الشيخ: لعلها بالنصب.
لأنَّ بينهم حسدًا كحسد النُّفُوس على زريبة الْغَنم، وَيُقَال: فلَان وَفُلَان يتصاولان على الرياسة تصاول الفحلين. فَلَا ريب أنَّ فحول الْبَهَائِم تتغاير وتتحاسد وتتصاول على إناثها، يَطْلب كلٌّ مِنْهَا من الآخر أن لَا يُزاحمه، كَمَا يتغاير الفحول الآدميون على مناكحهم، وَهَذَا فِيمَا أمر اللهُ بِهِ مُحرّم، كَمَا قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تقاطعوا، وَلَا تدابروا، وَكُونُوا عباد الله إخوانًا، وَكَذَلِكَ شبّه تغاير الضَّراير.
لَكِن هُنَا قد يَعْتَرض أمرٌ فِيهِ شُبْهَة، وَهُوَ أن يكون من المعارف والأحوال مَا يُقَال فِيهِ أنه لَا يصلح لبَعض النَّاس، فيغار أحدُهم أن تكون تِلْكَ الأمور كَذَلِك المنقوص الَّذِي يصنع مثل ذَلِك، ويصفون الله بالغيرة أن يَجْعَل هَذَا كَهَذا، فَهَذَا قد يكون حَقًّا وإن لم يُسمّ فِي الشَّرْع غيرَة، فإنَّ الله سُبْحَانَهُ يكره وَيبغض أن يكون مَعَ العَبْد مَا يَسْتَعِين بِهِ على مَعْصِية الله دون طَاعَته، وأن يكون مَا جعله للْمُؤْمِنين مَعَ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ يَنْبَغِي أن يكرهوا ذَلِك، فَكل مَا نهى الله عَنهُ وأمر الْمُؤمنِينَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ وإزالته فَهُوَ يكرههُ.
وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، قَالَ طَائِفَةٌ من السَّلف: أمْنَع قُلُوبهم عَن فهم الْقُرْآن.
هَذَا مَا ذكره عَن السّري أنه قُرِئَ بَين يَدَيْهِ: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء:45]، فَقَالَ السّري لأصحابه: أتدرون مَا هَذَا الْحِجاب؟ هَذَا حجاب الْغيرَة، وَلَا أحد أغير من الله تَعَالى، فَهَذَا يُشبه قَوْله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، وَقَوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
فَإِنَّ الله عاقب المعرِض عَن اتِّبَاع مَا بعث بِهِ رسله بالحجاب الَّذِي فِي قُلُوبهم، فَسمّى السّري هَذَا: حجاب الْغيرَة؛ لِأَنَّهُ تَعَالى يكره وَيبغض أن يكون هَؤُلَاءِ الَّذين كفرُوا وفسقوا عَن أمره يُعْطَون مَا يُعطاه الْمُؤمن من الْفَهم لسَبَب هَذِه الْغيرَة الَّتِي وصف الرَّسُولُ بهَا ربَّه، فإنَّ غيرته أن يَأْتِي العَبْدُ مَا حرم عَلَيْهِ، ذكرهَا النَّبِي ﷺ، وَهِي غيرَة على مَا هُوَ من أفعال العَبْد الَّتِي نهى عَنْهَا، وأمَّا هَذِه الْغيرَة فَهِيَ غيرَة على مَا هُوَ من فعل الرب.
وَالنَّبِيّ ﷺ لم يصف اللهَ بأنه يغار على مَا يقدر عَلَيْهِ من الأفعال، وَلَكِن لما رأى السّري أنَّ الشَّيْء المحبوب النَّفس تغار عَلَيْهِ أن يكون فِي غير مَحَلِّه سمَّى ذَلِك: حجاب الْغيرَة، وَالله يُحبّ لِعِبَادِهِ أن يفعلوه من جِهَة كَونهم مأمورين بِهِ، لكنه سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَله بهم، وَلَا يُحبّ مَن يَفْعَله بهم، فَلَا بُدَّ من التَّفْرِيق بَين مواقع الأمر وَالنَّهْي، ومواقع الْقَضَاء وَالْقدر، وإن كَانَت الأفعال الْوَاقِعَة من الْعِباد يشْتَرك فِيهَا الأمر وَالنَّهْي، وأما أحوال الْقَلب وأنفاسه فَإِنَّ الأحوال تحولات الْقَلب وَالنَّفس والهوى الَّذِي يحمل الصَّوْت وأحوال الْقَلب، فهما ألطف مَا فِي الإيمان.
الشيخ: وهذا يدلنا على كلام الصوفية وعلماء أهل السُّوء بأنَّ فيه من الباطل والخطأ الشيء الكثير، وليس كلُّ أحدٍ يفطن له، ولا يفهم مقاصدهم؛ لأنهم يلبسون الحقَّ بالباطل: تارةً بالعمد، وتارةً بالجحد بالنسبة إلى كثيرٍ منهم، وتارةً باصطلاحٍ لهم وضعوه، ليس كل أحدٍ يفهمه؛ فلهذا تقع بينهم الأخطاء الكثيرة، فيغلط الناس فيما ينقلونه عنهم بسبب الجهل باصطلاحاتهم ومُراداتهم، وهذا من أسباب إحداث هذه البدع والخروج عن الطريق الذي سلكه سلفُ الأمة، فأحدثوا اصطلاحات وأشياء ارتضوها لأنفسهم، سببت لهم مشاكل كثيرة، ووقوعًا في بدعٍ كثيرةٍ، حتى أفضى بهم ذلك إلى أن يقعوا في أنواعٍ من الإلحاد والفساد بسبب الجهل وقلَّة البصيرة.
فلا طريقَ للعبد في النَّجاة والصَّلاح والسَّعادة والسَّلامة أحسن من الطريق التي سلكها أصحابُ النبي ﷺ وتلقَّوها عن نبيهم، وتبعهم سلفُ الأمة فأخذوا الأمر على ظاهره وعلى وجهه في الأوامر والنَّواهي في عبارات واضحة، وأساليب بيِّنة، حتى سلك الناسُ صراطًا مستقيمًا واضحًا، وابتعدوا عمَّا حرم الله عليهم، وعمَّا كرهه لهم بألفاظٍ واضحةٍ وعبارات بيِّنةٍ لا تلتبس على مَن قرأ، ولا مَن سمع، والله المستعان.
س: قوله: (فإنَّ بينهم حسدًا كحسد النفوس على زريبة الغنم)، هنا النفوس أو التّيوس؟
ج: السياق قد يقتضي التيوس، ولا مانع من أن النفوس نفوس التيوس، أو نفوس الناس الذين يُريدون أن يأخذوا الغنم ويسرقوها، محتمل.
س: ................؟
ج: قد يقال: آثار هذا. وقد يقال: المراد بهذا أنَّ النفوس لها مقاصد، ولها إرادات، كمثل التيوس التي تريد، فهذا يريد ..، وهذا يريد ..، فيتقاتلان ويتناطحان عليها.
قَالَ أبو الْقَاسِم: ربط الْحقّ بأقدامهم الخذلان، وَاخْتَارَ لَهُم الْبُعد، وأخرجهم عَن مَحل الْقُرب؛ وَلذَلِك يُؤخّرون، وَفِي مَعْنَاهُ أنشدوا:
أنا قصد لمن هويت وَلَكِن | مَا احتيالي لسوء رأي الموالي |
وَقَالَ: وَفِي مَعْنَاهُ قَالُوا: سقيم لَا يُعَاد، ومريد لَا يُرَاد. سَمِعتُ الأستاذ أبا عَليّ يَقُول: سَمِعتُ الْعَبَّاس الْمروزِي يَقُول: كَانَ لي بداية حَسَنَة، فَكنتُ أعرف كم بَقِي بيني وَبَين الْوُصُول إلى مقصودي من الظفر بمُرادي، فَرَأَيْتُ لَيْلَةً من اللَّيَالِي فِي الْمَنَام كأنني أتدهده من حالق جبلٍ، فَأَرَدْتُ الْوُصُول إلى ذروته. قَالَ: فحزنت وأخذني النّومُ، فَرَأَيْتُ قَائِلًا يَقُول: يَا عَبَّاس، الْحقّ لم يُرد مِنْك أن تصل إلى مَا كنتَ طلبتَ، وَلكنه فتح على لسَانك الْحِكْمَة. قَالَ: فَأَصْبَحتُ وَقد ألهمتُ كَلِمَات الْحِكْمَة.
