وَأمَّا الْجَمال الْخَاصّ: فَهُوَ سُبْحَانَهُ جميلٌ يُحبّ الْجَمال، وَالْجمال الَّذِي لِلْخَلقِ من الْعِلم وَالْإِيمَان وَالتَّقوى أعظم من الْجَمال الَّذِي لِلْخَلقِ وَهُوَ الصُّورَة الظَّاهِرَة.
وَكَذَلِكَ الْجَمِيل من اللِّبَاس الظَّاهِر، فلباس التَّقْوَى أعظم وأكمل، وَهُوَ يُحب الْجَمال الَّذِي للباس التَّقْوَى أعظم مِمَّا يُحب الْجمال الَّذِي للباس الرِّياش، وَيُحب الْجَمال لِلْخُلُقِ أعظم مِمَّا يُحب الْجَمال الَّذِي لِلْخَلْقِ، كَمَا ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ: أكمل الْمُؤمنِينَ إِيمَانًا أحْسَنهم خلقًا.
الشيخ: والمعنى: إذا كان سبحانه يُحب الجمال والصُّورة الظاهرة من الملابس ونحوها، فمحبَّته للجمال الخُلقي المعنوي -وهو الأخلاق الفاضلة، والصِّفات الحميدة، والأعمال الصالحة- أعظم وأكبر؛ ولهذا قال : وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
وَفِي "صَحِيح مُسلم" عَن النَّواس بن سمْعَان قَالَ: سَأَلتُ رَسُول الله ﷺ عَن الْبرِّ وَالْإِثْم، فَقَالَ: الْبِرُّ حُسن الْخُلُق، وَالْإِثْم مَا حاك فِي نَفسِك وكرهتَ أَن يطَّلع عَلَيْهِ النَّاسُ.
وَفِي السُّنَن عَنهُ أنه قَالَ: أثقل مَا يُوضع فِي الْمِيزَان: الْخُلق الْحسن.
ورُوي عَنهُ أَنه قَالَ لأم سَلمَة: يَا أمّ سَلمَة، ذهب حُسن الْخُلق بِخَير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
الشيخ: ومن هذا الحديث الصحيح قال ﷺ: إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقًا، فحُسن الخلق له شأنٌ عظيمٌ عند الله في الدَّعوة إلى الله، وتوجيه الناس إلى الخير، والصبر على أذاهم، وإعانتهم على الخير، ومُواساتهم، ونفعهم، إلى غير ذلك.
وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ أحبّ خلقه إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، فَإِذا كَانَ أكملهم إِيمَانًا أحْسَنهم خلقًا، كَانَ أعظمهم محبَّةً لَهُ أحْسَنهم خلقًا، والخُلُق: الدِّين، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: على دينٍ عَظِيمٍ.
وَبِذَلِك فسَّره سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَأحمد بن حَنْبَل، وَغَيرهمَا، كَمَا قد بَيَّناهُ فِي غير هَذَا الْمَوضع.
الشيخ: ولهذا قالت عائشةُ: "كان خلقه القرآن" يعني: يعمل به، فالعمل به والأخذ به هو الدِّين.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يبغض الْفَوَاحِشَ، وَلَا يُحِبّهَا، وَلَا يَأْمُر بهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28].
فَإِذا كَانَ الْجمالُ مُتضمِّنًا لعدم مَا هُوَ أحبّ إِلَيْهِ، أَو لوُجُود مَا هُوَ أبْغَض لَهُ؛ لزم من ذَلِك فَوَات مَا فِي الْجمال المحبوب، فَإِذا كَانَ فِي جمال الثِّيَاب بطرٌ وفخرٌ وخيلاء وسرف، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحب كل مختالٍ فخور، وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67]، بل هُوَ يبغض البَطِر الفخور المختال والمسرف، وَقَالَ: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43].
فَلهَذَا قَالَ ﷺ: لَا ينظر اللهُ يَوْم الْقِيَامَة إِلَى مَن جرَّ إزاره خُيَلَاء وبطرًا، فَإِنَّهُ يبغضه فَلَا ينظر إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ فِيهِ جمالٌ، فَإِنَّ ذَلِك غَرِقَ فِي جَانب مَا يبغضه الله من الْخُيَلَاء والبطر.
وَكَذَلِكَ الْحَرِير فِيهِ من السَّرف وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء مَا يبغضه الله، ويُنافي التَّقْوَى الَّتِي هِيَ مَحْبُوب الله، كَمَا ثَبت فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنهُ أَنه نزع فرُّوج الْحَرِير، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقين، وَكَذَلِكَ سَائِر مَا حرَّمه الله وَكَرِهَهُ مِمَّا فِيهِ جمالٌ.
الشيخ: والمقصود من هذا أنه رحمه الله يُريد أنه ﷺ جميلٌ يُحب الجمال، يعني: الجمال الذي ليس فيه ما حرَّمه الله، جمال مما شرعه الله: كاللباس الحسن في الجمعة وغيرها، والعناية بإزالة الأوساخ، ونحو ذلك.
