يكون فِيهَا مَعَ أَصْحَابه الَّذين يخبرونه عَن ذَات نَفسه، وَسَاعَة يَخْلُو فِيهَا بلذَّاته فِيمَا يحلّ ويجمل، فَذكر الْحلَّ وَالْجمال.

الشيخ: يعني: أربع ساعات، مما يُنقل من حكمة آل داود أربع ساعات: ساعة يُناجي فيها ربَّه ويعمل الصَّالحات، وساعة يُحاسِب فيها نفسه: ماذا فعل؟ وماذا ترك؟ وماذا قصر فيه؟ وساعة مع أصحابه يُحدِّثونه عن عيوبه، وعن تقصيره، ويُذكرونه بالله، ويُذكرهم، ويتعاون معهم على الخير والبرِّ والتَّقوى، والسَّاعة الرابعة مع أهله وأولاده وحاجات نفسه.

هذه أربع ساعات مهمَّة، هذه من الحكمة: أربع ساعات: الساعة الأولى فيما يتعلق بطاعة الله ومُناجاته: من فعل الصَّلوات، وأداء الحقوق التي لله عليه في أوقاتها، والساعة الثانية: المحاسبة للنفس: ماذا فعل؟ وماذا ترك؟ وماذا قصد بكذا؟ وماذا أراد بكذا؟ ..... من سيئات أعماله. الساعة الثالثة: مع أصحابه الصَّالحين الطّيبين، يتذاكر معهم في الله، وفيما يتعلق به، ويُنبِّهونه على عيوبه، ويُنبِّههم على عيوبهم، ويتذاكرون فيما بينهم فيما يُصلحهم. والرابعة فيما يتعلق بحاجات نفسه، وحاجات أهله وأولاده.

فهذه ساعات لا شكَّ أنها مهمة، والشرع الشَّريف يدل عليها.

س: صحيح الحديث هذا؟

ج: هذا ما هو بحديثٍ، هذا من أخبار نبي الله داود، مما جاء في الزبور يعني، وشرع مَن قبلنا شرعٌ لنا إذا لم يأتِ شرعُنا بخلافه، فهو يُؤيد هذا، شرعنا يُؤيد هذا المعنى، فالعبد مأمورٌ بأن يعتني بمناجاة الله، وأداء حقِّه، ومأمورٌ بأن يُحاسِب نفسه، ومأمورٌ بأن يجتمع مع أصحابه الأخيار للمُذاكرة، ومأمورٌ بأن يُؤدي حقَّ أهله.

...............

وَهَذَا يَشْهد لقَوْل الْفُقَهَاء فِي الْعَدَالَة: إِنَّهَا صَلَاح الدِّين والمروءة. قَالُوا: والمروءة: اسْتِعْمَال مَا يُجمله ويُزينه، وتجنُّب مَا يُدنسه ويشينه. وَهَذَا يرجع إِلَى الْحُسن والقُبح فِي الْأَعْمَال، وَأَنَّ الْأَعْمَال تكون حَسَنَةً، وَتَكون قبيحةً، وَإِن كَانَ الْحسنُ هُوَ الملائم النَّافع، والقبيح هُوَ الْمُنَافِي، فالشَّيء يكمل ويجمل وَيحسُن بِمَا يُنَاسِبه ويُلائمه وينفعه ويلتذّ بِهِ، كَمَا يَفْسد ويقبح بِمَا يُنَافِيهِ ويضرّه ويتألم بِهِ، والأعمال الصَّالِحَة هِيَ الَّتِي تُناسِب الْإِنْسَان، والأعمال الْفَاسِدَة هِيَ الَّتِي تُنافيه.

وَلِهَذَا لما قَالَ بعضُ الْأَعْرَاب: إِنَّ مدحي زين، وذمِّي شين. قَالَ النَّبِي ﷺ: ذَاك الله، فمدحه يزين عِنْده؛ لِأَنَّهُ مدحه بِحَقٍّ، وَذَمّه يشينه؛ لِأَنَّهُ حقّ.

وَهَذَا الْحُسن وَالْجَمال الَّذِي يكون عَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة فِي الْقَلب يسري إِلَى الْوَجْهِ، والقُبح والشَّين الَّذِي يكون عَن الْأَعْمَال الْفَاسِدَة فِي الْقَلب يسري إِلَى الْوَجْه كَمَا تقدم.

ثمَّ إِنَّ ذَلِك يقوى بِقُوَّة الْأَعْمَال الصَّالِحَة والأعمال الْفَاسِدَة، فَكلما كثر الْبرُّ وَالتَّقوى قوي الْحُسن وَالْجمال، وَكلما قوي الْإِثْم والعدوان قوي الْقُبْح والشَّين، حَتَّى ينْسَخ ذَلِك مَا كَانَ للصورة من حُسنٍ وقبحٍ، فكم مِمَّن لم تكن صورتُه حَسَنَةً، وَلَكِن من الْأَعْمَال الصَّالِحَة مَا عظم بِهِ جماله وبهاؤه، حَتَّى ظهر ذَلِك على صورته.

وَلِهَذَا ظهر ذَلِك ظهورًا بَيِّنًا عِنْد الْإِصْرَار على القبائح فِي آخر الْعُمر عِنْد قُرب الْمَوْت، فنرى وُجُوه أهل السُّنة وَالطَّاعَة كلما كبروا ازْدَادَ حسنُها وبهاؤها، حَتَّى يكون أحدُهم فِي كبره أحسن وأجمل مِنْهُ فِي صغره. ونجد وُجُوهَ أهل الْبِدْعَة وَالْمَعْصِيَة كلما كبروا عظم قبحُها وشينها، حَتَّى لَا يَسْتَطِيع النَّظر إِلَيْهَا مَن كَانَ مُنبهرًا بهَا فِي حَال الصِّغر؛ لجمال صورتهَا.

وَهَذَا ظَاهرٌ لكلِّ أحدٍ فِيمَن يعظم بدعته وفجوره، مثل: الرافضة، وَأهل الْمَظَالِم وَالْفَوَاحِش من التُّرْك وَنَحْوهم، فَإِنَّ الرَّافضي كلما كبر قبح وَجهه، وَعظم شينُه، حَتَّى يقوى شبهه بالخنزير، وَرُبمَا مُسخ خنزيرًا وقردًا، كَمَا قد تَوَاتر ذَلِك عَنْهُم.

ونجد المردان من التُّرْك وَنَحْوهم قد يكون أحدُهم فِي صِغره من أحسن النَّاس صُورَةً، ثمَّ إِنَّ الَّذين يكثرون الْفَاحِشَة تجدهم فِي الكِبر أقبح النَّاس وُجُوهًا، حَتَّى إِنَّ الصِّنْف الَّذِي يكثر ذَلِك فيهم من التّرْك وَنَحْوهم يكون أحدُهم أحسن النَّاس صُورَةً فِي صغره، وأقبح النَّاس صُورَةً فِي كبره، وَلَيْسَ سَبَبُ ذَلِك أمرًا يعود إِلَى طبيعة الْجِسْم، بل الْعَادة المستقيمة تُناسب الْأَمر فِي ذَلِك، بل سَببه مَا يغلب على أحدهم من الْفَاحِشَة وَالظُّلم، فَيكون مخنثًا ولوطيًّا وظالـمًا وعونًا للظَّلمة، فيكسوه ذَلِك قُبح الْوَجْه وشينه.

وَمن هَذَا أَنَّ الَّذين قوي فيهم الْعُدوان مسخهم اللهُ قردةً وَخَنَازِير من الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة.

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه سَيكون فِي هَذِه الْأُمة أَيْضًا مَن يُمسخ قردةً وَخَنَازِير، فَإِنَّ الْعُقُوبَات والمثوبات من جنس السَّيِّئَات والحسنات، كَمَا قد بَين ذَلِك فِي غير مَوضِعٍ.

الشيخ: انظر حديث أبي ذرٍّ في "صحيح ابن حبان".

الطالب: ومن ذلك ما في حديث أبي ذرٍّ المشهور، وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في "صحيحه" عن النبي ﷺ أنه قال: من حكمة آل داود ...

الشيخ: هذا إن صحَّ يكون مما أقرَّته الشريعة، حتى ولو لم يصحّ الحديث فالشَّريعة في مواردها ومصادرها تدل على فضل هذه السَّاعات الأربع.

الطالب: علَّق عليه يقول: بحثتُ عن الحديث في الجزء الأول في المطبوع من "صحيح ابن حبان" بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فلم أجده، ولم أتمكن من العثور عليه في سائر المراجع.

الشيخ: مَن هذا؟

الطالب: رشاد.

...............

وَلَا ريبَ أَنَّ مَا لَيْسَ محبوبًا لله من مسخوطاته وَغَيرهَا تزين فِي نفوس كثيرٍ من النَّاس حَتَّى يروها جميلَةً وحسنةً، يَجدونَ فِيهَا من اللَّذَّات مَا يُؤَيّد ذَلِك، وَإِن كَانَت اللَّذَّات مُتضمنةً لآلام أعظم مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].

وَقَالَ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8].

وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر:37].

وَقَالَ: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108].

وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48].

وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ عَن الْمُؤمنِينَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7].

فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُزين لكل عَاملٍ عمله فيراه حسنًا، وَإِن كَانَ ذَلِك الْعَمَلُ سَيِّئًا، فَإِنَّهُ لَوْلَا يراه حسنًا لم يَفْعَله، إِذْ لَو رَآهُ سَيِّئًا لم يردهُ، وَلم يختره؛ إِذ الْإِنْسَان مجبولٌ على محبَّة الْحَسن، وبُغض السَّيئ، فالحسن الْجَمِيل مَحْبُوبٌ مُرَادٌ، والسَّيئ الْقَبِيح مَكْرُوهٌ مُبغضٌ، والأعيان وَالْأَفْعَال المبغضة من كلِّ وَجهٍ لَا تُقصد بِحَالٍ، كَمَا أنَّ المحبوبةَ من كل وَجهٍ لَا تُتْرك بِحَالٍ، وَلَكِن قد يكون الشيء محبوبًا من وَجهٍ، مَكْرُوهًا من وَجهٍ، ويقبح من وَجهٍ، وَيحسن من وَجهٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ الزَّانِي لَا يَزْنِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن، وَالسَّارِق لَا يسرق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يشرب الْخَمر حِين يَشْربهَا وَهُوَ مُؤمن كَامِل الْإِيمَان، فَإِنَّهُ لَو كَانَ اعْتِقَاده بقُبح ذَلِك الْفِعْل اعتقادًا تَامًّا لم يَفْعَله بِحَالٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ كلُّ عَاصٍ لله تَعَالَى جَاهِلًا، كَمَا قَالَ ذَلِك أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَإِنَّهُ لَو كَانَ عَالـمًا حقَّ الْعِلم بِمَا فعله لم يفعل الْقَبِيح، وَلم يَتْرك الْوَاجِب، بل قد زيّن لكل أُمَّةٍ عَمَلهم.

لَكِن العَاصِي إِذا كَانَ مَعَه أصلُ الْإِيمَان فَإِنَّهُ لَا يزين لَهُ عمله من كل وَجهٍ، بل يستحسنه من وَجهٍ، ويبغضه من وَجهٍ، وَلَكِن حِين فعله يغلب تَزْيِين الْفِعْل؛ وَلذَلِك قَالَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ الآية [آل عمران:14]، فَإِنَّ هُنَا شَيْئَيْنِ: حبّ الشَّهَوَات، وَأَنَّه زُين ذَلِك الْفُحْش وَحسن فَرَأَوْا تِلْكَ الْمحبَّة حَسَنَةً؛ فَلذَلِك اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْمحبَّة عِنْدَهم، وتمتَّعوا بِهَذِهِ المحبَّات، فَإِذا رَأَوْا ذَلِك الْحبَّ قبيحًا لما يتبعهُ من الضَّرَر لم يسْتَقرّ ذَلِك فِي قُلُوبهم، فَإِنَّ رُؤْيَة ذَلِك الْحبّ حسنًا يَدْعُو إِلَيْهِ، قبيحًا يُنفِّر عَنهُ.