وَقَالَ: سَمِعتُ الأستاذ أبا عَليّ يَقُول: كَانَ شيخٌ من الشُّيُوخ لَهُ حَالٌ وَوقتٌ مَعَ الله، فخفي مُدَّةً لم يُرَ بَين الْفُقَرَاء، ثمَّ ظهر بعد ذَلِك لَا على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْوَقْت، فَسُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: واه! وَقع الْحِجاب.
قَالَ: وَكَانَ الأستاذ أبو عَليّ إذا وَقع شَيْءٌ فِي خلال الْمَجْلس يُشوش قُلُوبَ الْحَاضِرين يَقُول: هَذَا من غيرَة الْحقّ. يُرِيد أن لَا يجري مَا يَجْرِي من صفاء هَذَا الْوَقْت.
وأنشدوا فِي مَعْنَاهُ:
هَمت بإتياننا حَتَّى إذا نظرت | إلى المرآة نهاها وَجههَا الْحَسن |
مَا كَانَ هَذَا جزائي من محاسنها | عذبت بالهجر حَتَّى شفني الْحُزن |
قلتُ: ذكر هَذِه الأمور فِي بَاب الْغيرَة مُضرٌّ، وَمَعَ أنَّ الْحقَّ يغار أن يُعْطي بعض النَّاس مَا يُعْطِيهِ لأوليائه الْمُتَّقِينَ من السَّابِقين والمقرَّبين، فقد سمّوا منع الْحقّ: غيرَة، كَمَا تقدم، لَكِن هَذَا اللَّفْظَ يُشْعر بِأَنَّ الْحقَّ منع ذَلِك العَبْد الْعَطاء الْعَظِيم عِنْدَه، وَكَون العَبْد لَيْسَ أهلًا لَهُ، كَمَا يغار على الْكَرِيمَة أن تتَزَوَّج بِغَيْر الْكُفْء، وَهَذَا الْمَعْنى صَحِيح، كَمَا قَالَ تَعَالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وكما قَالَ تَعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:52- 53].
وَهَذَا الْمَعْنى إذا ذكر العَبْد وظلمه وإقامة الْحجَّة عَلَيْهِ، أوْ بَيَان حِكْمَة الرب وعدله كَانَ حسنًا، فَإِنَّ الله يَقُول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وَهُوَ لَا يمْنَع من ذَلِك مَا يسْتَحقّهُ العَبْد أصلًا، وَلَا يمْنَع الثَّوَاب إلا إذا منع سَببه، وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح، فَأَمَّا مَعَ وجود السَّبَب -وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح- فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه:112].
وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُعْطِي الْمَانِع، لَا مَانع لما أعطى، وَلَا مُعطي لما منع، لَكِن مَنَّ على الإنسان بالإيمان وَالْعَمَل الصَّالح، ثمَّ لم يمنعهُ مُوجِب ذَلِك أصلًا، بل يُعْطِيهِ من الثَّوَاب والقُرب مَا لا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت، وَلَا خطر على قلب بشرٍ، وَحَيْثُ مَنعه ذَلِك فَلَا يَبْقى سَببه، وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح.
وَلَا ريبَ أنه يهدي مَن يَشَاء، ويُضلّ مَن يَشَاء، لَكِن ذَلِك كُله حِكْمَة مِنْهُ وَعدل، فَمَنعه للأسباب الَّتِي هِيَ الأعمال الصَّالِحَة من حكمته وعدله، وأما المسببات بعد وجود أسبابها فَلَا يمْنَعهَا بِحَالٍ إلا إذا لم تكن أسبابًا صَالِحَةً: إما لفسادٍ فِي الْعَمَل، وإما السَّبَب يُعَارض مُوجبه وَمُقْتَضَاهُ، فَيكون لعدم الْمُقْتَضى أوْ لوُجُود الْمَانِع، وإذا كَانَ مَنعه وعقوبته من عدم الإيمان وَالْعَمَل الصَّالح ابْتِدَاءً حِكْمَة مِنْهُ وَعدل، فَلهُ الْحَمد فِي الْحَالين، وَهُوَ الْمَحْمُود على كلِّ حَالٍ، كل عَطاءٍ مِنْهُ فضل، وكل عُقُوبَةٍ مِنْهُ عدل.
وَهَذَا الْمَوضع يغلط فِيهِ كثيرٌ من النَّاس فِي تمثلهم بالأشعار، وَفِي مواجيدهم، فَإِنَّهُم يتمثلون بِمَا يكون بَين الْمُحبِّ والمحبوب، وَالسَّيِّد وَالْعَبْد من الْعِباد من صدق الْمُحبِّ وَالْعَبْد فِي حبِّه، واستفراغه وَسعه، وبحبِّ المحبوب وَالسَّيِّد، وإعراضه وصدّه، كالبيت الَّذِي أنشده حَيْثُ قَالَ:
أنا صبٌّ بِمَن هويت وَلَكِن | مَا احتيالي لسوء رأي الموَالِي |
وَفِي مَعْنَاهُ قَالُوا: سقيم لَا يُعَاد، ومُريد لَا يُرَاد.
وَهَذَا التَّمْثِيل يُشْعر بِأَنَّ العَبْد صَادِق الإرادة، تَامّ السَّعْي، وإنما الإعراض من الْمَولى، وَهَذَا غلطٌ، بل كفرٌ، فَإِنَّ الله يَقُول: مَن تقرَّب إليَّ شبْرًا تقرَّبتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَن تقرَّب إليَّ ذِرَاعًا تقرَّبْتُ إليه باعًا، وَمَن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً.
وَقد أخبر أنه مَن جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أمثالها، وأنه يُضَاعِفهَا سَبْعمِئة ضعف، ويُضاعفها أضعافًا كَثِيرَةً.
وَأخبر أنه مَن همَّ بحسنةٍ كُتبت لَهُ حَسَنَة كَامِلَة، فَإِن عَملهَا كُتبت لَهُ عشر حَسَنَات إلى سَبْعمِئة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَن همَّ بسيئةٍ لم تُكْتَب عَلَيْهِ، فَإِن تَركهَا لله كُتبت لَهُ حَسَنَة كَامِلَة، وإن عَملهَا لم تُكْتب عَلَيْهِ إلا سَيِّئَة وَاحِدَة.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17]، وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه:112]، وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20]، إلى أمثال ذَلِك.
فَكيف يُظنّ أوْ يُقَال: أنَّ العَبْدَ يتَقرَّب إليه كَمَا يتَقرَّب العَبْدُ والمحبُّ الصَّادِق إلى محبوبه وسيده، وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يقربهُ إليه، وَلَا يتَقرَّب مِنْهُ، بل يصدّه ويمنعه، كَمَا يفعل ذَلِك الْمَخْلُوق: إمَّا لبُخله، وإما لتضرره، وإما لغير ذَلِك.
الشيخ: وهذا سُوء ظنٍّ، وقياس له سبحانه على المخلوقين، المخلوقون فيهم الظلم، وفيهم الجهل، وقد يُريدهم الإنسان، وقد يُحبّهم، يقصدهم فيصدّونه، لكن المولى العظيم جلَّ وعلا مَن أراده صادقًا قبله، وزاده من فضله، وأعانه على الخير ؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ، وأخبر كما تقدم أنَّ مَن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وكذلك قوله جلَّ وعلا: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5- 7]، ومَن أقبل عليه جلَّ وعلا واتَّقاه وسارع إلى مراضيه عن إخلاصٍ، وعن صدقٍ، وتباعد عن الموانع، فالله يقبله ويزيده من فضله جلَّ وعلا، ولا يردّه .