أما إذا كان الجمالُ يُقصد من ورائه الإسراف والتَّبذير، وتعاطي ما حرَّم الله، أو الاستعانة به على ما حرَّم الله من هذا الجانب لم يكن محبوبًا، وإنما يكون محبوبًا إذا كان عونًا على طاعة الله، أو ليس فيه محذورٌ مما حرَّم الله، فإذا تعاطى الجمال على وجهٍ يفخر به، ويتكبر به على الناس، أو على وجه الإسراف والتَّبذير، أو على وجه الاستعانة في ذلك على معاصي الله، والانحراف في الكبائر، والتَّعرض للنِّساء، وما أشبه ذلك من الصور المنكرة، صار هذا منكرًا، وصار بغيضًا إلى الله ، نسأل الله السَّلامة.
فَإِنَّ ذَلِك لاشْتِمَاله على مَكْرُوهٍ أُلحق على مَا فِيهِ مِمَّا يبغضه الله أعظم مِمَّا فِيهِ من محبوبه، ولتفويته مَا هُوَ أحبّ إِلَيْهِ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ الصُّور الجميلة من الرِّجَال وَالنِّسَاء؛ فَإِنَّ أحدهم إِذا كَانَ خلقُه سَيِّئًا -بِأَن يكون فَاجِرًا، أَو كَافِرًا، مُعْلنًا، أَو مُنافقًا- كَانَ البغضُ أَو المقت لخلقه وَدينه مُستعليًا على مَا فِيهِ من الْجَمال، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4]، وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204]، فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا أعجبه صورهم الظَّاهِرَة لِلْبَصَرِ، وأقوالهم الظَّاهِرَة للسَّمع؛ لما فِيهِ من الْأَمر المعجب، لَكِن لما كَانَت حقائقُ أَخْلَاقهم الَّتِي هِيَ أملك بهم مُشْتَمِلَةً على مَا هُوَ أَبْغض الْأَشْيَاء وأمقتها إِلَيْهِ؛ لم يَنْفَعهُمْ حُسن الصُّورَة وَالْكَلَام.
وَقَالَ النَّبِي ﷺ: إِنَّ الله لَا ينظر إِلَى صُوركُمْ، وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم، وَإِنَّمَا ينظر إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة وَالصَّبِيُّ إِذا كَانَ فَاجِرًا، فَإِنَّ ذَلِك يفوت حُسن الْخُلق وَالتَّقوى الَّتِي هِيَ أحبّ إِلَى الله من ذَلِك، وَيُوجِب بُغض الله للفاحشة ولصاحبها ولسيئ الْخُلق، ومقته وغضبه عَلَيْهِ مَا هُوَ أعظم بِكَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ من الْجمال الْمُقْتَضي للمحبَّة.
وَكَذَلِكَ الْقُوَّة، وَإِن كَانَت من صِفَات الْكَمَال الَّتِي يُحِبّهَا الله.
فَإِذا كَانَت الْإِعَانَةُ على الْكُفْر والفجور الَّذِي بغض الله لَهُ، ومقته عَلَيْهِ، وتفويته لما يُحِبّهُ من الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح أعظم بِكَثِيرٍ من مُجَرّد مَا فِي الْقُوَّة من الأمر المحبوب؛ ترجح جَانب البُغض بِقدر ذَلِك.
فَإِذا كَانَت الْقُوَّةُ فِي الْإِيمَان كَانَ الْأَمرُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْمُؤمن الْقَوي خيرٌ وَأحبُّ إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف.
الشيخ: والمقصود بها القوة في الخير، يعني: إيمانه يدعوه إلى أن تكون قوته في الخير: في إنكار المنكر، في بذل العلم، في مُواساة الناس، في إزالة الظلم، إلى غير ذلك، فإذا كانت قوتُه تُستعمل في الشَّر فلا خيرَ فيها، وضرَّت صاحبَها، وهكذا قوله: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26]، إذا كانت القوةُ مع الأمانة، أما إذا كانت القوةُ تُخالف الأمانة، وكان قويًّا في الباطل؛ صارت قوتُه ضررًا عليه، صارت مذمومةً؛ لأنها لم تنفعه، بل ضرَّته، نسأل الله العافية.
وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ الله يُحبّ الْحَسَنَات وَأَهْلهَا، وَيبغض السَّيِّئَات وَأَهْلهَا، فَهُوَ يُحبّ كلَّ مَا أَمر بِهِ أَمر إِيجَابٍ، أَو أَمر اسْتِحْبَابٍ، وكل مَا حَمده وَأَثْنى عَلَيْهِ من الصِّفَات، مثل: الْعِلم، وَالْإِيمَان، والصِّدق، وَالْعَدْل، وَالتَّقوى، وَالْإِحْسَان، وَغير ذَلِك.
وَيُحبّ المقسطين، وَيُحبّ التَّوابين، وَيُحبّ المتطهرين، وَيُحبّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص.