وَكَذَلِكَ ذكر فِي الْإِيمَان أَنه حبَّبه إِلَى الْمُؤمنِينَ، وزيَّنه فِي قُلُوبهم حَتَّى رَأَوْهُ حسنًا، فَإِنَّ الشَّيء إِذا حبب وزُين لم يُتْرك بِحَالٍ، وَهنا أخبر سُبْحَانَهُ أنه هُوَ الَّذِي حبَّب إِلَيْهِم الْإِيمَان وزيَّنه فِي قُلُوبهم، وَفِي الشَّهَوَات قَالَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، وَلم يقل: المزين، بل ذكر الْعُمُوم.

وَقَالَ تَعَالَى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108]، وكما حذف المزين هُنَاكَ قَالَ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، فَجعل المزين نفس الْحبّ لَهَا، لم يَجْعَل المزين هُوَ المحبوب، كَمَا أخبر أَنه زيّن لكل أُمَّةٍ عَملهَا، فَإِنَّ المزين نفس الْحبّ لَهَا، لم يَجْعَل المزين هُوَ المحبوب، بل هُوَ حبّ الشَّهَوَات، فَإِنَّ المزين إِذا كَانَ نفس الْحبّ وَالْعَمَل لم يَنْصَرف الْقَلب عَن ذَلِك، بِخِلَاف مَا لَو كَانَ المزين هُوَ المحبوب؛ فقد زيّن الشيء المحبوب، وَلَكِن الْإِنْسَان لَا يُحِبّهُ لما يقوم بِقَلْبِه من الْعِلم بِحَالهِ والبُغض.

فَفرق بَين التَّزيين الْمُتَّصِل بِالْقَلْبِ، وتزيين الشَّيء الْمُنْفَصِل عَنهُ، فِيهِ ردٌّ على الْقَدَرِيَّة الَّذين يجْعَلُونَ التَّزيين الْمُنْفَصِل، وَكَذَلِكَ قَوْله: زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، وَهُوَ سُبْحَانَهُ امتنَّ فِي الْإِيمَان بشيئين: بِأَنَّهُ حبَّبه إِلَيْنَا، وزيَّنه فِي قُلُوبنَا. فالنِّعَم تتمّ بهما: بِالْعِلْمِ والمحبَّة.

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح من غير وَجهٍ عَن النَّبِي ﷺ أنه لعن المخنَّثين من الرِّجَال، والمترجِّلات من النِّسَاء.

وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا أَنه لعن المتشبِّهين من الرِّجَال بِالنِّسَاء، والمتشبِّهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ.

وَفِي الصَّحِيح أَنه أَمر بِنَفْي المخنَّثين وإخراجهم من الْبيُوت.

كَمَا روى البُخَارِيُّ فِي "صَحِيحه" عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: لعن النَّبِيُّ ﷺ المتشبِّهين من الرِّجَال بِالنِّسَاء، والمتشبِّهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: لعن النَّبِيُّ ﷺ المخنَّثين من الرِّجَال، والمسترجلات من النِّسَاء، وَقَالَ: أخرجوهم من بُيُوتكُمْ، فَأخْرج النَّبِيُّ ﷺ فُلَانَة، وَأخرج عمرُ فلَانًا.

فَإِذا كَانَ الرجلُ الَّذِي يتشبَّه بِالنِّسَاء فِي لباسهن وزيِّهن وزينتهنَّ ملعونًا، قد لَعنه رَسُولُ الله ﷺ، فَكيف بِمَن يتشبَّه بِهن فِي مُبَاشرَة الرِّجَال لَهُ فِيمَا يتمتع الرِّجَالُ بِهِ بتمكينه من ذَلِك لغَرَضٍ يَأْخُذهُ، أَو لمحبَّته لذَلِك؟ فَكلما كثرت مُشابهته لَهُنَّ كَانَ أعظم للعنه، وَكَانَ ملعونًا من وَجْهَيْن: من جِهَة الْفَاحِشَة الْمُحرَّمَة، فَإِنَّهُ يلعن على ذَلِك وَلَو كَانَ هُوَ الْفَاعِل. وَمن جِهَة تخنُّثه؛ لكَونه من جنس الْمَفْعُول بِهنَّ.

الشيخ: يعني اللُّوطي -نعوذ بالله- قد تشبَّه بالنِّساء من جهتين: من جهة أنه يُفعل فيه، ومن جهة أنه تشبَّه بهن في هذا الشيء حتى هيَّأ نفسه لهذا الأمر، نسأل الله العافية، فيكون ملعونًا للواطه، وملعونًا لتشبّهه بالنِّساء.

وفي الحديث الصحيح: لعن اللهُ مَن عمل عمل قوم لوطٍ، لعن اللهُ مَن عمل عمل قوم لوطٍ، لعن اللهُ مَن عمل عمل قوم لوطٍ، نسأل الله العافية.

س: ما ورد في السَّلام على مَن يعرفه الإنسان ومَن لا يعرفه، ففي عصرنا هذا من كثرة تشبّه الناس بالأجانب بحلق اللِّحى والخنافس، فإذا واجه الإنسانُ إنسانًا لا يعرفه ماذا يقول؟

ج: النبي ﷺ لما سُئل: أيّ الإسلام أفضل؟ قال: تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف.

فما دمت لا تعرف أنه كافر فلا بأس أن تُسلم، تبدأ بالسلام، وتردّ السلام، وتنشر السلام والحمد لله، ولا عليك، وإذا تيسرت لك النَّصيحة فانصح؛ لأنه قد يكون فيهم الجاهل الذي لا يعرف الحكم الشَّرعي.

فَمَن جعل شَيْئًا من التَّخنث دينًا، أَو طلب ذَلِك من الصّبيان، مثل: تَحْسِين الصَّبِي صورته أَو لِبَاسه لأجل نظر الرِّجَال، واستمتاعهم بذلك فِي سَماعٍ وَغير سَماعٍ، أَلَيْسَ يكون مُبدلًا لدين الله؟ من جنس الَّذِين إِذا فعلوا فَاحِشَةً قَالُوا: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]، وَإِذا كَانَت فَاحِشَةُ الْعَرَب الْمُشْركين كشف عوراتهم عِنْد الطَّواف؛ لِئَلَّا يطوفوا فِي ثِيَابٍ عصوا الله فِيهَا، فَكيف بِمَا هُوَ أعظم من ذَلِك؟

والمخنّث قد يكون مَقْصُوده مُعاشرة النِّسَاء ومُباشرتهن، وَقد يكون تخنُّثه بِمُبَاشَرَة الرِّجَال ونظرهم ومحبَّتهم، وَقد يجمع الْأَمريْنِ، وَفِي المتنسكين من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة خلقٌ كثيرٌ، وَهَؤُلَاء شَرٌّ مِمَّن يفعل هَذِه الْأُمُور على غير وَجه التَّدين، فَإِنه يُوجد فِي الْأُمَم الْجَاهِلِيَّة من التُّرْك وَنَحْوهم مَن يتشبّه فيهم من النِّسَاء بِالرِّجَالِ، وَمَن يتشبَّه من الرِّجَال بِالنِّسَاء خلقٌ عَظِيمٌ.

س: وفي المتنسكين من الأقسام الثلاثة خلقٌ كثيرٌ؟

ج: المتنسكون من الصُّوفية وغيرهم، التَّنسك: التَّعبد، يتعبَّدون بالتَّشبه بالنِّساء، والتَّشبه بالرِّجال، نسأل الله العافية.

فَإِنَّه يُوجَد فِي الْأُمَم الْجَاهِلِيَّة من التُّرْك وَنَحْوهم مَن يتشبَّه فيهم من النِّسَاء بِالرِّجَالِ، وَمَن يتشبَّه من الرِّجَال بِالنِّسَاء خلقٌ عَظِيمٌ، حَتَّى يكون لنسائهم من الإمرة وَالْمُلك وَالطَّاعَة والبروز للنَّاس وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ من خَصَائِص الرِّجَال مَا لَيْسَ لِنسَاء غَيرهم، وَحَتَّى أنَّ الْمَرْأَة تخْتَار لنَفسهَا مَن شَاءَت من مماليكها وَغَيرهم؛ لقهرها للزَّوْج، وَحكمهَا، وَيكون فِي كثيرٍ من صبيانهم من التَّخنث، وتقريب الرِّجَال لَهُ، وإكرامه لذَلِك أَمرٌ عَظِيمٌ، حَتَّى قد يغار بعضُ صبيانهم من النِّسَاء، وَحَتَّى يتّخذهم الرِّجَال كالسَّراري، لَكِن هم لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك تدينًا، فَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِك تدينًا شَرٌّ مِنْهُم، فَإِنَّهُم جعلُوا الفجورَ دينًا، والفاحشةَ حَسَنَةً، لَا لما فِي ذَلِك من ميل الطِّباع.

فَهَكَذَا مَن جعل مُجَرّد الصَّوْت الَّذِي تحبّه الطباع حسنًا فِي الدِّين فِيهِ شبهٌ من هَؤُلَاءِ، لَكِن فِي الْمُشْركين من هَذِه الْأُمة مَن يتدين بذلك لأجل الشَّيَاطِين، كَمَا يُوجد فِي الْمُشْركين من التُّرْك التتار وساحرهم الطَّاغوت صَاحب الجبت الَّذِي تُسميه التّرْك: البوق، وَهُوَ الَّذِي تستخفّه الشَّيَاطِين وتُخاطبه، ويسألها عَمَّا يُرِيد، وَيُقرب لَهَا القرابين من الْغَنم المنخنقة وَغير ذَلِك، وَيَضْرب لَهَا بِأَصْوَات الطبول وَنَحْو ذَلِك، وَمن شَرطه أَن يكون مُخنَّثًا يُؤْتَى كَمَا تُؤْتَى الْمَرْأَة، فَكلما كَانَت الْأَفْعَال أولى بِالتَّحْرِيمِ كَانَت أقرب إِلَى الشَّيَاطِين.

وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من أَنَّ الْحسن الصُّورَة وَالصَّوْت وَسَائِر مَن أنعم اللهُ عَلَيْهِ بِقُوَّةٍ أَو بِجَمَالٍ أَو نَحْو ذَلِك إِذا اتَّقى اللهَ فِيهِ كَانَ أفضل مِمَّن لم يُؤْتَ مَا لم يُمْتَحن فِيهِ، فَإِنَّ النِّعَم مِحَنٌ، فَإِنَّ أهل الشَّهَوَات من النِّسَاء وَالرِّجَال يميلون إِلَى ذِي الصُّورَة الْحَسَنَة وَيُحِبُّونَهُ ويعشقونه، ويرغبونه بأنواع الكرامات، ويُرهبونه عِنْد الِامْتِنَاع بأنواع المخوفات، كَمَا جرى ليوسف عَلَيْهِ السَّلَام وَغَيره، وَكَذَلِكَ جماله يَدعُوهُ إِلَى أَن يَطْلب مَا يهواه؛ لِأَنَّ جماله قد يكون أعظم من المَال المبذول فِي ذَلِك.