وَقد ثَبت عَن النَّبِي ﷺ فِي الصِّحَاح أنه قَالَ: لله أشدّ فَرحًا بتوبة عَبده من أحدكم يرى رَاحِلَته إذا وجدهَا عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه، لمن يكون بتوبة التائب أعظم فَرحًا من الْوَاجِد لطعامه وَشَرَابه ومركبه بعد الْخَوْف المفضي إلى الْهَلَاك، كَيفَ يتَمَثَّل لَهُ بالتَّجني والصدّ والإعراض، وَسُوء رأي الموَالِي، وبحق الله مِمَّا يَفْعَله السَّادة بعبيدهم، والمحبوب مَعَ محبِّه؟!
وَكَيف يتَمَثَّل لَهُ بقَوْلهمْ: سقيم لَا يُعَاد، ومُريد لَا يُرَاد؟!
وَهل فِي الصَّادِقين مَعَ الله سقيمٌ لَا يُعَاد؟!
وَهل أراد اللهَ أحدٌ بِصدقٍ فَلم يُردهُ الله؟!
وَقد ثَبت فِي "صَحِيح مُسلم" أنَّ الله يَقُول: عَبدِي مَرضتُ فَلم تعدني. قَالَ: ربِّ كَيفَ أعودك وأنت ربُّ الْعَالمين؟! فَيَقُول: إنَّ عَبدِي فلَانًا مرض فَلم تعده، أما إنَّك لو عدتَه لَوَجَدْتَنِي عِنْدَه.
وَالله قد أخبر أنه مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى:20]، وَقَالَ: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19].
وَفِي الْجُمْلَة فَهَذَا الْبَاب تَكْذِيبٌ بِمَا وعده الله عباده الصَّالِحين، وَنسبَة الله إلى مَا نزَّه نَفسَه عَنهُ من ظلم الْعِباد بإضاعة أعمالهم الصَّالِحَة بِغَيْر ذَنْبٍ لَهُم وَلَا عدوان، وتمثيل لله بالسيد الْبَخِيل الظَّالِم وَنَحْوه، وإقامة لعذر النَّفس، وَنسبَة لَهَا إلى إقامة الْوَاجِب، فَفِيهِ من الْكِبر وَالدَّعْوَى مَا فِيهِ.
وَالْحقُّ الَّذِي لَا ريبَ فِيهِ أنَّ ذَلِك جَمِيعه لَا يكون إلا لتفريط العَبْد وعُدوانه بِأَن لَا يكون الْعَمَلُ الَّذِي عمله صَالحًا، أَوْ يكون لَهُ من السَّيِّئَات مَا يُؤَخّر العَبْد، وَإِنَّمَا العَبْد ظَالِم جَاهِل، يعْتَقد أنه قد أتى بِمَا يَسْتَوْجِب كَمَال التَّقْرِيب، وَلَعَلَّ الَّذِي أتى بِهِ إنما يَسْتَوْجب بِهِ اللَّعْنَة وَالْغَضَب، بِمَنْزِلَة مَن مَعَه نقد مغشوش، جَاءَ ليَشْتَرِي مَتَاعًا رفيعًا فَلم يبيعوه، فَظنَّ أنهم ظلموه، وَهُوَ الظَّالِم، وَهُوَ فِي ذَلِك شَبيهٌ بِأحد ابْنَي آدم إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
الشيخ: وهذا واقعٌ، قد يظن الإنسانُ أنه مغبون، وأنه مظلوم، وهو الظالم؛ لأنه ما فكَّر في عمله وتقصيره وذنوبه الكثيرة، وهو يُظهر الشَّماتة، ويُظهر الحزن، ويُظهر كذا، وأنه مظلومٌ، وأنه، وأنه، ولا يُفكر في عمله الباطل أو المغشوش، فيحسب أنه على شيءٍ، وهو ليس على شيءٍ.
والمراد أن يُحاسب نفسه، وأن ينظر فيما يُقدم، وأن لا يتَّهم ربَّه؛ فإنَّ ربه جلَّ وعلا هو الجواد الكريم ، فلا بدَّ أن يُحاسِب نفسه حتى يُنقي عمله، يكون عمله خالصًا، وحتى يكون مُوافقًا للشَّريعة، وحتى يكون بعيدًا صاحبه عن الكِبر والعُجب والخيلاء، وإلا قد يعمل عملًا صالحًا قد يُخلص لله، ولكن يُبتلى بالعُجب والكِبر والمنَّة على الله، وأنه فعل، وفعل، وفعل: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
فعلى العبد أن يعمل ويجتهد، ومع هذا يُزري على نفسه، ويتَّهمها بالتقصير، وأنَّ حقَّ الله فوق ذلك .
وعَلى هَذَا الأصل تخرج حِكَايَة عَبَّاسٍ وأمثالها؛ فَإِنَّهُ لم يُعين مَطْلُوبه وَمُرَاده، وَمَا الْعَمَل الَّذِي عمله؟ فقد طلب أمرًا وَلم يَأْتِ بِعَمَلِهِ الَّذِي يصلح لَهُ، وأما كَون الْحقِّ لم يُرد مِنْهُ أن يصل إلى مَطْلُوبه: فقد يكون لعدم استئهاله، وَقد يكون لتضرره لَو حصل لَهُ، وَكم مِمَّن يتشوق إلى الدَّرَجَات الْعَالِيَة الَّتِي لَا يقدر أن يقوم بحقوقها، فَيكون وُصُوله إليها وبالًا فِي حَقِّه.
وَهَذَا فِي أمْر الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة:75- 77].
وغالب مَن يتَعَرَّض للمحن والابتلاء ليرتفع بهَا، ينخفض بهَا؛ لعدم ثباته فِي المحن، بِخِلَاف مَن ابتلاه الْحقُّ ابْتِدَاءً، كَمَا قَالَ تَعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون [الصف:2- 3].
وَقَالَ النَّبِي ﷺ: يَا عبدالرَّحْمَن، لَا تسْأَل الإمارة؛ فإنَّك إن أُعطيتها عَن مَسْأَلَةٍ وُكلتَ إليها، وإن أُعطيتها عَن غير مَسْأَلَةٍ أُعنتَ عَلَيْهَا، وَقَالَ: إذا سَمِعْتُمْ بالطَّاعون بِبَلَدٍ فَلَا تقدمُوا عَلَيْهِ، وإذا وَقع بِأَرْضٍ وأنتم بهَا فَلَا تَخْرجُوا فِرَارًا مِنْهَا.
قَالَ أبو الْقَاسِم: وَاعْلَمُوا أنَّ من سنة الْحقِّ مَعَ أوليائه أنَّهم إذا ساكنوا غيرًا، أو لاحظوا شَيْئًا، أو ضاجعوا بقلوبهم شَيْئًا شوّش عَلَيْهِم ذَلِك، فيغار على قُلُوبهم بِأَن يُعِيدهَا خَالِصَةً لنَفسِهِ، فارغةً عَمَّا ساكنوه.
وَقَالَ: سَمِعتُ السّلمي يَقُول: سَمِعتُ أبا زيد الْمروزِي الْفَقِيه يَقُول: سَمِعتُ إبراهيم بن سِنَان: سَمِعتُ مُحَمَّد بن حسان يَقُول: بَيْنَمَا أنا أدور فِي جبل لبنان إذ خرج علينا رجلٌ شَابٌّ قد أحرقته السُّمُوم والرِّياح، فَلَمَّا نظر إليَّ ولَّى هَارِبًا، فتبعتُه وَقلتُ لَهُ: تعظني بِكَلِمَةٍ. فَقَالَ: احذروه فَإِنَّهُ غيور، لَا يُحبّ أن يرى فِي قلب عَبده سواهُ.