وَيبغض الْكُفْر وأنواعه، وَالظُّلم، وَالْكَذب، وَالْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن، وَلَا أحد أغير مِنْهُ، وكل مَا حرَّمه يبغضه، فَإِذا كَانَ مَعَ الْجَمال أَو غَيره مِمَّا فِيهِ وَجه محبَّةٍ مَا هُوَ بغيضٌ من الْفَوَاحِش، أَو الْكَذِب، أَو الظُّلم، أَو غير ذَلِك، كَمَا ذكره فِي قَوْله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فَإِنَّ ذَلِك يفوت مَا هُوَ أحبّ إِلَى الله من الْجمال بِكَثِيرٍ، وَيُوجِب من مقت الله وبُغضه مَا هُوَ أعظم بِكَثِيرٍ مِمَّا لمُجَرّد الْجَمال من الْحبِّ، وَيُوجِب النَّهْي عَمَّا يُوجِب هَذِه السَّيِّئَات الْكَثِيرَة، ويُفوت الْجَمال الْأَفْضَل، وَهُوَ كَمَال الْخُلق وَحُسنه، وَمَا فِي ذَلِك من الْحَسَنَات، وَكَانَ مَا فِي ذَلِك من المبغضات وَترك المحبوبات راجحًا على الْحبِّ الَّذِي للجمال.
وعَلى هَذَا يَجْرِي الْأَمرُ على محبَّة الْإِنْسَان للشيء الْجَمِيل من الصُّورَة، وَالنَّظَر إِلَيْهِ، وَمَا يَدْخل فِي ذَلِك من قُوَّة الْحبِّ وَالزِّيَادَة فِيهِ الَّتِي تُسمَّى: الْعِشْق، فَإِنَّ ذَلِك إِذا خلا عَن الْمَفْسدَة الرَّاجحة؛ مثل: أَن يُحبّ الْإِنْسَان امْرَأَته وجاريته حبًّا مُعتدلًا، أَو يُحبّ مَا لَا فتْنَةَ فِيهِ: كحبِّه للجميل من الدَّوَابّ وَالثِّيَاب، وَيُحبّ وَلَده وأباه وَأمَّه وَنَحْو ذَلِك من محبَّة الرَّحِم، كنوعٍ من الْجَمال، الْحبّ المعتدل؛ فَهَذَا حسنٌ.
أمَّا إِذا أحبَّ النِّسَاء الأجانب، أَو المردان، وَنَحْو ذَلِك؛ فَهَذَا الْحبُّ مُتَضَمّن للمحبة الحيوانية، وَلَيْسَ فِي ذَلِك مُجَرّد محبَّة الْجمال، والمحبَّة الحيوانية مِمَّا يبغضها الله ويمقتها، وتوابعها منهي عَنْهَا مَعَ ذَلِك، سَوَاء كَانَ مَعَ الْمحبَّة فعلُ الْفَاحِشَة الْكُبْرَى، أَو كَانَت للتَّمتع بِالنَّظرِ، وَالسَّمَاع، وَغير ذَلِك.
فالتَّمتع مُقَدِّمَات الْوَطْء، فَإِن كَانَ الْوَطْءُ حَلَالًا حلَّت مُقدِّماته، وَإِن كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا حرمت مُقدِّماته، وَإِن كَانَ فِي ذَلِك رفضٌ للجمال، كَمَا فِيهِ رفضٌ للذة الْوَطْء الْمُحرَّم؛ فَإِنَّ مَا فِي ذَلِك مِمَّا يبغضه الله ويمقت عَلَيْهِ أعظم مِمَّا فِي مُجَرّد الْجَمال من الْحبِّ المتضمن، وَذَلِكَ مُتَضَمّن لتفويت محابِّ الله من التَّقْوَى، والعفاف، والإقبال على مصَالح الدِّين وَالدُّنْيَا أعظم بِكَثِيرٍ مِمَّا فِيهَا من مُجَرّد حبِّ الْجَمال؛ فَلِهَذَا كَانَت هَذِه مذمومةً، مَنْهِيًّا عَنْهَا، حَتَّى حرَّم الشَّارِعُ النَّظر فِي ذَلِك بلذَّةٍ وشهوةٍ، وَبِغير لَذَّةٍ وشهوةٍ إِذا خَافَ النَّاظرُ الْفِتْنَةَ.
والفتنة مخوفة فِي النَّظر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة الْحَسَنَة، والأمرد الْحسن فِي أحد قولي الْعُلمَاء الَّذِي يُصَحِّحهُ كثيرٌ من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا، وَهَذَا قد يخْتَلف باختلاف الْعَادَات والطَّبائع، وَأمَّا النَّظر للْحَاجة من غير شَهْوَةٍ وَلَا لَذَّةٍ فَيجوز.
وَلِهَذَا لم يَأْمُر الله وَلَا رَسُوله وَلَا أهل الْعِلم وَالْإِيمَان بعشق الصُّور الجميلة، وَلَا أثنوا على مَا كَانَ كَذَلِك، وَكَذَلِكَ الْعُقَلَاء من جَمِيع الْأُمَم، وَلَكِن طَائِفَة من المتفلسفة والمتصوفة تَأمُر بذلك وتُثني عَلَيْهِ؛ لما فِيهِ زَعَمُوا من إصْلَاح النَّفس ورياضتها، وتهذيب الْأَخْلَاق، واكتساب الصِّفَات المحمودة من السَّماحة والشَّجاعة وَالْعِلم والفصاحة والاختيال، وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور.