وَكَذَلِكَ حسن الصَّوْت قد يدعو إِلَى أَعمالٍ فِي المكروهات، كَمَا أَنَّ المَال وَالسُّلْطَان يحصل بهما من المكنة مَا يدعو مَعَ ذَلِك إِلَى أَنْوَاع الْفَوَاحِش والمظالم، فَإِنَّ الْإِنْسَان لَا تَأمره نَفسه بِالْفِعْلِ إِلَّا مَعَ نوعٍ من الْقُدْرَة، وَلَا يفعل بقُدرته إِلَّا مَا يُريدهُ، وشهوات الغيّ مُستمكنة فِي النُّفُوس، فَإِذا حصلت الْقُدْرَةُ قَامَت المحنةُ: فإمَّا شقي، وَإِمَّا سعيد، وَيَتُوب اللهُ على مَن تَابَ، فَأهل الامتحان: إِمَّا أَن يرتفعوا، وَإِمَّا أَن ينخفضوا.

وَأمَّا تحرّك النُّفُوس عَن مُجَرّد الصَّوْت: فَهَذَا أَيْضًا محسوسٌ، فَإِنَّهُ يُحركها تحريكًا عَظِيمًا جدًّا بالتَّفريح، والتَّحزين، والإغضاب، والتَّخويف، وَنَحْو ذَلِك من الحركات النَّفسانية، كَمَا أَنَّ النُّفُوس تتحرك أَيْضًا عَن الصُّور بالمحبَّة تَارَةً، وبالبُغض أُخْرَى، وتتحرك عَن الْأَطْعِمَة بالبُغض تَارَةً، والنُّفرة أُخْرَى، فَتحَرك الصّبيان والبهائم عَن الصَّوْت هُوَ من ذَلِك، لَكِن كلمَا كَانَ أَضْعَف كَانَت الْحَرَكَةُ بِهِ أَشدّ، فحركة النِّسَاء بِهِ أَشدّ من حَرَكَة الرِّجَال، وحركة الصّبيان أَشدّ من حَرَكَة الْبَالِغين، وحركة الْبَهَائِم أَشدّ من حَرَكَة الْآدَمِيّين.

فَهَذَا يدل على أَنَّ قُوَّة التَّحرك عَن مُجَرّد الصَّوْت لقُوَّة ضعف الْعَقل، فَلَا يكون فِي ذَلِك حمدٌ إِلَّا وَفِيه من الذَّمِّ أَكثر من ذَلِك، وَإِنَّمَا حَرَكَةُ الْعُقَلَاء عَن الصَّوْت الْمُشْتَمِل على الْحُرُوف الْمُؤَلّفَة المتضمنة للمعاني المحبوبة، وَهَذَا أكمل مَا يكون فِي اسْتِمَاع الْقُرْآن.

وَأما التَّحرك بِمُجَرَّد الصَّوْت فَهَذَا أَمرٌ لم يَأْتِ الشَّرْعُ بالنَّدب إِلَيْهِ، وَلَا عُقلاء النَّاس يأمرون بذلك، بل يعدّون ذَلِك من قلَّة الْعَقل، وَضعف الرَّأْي، كَالَّذي يفزع عَن مُجَرّد الْأَصْوَات المفزعة المرعبة، وَعَن مُجَرّد الْأَصْوَات المغضبة.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَا أَذِنَ اللهُ لشيءٍ كأذنه لنَبِيٍّ يتغنَّى بِالْقُرْآنِ.

الشيخ: المقصود أنَّ الأصوات الحسنة والأفعال الحسنة والصّور يتأثر بها الصِّبيان والنِّساء والجهلة أكثر من غيرهم، فإذا كانت في طاعة الله، ومحبَّة الله، وتوجيه الناس إلى الخير نفع ذلك، وإذا كانت في الأغاني والملاهي جرَّ ذلك إلى الفواحش والمنكرات، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، نسأل الله العافية.

س: قوله: (فَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِك تدينًا شَرٌّ مِنْهُم)؟

ج: شرٌّ من الجهلة الذين يفعلونه وهم يعرفون أنهم عُصاة، الذي يعرف أنها معاصٍ أسهل، والذي يفعل وهو يعتقد أنها دينٌ فهذا مُبتدع، يرى أنها دينٌ فلا يتوب، نسأل الله العافية.

س: حكم الشَّرع في الذي يفعل اللِّواط؟

ج: حكمه القتل.

س: والمفعول به؟

ج: كذلك مثله إذا كان مُكلَّفًا، النبي ﷺ يقول: مَن وجدتُموه يعمل عمل قوم لوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به.

س: والبهيمة التي فُعل بها؟

ج: البهيمة جاء الحديثُ أنها تُقتل؛ لئلا يتحدث عنها: أنَّ هذه التي فعل بها فلانٌ. فيها إشاعة للفاحشة، إذا ثبت ذلك. ولا يُقتل إلا مَن كان مُطاوعًا، أما مَن كان مُكرهًا مجبورًا، فالقتل على مَن جبره، نسأل الله العافية.

س: ...................؟

ج: لا مظلوم، القتل على مَن فعل اللِّواط عن اختيارٍ، نعوذ بالله، نسأل الله العافية.

س: ...................؟

ج: سواء مُحصن، أو ما هو بمُحصن، ما هو مثل الزنا، هو أقبح من الزنا، اللِّواط أشرُّ من الزنا؛ ولهذا يُقتل الفاعل مطلقًا، ولو كان بكرًا، إذا كان مُكلَّفًا، وهكذا المفعول به، نعوذ بالله.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَقَالَ النَّبِي ﷺ: مَا أذن اللهُ لشيءٍ كأذنه لنَبِيٍّ يتغنَّى بِالْقُرْآنِ.

وروى حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: مَا أذن اللهُ لشيءٍ مَا أذن اللهُ لنَبِيٍّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ.

قَالَ: وَقيل: إِنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يستمع لقِرَاءَته الْجِنُّ وَالْإِنْسُ والوحشُ وَالطَّير إِذا قَرَأَ الزبُور، وَكَانَ يُحمل من مَجْلِسه أَرْبَعمِئَة جَنَازَةٍ مِمَّن قد مَاتَ مِمَّن سمعُوا قِرَاءَته.

وَقَالَ النَّبِي ﷺ لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: لقد أُعْطي مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد.

وَقَالَ مُعَاذٌ لرَسُول الله ﷺ: لَو علمتُ أَنَّك تسمع لحبَّرتُه لَك تحبيرًا.

قلتُ: هَذَا القَوْل لأبي مُوسَى كَانَ لم يكن لِمُعَاذٍ، ومضمون هَذِه الْآثَار اسْتِحْبَاب تَحْسِين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا مِمَّا لَا نزاعَ فِيهِ، فالاستدلال بذلك على تَحْسِين الصوت بِالْغِنَاءِ أفسد من قِيَاس الرِّبَا على البيع، إِذْ هُوَ من بَاب تنظير الشِّعْر بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69].

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ۝ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ۝ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210- 212]، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ۝ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225- 226].

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:41- 42].

وَهَذَا الْقِيَاس مثل قِيَاس سَماع المكاء والتَّصدية -الَّذِي ذمَّه الله فِي كِتَابه، وَأَخْبر أَنَّه صَلَاة الْمُشْركين- على سَماع الْقُرْآن الَّذِي أَمر اللهُ بِهِ فِي كِتَابه، وَأخْبر أَنه سَماع النَّبِيين وَالْمُؤمنِينَ، وَقِيَاس لأئمة الصَّلَاة -كالخلفاء الرَّاشِدين وَسَائِر أَئِمَّة الْمُؤمنِينَ- بالمخنّثين المغاني الَّذين قد يُسمون الْجدّ أَو القوَّالين، وَقِيَاس للمُؤذن الدَّاعِي إِلَى الصَّلَاة وَسَمَاع الْقُرْآن بالمزمار الدَّاعي إِلَى حَرَكَة المستمعين للمُكاء والتَّصدية.

وَقد روى الطَّبَرَانِيُّ فِي "معجمه" عَن ابْن عَبَّاسٍ، عَن النَّبِي ﷺ: أَنَّ الشَّيْطَان قَالَ: يا ربِّ اجْعَل لي قُرْآنًا، قَالَ: قُرآنك الشِّعْر، قَالَ: اجْعَل لي مُؤذنًا، قَالَ: مُؤذِّنك المزمار، قَالَ: اجْعَل لي كِتَابةً، قَالَ: كتابتك الوشم، قَالَ: اجْعَل لي بَيْتًا، قَالَ: بَيْتُك الْحمَّام، قَالَ: اجْعَل لي طَعَامًا، قَالَ: طَعَامك ما لم يُذكر اسْم الله عَلَيْهِ، فَمَن قَاس قُرْآنَ الشيطان بقرآن الله فَالله يُجازيه بِمَا يسْتَحقّهُ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].

فَهَؤُلَاءِ يشتغلون بالشَّهوات عَن الصَّلَاة؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ من هَؤُلَاءِ الشُّيُوخ مَن يَقْصد الاجتماعات فِي الْحمام، وَيكون لَهُ فيها حَالٌ وَظُهُورٌ؛ لكَون مادته من الشَّيَاطِين، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُظْهِر أَثَره فِي بَيته، وَعِنْده أوليائه، وتأذين مُؤذنه، وتلاوة قرآنه، كَمَا يَظْهر ذَلِك على أهل المكاء والتَّصدية.

وَإِذا كَانَ السَّماع نَوْعَيْنِ: سَماع الرَّحْمَن، وَسَمَاع الشَّيْطَان. كَانَ مَا بَينهمَا من أعظم الْفُرْقَان، لَكِن الْأَقْسَام هُنَا أَرْبَعَة: إِمَّا أَن يَشْتَغل العَبْدُ بِسَمَاع الرَّحْمَن دون سَماع الشَّيْطَان، أَو بِسَمَاع الشَّيْطَان دون سَماع الرَّحْمَن، أَو يَشْتَغل بالسَّماعين، أَو لَا يَشْتَغل بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

فَالْأوَّل حَال السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ.

وَأمَّا الثَّانِي: فحال الْمُشْركين الَّذين قَالَ اللهُ فيهم: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35]، وَهُوَ حَال مَن يتَّخذ ذَلِك دينًا، وَلَا يستمع الْقُرْآن، فَإِن كَانَ يَشْتَغل بِهَذَا السَّماع شَهْوَةً لَا دينًا، ويُعرض عَن الْقُرْآن، فهم الْفُجَّار والمنافقون إِذا أبطنوا حَال الْمُشْركين.

وَأمَّا الَّذين يشتغلون بالسَّماعين فكثيرٌ من المتصوفة.

وَالَّذين يُعرضون عَنْهُمَا على مَا يَنْبَغِي كثيرٌ من المتعرِّبة.

فَهَذِهِ النُّصُوص المأثورة عَن النَّبِي ﷺ الَّتِي فِيهَا مدح الصَّوْت الْحسن بِالْقُرْآنِ، وَالتَّرْغِيب فِي هَذَا السَّماع، فيُحتجّ بهَا على المعرِض عَن هَذَا السَّماع الشَّرْعِيِّ الإيماني، لَا يُحْتَجّ بهَا على حُسن السَّماع البدعي الشِّركي، بل الرَّاغبون فِي السَّماعين جَمِيعًا، والزَّاهدون فِي السَّماعين جَمِيعًا خارجون عَن مَحْض الاسْتقَامَة والشَّريعة القرآنية الْكَامِلَة، هَؤُلَاءِ مُعتدون، وَهَؤُلَاء مُفرطون، وَإِنَّمَا الْحقّ الرَّغْبَة فِي السَّماع الإيماني الشَّرْعِيّ، والزهد فِي السَّماعي الشِّركي البدعي.

ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم حِكَايَة أبي بكر الرقي فِي الْغُلَام الَّذِي حدا بالجمال حَتَّى قطعت مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فِي يَوْمٍ، فَلَمَّا حطَّ عَنْهَا مَاتَت، وحدا بجملٍ فهام على وَجهه وَقطع حباله.