وَقَالَ: سَمِعتُ السّلمي يَقُول: سَمِعتُ النَّصراباذي يَقُول: الْحقُّ غيورٌ، وَمن غيرته أنه لم يَجْعَل إليه طَرِيقًا سواهُ.
قلتُ: هَذِه الْغيرَة تدخل فِي الْغيرَة الَّتِي وصفهَا النَّبِيُّ ﷺ إذ قَالَ: غيرَة الله أن يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم عَلَيْهِ، وأعظم الذُّنُوب أن تجْعَل لله ندًّا وَهُوَ خلقك، وَتجْعَل مَعَه إلهًا آخر.
والشِّرك مِنْهُ جليل، وَمِنْه دَقِيق، فالمقتصدون قَامُوا بِوَاجِب التَّوْحِيد، وَالسَّابِقُونَ المقرَّبون قَامُوا بمستحبِّه مَعَ واجبه، وَلَا شَيْء أحبّ إلى الله من التَّوْحِيد، وَلَا شَيْء أبغض إليه من الشِّرك؛ وَلِهَذَا كَانَ الشِّركُ غير مَغْفُورٍ، بل هُوَ أعظم الظُّلم.
وَقد قَالَ النَّبِي ﷺ: مثل الْمُؤمن مثل الخامة من الزَّرْع: تفيئها الرِّيَاح، تَارَةً تميلها، وتعدلها أخرى، وَمثل الْمُنَافِق كَمثل شَجَرَة الأرز: لَا تزَال ثابتةً على أصلها حَتَّى يكون انجعافها مرّةً وَاحِدَةً، فَالله تَعالى يبتلي عَبده الْمُؤمن ليُطهره من الذُّنُوب والمعايب.
الشيخ: يعني كالخامة من الزرع تفيئها الريح هكذا وهكذا وهكذا، فالمؤمن يُبتلى بأنواع المصائب، أما الكافر والمنافق فمثل شجرة الأرز، شجرة معروفة، لا تزال قائمةً حتى تنجعف مرةً واحدةً، وهكذا الغالب على الكفرة والمنافقين السَّلامة والصحة والعافية حتى يهجم عليهم الأجلُ، نسأل اللهَ السَّلامة.
وَمن رَحمته بِعَبْدِهِ المخلص: أن يصرف عَنهُ مَا يغار عَلَيْهِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وكما قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].
فإذا صرف عَنهُ مَا يغار عَلَيْهِ مِنْهُ كَانَ ذَلِك من رَحمته بِهِ، واصطفائه إياه، وإن كَانَ فِي ذَلِك مشقَّة عَلَيْهِ، فَهُوَ تَارَةً يمنعهُ مِمَّا يكرههُ لَهُ، وَتارَةً ليُطهره مِنْهُ بالابتلاء، فإذا كَانَ يغار من ذَلِك، فإذا فعل العَبْدُ مَا يغار عَلَيْهِ فقد يُعَاقِبهُ على ذَلِك بِقدر ذَنبه.
الشيخ: والمعنى في هذا أنه سبحانه قد يحمي عبده فضلًا منه وإحسانًا عن الذنوب، ولا يقع في المهالك والمعاصي والشُّرور؛ فضلًا من الله وإحسانًا، وغيرةً من الله على عبده أن يقع في محارمه، وقد يُبتلى بالزلة والهفوة، فيُبتلى بشيءٍ من الأمراض والمصائب ليُطهره من هذه المعائب، وليرجع إلى ربِّه بالتوبة والإنابة ويتنبَّه، فتارةً يُبتلى بالعافية والصحة والسلامة والاستقامة، والشُّكر لله، والقيام بحقِّه، فهذه نعمة السَّراء، وتارةً يُبتلى بنعمة الضَّراء؛ ليبتعد عمَّا حرَّمه الله عليه، وليُحاسب نفسه، وينظر في عيوبه، لعله يتطهر مما قد وقع منه من الزَّلات والأخطاء.
كَمَا قَالَ أبو الْقَاسِم: وَحكي عَن السّري أنه قَالَ: كنتُ أطلب رجلًا صديقًا مرّةً من الأوقات، فمررتُ فِي بعض الْجبَال، فَإِذا أنا بِجَمَاعَة زمنى ومرضى وعميان، فَسَأَلتُ عَن حَالهم، فَقَالُوا: هَاهُنَا رجلٌ يخرج فِي السّنة مرّةً فيدعو لَهُم، فيجدون الشِّفَاء. فَصَبَرتُ حَتَّى خرج ودعا لَهُم، فوجدوا الشِّفَاء، فقفوتُ أثره، وتعلَّقتُ بِهِ، وَقلتُ لَهُ: بِي عِلّة باطنة، فَمَا دواؤها؟ فَقَالَ: يَا سري، خلِّ عني؛ فَإِنَّهُ غيور، لَا يراك تُساكن غَيره فَتسقط من عينه.
وَهَذَا من قَوْله تَعَالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22]، وَقَوله: فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء:213]، وَقَوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، وَقَوله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65- 66]، وَقَوله: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وَقَوله: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42].
وأما مقَام الرجل وأمثاله فِي ذَلِك الزَّمَان بجبل لبنان: فإنَّ جبل لبنان وَنَحْوه كَانَ ثغرًا للْمُسلمين؛ لكَونه بساحل الْبَحْر، مجاورًا لِلنَّصَارَى، بِمَنْزِلَة عسقلان والإسكندرية، وَغَيرهمَا من الثُّغور، وَكَانَ صالحو الْمُسلمين يُقِيمُونَ بالثُّغور للرباط فِي سَبِيل الله، وَمَا ورد من الآثار فِي فضل هَذِه الْبِقَاع فلفضل الرِّبَاط فِي سَبِيل الله.
وأما بعد غَلَبَة النَّصَارَى عَلَيْهَا والقرامطة وَالرَّوَافِض فَلم يَبْقَ فِيهَا فضلٌ، وَلَيْسَ بِهِ فِي تِلْكَ الأوقات أحدٌ من الصَّالِحين، وَلَا يُشرع فِي ديننَا سُكْنى الْبَوَادِي وَالْجِبَال إلا عِنْدَ الْفِرَار من الْفِتَن؛ إذ كَانَ الْمُقِيم بِالْمِصْرِ يلجأ إليها عِنْد الْفِتْنَة فِي دينه، فيُهاجر إلى حَيْثُ لَا يُفتن، فَإِنَّ المُهَاجر مَن هجر مَا نهى اللهُ عَنهُ.
وَقد بسطنا هَذَا فِي غير هذا الْمَوضع.
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ المشروع بقاء المسلم مع إخوانه في القرى والأمصار، والتَّعاون على البر والتَّقوى، والتناصح، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وتعليم العلم، وتعلم العلم، والتَّفقه في الدِّين، ولا يُشرع الخروج إلى البوادي، ويدع ساحات المسلمين والتَّعاون معهم إلا إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك، كما في الحديث الصحيح: أنه يكون في آخر الزمان يُوشك أنَّ خير مال المرء المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن. إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأنَّ الأمصار خربت والقرى بسبب الشَّر وكثرة الفساد، وخاف الإنسانُ على دينه، وخرج إلى البوادي لهذا الأمر، فهذا من باب الاحتياط والحرص على سلامة الدين.
وهكذا الحديث الآخر لما سُئل ﷺ: مَن خير الناس؟ قال: مؤمن يُجاهد في سبيل الله، قيل: ثم مَن؟ قال: مؤمن في شعبٍ من الشِّعاب يعبد الله ويدع الناسَ من شرِّه، يعني: عند الحاجة إلى هذا، وعند خوفه على نفسه، فوجوده بين المسلمين وتعاونه معهم هذه سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهم مع الناس يُخالطونهم ويدعونهم إلى الله، ويُبلغونهم رسالات الله، وينصحون لهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهون عن المنكر، حتى يظهر الحقُّ، وحتى ينتشر الحقُّ، وحتى يُجاهد الباطل.