حَتَّى أَنَّ طَائِفَةً من فلاسفة الرّوم وَالْفُرس وَمَن اتَّبعهم من الْعَرَب تَأمُر بِهِ، وَكَذَلِكَ طَائِفَة من المتصوفة، حَتَّى يَقُول أحدُهم: يَنْبَغِي للمُريد أَن يتَّخذ لَهُ صُورَةً يجْتَمع قلبُه عَلَيْهَا، ثمَّ ينْتَقل مِنْهَا إِلَى الله.
وَرُبمَا قَالُوا: إِنَّهُم يشْهدُونَ الله فِي تِلْكَ الصُّورَة. وَيَقُولُونَ: هَذِه مظَاهر الْجَمال. ويتأوَّلون قَوْله ﷺ: إِنَّ الله جميلٌ يُحبُّ الْجَمال على غير تَأْوِيله.
فَهَؤُلَاءِ وأمثالهم مِمَّن يَدْخل فِي ذَلِك يَزْعمُونَ أَنَّ طريقَهم مُوَافقٌ لطريق الْعَقل وَالدِّين والخُلُق، وَإِن اندرج فِي ذَلِك من الْأُمُور الْفَاحِشَة مَا اندرج.
وَهَؤُلَاء لَهُم نصيبٌ من قَوْله تَعَالَى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28].
لَكِن الْعَرَبَ الَّذين كَانُوا سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة إِنَّمَا كَانَت فاحشتُهم الَّتِي قَالُوا فِيهَا مَا قَالُوا: طوافهم بِالْبَيْتِ عُرَاةً؛ لاعتقادهم أَنَّ ثِيَابَهم الَّتِي عصوا الله فِيهَا لَا تصلح أَن يُعبد الله فِيهَا، فَكَانُوا يُنَزِّهون عبَادَةَ الله عَن مُلامسة ثِيَابهم، فيقعون فِي الْفَاحِشَة الَّتِي هِيَ كشف عَوْرَاتهم.
الشيخ: وهذا أصله الجهل، الدَّاء العُضال هو الجهل، فإنهم يقولون: ثيابٌ عصينا اللهَ فيها لا نطوف بها. فيستعيرون من الحمس ثيابًا، أو يلبسون شيئًا جديدًا. وليس كل أحدٍ عنده ذلك؛ فلهذا يطوفون عُراةً، حتى النساء، وهذا من الجهل والمنكر العظيم الذي ذمَّه وعابه، وظنوه دينًا.
كذلك ما وقع لبعض الصُّوفية من عشق الصور، والتَّمتع بالصور الجميلة من النِّساء والمردان، حتى وقعوا في الفواحش والمحرَّمات، وزعموا أنَّهم بذلك يستدلون على عظمة الله، وعلى مَن خلق هذا الشيء، وجعل فيه هذا الجمال، فيستدلون به بزعمهم بمعرفة الله، وهذا من الجهل والضَّلال، فإنَّ هذا جرَّهم إلى الوقوع في الفواحش والمنكرات، نسأل الله السَّلامة والعافية.
وَأمَّا هَؤُلَاءِ فَأَمرهم أجلّ وَأعظم؛ إِذْ غَايَة مَا كَانَ أُولَئِكَ يَفْعَلُونَ طواف الرِّجَال وَالنِّسَاء عُرَاةً مُختلطين، حَتَّى كَانَت الْمَرْأَةُ مِنْهُم تَقول:
الْيَوْم يَبْدُو بعضُه أَو كُله | وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أُحلّه |
الشيخ: يعني فرجها، نسأل الله العافية.
وَلم يكن ذَلِك الِاخْتِلَاط والاجتماع إِلَّا فِي عبَادَةٍ ظَاهِرَةٍ، لَا يَتَأَتَّى فِيهَا فعلُ الْفَاحِشَة الْكُبْرَى، وَلم يقصدوا بالتَّعري إِلَّا التَّنزه من لِبَاس الذُّنُوب بزعمهم.
فَالَّذِينَ يَجْتَمعُونَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والمردان لسَمَاع المكاء والتَّصدية، ويُطفئون المصابيح حَتَّى لَا يرى أحدُهم الآخر، حَتَّى اجْتَمعُوا على غناءٍ وزنا ومطاعم خبيثة، وَجعلُوا ذَلِك عبَادَةً، فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ من أُولَئِكَ بِلَا ريبٍ، فَإنَّ هَؤُلَاءِ فتحُوا أَبْوَابَ جَهَنَّم، كَمَا روى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ الله ﷺ: مَا أَكثر مَا يُدْخِل النَّاسَ النَّار؟ فَقَالَ: الأجوفان: الْفَمّ والفرج، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسنٌ صَحِيحٌ.
س: قوله: وإذا كان النَّظر بغير شهوةٍ ولا لذَّةٍ فيجوز؟!
ج: يعني إذا كان مثلًا في الطُّرقات مع المردان، ما قصد الشَّهوة، وإنما نظرة لحاجةٍ، ليس في نفسه شيء، ولا في قلبه شيء. وهكذا النَّظر العارض إلى النِّساء فلا يضرّه، أما إذا تعمَّد النَّظر فهو يُنكر نفسه من جهة النِّساء والمردان، أما النظر العارض الذي دعت إليه الحاجات من اتِّخاذه صاحبًا وصديقًا يتمتع بجماله، فهذا يضرّ دون شكٍّ.