قَالَ الرقي: وَلم أَظنّ أَنِّي سَمِعتُ صَوتًا أطيب مِنْهُ وَوَقعتُ لوجهي حَتَّى أَشَارَ عَلَيْهِ بِالسُّكُوتِ فَسكت. فَقَالَ: حَدَّثنَا أَبُو حَاتِم السّجسْتانِي: حَدَّثنَا أَبُو نصر السَّراج قَالَ: حكى الرّقي.

قلتُ: مَضْمُون هَذِه الْحِكَايَة أَنَّ الصَّوْت البليغ فِي الْحُسن قد يُحَرِّك النُّفُوس تحريكًا عَظِيمًا خَارِجًا عَن الْعَادة، وَهَذَا مِمَّا لَا ريبَ فِيهِ، فَإِنَّ الْأَصْوَات تُوجب الحركات الإرادية بحُسنها، وَهِي فِي الأَصْل ناشئةٌ عَن حركات إرادية، وَيخْتَلف تأثيرها باخْتلَاف نوع الصَّوْت وَقدره، بل هِيَ من أعظم المحرِّكات، أَو أعظمها، وَإِذا اتَّفق قُوَّةُ الْمُؤثر واستعداد الْمحلِّ قوي التَّأْثِير.

فالنفوس المستعدّة لصِغَرٍ، أَو أُنوثةٍ، أَو جزعٍ وَنَحْوه، أَو لفراغٍ وَعدم شُغلٍ، أَو ضعف عقلٍ، إِذا اتَّصل بهَا صَوتٌ عَظِيمٌ حسنٌ قويٌّ أزعجها غَايَة الإزعاج، لَكِن هَذَا لَا يدل على جَوَاز ذَلِك، وَلَا فِيهِ مَا يُوجِب مدحه وَحُسنه، بل مثل هَذَا أدلّ على الذَّم والنَّهي مِنْهُ على الْحَمْد والمدح، فَإِنَّ هَذَا يُفْسد النُّفُوس أَكثر مِمَّا يُصلحها، ويضرّها أَكثر مِمَّا ينفعها، وَإِن كَانَ فِيهِ نفعٌ فإثمه أَكثر من نَفعه، وَقد قَالَ اللهُ للشَّيْطَان: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]، فالصَّوت الشَّيطاني يستفزّ بني آدم.

وَقَالَ النَّبِي ﷺ: إِنَّمَا نُهيتُ عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين، وَذكر صَوتَ النَّغمَة وَصَوتَ الْمَعْصِيَة، ووصفهما بالحُمق والفُجور، وَهُوَ الظُّلم وَالْجَهْل.

وقال لقمانُ لابنه: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19]، والمغني بِهَذِهِ الْأَصْوَات لم يغضّ من صَوته، والمتحرِّكون بهَا الرَّاقصون لم يقصدوا فِي مشيهم، بل المصوتون أَتَوا بالأحمق الْجَاهِل الظَّالِم الفاجر من الْأَصْوَات، والمتحرِّكون أَتَوا بالأحمق الْجَاهِل الْفَاحِش من الحركات، وَرُبمَا جمع الْوَاحِدُ بَين هذَيْن النَّوْعَيْنِ، وَجعل ذَلِك من أعظم الْعِبَادَات.

ثمَّ قَالَ أبو الْقَاسِم: سَمِعتُ الشَّيْخ أبا عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن عبدالله بن عبدالْعَزِيز: سَمِعتُ أَبَا عَمْرو الْأنمَاطِي: سَمِعتُ الْجُنَيْد يَقُول، وَسُئِلَ: مَا بَال الْإِنْسَان يكون هادئًا، فَإِذا سمع السَّماع اضْطَربَ؟ فَقَالَ: إِنَّ الله لما خَاطب الذَّرَّ فِي الْمِيثَاق الأول بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]، استفرغت عذوبة سَماع الْكَلَام الْأَرْوَاح، فَإِذا سمعُوا السَّماع حرَّكهم ذكر ذَلِك.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام لَا يُعلم صِحَّته عَن الْجُنَيْد، والجنيد أجلُّ من أَن يَقُول مثل هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا الِاضْطِرَاب يكون لجَمِيع الْحَيَوَان، ناطقه وأعجمه، حَتَّى يكون فِي الْبَهَائِم أَيْضًا، وَيكون للْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ، ثمَّ الِاضْطِرَاب قد يكون لحلاوة الصَّوْت ومحبَّته، وَقد يكون للخوف مِنْهُ وهيبته، وَقد يكون للحزن والجزع، وَقد يكون للغضب.

ثمَّ من الْمَعْلُوم أَنَّ الصَّوْتَ المسموع لَيْسَ هُوَ ذَاك أصلًا، وَلَو سمع العَبْدُ كَلَامَ الله كَمَا سَمعه مُوسَى بن عمرَان لم يكن سَمَاعُه لأصوات الْعباد مُحرِّكًا لذكر ذَلِك، بل الْمَأْثُور أنَّ مُوسَى مقت الْآدَمِيّين لما وقر فِي مسامعه من كَلَام الله.

ثمَّ التَّلَذُّذ بالصَّوت أَمرٌ طبعيٌّ، لَا تعلُّق لَهُ بكونهم سمعُوا صَوتَ الرب أصلًا، ثمَّ إِنَّ أحدًا لَا يذكر ذَلِك السَّماع أصلًا إِلَّا بِالْإِيمَان، وَالنَّاس مُتنازعون فِي أَخذ الْمِيثَاق وَفِي ذَلِك السَّماع بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.

ثمَّ إِنَّ مَذْهَب الْجُنَيْد فِي السَّماع كَرَاهَة التَّكَلُّف لحضوره والاجتماع عَلَيْهِ، وَعِنْده أَنَّ مَن تكلّف السَّماع فُتن بِهِ، فَكيف يُعلله بِهَذَا؟!

وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم ذَلِك فَقَالَ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول: سَمِعتُ الْحُسَيْن بن أَحْمد بن جَعْفَر: سَمِعتُ أَبَا بكر ابن ممشاد: سَمِعتُ الْجُنَيْد يَقُول: السَّماع فتْنَةٌ لمن طلبه، ترويحٌ لمن صادفه.

فَأخْبر أنه فتْنَة لمن قَصده، وَلم يَجعله لمن صادفه مُسْتَحبًّا وَلَا طَاعَةً، بل جعله رَاحَةً، فَكيف يَقُول: إِنَّه أظهر خطاب الْحقِّ الْمُتَقَدّم؟

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: سَمِعتُ الْأُسْتَاذ أَبَا علي الدّقاق يَقُول: السَّماع حرَامٌ على الْعَوامِّ؛ لبَقَاء نُفُوسهم، مُبَاحٌ للزُّهاد؛ لحُصُول مُجاهدتهم، مُسْتَحبٌّ لأصحابنا؛ لحياة قُلُوبهم.

قلتُ: قد قدم أبو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي علي الرُّوذَبَارِي: وَهُوَ قديم، تُوفّي بعد الْعِشْرين وثلاثمئة، صحب الْجُنَيْد والطبقة الثَّانِيَة، وَكَانَ يَقُول: أستاذي فِي التَّصوف الْجُنَيْد، وَفِي الْفِقْه أَبُو الْعَبَّاس ابن سُرَيج، وَفِي الْأَدَب ثَعْلَب، وَفِي الحَدِيث إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ.

وَقَالَ فِيهِ أبو الْقَاسِم: هُوَ أظرف الْمَشَايِخ وأعلمهم بالطَّريقة.

قَالَ: سَمِعتُ الشَّيْخ أَبَا عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ رَحمَه الله يَقُول: سَمِعتُ أَبَا الْقَاسِم الدِّمَشْقِي يَقُول: سُئِلَ أبو عَليٍّ الرُّوذَبَارِي عَمَّن يسمع الملاهي وَيَقُول: هِيَ لي حَلَالٌ؛ لِأَنِّي وصلتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يُؤثِّر فِيَّ اخْتِلَافُ الْأَحْوَال. فَقَالَ: نعم، قد وصل لعمري، وَلَكِن إِلَى سقر.

فَقَوْل الدّقاق: (هُوَ مُبَاحٌ للزهاد؛ لحُصُول مُجاهدتهم) هُوَ الَّذِي أنكره أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي، فَكيف بقوله: (مُسْتَحبّ)؟! وسنتكلم إِن شَاءَ الله على هَذَا.

ثمَّ إِنَّه ذكر بعد هَذَا أَنه سمع الْأُسْتَاذ أَبَا عَليّ الدّقاق رَحمَه الله يَقُول: السَّماع طبعٌ إِلَّا عَن شرعٍ، وخرقٌ إِلَّا عَن حقٍّ، وفتنةٌ إِلَّا عَن عِبْرَةٍ.

وَهَذَا الْكَلَام يُوَافِق قَول الرُّوذَبَارِي، وَيُخَالِف قَوْله: (إِنَّه مُبَاحٌ للزهاد؛ لحُصُول مُجاهدتهم، مُسْتَحبٌّ لِأَصْحَابِنَا؛ لحياة قُلُوبهم)، فَإِنَّهُ جعل كل سَماعٍ لَيْسَ بمشروعٍ فَهُوَ عَن الطَّبْع، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَماع المكاء والتَّصدية لَيْسَ مَشْرُوعًا، فَيكون مسموعًا بالطبع مُطلقًا.

وَقَالَ: سَمِعتُ أَبَا حَاتِم السّجسْتانِي يَقُول: سَمِعتُ أَبَا نصر الصُّوفِي يَقُول: سَمِعتُ الوجيهي يَقُول: سَمِعتُ أبا عَليّ الرُّوذَبَارِي يَقُول: كَانَ الْحَارِثُ بن أسد المحاسبي يَقُول: ثَلَاثٌ إِذا وُجدنَ نمتع بِهنَّ، وَقد فقدناهن: حسن الْوَجْه مَعَ الصيانة، وَحُسن الصَّوْت مَعَ الدّيانَة، وَحُسن الإخاء مَعَ الْوَفَاء.

قلتُ: قد قررت قبل هَذَا الْمَعْنى بِأَنَّ الْحَسنَ فِي الصُّورَة وَالصَّوْت إِن لم يكن مَعَ تقوى الله، وَإِلَّا لم يكن إِلَّا مذمومًا، وَمن الدِّيانَة أَن يكون حسن الصَّوْت، مُسْتَعْملًا فِيمَا أَمر اللهُ بِهِ.

قَالَ أبو الْقَاسِم: وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمِصْرِيّ عَن الصَّوْت الْحسن فَقَالَ: مُخاطبات وإشارات أودعها اللهُ كلَّ طيبٍ وطيبةٍ.

وَسُئِلَ مرّةً أُخْرَى عَن السَّماع فَقَالَ: وَارِد حقّ يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحقّ، فَمَن أصغى إِلَيْهِ بِحَقٍّ تحقق، وَمَن أصغى إِلَيْهِ بِنَفسٍ تزندق.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام لم يُسْندهُ عَن ذِي النُّون، وَإِنَّمَا أرْسلهُ إرْسَالًا، وَمَا يُرْسِلهُ فِي هَذِه الرِّسَالَة قد وُجد كثيرٌ مِنْهُ مَكْذُوبٌ على أصحابه: إِمَّا أَن يكون أَبُو الْقَاسِم سَمعه من بعض النَّاس فَاعْتَقد صدقه، أَو يكون مَن فَوْقَه كَذَلِك، أَو وجده مَكْتُوبًا فِي بعض الْكُتب فاعتقد صِحَّته، وَمَن كَانَ من الْمُرْسِلين لما يَذكرُونَهُ من الْأَوَّلين والآخرين يعْتَمد فِي إرْسَاله لصحيح النَّقْل وَالرِّوَايَة عَن الثِّقَات، فَهَذَا يعْتَمد إرْسَاله، وَأمَّا مَن عُرف فِيمَا يُرْسِلهُ كثيرٌ من الْكَذِب لم يُوثق بِمَا يُرْسِلهُ.