س: أيش معنى يا شيخ: الشِّرك صغيره وكبيره، وخفيّه ودقيقه؟
ج: على ظاهره، الشرك أنواع: الشرك الأكبر معروف: عبادة الأوثان، والتَّعلق بالأصنام، ودعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات، هذا كله شرك أكبر ظاهر، ومنه دقيقٌ: ما يكون في القلوب من الرِّياء، وطلب محمدة الناس وثنائهم، فقد يتعبد أو يُصلي أو يصوم أو يقرأ عند الناس، وسرّه في قلبه؛ ليُثنوا عليه ويحمدوه، وقد يقرأ لذلك، وقد يذهب إلى محلات ليُثنى عليه بالذَّهاب إليها: كحلقات العلم، أو المساجد البعيدة؛ ليُصلي فيها، لا لقصد وجه الله، بل للرِّياء.
فالشِّرك يكون فيه أشياء دقيقة تكون في القلوب، ما يعلمها إلا علَّام الغيوب ، من أنواع الرياء؛ ولهذا قال في الحديث الآخر -حديث أبي سعيد- ألا أُخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجلُ فيُصلي فيُزين صلاتَه لما يرى من نظر الرجل إليه، وفي اللَّفظ الآخر: مَن سمَّع سمَّع اللهُ به، ومَن راءى راءى اللهُ به.
فالحاصل أنَّ الشرك فيه الخفي، وفيه الجلي، فيه الدَّقيق، وفيه الكبير، فالدَّقيق ما يكون في القلوب، ما يكون في بعض الألفاظ التي لا يفطن لها الناس، والشِّرك الظاهر ما يراه الناس ويسمعونه: كدعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات، وسبّ الإسلام، والطَّعن في الإسلام، وسبّ الأنبياء، أشياء واضحة، نسأل الله العافية، وما يكون من الشِّرك الخفي مثل ما قد يشتبه على الناس، مثل: ما شاء الله وشاء فلان، لولا الله والنبي، والأمانة، هذا يخفى على بعض الناسن ولا ينتبه أنه شرك؛ ولهذا يقع في كلام الناس كثيرًا الحلفُ بغير الله، وقول "ما شاء الله وشاء فلان" لجهلهم وقلَّة علمهم.
قلتُ: فقد ظهر أنَّهم يعنون بغيرة الْحقِّ نَحْو مَا وصف بِهِ الرَّسُول ﷺ أنَّ من غيرته على عَبده أن يَأْتِي مَحَارمه، فَيدْخلُونَ فِي ذَلِك مَا لَا يُحِبّهُ من فضول الْمُبَاح، وَقد يعنون بهَا غيرته على مواجده وعطاياه الَّتِي لأوليائه أن يَضَعهَا فِي غير محلِّهَا، فَجعلُوا الْغيرَة تَارَةً فِي أَمْرِه وَنَهْيه، وَتارَةً فِي قَضَائِهِ وَقدره.
وأمَّا الْغيرَة من أهل الطَّرِيق فقد يَعْنِي بهَا الْمَعْنى الشَّرْعِيّ، وَهُوَ أن يغار الْمُؤمنُ أن تُنتهك محارمُ الله، ويُدخلون فِي ذَلِك إباء المقرّبين من غيرتهم أن يكون الشَّيْء من أمورهم لغير الله، وَذَلِكَ قد يَعْنِي بهَا أن يغار الإنسانُ على محابِّ الْحقِّ ومرضاته أن تكون فِي غير محلِّهَا، وَهَذَا قريب.
وَقد يَعْنِي بهَا أن يغار الإنسانُ أن يُشَارِكهُ غَيره فِي طَرِيق الْحقِّ ومواهبه، وَيكون هَذَا حسدًا واستكبارًا وشبهًا بغيرة الضَّرائر على الرجل، أو غَيرة الفحول على الأُنْثَى.
الشيخ: وهذا من أبطل الباطل: كونه يغار أنَّ أحدًا يُشاركه في طلب العلم، وفي كثرة الصلاة، أو في كثرة الصيام، أو في الجهاد، فهذا حسدٌ وبغيٌ لا يجوز هذا، وهو يُشبه غيرة النِّساء على أزواجهنَّ، ويُشبه غيرة الفحول من التيوس والجمال على الأنثى، فلا يجوز، بل الواجب أن يحبّ أن يكثر الناسُ في الخير، يحب أن يُشاركوه في الخير، يحب أن يرى الناس يتسابقون إلى الخير، ولا يحسدهم على هذا، بل لا يُحب لهم ترك هذا الشيء.
ولكن حسد الغبطة لا بأس به؛ كونه يحب أن يفعله مثلهم في الخير: يُحب أن يقرأ كما قرأوا، يحب أن يُجاهد كما جاهدوا، يُحب أن يتصدق كما تصدَّقوا، فهذا طيب، أما أنه يكره أن يُشاركوه، ويُحبّ أن ينفرد بكونه هو الذي يعبد الله وحده، وهو الذي يستقل وحده دون الناس، فهذا حسد بغيٍ ومُنكر.
الشيخ: هذا من الجهل، نعوذ بالله.
قَالَ: وَفِي الْمَعْنى أنشدوا:
إني لأحسد ناظري عليكا | حَتَّى أغضَّ إذا نظرتُ إليكا |
وأراك تخطر فِي شمائلك الَّتِي | هِيَ فتنتي فَأَغَارَ مِنْكَ عليكا |
وكما ذكر فِي بَاب الْمحبَّة فَقَالَ: سَمِعتُ الشَّيْخ أبا عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ يَقُول: سَمِعتُ مَنْصُور بن عبدالله يَقُول: سَمِعتُ الشّبلي يَقُول: الْمحبَّة أن تغار على المحبوب أن يُحِبّهُ مثلك.
وَهَذَا أيضًا وَجهٌ فَاسدٌ جدًّا، وَهُوَ جهلٌ بِاللَّه وَبِمَا يسْتَحقّهُ، وتشبيهٌ لَهُ بالمحبوب من الْبَشر، وَظنٌّ من هَذَا الْقَائِل أنه إذا رأى اللهَ حصل بذلك نقصٌ فِي حقِّ الله أوْ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، فإنَّ الإنسان إنما يغار على محبوبه مِمَّا فِيهِ عَلَيْهِ ضَرَر، أوْ على الْمُحبِّ فِيهِ ضَرَرٌ، فيغار من الشّركَة؛ لما فيها من الضَّرَر، وَقد يغار عَلَيْهِ من نَفسه؛ لاستشعاره بِهِ أن ذَلِك نقصٌ.
وَذَلِكَ كُله مُحَالٌ فِي حقِّ الله، وَمَن قَالَ هَذَا قد يَقُول: أغار عَلَيْهِ من أن أحبّه ومثلي لَا يصلح أن يعبده، وإنما أعبد مَن يعبده. وَنَحْو ذَلِك مِمَّا زيَّنه الشَّيْطَانُ للْمُشْرِكين وأهل الضَّلال؛ وَذَلِكَ أنَّهم قد يُدْخِلُونَ فِي غيرَة الله مَنعه لمواهبه وعطاياه من الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات، وتقرَّبوا إليه بأصناف القربات، كَمَا قد يمْنَع السَّيِّدُ والمحبوبُ عبيدَه ومُحبيه مَا يستحقّونه، وَهَذَا أيضًا جهل بِاللَّه، وَتَكْذيب بوعده، وتجوير لَهُ، وتزكية لنفوسهم، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَفِي الْجُمْلَة فالغيرة المحمودة: إما ترك مَا نهى اللهُ عَنهُ، أوْ ترك مَا لم يَأْمر اللهُ بِهِ وَلَا أوجبه، وَمَن لم يكن فِيهِ أحدُ الْحَالين فَهُوَ مِمَّن فسق عَن أَمْر ربِّه.
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الغيرة تكون بترك المحارم، يغار أن تُنتهك محارم الله، كما جاءت به النصوص.