س: ما ذكره من حال الصُّوفية وجعلهم هذا عبادةً، هل يُعدّ من الكفر بالله؟
ج: لا، بدعة، من جهة أنَّهم ابتدعوا في الدِّين ما لم يأذن به الله.
وَكَذَلِكَ رُوي عَنهُ أَنه قَالَ: أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم شهوات الغي فِي بُطونكم وفُروجكم، ومُضلات الْفِتَن.
وَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة: أَنَّ رَسُول الله ﷺ قَالَ: حُجِبَت النَّارُ بالشَّهوات، وحُجِبَت الْجنَّةُ بالمكاره. وَفِي رِوَايَة مُسلمٍ: حُفَّت مَكَان حُجِبَتْ.
وَإِذا كَانَت النَّارُ محجوبةً ومحفوفةً بالشَّهوات لم يَدْخل النَّار إِلَّا بهَا، وَإِذا كَانَت الْجنَّةُ محجوبةً ومحفوفةً بالمكاره لم يَدْخل الْجنَّةَ إِلَّا بهَا.
وَفِي "صَحِيح البُخَارِيّ" عَن سهل بن سعدٍ، عَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: مَن يضمن لي مَا بَين لحيَيْهِ وَمَا بَين رجلَيْهِ أضمن لَهُ الْجنَّة، وَمَا بَين لحيَيْهِ يتَنَاوَل الْكَلَام وَالطَّعَام.
كَمَا ثَبت فِي "الصَّحِيحَيْنِ" من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ: أَنَّ رَسُول الله ﷺ قَالَ: مَن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلْيَقل خيرًا أَو ليصمُت.
فَبيَّن ﷺ أَنه مَن ضمن لَهُ هذَيْن ضمن لَهُ الْجنَّة، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ من هذَيْن يَدْخل النَّار.
الشيخ: وهذا يُبين خطر اللِّسان، وخطر الفرج، وخطر المآكل والمشارب؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: يقول ﷺ: مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة يعني: عن الله ؛ لأنه رسول الله، فهذا يدل على خطر ما بين اللَّحيين، وهو اللسان، وهكذا الفم، وهو مدخل الطعام والشراب.
فالواجب أن يحذر التَّساهل بالمأكل والمشرب والكلام، وهكذا ما بين الرِّجلين، وهو الفخذ، فمَن صان فرجَه، وحفظ لسانه، وحفظ مأكله ومشربه، وابتعد عن الكسب الحرام؛ فهو من أهل الجنة لهذا الحديث الصَّحيح.
وَلِهَذَا حرَّم الله الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن، وَحرَّم أَيْضًا انتهاك الْأَعْرَاض، وَجعل فِي الْقَذْف بالفاحشة من الْعُقُوبَة الْمُقدرَة -وَهِي حدّ الْقَذْف- ثَمَانِينَ جلدَةً.
وَبَيَّن ﷺ أَنَّ الزِّنَا من الْكَبَائِر، وَأَنَّ قذف الْمُحْصنَات الْغَافِلَات من الْكَبَائِر، وَهُوَ من نوع الْكَبَائِر؛ إِذْ لم يَأْتِ عَلَيْهِ الْقَاذِفُ بأَرْبعَة شُهَدَاء، وَإِن كَانَ قد وَقع فَإِنَّهُ أظهر مَا يُحبّ الله إخفاؤه.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:19].
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح قَالَ النَّبِي ﷺ: كل أُمَّتِي معافًى إِلَّا المجاهرين، وَإِنَّ من المجاهرة أَن يَعْمل الرجلُ بِاللَّيْلِ عملًا ثمَّ يُصبح وَقد ستره اللهُ عَلَيْهِ فَيَقُول: يَا فلَان، عملتُ البارحةَ كَذَا وَكَذَا. بَات يستره ربُّه، وَيُصْبِح يَكْشِف ستره.
وَقَالَ: مَن ابتُلِيَ من هَذِه القاذورات بشيءٍ فليستتر بستر الله، فَإِنَّهُ مَن يُبْدِي لنا صفحتَه نُقِم عَلَيْهِ كتابَ الله.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن صَفْوَان بن محرز: أَنَّ رجلًا سَأَلَ ابْنَ عمر: كَيفَ سَمِعت النَّبِي ﷺ يَقُول فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: يدنو أحدُكُم من ربِّه حَتَّى يضع كنفَه عَلَيْهِ، فَيَقُول: عملتَ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُول: نعم. وَيَقُول: عملتَ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُول: نعم. فيُقرره، ثمَّ يَقُول: سترتها عَلَيْك فِي الدُّنْيَا، وَأَنا أغفرها لَك الْيَوْم.
وَلِهَذَا يكثر وُقُوع النَّاس فِي أحد هذَيْن الذَّنبين: فَمن النَّاس مَن يُبتلى بالفاحشة، وَإِن كَانَ ممسكًا عَن الْكَلَام، وَمن النَّاس مَن يُبْتَلى بالْكلَام والاعتداء على غَيره بِلِسَانِهِ، وَإِن كَانَ عفيفًا عَن الْفَاحِشَة.