فَهَذَا التَّفْصِيل مَوْجُودٌ فِيمَن يُرْسِل النُّقول عَن النَّاس من أهل المصنّفات، وَمن أَكثر الْكَذِب: الْكَذِبُ على الْمَشَايِخ الْمَشْهُورين، فقد رَأينَا من ذَلِك وَسَمعنَا مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله، وَهَذَا أَبُو الْقَاسِم مَعَ علمه وَرِوَايَته بِالْإِسْنَادِ، وَمَعَ هَذَا فَفِي هَذِه الرِّسَالَة قِطْعَة كَبِيرَة من المكذوبات الَّتِي لَا يُنَازع فِيهَا مَن لَهُ أدنى معرفَة بِحَقِيقَة حَال الْمَنْقُول عَنْهُم.

وَأمَّا الَّذِي يُسْندهُ من الحكايات فِي بَاب السَّماع فعامَّته من كتابين: كتاب "اللمع" لأبي نصر السَّراج، فَإِنَّهُ يَرْوي عَن أبي حَاتِم السّجسْتانِي، عَن أبي نصر، عَن عبدالله بن عَليّ الطوسي. ويروي عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي عَنهُ. وَمن كتاب "السماع" لأبي عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ، قد سَمعه مِنْهُ.

فَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَامُ ثابتًا عَن ذِي النُّون رَحمَة الله عَلَيْهِ، فَالْكَلَام عَلَيْهِ من وَجْهَيْن: من جِهَة الِاحْتِجَاج بالقائل، وَمن جِهَة تَفْسِير الْمَنْقُول.

أما الأول: فقد نقلوا أَنَّ ذَا النُّون حضر هَذَا السَّماع بالعراق.

وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم حِكَايَةً بعد ذَلِك مُرْسلَةً، فَقَالَ: وَحكى أَحْمدُ بْن مُقَاتل العكي قَالَ: لما دخل ذُو النُّون الْمصْرِيّ بَغْدَاد اجْتمع إِلَيْهِ الصُّوفِيَّة، وَمَعَهُ قَوَّال يَقُول شَيْئًا، فاستأذنوه بِأَن يَقُول بَين يَدَيْهِ، فَأذن لَهُ، فابتدأ يَقُول:

صَغِير هَوَاك عذَّبني فَكيف بِهِ إِذا احتنكا
وَأَنت جمعتَ من قلبِي هوى قد كَانَ مُشْتَركا
أما ترثي لمكتئبٍ إِذا ضحك الخلي بَكَى

قَالَ: فَقَامَ ذُو النُّون وَسقط على وَجهه وَالدَّم يقطر من جَبينه وَلَا يَسْقط على الأَرْض، ثمَّ قَامَ رجلٌ من الْقَوْم يتواجد، فَقَالَ لَهُ ذُو النُّون: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:218]، فَجَلَسَ الرَّجل.

قَالَ: وَسمعتُ أَبَا عَليّ الدّقاق يَقُول: كَانَ ذُو النُّون صَاحب إِسْرَافٍ على ذَلِك الرجل، حَيْثُ نبَّهه أَنَّ ذَلِك لَيْسَ مقَامه، وَكَانَ ذَلِك الرجل صَاحب إنصافٍ حَيْثُ قبل ذَلِك مِنْهُ فَرجع وَقعد.

فَهَذَا وَنَحْوه هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّة: كالشَّافعي فِي قَوْله: خلفتُ بِبَغْدَاد شَيْئًا أحدثته الزَّنَادِقَة يُسمونه: التَّغبير، يصدّون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن.

فَيكون ذُو النُّون هُوَ أحد الَّذين حَضَرُوا التَّغبير الَّذِي أنكرهُ الْأَئِمَّة وشيوخ السَّلف، وَيكون هُوَ أحد المتأوِّلين فِي ذَلِك، وَقَوله فِيهِ كَقَوْل شُيُوخ الْكُوفَة وعُلمائها فِي النَّبِيذ، الَّذين اسْتَحَلُّوهُ، مثل: سُفْيَان الثَّوْريّ، وَشريك بْن عبدالله، وَأبي حنيفَة، ومسعر بن كدام، وَمُحَمّد بن عبدالرَّحْمَن ابن أبي ليلى، وَغَيرهم من أهل الْعِلم.

وَكَقَوْلِ عُلَمَاء مَكَّة وشيوخها فِيمَا اسْتَحَلُّوهُ من الْمُتْعَة وَالصَّرْف: كَقَوْل عَطاء ابن أبي رَبَاح، وَابْن جريج، وَغَيرهمَا. وكقول طَائِفَةٍ من شُيُوخ الْمَدِينَة وعُلمائها فِيمَا اسْتَحَلُّوهُ من الحشوش، وكقول طَائِفَةٍ من شُيُوخ الشَّاميين وعُلمائها فِيمَا كَانُوا اسْتَحَلُّوهُ من الْقِتَال فِي الْفِتْنَة لعَلي بن أبي طَالب وَأَصْحَابه، وكقول طوائف من أَتبَاع الَّذين قَاتلُوا مَعَ عَليٍّ من أهل الْحِجاز وَالْعراق وَغَيرهم فِي الْفِتْنَة، إِلَى أَمْثَال ذَلِك مِمَّا تنازعت فِيهِ الْأُمَّة، وَكَانَ فِي كلِّ شقٍّ طَائِفَةٌ من أهل الْعِلم وَالدِّين.

فَلَيْسَ لأحدٍ أَن يحْتَجَّ لأحد الطَّرِيقَيْنِ بِمُجَرَّد قَول أَصْحَابه، وَإِن كَانُوا من أعظم النَّاس علمًا ودينًا؛ لأنَّ المنازعين لَهُم هم أهل الْعِلم وَالدِّين، وَقد قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59]، فالردّ عِنْد التَّنَازُع إِنَّمَا يكون إِلَى كتاب الله وَسُنَّة رَسُوله.

الشيخ: وهذا هو الواجب على جميع الفرق، فليس لأي فرقةٍ حُجَّة على الأخرى، وإنما الواجب على الجميع عند التَّنازع في قولٍ، الواجب عليهم أن يردّوا ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسُّنة، فهما الحكمان اللَّذان لا يجوران؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، ولا يزال النِّزاع موجودًا بين الناس في مسائل كثيرة، فمَن أنصف ردَّ النِّزاع إلى الأدلة الشَّرعية، ومَن جفا أو أفرط ردَّه إلى فلانٍ أو فلانٍ، وهذا غلطٌ، وإنما الحاكم في مسائل النِّزاع هو ما قاله الله ورسوله، لا ما سوى ذلك: لا في السماع، ولا في غير السماع، ولا في المسائل التي أشار إليها المؤلف هنا من الأغاني وغيرها.

نعم إِذا ثَبت عَن بعض المقبولين عِنْد الْأُمَّة كَلَامٌ فِي مثل موارد النِّزاع كَانَ فِي ذَلِك حُجَّة على تقدم التَّنَازُع فِي ذَلِك، وعَلى دُخُول قومٍ من أهل الزُّهْد وَالْعِبَادَة والسُّلوك فِي مثل هَذَا، وَلَا ريبَ فِي هَذَا، لَكِن مُجَرّد هَذَا لَا يُتيح للمُريد الَّذِي يُرِيد اللهَ، وَيُرِيد سلوكَ طَرِيقه أَن يَقْتَدِي فِي ذَلِك بهم، مَعَ ظُهُور النِّزاع بَينهم وَبَين غَيرهم، وإنكار غَيرهم عَلَيْهِم، بل على المريد أَن يَسْلك الصِّرَاط الْمُسْتَقيم؛ صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصِّديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَيتَّبع مَا دلَّ عَلَيْهِ الْكِتابُ وَالسُّنة وَالْإِجْمَاع؛ فَإِنَّ ذَلِك هُوَ صِرَاط الله الَّذِي ذكره ورضي بِهِ فِي قَوْله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وَهَذَا أصلٌ فِي أَنَّه لَا يحْتَجّ فِي مَوَاضِع النِّزاع والاشتباه بِمُجَرَّد قَول أحدٍ مِمَّن نُوزع فِي ذَلِك.

الشيخ: الحقيقة أنَّ ما وقع فيه الصُّوفية من المحن العظيمة والبلاء الكثير الذي شوَّشوا به على الناس، وجعلوه دينًا وقُربةً، حتى هلك فيه مَن هلك إلى يومنا هذا، نسأل الله العافية، سماعهم وتواجدهم وإعراضهم عن الكتاب والسُّنة، وزعمهم أنَّ العبد متى بلغ كذا وكذا سقطت عنه التَّكاليف، كل هذا من البلاء العظيم، والشَّر الكثير.

وجزى الله المؤلف خيرًا، جزى الله المؤلف على تنبيهه خيرًا.

س: قضايا التَّواجد عندهم حتى يفقدوا الشُّعور هذا ادِّعاء أم حقيقة؟

ج: يعني يطيح ...... حقيقة، يغلب عليه الوجد والتَّأثر بالسَّماع والشِّعر، وضرب الموسيقى، وبدون موسيقى، سواء كان قصبًا آلةً من الصّفر، أو الحديد، أو غيره الذي يضربونه مع الشّعر، والأصوات الحسنة، والبُكاء، فيتواجدون ويسقطون، ومثلما قال الشافعي: إنَّ ما أحدثه الزَّنادقة شرٌّ كثيرٌ، أحدثه الجُهَّال الذين ما عندهم بصيرة، وفيهم مَن هو زنديق، لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، يُشوش على الناس، نسأل الله العافية.

س: ...............؟

ج: فيها الطَّيب، وفيها الخبيث، إن كانت سليمةً ليس فيها شيء يُخالف أمر الله فمثل الشِّعر: حسنه حسن، وقبيحه قبيح: إنَّ من الشِّعر حكمةً.

وَأمَّا الْوَجْه الثَّانِي: فَقَوْل الْقَائِل عَن الصَّوْت الْحَسن: مخاطبات وإشارات أودعها اللهُ كلَّ طيبٍ وطيبةٍ، لَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ أنَّ كلَّ صَوتٍ طيبٍ كَائِنًا مَا كَانَ بِأَنَّ الله أودعها مُخاطبات يُخَاطِب بهَا عباده. فَإِنَّ هَذَا القَوْلَ كفرٌ صَرِيحٌ، إِذْ ذَلِك يَسْتَلْزم أَن تكون الْأَصْوَاتُ الطّيبَةُ الَّتِي يستعملها الْمُشْركُونَ وَأهلُ الْكِتاب فِي الِاسْتِعَانَة بهَا على كفرهم قد خَاطب بهَا اللهُ عبادَه، وَأَن تكون الْأَصْوَاتُ الطّيبَة الَّتِي يستفزّ بهَا الشَّيْطَانُ لبني آدم كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64] أَن تكون هَذِه الْأَصْوَات الشَّيطانية إِذا كَانَت طيبَةً قد أودعها مُخاطبات يُخَاطِب بهَا عباده، وَأَن تكون أصوات الملاهي قد أودعها اللهُ مخاطبات يُخَاطِب بهَا عباده.

وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ هَذَا لَا يَقُوله عَاقلٌ، فضلًا عَن أَن يَقُوله مُسلمٌ، ثمَّ لَو كَانَ الأمر كَذَلِك فَلِمَ لم يستمع الْأَنْبِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ من الْأَوَّلين والآخرين إِلَى كل صَوتٍ صَوتٍ، ويأمروا أتباعهم بذلك؛ لما فِي ذَلِك من اسْتِمَاع مخاطبات الْحقِّ؟! إِذْ قد علم أَنَّ اسْتِمَاع مخاطبات الْحقِّ من أفضل القُربات، فقد ظهر أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يجوز أَن يكون عُمُومه وإطلاقه حَقًّا.

يَبْقى أن يُقَال: هَذَا خَاصٌّ ومُقيدٌ فِي الصَّوْت الْحَسن إِذا اسْتُعْمِل على الْوَجْه الْحَسن، فَهَذَا حقٌّ، مثل: أن يزين بِهِ كَلَام الله، كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى الأشعري يفعل، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: مَرَرْتُ بك البارحةَ وَأَنت تَقْرَأ، فَجعلتُ أستمع لقراءتك، فَقَالَ: لَو علمتُ أَنَّك تستمع لحبرتُه لَك تحبيرًا. وَكَانَ عمرُ يَقُول لَهُ: "ذكرنَا رَبَّنَا"، فَيقْرَأ وهم يستمعون.

فَلَا ريبَ أَنَّ ذَا الصَّوْت الْحَسن إِذا تَلا بِهِ كتابَ الله فَإِنَّهُ يكون حِينَئِذٍ قد أودع اللهُ ذَلِك مُخاطبات وإشارات، وَهُوَ مَا فِي كِتَابه من المخاطبات والإشارات، فقد ظهر أَنَّ هَذَا الْكَلَام إِذا حُمل على السَّماع الْمَشْرُوع الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله كَانَ محملًا حسنًا، وَإِن حُمل على عُمُومه وإطلاقه كَانَ كفرًا وضلالًا.

يَبْقى بَين ذَلِك الْعُمُوم وَهَذَا الْخُصُوص مَرَاتِب: مِنْهَا أن يُحمل ذَلِك على مَا يجده المستمعُ فِي قلبه من المخاطبات والإشارات من الصَّوْت، وَإِن لم يَقْصِدهُ المصوت الْمُتَكَلّم، فَهَذَا كثيرٌ مَا يَقع لَهُم، وَأكْثر الصَّادِقين الَّذين حَضَرُوا هَذَا السَّماع يُشيرون إِلَى هَذَا الْمَقْصد، وَصَاحب هَذِه الْحَال يكون مَا يسمعهُ مُذَكِّرًا لَهُ مَا كَانَ فِي قلبه من الْحقِّ، وَهَذَا يكون على وَجْهَيْن:

أَحدهمَا من الصَّوْت الْمُجَرّد الَّذِي لَا حرفَ مَعَه: كأصوات الطُّيُور، والرياح، والآلات، وَغير ذَلِك، فَهَذَا كثير مَا ينزله النَّاس على حُرُوفٍ بِوَزْن ذَلِك الصَّوْت، وَكَثِيرًا مَا يُحَرِّك مِنْهُم مَا يُنَاسِبهَا من فَرحٍ، أَو حُزنٍ، أَو غضبٍ، أَو شوقٍ، أَو نَحْو ذَلِك، كَقَوْل بَعضهم:

رُبَّ وَرْقَاء هتوف فِي الضُّحَى صدحت فِي فنن عَن فنن
رُبمَا أبكي فَلَا أفهمها وَهِي قد تَبْكي فَلَا تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها وَهِي أَيْضًا بالجوى تعرفنِي

وَالثَّانِي يكون من صَوتٍ بحروفٍ منظومةٍ: إِمَّا شعر، وَإِمَّا غَيره، وَيكون المستمع ينزل تِلْكَ الْمعَانِي على حَاله، سَوَاء قصد ذَلِك النَّاظِم والمنشد أَو لم يَقْصد ذَلِك، مثل: أَن يكون فِي الشِّعْر عتابٌ وتوبيخٌ، أَو أَمرٌ بِالصَّبرِ على الملام فِي الْحبِّ، أَو ذمٌّ على التَّقْصِير فِي الْقِيام بِحُقُوق الْمحبَّة، أو تحريضٌ على مَا فُرض للْإِنْسَان من الْحُقُوق، أَو إغضاب وحمية على جِهَاد الْعَدو ومقاتله، أَو أمْر ببذل النَّفس وَالْمَال فِي نيل الْمَطْلُوب ورضا المحبوب، أَو غير ذَلِك من الْمعَانِي المجملة الَّتِي يَشْتَرك فِيهَا محبُّ الرَّحْمَن، ومحبُّ الْأَوْثَان، ومحبُّ الأوطان، ومحبُّ النِّسوان، ومحبُّ المردان، ومحب الإخوان، ومحب الخلَّان.

وَرُبمَا قرع السّمع حُرُوف أُخْرَى لم يَنْطق بهَا الْمُتَكَلّم على وزن حُرُوفه، كَمَا يذكر عَن بَعضهم أَنه سمع قَائِلًا يَقُول: سعتر بري، فَوَقع فِي سَمعه: اسع تَرَ بَري.

وَقد ذكر ذَلِك فِيمَا بعد أبو الْقَاسِم فَقَالَ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الصُّوفِي يَقُول: سَمِعتُ عبدالله بن عَليّ الطُّوسي يَقُول: سَمِعتُ يحيى بن علي الرِّضَا الْعَلوِي قَالَ: سمع ابْن حلوان الدِّمَشْقِي طَوَّافًا يُنَادي: ياه سعتر بري، فَسقط مغشيًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاق سُئِلَ فَقَالَ: حسبته يَقُول: اسع تَرَ بري.

وَسمع عتبَةُ الْغُلَام رجلًا يَقُول:

سُبْحَانَ ربّ السَّمَاء إِنَّ الْمُحبَّ لفي عناء

فَقَالَ عتبَةُ: صدقتَ. وَسمع رجلٌ آخر ذَلِك القَوْل فَقَالَ: كذبتَ، فَكل وَاحِدٍ يسمع من حَيْثُ هُوَ.

لَا سِيمَا وأكثرها إِنَّمَا وُضعت لمحبَّةٍ لَا يُحِبهَا الله وَرَسُوله، مثل بعض هَذِه الْأَجْنَاس، وَإِنَّمَا الْمُدَّعِي لمحبَّة الله وَرَسُوله يَأْخُذ مَقْصُوده مِنْهَا بطرِيق الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس، وَهُوَ الْإِشَارَة الَّتِي يذكرونها؛ وَلِهَذَا قَالَ: مخاطبات وإشارات، فالمخاطبات كدلالة النُّصُوص، والإشارات كدلالة الْقيَاس، وَلَا بُدَّ أَن يكون قد علم أَنَّ تِلْكَ المخاطبات والإشارات إِنَّمَا يفهم مِنْهَا المستمع، ويتحرَّك فِيهَا حَرَكَةً يُحِبهَا الله وَرَسُوله، فَيكون قد علم من غَيرهَا أنَّ مَا يَقْتَضِيهِ من الشُّعُور وَالْحَال مرضي عِنْد ذِي الْجلَال، بِدلَالَة الْكِتاب وَالسُّنة، وَإِلَّا فَإِنَّ مُجَرّد الِاسْتِحْسَان بالذَّوق والوجدان إِن لم يَشْهد لَهُ الْكِتاب وَالسُّنة وَإِلَّا كَانَ ضلالًا.

وَمن هَذَا الْبَابِ ضلَّ طوائف من الضَّالّين، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن الْمَعْلُوم أَنَّ مثل هَذَا جَمِيعه لَا يجوز أَن يجْعَل طَرِيقًا إِلَى الله، وَيجمع عَلَيْهِ عباد الله، وَيُسْتَحبّ للمُريدين وَجه الله؛ لَأنَّ مَا فِيهِ من الضَّرَر هُوَ أضعاف مَا فِيهِ من الْمَنْفَعَة لَهُم، وَلَكِن قد صَادف السِّرّ الَّذِي يكون فِي قلبه حقّ بعض هَذِه المسموعات، فَيكون مُذكرًا لَهُ ومُنَبِّهًا.

وَهَذَا معنى قَول الْجُنَيْد: السَّماع فتْنَةٌ لمن طلبه، ترويح لمن صادفه.

الشيخ: والمقصود من هذا كله أنَّ الصُّوفية أصحاب الطَّرب والتَّصرفات التي تحصل منهم أنها قد تقع منهم أشياء مجملة، وعبارات محتملة، وألفاظ فيها حقٌّ وباطلٌ، فالواجب على مَن سمع ذلك، أو قرأ ذلك، أو سُئل عن ذلك أن يتأمل ويتذكر، ولا يُعطي الجواب المجمل، بل يُفصل بما قد يقع منهم، فما كان حقًّا يُوافق الأدلة قبل، وما لا فلا، وما ذاك إلا لأنهم يصطلحون على عبارات وألفاظ يعرفونها بينهم، فقد يكون فيها حقّ يجهله سامعها من غيرهم، وقد يكون فيها باطلٌ كذلك، فالواجب فيها التَّنبه والتَّبصر وعدم العجلة في جوابهم، أو تفسير ما يُريدون إلا عن بصيرةٍ، وعن تثبُّتٍ، وأن لا يقبل من ذلك إلا ما قامت عليه الأدلة الشَّرعية، ومن ذلك ما ذكر من الأمثلة: قول بعضهم لما سمع مَن يقول:

سبحان مَن في السَّماء إنَّ المحبَّ لفي عناء

فواحدٌ قال: صدق. وواحدٌ قال: كذب. فالمحبّ قد يكون في عناءٍ، وقد يكون في هناء عيشٍ، فالمحبّ لله ولرسله وأوليائه فهو في نعمةٍ وراحةٍ وطُمأنينةٍ، إن استقام على الهدى فهو مرتاح القلب مُطمئن، ومَن يُحب النِّسوان والمردان ففي تعبٍ وعناءٍ وبلاءٍ وشرٍّ كثيرٍ، نعوذ بالله؛ لأنَّ هذا الحبَّ قد يكون يقوده إلى الباطل والفواحش والفساد.

الحاصل أنَّ هذا وأشباهه من الألفاظ التي تقع على ألسنة بعض العباد أو بعض الصُّوفية كلها مُحتملة.

وَأما قَول الْقَائِل: السَّماع وَارِد حقّ يُزعج الْقُلُوب إِلَى الْحقِّ، فَمَن أصغى إِلَيْهِ بِحَقٍّ تحقق، وَمَن أصغى إِلَيْهِ بِنَفسٍ تزندق.

فالسَّماع الْمَوْصُوف أَنه وَارِد حقٍّ الَّذِي يُزعج الْقُلُوب إِلَى الْحقِّ هُوَ أخصّ من السماع الَّذِي قد يُوجِب التَّزندق، فَالْكَلَام فِي ظَاهره مُتناقض؛ لِأَنَّ قَائِله أطلق القَوْلَ بِأَنَّهُ وَارِد حقٍّ يُزعج الْقُلُوب إِلَى الْحقِّ، ثمَّ جعل مَن أصغى إِلَيْهِ بِنَفسٍ تزندق.

ووارد الْحقِّ الَّذِي يُزعج الْقُلُوب إِلَى الْحقِّ لَا يكون مُوجبًا للتَّزندق، لَكِن قَائِله قصد أَولًا السَّماع الَّذِي يَقْصِدهُ أهل الإرادة لوجه الله، فلفظه وَإِن كَانَ فِيهِ عُمُومٌ فَاللَّام لتعريف الْمَعْهُود، أَي: يُزعج قُلُوب أهل هَذِه الْإِرَادَة إِلَى الْحقِّ؛ لكَونه يُحَرِّك تباكيهم، ويهيج باطنهم، فتتحرك قُلُوبهم إِلَى الله الَّذِي يُرِيدُونَ وَجهه، وَهُوَ إلههم، ومعبودهم، ومُنتهى محبوبهم، وَنِهَايَة مطلوبهم.