والمعنى الثاني: يغار أن يُعبد الله بغير ما أمر: بالبدع والشُّرور، فهذا نقصٌ، ولا يجوز للمؤمن أن يتعبد بغير ما شرع الله له، فالمؤمن يغار أن تُنتهك محارم الله، ويغار أن يُعبد الله بغير ما شرع، ويدعو الناس إلى أن يعبدوا الله بما شرعه الله، وأن يحذروا ما حرَّم الله.
أما أن يغار بزعمه أن لا يُعبد معه الله، بل هو الذي ينفرد بالعبادة لله وحده، ويُطيعه وحده، ويُحبّه وحده، ويُصلي وحده، فهذا من أفسد الفاسد، ومن أقبح القبيح، وهو حسدٌ وبغيٌ.
كذلك مَن يغار أن يرى ربَّه، أو أن يُحبّه، فهذا أيضًا من الجهل وانتكاس القلوب، بل من سعادة وتوفيق الله له أن يحب ربه، وأن يجتهد في حبِّه، وأن يفرح برؤيته، وأن يُوصي به، وما جاء به، وطاعة أمره، هكذا يكون المؤمنُ، وهكذا تكون سعادةُ المؤمن.
وَالثَّانيِة: حَال الكُمّل الصَّادِقين.
فَأَمَّا الْغيرَة على مَا لم يُحرمه، أو على مَا أباحه الله لِعِبَادِهِ أن يفعلوه، وَهُوَ لَا يكرههُ، وَلَا يسخطه، فَهُوَ مَذْمُومٌ كُله كَمَا تقدم.
فَهَذِهِ الْغيرَة الاصطلاحية مَن مدحها مُطلقًا فقد أَخطَأ، وَمَن ذمَّها مُطلقًا فقد أَخطَأ، وَالصَّوَاب أن يُحمد مِنْهَا مَا حَمده الله وَرَسُوله، ويُذمّ مِنْهَا مَا ذمَّه الله وَرَسُوله، وَهَذَا يَقع كثيرًا للسَّالكين فِي هَذَا الْخلق وَغَيره، فَإِنَّهُ يلبس الْحقَّ بِالْبَاطِلِ؛ وَلِهَذَا السَّبَب يُنكر كثيرٌ من النَّاس مثل هَذَا الطَّرِيق؛ لما فِيهِ من لبس الْحقِّ بِالْبَاطِلِ، وَالْآخرُونَ يُعظمونه لما فِيهِ من الْحقِّ، وَالصَّوَاب الْفُرْقَان.
الشيخ: ما عندكم واو: والفرقان؟
الطالب: ما عندنا.
الشيخ: كأنها ساقطة الواو: والفُرقان، أي: التَّمييز بين الحقِّ والباطل.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
فصلٌ فِيمَا ذكره الأستاذ أبو الْقَاسِم الْقُشيرِي فِي بَاب الرِّضَا
عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي رَحمَه الله أنه قَالَ: الرِّضَا أن لَا تَسْأَل اللهَ الْجنَّةَ، وَلَا تستعيذ بِهِ من النَّار.
فإنَّ النَّاس تنازعوا فِي هَذَا الْكَلَام: فَمنهم مَن أنكره، وَمِنْهُم مَن قبله، وَالْكَلَام على هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: من جِهَة ثُبُوته عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان.
وَالثَّانِي: من جِهَة صِحَّته فِي نَفسه وفساده.
أمَّا الْمقَام الأول: فَيَنْبَغِي أن يُعلم أنَّ الأستاذ أبا الْقَاسِم الْقُشيرِي لم يذكرهُ عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان بِإِسْنَادٍ، وإنما ذكره مُرْسَلًا عَنهُ فِي رسَالَته، عَن النَّبِي ﷺ وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ والمشايخ وَغَيرهم، تَارَةً يذكرهُ بِإِسْنَادٍ، وَتارَةً يذكرهُ مُرْسَلًا، وَكَثِيرًا مَا يَقُول فِي الرِّسَالَة: وَقيل عَنهُ كَذَا.
ثمَّ الَّذِي يذكرهُ الأستاذ أبو الْقَاسِم بِالْإِسْنَادِ: تَارَةً يكون إسناده صَحِيحًا، وَتارَةً يكون ضَعِيفًا، بل مَوْضُوعًا، وَمَا يذكرهُ مُرْسَلًا ومحذوفًا لقَائِلٍ أولى، وَهَذَا كَمَا يُوجد ذَلِك فِي مُصنفات الْفُقَهَاء؛ فَإِنَّ فِيهَا من الأحاديث والْآثَار مَا هُوَ صَحِيح، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيف، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوع، فالموجود فِي كتب الرَّقَائِق والتَّصوف من الآثار المنقولة فِيهَا الصَّحِيح، وفيهَا الضَّعِيف، وفيهَا الْمَوْضُوع.
وَهَذَا أمْرٌ مُتَّفقٌ عَلَيْهِ بَين جَمِيع الْمُسلمين، لَا يتنازعون فِي أنَّ هَذِه الْكُتب فِيهَا هَذَا، وفيهَا هَذَا، بل نفس الْكُتب المصنفة فِي الحَدِيث والآثار فِيهَا هَذَا وَهَذَا، وَكَذَلِكَ الْكُتب المصنفة فِي التَّفْسِير فِيهَا هذا وَهَذَا، مَعَ أنَّ أهل الحَدِيث أقْرَب إلى معرفَة المنقولات، وَفِي كُتبهمْ هَذَا وَهَذَا، فَكيف غَيرهم؟
والمصنفون قد يكونُونَ أَئِمَّةً فِي الْفِقْه، أو التصوف، أو الحَدِيث، ويروون هَذَا تَارَةً لأَنَّهم لم يعلمُوا أنه كذب، وَهُوَ الْغَالِب على أهل الدّين؛ فَإِنَّهُم لَا يحتجون بِمَا يعلمُونَ أنه كذب، وَتارَةً يذكرُونَهُ وإن علمُوا أنه كذب؛ إذ قصدهم رِوَايَة مَا رُوِيَ فِي ذَلِك الْبَابِ.
وَرِوَايَة الأحاديث المكذوبة مَعَ بَيَان أنَّها كذب جَائِز، وأما رِوَايَتهَا مَعَ الْإِمْسَاك عَن ذَلِك -رِوَايَة عملٍ- فَإِنَّهُ حرَامٌ عِنْد الْعُلمَاء؛ لما ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أنه قَالَ: مَن حدَّث عني بِحَدِيثٍ وَهُوَ يرى أنه كذبٌ فَهُوَ أحدُ الْكَاذِبين.
وَقد فعل ذَلِك كثيرٌ من الْعُلمَاء مُتأولين أنهم لم يكذبوا، وإنما نقلوا مَا رَوَاهُ غَيرُهم، وَهَذَا يسهل إذا رَوَوْهُ ليُعرف أنه رُوي، لَا لأجل الْعَمَل بِهِ والاعتماد عَلَيْهِ.
وَالْمَقْصُود هُنَا أنَّ مَا يُوجد فِي الرِّسَالَة وأمثالها من كتب الْفِقْه والتَّصوف والْحَدِيث من المنقولات عَن النَّبِي ﷺ وَغَيره من السَّلف فِيهِ الصَّحِيح، وَفِيه الضَّعِيف، وَفِيه الْمَوْضُوع.
فَالصَّحِيح الَّذِي قَامَت الدّلَالَة على صدقه، والموضوع الَّذِي قَامَت الدّلَالَة على كذبه، والضَّعيف الذي رواه مَن لم يُعلَم صدقه: إما لسُوء حفظه، وإمَّا لاتِّهامه، وَلَكِن يُمكن أن يكون صَادِقًا فِيهِ؛ فَإِنَّ الْفَاسِقَ قد يصدق، والغالط قد يحفظ.
وغالب أبواب الرِّسَالَة فِيهِ الأقسام الثَّلَاثَة، وَمن ذَلِك: بَاب الرِّضَا، فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ عَن النَّبِي ﷺ حَدِيثًا صَحِيحًا فِي أثناء الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث الْعَبَّاس بن عبدالْمُطلب، عَن النَّبِي ﷺ أنه قَالَ: ذاق طعمَ الإيمان مَن رَضِيَ بِاللَّه رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبيًّا.