وَأَيْضًا فَإِنَّ من الْكَلَام المنهي عَنهُ: الْخَوْض فِي الدِّين بالبدع والضَّلالات، مَعَ تضمنه لشَهْوَة الطَّعَام، وَمَا بَين الفرجين يتَضَمَّن أقوى الشَّهَوَات، وَذَلِكَ من الِاسْتِمْتَاع بالخلاق فِي الدُّنْيَا، كَمَا جمع اللهُ تَعَالَى بَينهمَا بقوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69].
الأول يتَضَمَّن الشُّبُهَات، وَالثَّانِي يتَضَمَّن الشَّهَوَات. الأول يتَضَمَّن الدِّين الْفَاسِد، وَالثَّانِي يتَضَمَّن الدُّنْيَا الْفَاجِرَة.
وَكَانَ السّلفُ يُحذِّرون من هذَيْن النَّوْعَيْنِ: من المبتدع فِي دينه، والفاجر فِي دُنْيَاهُ.
كلٌّ من هذَيْن النَّوْعَيْنِ وَإِن لم يكن كفرًا مَحْضًا، فَهَذَا من الذُّنُوب والسَّيئات الَّتِي تقع من أهل الْقِبْلَة.
وجنس الْبِدَع وَإِن كَانَ شرًّا، لَكِن الْفُجُور شَرٌّ من وَجهٍ آخر، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَاجِر الْمُؤمن لَا يَجْعَل الْفُجُور شرًّا من الْوَجْه الآخر الَّذِي هُوَ حرَامٌ مَحْضٌ، لَكِن مَقْرُونًا باعتقاده لتحريمه، وَتلك حَسَنَةٌ فِي أصل الِاعْتِقَاد.
وَأما المبتدع فَلَا بُدَّ أن تَشْتَمل بدعته على حقٍّ وباطلٍ، لَكِن يعْتَقد أنَّ باطلها حقٌّ أَيْضًا، فَفِيهِ من الْحُسن مَا لَيْسَ فِي الْفُجُور، وَمن السيئ مَا لَيْسَ فِي الْفُجُور، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ.
فَمَن خلص من الشَّهَوَات الْمُحرَّمَة والشَّهوات المبتدعة وَجَبت لَهُ الْجنَّة، وَهَذِه هِيَ الثَّلَاثَة: الْكَلَام المنهي عَنهُ، وَالطَّعَام المنهي عَنهُ، وَالنِّكَاح المنهي عَنهُ.
فَإِذا اقْتَرن بِهَذِهِ الْكَبَائِر استحلالها كَانَ ذَلِك أمرًا.
الشيخ: أمرًا وإلا كفرًا؟
الطالب: أمرًا.
الشيخ: حطّ عليها إشارة، مَن استحلَّها كفر، لعلها "كفرًا" أو أمرًا آخر أعظم، فالكلام فيه شيء؛ لأنَّ الذي يستحلّ الزِّنا ويستحلّ المعاصي كفر، نسأل الله العافية.
فَإِذا اقْتَرن بِهَذِهِ الْكَبَائِر استحلالها كَانَ ذَلِك أمرًا، فَكيف إِذا جُعلت طَاعَةً وقُربةً وعقلًا ودينًا؟!
وَهَؤُلَاء هم الَّذين يَسْتَحقُّونَ عُقُوبَةَ أمثالهم من الْأُمَم، كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه يكون فِي هَذِه الْأمة مَن يُمسخ قردةً وَخَنَازِير، وكما رُوِيَ أَنه سَيكون فِيهَا خسفٌ وَقذفٌ ومسخٌ.
وَقَالَ بعضُ السَّلف فِي قَوْله تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83] أَي: من ظالمي هَذِه الْأُمة.
وَفِي ذَلِك من الْأَحَادِيث مَا يضيق هَذَا الْمَوضع عَن ذكره، وَفِي عامَّتها يذكر استحلالهم لَهَا.
وأصل الضَّلال والغي من هَؤُلَاءِ الَّذين يستحسنون عشق الصُّور، ويحمدونه، ويأمرون بِهِ -وَإِن قيَّدوه مَعَ ذَلِك بالعفَّة- أَنَّ الْمحبَّة هِيَ أصل كل حَرَكَةٍ فِي الْعَالم، فَالنَّفْس إِذا لم يكن فِيهَا حَرَكَة، وَلَا هِيَ قَوِيَّة الهمة والإرادة؛ حَتَّى تحصل لَهَا محبَّة شَدِيدَة، كَانَت تِلْكَ المنهيات عَنْهَا هِيَ أصُول الشَّرّ، وَهِي الَّتِي إِذا ظَهرت قَامَت السَّاعَة.
كَمَا فِي الصَّحِيح عَن أنسٍ أَنه قَالَ: لأُحدِّثنَّكم حَدِيثًا لَا يُحدِّثكموه أحدٌ بعدِي، سمعتُه من النَّبِي ﷺ، سَمِعتُ النَّبِي ﷺ يَقُول: إِنَّ من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يُرفع الْعِلم، وَيَظْهر الْجَهْل، وَيُشْرب الْخَمر، وَيَظْهر الزِّنَا، ويقلّ الرِّجَال، وتكثر النِّسَاء، حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَةً قيِّمٌ وَاحِدٌ، فَمن ظُهُور الْجَهْل ظُهُور الْكَلَام فِي الدِّين بِغَيْر علمٍ.