ثمَّ ذكر أَنه مَن أصغى إِلَى هَذَا السَّماع تزندق، وَهُوَ مَن أصغى إِلَيْهِ بِإِرَادَة الْعُلُوّ فِي الأَرْض وَالْفساد، وَجعل محبَّةَ الْخَالِق من جنس محبَّة الْمَخْلُوق، وَجعل مَا يَطْلب من الِاتِّصَال بِذِي الْجلَال من جنس مَا يَطْلب من الِاتِّصَال بالخلق، فَإِنَّ هَذَا يُوجِب التَّزندق فِي الاعتقادات والإرادات، فَيصير صَاحبه مُنافقًا زنديقًا، وَقد قَالَ عبدُالله بن مَسْعُودٍ: "الْغِناء يُنْبِت النِّفَاق فِي الْقَلب كَمَا يُنْبت المَاءُ البقلَ"؛ وَلِهَذَا تزندق بِالسَّمَاعِ طوائف كَثِيرَة كَمَا نبَّهنا عَلَيْهِ قبل هَذَا.

وَيُقَال هُنَا: من الْمَعْلُوم أَنَّ النَّفس سَوَاء أُرِيد بهَا ذَات الْإِنْسَان، أَو ذَات روحه الْمُدبرَة لجسده، أَو عُني بهَا صِفَات ذَلِك من الشَّهْوَة والنّفرة وَالْغَضَب والهوى وَغير ذَلِك، فَإِنَّ الْبَشر لَا يَخْلُو من ذَلِك قطّ، وَلَو فُرض أَنَّ قلبه يَخْلُو عَن حَرَكَة هَذِه القُوى والإرادات فعدمها شيء، وسكونها شيء آخر، والعدم مُمْتَنعٌ عَلَيْهَا، وَلَكِن قد تسكن، وَلَكِن إِذا كَانَت سَاكِنةً، وَمن شَأْن السَّماع أَن يُحركها، فَكيف يُمكن الْإِنْسَان أَن يسكن الشيء مَعَ مُلابسته لما يُوجِب حركته؟

فَهَذَا أَمرٌ بِالتَّفْرِيقِ بَين المتلازمين، وَالْجَمع بَين المتناقضين، وَهُوَ يُشبه أَن يُقَال لَهُ: أَدَم مُشَاهدَة الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ والأمرد، أَو مُبَاشَرَته بالقُبلة واللَّمس وَغير ذَلِك، من غير أَن تتحرك نَفسُك أَو فرجُك إِلَى الِاسْتِمْتَاع بِهِ وَنَحْو ذَلِك، فَهَل الْأَمر بِهَذَا إِلَّا من أحمق النَّاس؟!

وَلِهَذَا قَالَ مَن قَالَ من الْعُلمَاء العارفين: إِنَّ أَحْوَال السَّماع بعد مُبَاشَرَته تبقى غير مقدورة للْإنْسَان، بل تبقى حَرَكَةُ نَفسه وَأَحْوَالهَا أعظم من أحوال الْإِنْسَان بعد مُبَاشرَة شرب الْخَمر، فَإِنَّ فعل هَذَا السَّماع فِي النُّفُوس أعظم من فعل حميا الكؤوس.

وَقَوله: (مَن أصغى إِلَيْهِ بِحَقٍّ تحقق) فَيُقَال عَلَيْهِ وَجْهَان:

أَحدهمَا: أَن يُقَال: إِنَّ الإصغاءَ إِلَيْهِ بِحَقٍّ مَأْمُون الغائلة أَن يُخالطه بَاطِل أَمرٌ غير مَقْدُورٍ عَلَيْهِ للبشر، أَكثر مِمَّا فِي قُوَّة صَاحب الرِّياضة والصَّفاء التَّام أَن يكون حِين الإصغاء لَا يجد فِي نَفسه إِلَّا طلب الْحقِّ وإرادته، لكنَّه لَا يَثِق بِبَقَائِهِ على ذَلِك، بل إِذا سمع خالط الإصغاء بِالْحَقِّ الإصغاء بِالنَّفسِ؛ إِذْ تجرّد الْإِنْسَان عَن صِفَاته اللَّازِمَة لذاته مُحَالٌ مُمْتَنعٌ.

الثَّانِي أَن يُقَال: وَمن أَيْن يعلم أَنَّ كلَّ مَن أصغى إِلَيْهِ بِحَقٍّ تحقق، بل المصغي إِلَيْهِ بِحَقٍّ يحصل لَهُ من الزَّندقة والنِّفاق علمًا وَحَالًا مَا قد لَا يَشْعر بِهِ، كَمَا قَالَ عبدُالله بن مَسْعُودٍ: "الْغِناء يُنْبت النِّفَاق فِي الْقَلب كَمَا يُنْبت المَاءُ البقل"، والنِّفاق هُوَ الزَّندقة، وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ البقل يَنْبت فِي الأَرْض شَيْئًا فَشَيْئًا، لَا يحسّ النَّاسُ بنباته، فَكَذَلِك مَا يَبْدُو فِي الْقُلُوب من الزَّندقة والنِّفاق قد لَا يَشْعر بِهِ أَصْحَابُ الْقُلُوب، بل يظنون أَنهم مِمَّن تحقق، وَيكون فيهم شبه كثير مِمَّن تزندق.

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ السَّماع الذي اعتاده الصُّوفية وسيلة للزَّندقة والفساد؛ لأنَّ سماعهم للأغاني والدّفوف والرقص، وربما سقط بعضُهم وأُغشي عليهم، وصار أقبح من حال السَّكران؛ لأنَّهم اعتاضوا عن سماع القرآن وسماع السُّنة وسماع ما جاءت به الرسل إلى أغانيهم وأشعارهم الفاسدة، وطبولهم ودفوفهم وأشباه ذلك، فربما جرَّهم ذلك إلى الفساد والوقوع في اللواط والزنا، وغير هذا مما هو أشرّ من فعل الخمر، نسأل الله العافية.

ولهذا جزم العلماءُ بتحريم ذلك، وأنَّ هذا السَّماع من أنكر المنكرات، فليس من المحرَّمات فقط، بل هو من البدع، فهم تعبَّدوا به وجعلوه دينًا وقُربةً، فصار بدعةً ومُحرَّمًا جميعًا: بدعة لأنهم شرعوا في الدِّين ما لم يأذن به، ومُحرَّم لأنه من المعاصي المحرَّمة، فالسَّماع الحقيقي والرِّياضة الحقيقية في إصلاح القلوب، في إقبالها على الله، وسماعها لكتابه العظيم، وتلذذها بسماع القرآن، والمذاكرة فيما أمر اللهُ به، وما نهى عنه، والتَّذكر لما مضى من أحوال الرسل وأتباعهم، هذا هو طريق السَّعادة وطريق الهدى، أما الاعتياض عن ذلك بسماع الأغاني والمردان والنِّسوان، وضرب الطبول، وضرب الدُّفوف، وجعل هذا قُربة وطاعة، فهذا أبعد شيءٍ عن الهدى؛ ولهذا قال ابنُ مسعودٍ : "الغِناء يُنبت النِّفاق في القلب كما يُنبت الماءُ البقلَ"، فهو لا يزال يعتاد الغناء والأشعار في حبِّ فلانٍ وفلانٍ، وفي ذكر محاسن فلانٍ وفلانٍ، حتى يقع في قلبه من الزَّندقة والنِّفاق وبُغض الإسلام وبُغض الدِّين، ومحبَّة اللِّواط والفساد ما لا يخطر بالبال، نسأل الله العافية، فهو يزيد في قلبه شيئًا فشيئًا، مثلما أنَّ النبات يثبت أوله ضعيفًا، صغيرًا، لاصقًا في الأرض، ثم لا يزال يزيد ويقوى حتى يرتفع، فهكذا النِّفاق في القلوب ينبت شيئًا فشيئًا، ينبت قليلًا قليلًا حتى يعظم، حتى ينسلخ صاحبُه من الهدى، نعوذ بالله.

يُوضِّح هَذَا أنَّ دَعْوَى التَّحقق وَالتَّحْقِيق والحقائق قد كثرت على أَلْسِنَة أَقوامٍ هم من أعظم النَّاس زندقةً ونفاقًا، قَدِيمًا وحديثًا، من الباطنية القرامطة، والمتفلسفة الاتِّحادية، وَغير هَؤُلَاءِ.

وَكَذَلِكَ قَوْله: (هُوَ وَارِد حقّ يُزعج الْقُلُوبَ إِلَى الْحقِّ) يُقَال لَهُ: إِن كَانَ قد تنزعج بِهِ بعضُ الْقُلُوب أَحْيَانًا إِلَى الْحقِّ، فالأغلب عَلَيْهِ أَنه يُزعجها إِلَى الْبَاطِل، وقلَّما يُزعجها إِلَى الْحقِّ مَحْضًا، بل قد يُقَال: إِنَّه لَا يفعل ذَلِك بِحَالٍ، بل لا بدَّ أَن يضمَّ إِلَى ذَلِك شيءٌ من الْبَاطِل، فَيكون مُزعجًا لَهَا إِلَى الشِّرك الْجَلِيّ أَو الْخَفي، فَإِنَّ مَا يُزعج إِلَيْهِ هَذَا السَّماع مُشْتَرك بَين الله وَبَين خلقه، فَإِنَّمَا يُزعج إِلَى الْقَدر الْمُشْتَرك، وَذَلِكَ هُوَ الْإِشْرَاك بِاللَّه.

وَلِهَذَا لم يذكر الله هَذَا السَّماع فِي الْقُرْآن إِلَّا عَن الْمُشْركين الَّذين قَالَ فيهم: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35]، فَلَا يكون مُزعجًا للقلوب إِلَى إِرَادَة الله وَحده لَا شريكَ لَهُ، بل يُزعجها إِلَى الْبَاطِل تَارَةً، وَإِلَى الْحقِّ وَالْبَاطِل تَارَةً.

وَلَو كَانَ يُزعج إِلَى الْحقِّ الَّذِي يُحِبّهُ الله خَالِصًا أَو راجحًا لَكَانَ من الْحَسن الْمَأْمُور بِهِ الْمَشْرُوع، ولكان شَرعه رَسُولُ الله ﷺ بقوله أَو فعله، ولكان من سُنة خُلفائه الرَّاشِدين، ولكان الْمُؤْمِنُونَ فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة يَفْعَلُونَهُ، لَا يتركون مَا أحبَّه الله وَرَسُوله، وَمَا يُحَرِّك الْقُلُوبَ إِلَى الله تحريكًا يُحِبّهُ الله وَرَسُوله.

وَأَيْضًا فَهَذَا الإزعاج إِلَى الْحقِّ قد يُقَال: إِنَّه إِنَّمَا قد يحصل لمن لم يَقْصد الِاسْتِمَاع، بل صادفه مُصادفة سَماع شيءٍ يُنَاسِب حَاله، بِمَنْزِلَة الفأل لمن خرج فِي حَاجَةٍ، فَأَمَّا مَن قصد الِاسْتِمَاع إِلَيْهِ والتَّغني بِهِ فقد قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَ منا مَن لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَحكى جَعْفَر بن نصير عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ: تنزل الرَّحْمَة على الْفُقَرَاء فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن: عِنْد السَّماع، فَإِنَّهُم لَا يسمعُونَ إِلَّا عَن حقٍّ، وَلَا يقومُونَ إِلَّا عَن وجدٍ. وَعند أكل الطَّعَام، فَإِنَّهُم لَا يَأْكُلُون إِلَّا عَن فاقةٍ. وَعند مُجاراة الْعِلم، فَإِنَّهُم لَا يَذكرُونَ إِلَّا صفة الْأَوْلِيَاء.