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلمٌ فِي "صَحِيحه"، وإن كَانَ الأستاذُ لم يذكر أنَّ مُسلمًا رَوَاهُ، لَكِن رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَذكر فِي أول هَذَا الْبَاب حَدِيثًا ضَعِيفًا، بل مَوْضُوعًا، وَهُوَ حَدِيث جَابر الطَّوِيل الَّذِي رَوَاهُ من حَدِيث الْفَضل بن عِيسَى الرّقاشِي، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، عَن جَابرٍ.
فَهُوَ وإن كَانَ أولَ حَدِيثٍ ذكره فِي الْبَاب، فَإِنَّ حَدِيثَ الْفضل بن عِيسَى من أوهى الأحاديث وأسقطها، وَلَا نزاعَ بَين الأئمة أنه لَا يُعْتَمد عَلَيْهَا، وَلَا يُحْتَجّ بهَا؛ فَإِنَّ الضَّعْف ظَاهرٌ عَلَيْهَا، وإن كَانَ هُوَ لَا يَعْتَمد الْكَذِب، فَإِنَّ كثيرًا من الزهاد وَالْفُقَهَاء لَا يُحْتَج بِحَدِيثِهِمْ لسُوء الْحِفْظ، لَا لاعتماد الْكَذِب.
وَهَذَا الرّقاشِي اتَّفقُوا على ضعفه، كَمَا يعرف ذَلِك أئمة هَذَا الشَّأْن، حَتَّى قَالَ أيوب السّخْتِيَانِيّ: لَو وُلد فضل أخرس لَكَانَ خيرًا لَهُ. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: لَا شَيْء. وَقَالَ الإمام أحْمَد وَالنَّسَائِيّ: هُوَ ضَعِيف. وَقَالَ يحيى بن معِين: رجل سوءٍ. وَقَالَ أبو حَاتِم وأبو زُرْعَة: مُنكر الحَدِيث.
وَكَذَلِكَ مَا ذكره من الآثار، فإنه قد ذكر آثارًا حَسَنَةً بأسانيد حسنةٍ، مثل: مَا رَوَاهُ عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي أنه قَالَ: إذا سلا العَبْدُ عَن الشَّهَوَات فَهُوَ رَاضٍ. فَإِنَّ هَذَا رَوَاهُ عَن شَيْخه أبي عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ بِإِسْنَادِهِ، وَالشَّيْخ أبو عبدالرَّحْمَن كَانَت لَهُ عناية بِجمع كَلَام هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ وحكاياتهم، وصنَّف فِي الأسماء كتاب الطَّبَقَات: "طَبَقَات الصُّوفِيَّة"، وَكتاب "زُهَّاد السَّلف"، وَغير ذَلِك، وصنَّف فِي الأبواب كتاب "مقامات الأولياء"، وَغير ذَلِك، ومُصنفاته تَشْتَمل على الأقسام الثَّلَاثَة.
وَذكر عَن الشَّيْخ أبي عبدالرَّحْمَن أنه قَالَ: سَمِعتُ النصراباذي يَقُول: مَن أراد أن يبلغ مَحلَّ الرِّضَا فليلزم مَا جعل اللهُ رِضَاهُ فِيهِ.
فَإنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَة الْحُسن، فَإِنَّهُ مَن لزم مَا يُرضي الله من امْتِثَال أوامره، وَاجْتِنَاب نواهيه، لَا سِيَّمَا إذا قَامَ بواجبها ومُستحبّها يرضى اللهُ عَنهُ، كَمَا أنَّه مَن لزم محبوبات الله أحبَّه الله، كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ: مَن عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وَمَا تقرَّب إليَّ عَبدِي بِمثل أداء مَا افترضتُ عَلَيْهِ، وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إليَّ بالنَّوافل حَتَّى أُحبَّه، فَإِذا أحببتُه .. الحَدِيث.
وَذَلِكَ أنَّ الرِّضَا نَوْعَانِ:
أحدهما: الرِّضَا بِفعل مَا أمر بِهِ، وَترك مَا نهى عَنهُ، ويتناول مَا أباحه الله من غير تعدٍّ إلى الْمَحْظُور، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:59]، فَهَذَا الرِّضَا وَاجِب.
وَكَذَلِكَ ذمّ مَن تَركه بقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58].
وَالنَّوْع الثَّانِي: الرِّضَا بالمصائب: كالفقر، وَالْمَرَض، والذلِّ، فَهَذَا الرِّضَا مُسْتَحبٌّ فِي أحد قولي الْعُلمَاء، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقد قيل أنه وَاجِبٌ، وَالصَّحِيح أنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الصَّبْر، كَمَا قَالَ الْحسنُ الْبَصْرِيُّ رَحمَه الله: الرِّضَا عَزِيزٌ، وَلَكِن الصَّبر معول الْمُؤمِن.
وَقد رُوي فِي حَدِيث ابْن عَبَّاسٍ: أنَّ النَّبِي ﷺ قَالَ لَهُ: إن اسْتَطَعْتَ أن تَعْمل لله بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِين فافعل، فَإِن لم تَستطع فَإِنَّ فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرًا كثيرًا.
وأمَّا الرِّضَا بالْكُفْر والفُسوق والعصيان فَالَّذِي عَلَيْهِ أئمّة الدِّين أنه لَا يرضى بذلك، فَإِنَّ الله لَا يرضاه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، وَقَالَ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، وقال تعالى: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وَقَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]، وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ [التوبة:68]، وقال: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة:80]، وَقَالَ: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55].
فَإِذا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَا يرضى لَهُم مَا عملوه، بل يسخطه ذَلِك، وَهُوَ يَسْخط عَلَيْهِم، ويغضب عَلَيْهِم، فَكيف يسوغ لِلْمُؤمنِ أن يرضى ذَلِك، وأن لَا يَسْخط ويغضب لما يُسْخط الله ويُغضبه؟!
وإنما ضلَّ هُنَا فريقان من النَّاس:
قومٌ من أهل الْكَلَام المنتسبين إلى السُّنة فِي مُناظرة الْقَدَرِيَّة، ظنُّوا أنَّ محبَّةَ الْحقِّ وَرضَاهُ وغضبه وَسخطه يرجع الى إرادته، وَقد علمُوا أنه مُرِيدٌ لجَمِيع الكائنات، خلافًا للقدرية، وَقَالُوا: هُوَ أيضًا محبٌّ لَهَا، مُرِيدٌ لَهَا. ثمَّ أخذوا يُحرِّفُونَ الْكَلمَ عَن موَاضعه، فَقَالُوا: لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ بِمَعْنى: لَا يُرِيد الْفَساد، أَي: لَا يُريدهُ للْمُؤْمِنين. وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ بِمَعْنى: لَا يُريدهُ. أَي: لَا يُريدهُ للْمُؤْمِنين.
وَهَذَا غلطٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنَّ هَذَا عِنْدَهم بِمَنْزِلَة أن يُقَال: لَا يُحبّ الإيمان، وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الإيمان، بِمَعْنى: لَا يُريدهُ للْكَافِرِينَ، وَلَا يرضاه لِلْكَافِرِينَ.
وَقد اتَّفق أهلُ الإسلام على أنَّ مَا أمر اللهُ بِهِ فَإِنَّهُ يكون مُسْتَحبًّا يُحِبّهُ، ثمَّ قد يكون مَعَ ذَلِك وَاجِبًا، وَقد يكون مُسْتَحبًّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، سَوَاء فعل أو لم يفعل، وَالْكَلَام على هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غير هَذَا الْمَوضع.