الشيخ: وهذا وقع من أزمان طويلةٍ كثيرة، ولا يزال يقع، لا يزال العلمُ يقلّ، ولا يزال شربُ الخمر يكثر، ولا يزال أيضًا يفشو الزنا -نعوذ بالله- في الناس بسبب ضعف الإيمان، وقلة العلم، وظهور أسباب الفواحش: من تبرج النساء، وإظهارهن المحاسن، واختلاطهن بالرجال، فيكثر هذا كله، نسأل الله العافية، ويقل الرجال تارةً لقلة الأولاد الذكور، وتارةً لما قد يقع من الحروب التي تقضي على الرجال، وتارةً بأسبابٍ أخرى، نسأل الله العافية.
فَمن ظُهُور الْجَهْل: ظُهُور الْكَلَام فِي الدِّين بِغَيْر علمٍ، وَهُوَ الْكَلَام بِغَيْر سُلْطَانٍ من الله، وسلطان الله كِتَابه.
وَمن ظُهُور الزِّنَا: ظُهُور اللِّواط، وَإِن كَانَ لَهُ اسْمٌ يَخُصُّهُ، فَهُوَ شَرّ نَوْعي الزِّنَا؛ وَلكَون ظُهُور شهوات الغي -الْبَطن والفرج- هِيَ أغلب مَا يُدْخل النَّاس النَّار، كَمَا ذكر ذَلِك النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا أَخْرجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يسرق السَّارِقُ حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يشرب الْخَمر حِين يَشْربهَا وَهُوَ مُؤمن، وَالتَّوْبَة معروضة بعد.
وَالسَّرِقَة بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ أعظم مَقْصُود الْأكل؛ وَلِهَذَا يُعبر عَن أخذه بِالْأَكْلِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188].
وَهَذِه الثَّلَاثَة هِيَ الَّتِي يَعْقد الْفُقَهَاء فِيهَا أَبْوَاب الْحُدُود: بَاب حدّ الزِّنَا، بَاب حدّ السَّرقَة، بَاب حدّ شُرب الْخمر، وَرَابِعهَا: بَاب حدّ الْقَذْف، مندرجة فِيمَا بَين لحييْهِ وَبَين رجلَيْهِ.
وَقد روى هَذَا الحَدِيثَ البُخَارِيّ عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: لَا يَزْنِي العَبْدُ حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يسرق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يشرب الْخَمر حِين يشرب وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يقتل وَهُوَ مُؤمن.
قَالَ عِكْرِمَةُ: قلتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيفَ يُنْزع الْإِيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ: هَكَذَا. وَشَبَّك بَين أَصَابِعه، ثمَّ أخرجهَا. فَإِن تَابَ عَاد إِلَيْهِ هَكَذَا. وَشَبَّك بَين أَصَابِعه.
فَإِذا اقْتَرن بِهَذِهِ الْكَبَائِر تِلْكَ الْمحبَّة فِي نفس صَاحبهَا فَإِنَّهَا توجِب حركتها وَقُوَّة إرادتها.
الشيخ: والمعنى هو الإيمان الواجب الذي يردعه عن المعاصي، وليس معناه أنه يرتد كما تقوله الخوارج، بل يردعه الإيمانُ الوازع، إنما وقع في هذه المعاصي لاستيلاء الشَّهوة عليه، فقلَّ إيمانه، وضعف إيمانه الذي يردعه، فمعه أصل إيمانه الذي به حُكم بإسلامه؛ ولهذا قال أهلُ السُّنة والجماعة: إنَّ المراد به المؤمن الإيمان الواجب الذي يردع عن المعاصي، وليس المراد أنه بمجرد الزنا والسَّرقة وشُرب الخمر يرتد عن الإسلام، كما تقوله الخوارج، لا، بل عنده أصل الإسلام، ولكنه على خطرٍ من تعاطي هذه المنكرات التي يُقام عليه بها الحدّ: كحد الزاني، وحد السارق، وربما أفضى به التَّساهل بها إلى أن يستحلّها -نعوذ بالله- فيرتد عن دينه.
فَإِذا اقْتَرن بِهَذِهِ الْكَبَائِر تِلْكَ الْمحبَّة فِي نفس صَاحبهَا فَإِنَّهَا توجِب حركتها وَقُوَّة إرادتها، فيُعطي من المَال مَا لم يكن يُعْطِيهِ، وَيُقدم على مخاوف لم يكن يُقدم عَلَيْهَا، ويحتال وَيُدبر مَا لم يكن يحتاله ويُدبره قبل ذَلِك، وَيصير والهًا من التَّفكر وَالنَّظَر مَا لم يكن قبل ذَلِك، فَلَمَّا رَأَوْا مَا فِيهِ من هَذِه الْأُمُور الَّتِي هِيَ من جنس المحمودات حمدوه بذلك، وَهَذَا من جنس مَن حمد الْخَمر لما فِيهَا من الشَّجَاعَة وَالْكَرم وَالسُّرُور وَنَحْو ذَلِك.
وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كلهم لحظوا مَا فِيهَا من جنس المحبوب، وأغفلوا مَا تتضمنه من جنس المذموم، فَإِنَّ الَّذِي يُورثه الْعِشْق من نقص الْعَقل وَالْعِلم، وَفَسَاد الْخُلُق وَالدِّين، والاشتغال عَن مصَالح الدِّين وَالدُّنْيَا أَضْعَاف مَا يتضمنه من جنس الْمَحْمُود.
وأصدق شَاهدٍ على ذَلِك مَا يُعرف من أَحْوَال الْأُمَم، وَسَمَاع أَخْبَار النَّاس فِي ذَلِك، فَهُوَ يُغني عَن مُعَاينَة ذَلِك وتجريبه، وَمَن جرَّب ذَلِك أَو عاينه اعْتَبر بِمَا فِيهِ كِفَايَة، فَلم يُوجَد قطّ عشق إِلَّا وضرره أعظم من منفعَته.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقُشيرِي فِي رسَالَته: وَمن أصعب الْآفَات فِي هَذِه الطَّرِيقَة صُحْبَة الْأَحْدَاث، وَمَن ابتلاه الله بشيءٍ من ذَلِك فبإجماع الشُّيُوخ هَذَا عبدٌ أهانه الله وخذله، بل عَن نَفسه شغله، وَلَو لِأَلف ألف كَرَامَة أَهَّلَه، وهب أَنه بلغ رُتْبَة الشُّهَدَاء؛ لما فِي الْخَبَر من التَّلْوِيح بذلك، أَلَيْسَ قد شُغل ذَلِك الْقَلب بمخلوقٍ؟
وأصعب من ذَلِك تهوين ذَلِك على الْقَلب حَتَّى يعدّ ذَلِك يَسِيرًا، وَقد قَالَ تَعَالَى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
وَهَذَا الوَاسِطِيّ رَحمَه الله يَقُول: إِذا أَرَادَ الله هوانَ عبدٍ أَلْقَاهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الأنتان والجِيَف.
وَقَالَ: سَمِعتُ أَبَا عبدالله الصُّوفِي يَقُول: سَمِعتُ مُحَمَّد بن أَحْمد النَّجار يَقُول: سَمِعتُ أَبَا عبدالله الحصري يَقُول: سَمِعتُ فتحًا الْمَوصِلِي يَقُول: صَحِبتُ ثَلَاثِينَ شَيخًا كَانُوا يُعدّون من الأبدال، فكلهم أوصوني عِنْد فراقي إيَّاهُم وَقَالُوا لي: اتَّقِ مُعاشرة الأحداث ومُخالطتهم.
وَمَن ارْتقى فِي هَذَا الْبَاب عَن حَال الْفِسق، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِك من بلايا الْأَرْوَاح، وَأَنَّه لَا يضرّ، فَمَا قَالُوهُ من وساوس الْقَائِلين بِالسَّمَاعِ، وإيراد حكايات عَن بعض الشُّيُوخ، كَانَ الأولى بهم إسبال السّتْر على هناتهم وآفاتهم، فَذَلِك نَظِير الشِّرك، وقرين الْكُفْر.
فليحذر المريد من مُجالسة الْأَحْدَاث ومُخالطتهم، فَإِنَّ الْيَسِير مِنْهُ فتح بَاب الخذلان، وبدء حَال الهجران، ونعوذ بِاللَّه من قَضَاء السُّوء.
الشيخ: والأحداث: الشباب المردان، فإنَّهم فتنة كفتنة النِّساء أو أعظم، نسأل الله العافية.
وَهنا أصلٌ عَظِيمٌ نَافِعٌ يجب اعْتِبَاره، وَهُوَ أنَّ الْأُمُور المذمومة فِي الشَّرِيعَة -كَمَا ذَكرْنَاهُ- هُوَ مَا ترجح فَسَاده على صَلَاحه، كَمَا أَنَّ الْأُمُور المحمودة مَا ترجّح صَلَاحُه على فَسَاده، فالحسنات تغلب فِيهَا الْمصَالح، والسَّيئات تغلب فِيهَا الْمَفَاسِد، والحسنات دَرَجَات بَعْضُهَا فَوق بعضٍ، والسَّيئات بَعْضُهَا أكبر من بعضٍ، فَكَمَا أَنَّ أهل الْحَسَنَات ينقسمون إِلَى: الْأَبْرَار الْمُقْتَصِدِينَ، والسَّابقين المقرَّبين، فَأهل السَّيِّئَات ينقسمون إِلَى: الْفُجَّار الظَّالِمين، وَالْكُفَّار المكذِّبين، وكل من هَؤُلَاءِ هم دَرَجَات عِنْد الله.
وَمن الْمَعْلُوم أَنَّ الْحَسَنَات كلما كَانَت أعظم كَانَ صَاحبُهَا أفضل، فَإِذا انْتَقل الرجلُ من حَسَنَةٍ إِلَى أحسن مِنْهَا كَانَ فِي مزِيد التَّقْرِيب، وَإِن انْتَقل إِلَى مَا هُوَ دونهَا كَانَ فِي التَّأَخُّر وَالرُّجُوع، وَكَذَلِكَ السَّيِّئَات كلما كَانَت أعظم كَانَ صَاحبهَا أولى بِالْغَضَبِ واللَّعنة وَالْعِقَاب.