وَذكر عقيب هَذَا فَقَالَ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول: سَمِعتُ الْحُسَيْن بن أَحْمد بن جَعْفَر يَقُول: سَمِعتُ الْجُنَيْد يَقُول: السَّماع فتْنَةٌ لمن طلبه، ترويحٌ لمن صادفه.

وَذكر بعد هَذَا: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول: سَمِعتُ عبدالله بن مُحَمَّد بن عبدالرَّحْمَن الرَّازِيّ يَقُول: سَمِعتُ الْجُنَيْد يَقُول: إِذا رَأَيْتَ المريد يُحبّ السَّماع فَاعْلَم أَنَّ فِيهِ بَقِيَّةً من البطالة.

قلتُ: فهاتان المقالتان أسندهما عَن جُنَيْدٍ، وَأما القَوْل الأول فَلم يُسْندهُ، بل أرْسلهُ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُفسران، وَالْقَوْل الأول مُجمل، فَإِن كَانَ الأول مَحْفُوظًا عَن الْجُنَيْد فَهُوَ يحْتَمل السَّماع الْمَشْرُوع، فَإِنَّ الرَّحْمَة تنزل على أَهله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، فَذكر أَنَّ اسْتِمَاعَ الْقُرْآن سَبَبُ الرَّحْمَة.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الحَدِيث الصَّحِيح: مَا اجْتَمع قومٌ فِي بَيتٍ من بيوت الله يَتلون كتابَ الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة، وتنزلت عَلَيْهِم السَّكينَة، وَحَفَّتْهُم الْمَلَائِكَةُ، وَذكرهم اللهُ فِيمَن عِنْده.

وَقد ذكر اللهُ فِي غير مَوضِعٍ من كِتَابه: أَنَّ الرَّحْمَة تحصل بِالْقُرْآنِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وَقَالَ: هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:203]، وَقَالَ: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً [النحل:89].

يُبين ذَلِك أَنَّ لفظ السَّماع يَدْخل فِيهِ عِنْدَهم السَّماع الشَّرْعِيّ: كسماع الْقُرْآن، والخُطب الشَّرْعِيَّة، والوعظ الشَّرْعِيّ، وَقد أَدخل أَبُو الْقَاسِم هَذَا النَّوْع فِي بَاب السَّماع، وَذكر أَبُو الْقَاسِم هَذَا النَّوْعَ فِي بَاب السَّماع، وَذكر فِي ذَلِك آثارًا فَقَالَ: سَمِعتُ مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي يَقُول: سَمِعتُ عبدالله بن الصُّوفِي يَقُول: سَمِعتُ الرّقي يَقُول: سَمِعتُ ابن الْجَلاء يَقُول: كَانَ بالمغرب شَيْخَانِ لَهما أَصْحَابٌ وتلامذة، يُقَال لأَحَدهمَا: جبلة، وَللثَّانِي: رُزَيْق، فزار رُزَيْق يَوْمًا جبلة، فَقَرَأَ رجلٌ من أَصْحَاب رُزَيْق شَيْئًا، فصاح رجلٌ من أَصْحَاب جبلة صَيْحَةً وَمَات، فَلَمَّا أَصْبحُوا قَالَ جبلةُ لرُزيق: أَيْنَ الَّذِي قَرَأَ بالْأَمْس؟ فليقرأ آيَةً، فَقَرَأَ فصاح جبلةُ صَيْحَةً فَمَاتَ الْقَارئُ، فَقَالَ جبلةُ: وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ، والبادي أظلم.

فَهَذَا من سَماع الْقُرْآن، وَأمَّا الْمَوْت بِالسَّمَاعِ فمسألةٌ أُخْرَى نتكلم عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله فِي موضعهَا.

س: هل نُقل بنقلٍ صحيحٍ أنَّ أحدَ السَّلف أو التابعين مات من سماع القرآن؟

ج: ما بلغنا هذا، وهذه الأسانيد فيها نظر، هذه الأسانيد التي ذكرها أبو القاسم فيها نظر، لا تُعرف، والمعروف عن الصَّحابة أنَّ سماع القرآن للبكاء والخشية، ولا نعرف أنَّ أحدًا غُشي عليه ولا مات أيضًا، إنما هذا يقع للضُّعفاء: ضعفاء القلوب، وضُعفاء البصيرة، وأما أقوياء القلوب وأهل البصائر فيخشعون، لكن لا يكون ذلك سببًا لموتهم، أو ذهاب عقولهم، لا، يخشعون ويطمئنون وتدمع عيونهم ويبكون، كما جرى للنبي ﷺ لما قرأ عليه عبدُالله بن مسعود أول سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال له: حسبك، قال: فالتفت فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام.

وهكذا الصَّحابة لما حدَّثهم على المنبر وأخبرهم أنَّ عبدًا من عباد الله خُيِّر واختار ما عند الله، بكى الصديقُ، ولما مرةً وعظهم وذكَّرهم قال أنسٌ: "فغطُّوا رؤوسَهم ولهم خنينٌ من البُكاء".

فالمقصود أنهم يخشعون ويبكون عند سماع العِظة والذِّكرى، لكن لا نعلم أنَّ أحدًا من الصحابة مات عند ذلك أو غُشي عليه.

س: إذا ذكرت الناس فأُغمي عليه، هذا يدل على ضعف الإيمان؟

ج: هذا يدل على ضعف القلوب، ما يتحمل قلبه من الضَّعف، المؤمنون الأقوياء يسمعون ويخشعون، ولكن لا تذهب عقولُهم.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَسُئِلَ إِبْرَاهِيم المارستاني عَن الْحَرَكَة عِنْدَ السَّماع فَقَالَ: بَلغنِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قصَّ فِي بني إِسْرَائِيل، فمزَّق وَاحِدٌ مِنْهُم قَمِيصَه، فَأوحى الله إِلَيْهِ: قل لَهُ: مزِّقْ لي قَلْبَك، وَلَا تُمزِّق لي ثِيَابَك، فَهَذَا سَماعٌ لقصص الْأَنْبِيَاء.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَسَأَلَ أَبُو عَليٍّ المغازلي الشّبلي فَقَالَ: رُبمَا يَطْرق سَمْعِي آيَة من كتاب الله ، فتحدّوني على ترك الْأَشْيَاء والإعراض عَن الدُّنْيَا، ثمَّ أرجع إِلَى أحوالي وَإِلَى النَّاس؟ فَقَالَ الشّبلي: مَا اجتذبك إِلَيْهِ فَهُوَ عطفٌ مِنْهُ عَلَيْك ولطفٌ، وَمَا ردَّك إِلَى نَفسك فَهُوَ شَفَقَةٌ مِنْهُ عَلَيْك؛ لِأَنَّهُ لَا يَصحّ لَك التَّبري من الْحَول وَالْقُوَّة فِي التَّوَجُّه إِلَيْهِ.

فَهَذَا سَماعٌ فِي الْقُرْآن.

وَقَالَ: سَمِعتُ أَبَا حَاتِم السّجسْتانِي يَقُول: سَمِعتُ أَبَا نصر السَّراج يَقُول: سَمِعتُ أَحْمد بن مقَاتل العكي يَقُول: كنتُ مَعَ الشّبلي فِي مَسْجِدٍ لَيْلَة فِي شهر رَمَضَان، وَهُوَ يُصَلِّي خلف إِمَامٍ لَهُ، وَأَنا بجنبه، فَقَرَأَ الإِمَامُ: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86]، فزعق زعقةً، قلت: طارت روحه. وَهُوَ يرتعد وَيَقُول: بِمثل هَذَا يُخَاطب الأحبّاء. يُردد ذَلِك كثيرًا.

فَهَذَا سَماعُ الْقُرْآن.

الشيخ: وهذا إن صحَّ عن الشّبلي فهو من ضعفه وعجزه وعدم البصيرة.

قَالَ: وَحُكي عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ: دخلتُ على السَّري يَوْمًا فَرَأَيْتُ عِنْده رجلًا مغشيًّا عَلَيْهِ، فَقلتُ: مَا لَهُ؟ فَقَالَ: سمع آيَةً من كتاب الله تَعَالَى. فَقلتُ: تَقْرَأ عَلَيْهِ ثَانِيًا. فقُرئ فأفاق، فَقَالَ لي: من أيْنَ علمتَ هَذَا؟ فَقلتُ: إِنَّ قَمِيص يُوسُف ذهبت بِسَبَبِهِ عينُ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ بِهِ عَاد بَصَرُه. فاستحسن مني ذَلِك.

قَالَ: وَسمعتُ أبا حَاتِم السّجسْتانِي يَقُول: سَمِعتُ أَبَا نصر السَّراج يَقُول: سَمِعتُ عبدالْوَاحِد بن علوان يَقُول: كَانَ شَابٌّ يصحب الْجُنَيْد، فَكَانَ إِذا سمع شَيْئًا من الذِّكْر يزعق، فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْد يَوْمًا: إِن فعلتَ ذَلِك مرّةً أُخْرَى لم تصحبني. فَكَانَ إِذا سمع شَيْئًا يتَغَيَّر ويضبط نَفسه، حَتَّى كَانَ يقطر من كل شَعْرَةٍ من بدنه، فيومًا من الْأَيَّام صَاح صَيْحَةً تلفت بهَا نَفسه.

فَهَذَا سَماعُ الذِّكر، لَا يخْتَصّ بِسَمَاع الشّعْر الملحن.

فَقَوْل الْقَائِل: (تنزل الرَّحْمَةُ عَلَيْهِم عِنْد السَّماع) يَصحّ أن يُرَاد بِهِ هَذَا السَّماع الْمَشْرُوع.

وَقَوله: (لَا يقومُونَ إِلَّا عَن وجدٍ) يَعْنِي: أَنَّهم صَادِقُونَ، لَيْسُوا مُتصنعين بِمَنْزِلَة الْمُظهر للوجد من غير حَقِيقَةٍ، لَكِن قد يُقَال: قَوْله: (لَا يَسْتَمِعُون إِلَّا عَن حقٍّ) هَذَا التَّقْيِيد لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي السَّماع الشَّرْعِيّ، فَإِنَّهُ حقٌّ، بِخِلَاف السَّماع الْمُحدث فَإِنَّهُ يسمع بِحَقٍّ وباطلٍ، فَيُقَال: وَكَذَلِكَ سَماع الْقُرْآن وَغَيره قد يكون رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَقد يكون بِلَا قلبٍ، وَلَا حُضُورٍ، وَلَا تدبُّرٍ، وَلَا فهمٍ، وَلَا ذوقٍ.

وَقد أخبر اللهُ عَن الْمُنَافِقين أَنَّهم إِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كُسَالَى، وَالصَّلَاة مُشْتَمِلَة على السَّماع الشَّرْعِيّ.

وَقد أخبر اللهُ عَن كَرَاهَة الْمُنَافِقين للسَّماع الشَّرْعِيّ فِي غير مَوضِعٍ: كَقَوْلِه: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124- 125].

............ أَن يعمد إِلَى قَولٍ مُجملٍ رُوي عَنهُ بِغَيْر إِسْنَادٍ، فَيُحمل على أَنه مدح هَذَا السَّماع الْمُحدَث.

وَقد روى بعضُ النَّاس أَنَّ الْجُنَيْد كَانَ يحضر هَذَا السَّماع فِي أول عمره، ثمَّ تَركه، وحضوره لَهُ فعل، وَالْفِعْل قد يُسْتَدلّ بِهِ على مَذْهَب الرجل، وَقد لَا يُسْتَدلّ؛ وَلِهَذَا يُنَازع النَّاس فِي مَذْهَب ...