والفريق الثاني: من غالطي المتصوفة، شربوا من هَذِه الْعَين، فَشَهِدُوا أنَّ الله ربُّ الكائنات جَمِيعهَا، وَعَلمُوا أنه قدَّر كل شَيْءٍ وشاءه، وظنُّوا أنَّهم لَا يكونُونَ راضين حَتَّى يَرْضوا بِكُلِّ مَا يُقدره الله ويقضيه من الْكُفْر والفسوق والعصيان، حَتَّى قَالَ بَعضُهم: الْمحبَّة نَار تحرق من الْقَلب كلَّ مَا سوى مُرَاد المحبوب. قَالُوا: والكون كُله مُرَاد المحبوب.
وضلَّ هَؤُلَاءِ ضلالًا عَظِيمًا؛ حَيْثُ لم يُفرِّقُوا بَين الإرادة الدِّينِيَّة والكونية، والإذن الدِّيني والكوني، والأمر الدِّيني والكوني، والبعث الكوني والدِّيني، والإرسال الكوني والدِّيني، كَمَا بسطناه فِي غير هَذَا الْمَوضع.
وَهَؤُلَاء يؤول بهم الأمر إلى أن لَا يُفرِّقُوا بَين الْمَحْظُور والمأمور، وأولياء الله وأعداء الله، والأنبياء والمتقين، ويجعلون الَّذين آمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأرض، ويجعلون الْمُتَّقِينَ كالفُجَّار، ويجعلون الْمُسلمين كالمجرمين، ويُعطلون الأمر وَالنَّهْي، والوعد والوعيد، والشَّرائع.
وَرُبمَا سمّوا هَذَا حَقِيقَة، ولعمري أنه حَقِيقَة كونية، لَكِن هَذِه الْحَقِيقَة الكونية قد عرفهَا عُبَّاد الأصنام، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، وَقَالَ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84- 85].
فالمشركون الَّذين يَعْبدُونَ الأصنام كَانُوا مُقرين بأنَّ الله خَالق كلِّ شَيْءٍ وربه ومليكه، فَمَن كَانَ هَذَا مُنْتَهى تَحْقِيقه كَانَ غَايَته أن يكون كعُبَّاد الأصنام.
وَالْمُؤمن إنما فَارق الْكُفْر بِالْإِيمَان بِاللَّه وبرسله، وبتصديقهم فِيمَا أخبروا، وطاعتهم فِيمَا أمروا، وَاتِّبَاع مَا يرضاه الله وَيُحِبّهُ، دون مَا يَقْضِيه ويقدره من الْكُفْر والفسوق والعصيان، وَلَكِن يرضى بِمَا أصابه من المصائب، لَا بِمَا فعله من المعايب، فَهُوَ من الذُّنُوب يَسْتَغْفر، وعَلى المصائب يصبر.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، فَيجمع بَين طَاعَة الأمر، وَالصَّبْر على المصائب، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186]، وَقَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
الشيخ: هذا مبحثٌ عظيمٌ، جدير بالعناية، فإنَّ الكثير من الصُّوفية التبس عليهم الأمر، وهكذا أهل البدع التبس عليهم الأمر بالإرادة الشَّرعية والإرادة الكونية، والأمر الشرعي والأمر الكوني، والبعث الشرعي والبعث الكوني، والإرسال الشرعي، إلى غير ذلك.
فالواجب على أهل الإيمان أن يُحبوا ما أحبَّه الله ورسوله، وأن يرضوا ما رضي الله ورسوله من الإيمان والتَّقوى والعمل الصالح، وأن يكرهوا ما كرهه الله، ويسخطوا ما سخطه الله من الكفر والمعاصي، ولو كان وقع بقدره وعلمه الكوني، فهو قدرها لحكمةٍ، وأذن فيها لحكمةٍ، وأرادها لحكمةٍ، لا يقتضي حبّها والرضا بها.
فالمؤمن يعلم أنَّ ما كان فهو بقضاء الله وقدره، وهو الخلَّاق لكل شيءٍ ، لكن مثلما قال جلَّ وعلا: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، فهو لا يُحب الفساد.
فالمؤمن يكره الكفر والفساد والمعاصي، ولا يرضاها، ويبتعد عنها، ويحذرها، وإن كانت بالقدر، كما أنه يُحب الطَّاعات وأعمال الخير من الإيمان والتَّقوى وسائر الأعمال الصَّالحات، يُحبها ويرضاها ويُسارع إليها، وهي مع ذلك بقدر، كل شيءٍ بقدر، لكن عليه أن يُفرق كما فرَّقت الرسل، عليه أن يُفرق بين ما فرَّق الله بينه، ويُحبّ التوحيد والإيمان والتَّقوى والعمل الصالح، ويرضى بذلك، ويُسارع إلى ذلك، ويعلم أنَّ ما وقع للناس فهو بقضاء الله وقدره، وهو مع ذلك يُحب هذا، قدَّر للمؤمن الطاعات، وسبق علمه بذلك، وأحبَّ منه ذلك، ورضي منه ذلك، فبقي في علمه ما قدر من الكفر والمعاصي وكره ذلك، لكنه قدَّره لحكمةٍ.
فعلى المؤمن أن يُحب ما أحبَّه الله ورسوله، ويرضى بما رضيه الله ورسوله، وأن يكره ما كره الله ورسوله، ويسخط ما سخطه الله ورسوله من الكفر والمعاصي، هكذا يجب على أهل الإيمان.
أما الصُّوفية فقد وقع كثيرٌ منهم في الالتباس، وظنَّ أنه لا مانع من الرِّضا بالكفر والمعاصي؛ لأنها وقعت بقدر. وهذا جهلٌ كبير، وضلال بعيد، نسأل الله العافية.
وهي وإن كانت بقدرٍ فلحكمةٍ بالغةٍ، قدر الله أن هذا يكفر، أو هذا يعصي لحكمةٍ بالغةٍ، وله الحُجَّة الدَّامغة ، والحُجَّة البالغة، لكنه أمرنا أن نُحب أحبابه، ونكره أعداءه، وأن نرضى ما يرضى، ونكره ما يكره، ونُحب ما يُحب، ونسخط ما يسخط.
فعلينا أن نتبع ما جاءت به الأوامر، أما القدر فأمره إلى الله، وله فيه الحكمة البالغة ، ولكن المؤمن مأمورٌ بتوحيد الله، والإخلاص له، والرضا بتوحيده، ومنهيٌّ عن الكفر بالله، وعن المعاصي، مأمورٌ بكراهة ذلك، وبُغض ذلك.
هكذا المؤمنون: يُحبون في الله، ويبغضون في الله، ويُطيعون الله ورسوله، ويرضون ما رضيه الله ورسوله، ويكرهون ما كرهه الله ورسوله، رحم الله المؤلف، وجزاه خير الجزاء.
وَالْقَصْد هُنَا أنَّ مَا ذكره الْقُشيرِي عَن النَّصراباذي من أحسن الْكَلَام، حَيْثُ قَالَ: مَن أراد أن يبلغ مَحلَّ الرِّضَا فليلزم مَا جعل اللهُ رِضَاهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ قَول الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان: إذا سلا العبدُ عَن الشَّهَوَات فَهُوَ رَاضٍ.
وَذَلِكَ أنَّ العَبْد إنما يمنعهُ من الرِّضَا والقناعة طلب نَفسه لفضول شهواتها، فإذا لم يحصل سخط، فإذا سلا عَن شهوات نَفسه رَضِي بِمَا قسم الله لَهُ من الرِّزق.
وَكَذَلِكَ مَا ذكره عَن الفُضيل بن عِيَاض أنه قَالَ لبشر الحافي: الرِّضَا أفضل من الزُّهْد فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الراضي لَا يتَمَنَّى فَوق مَنْزِلَته.
كَلَامٌ حسنٌ، لَكِن أشكُّ فِي سَماع بشر الحافي من الفُضيل.
وَكَذَلِكَ مَا ذكره مُعَلَّقًا قَالَ: وَقيل: قَالَ الشِّبلي بَين يَدي الْجُنَيْد: لَا حول وَلَا قُوَّة إلا بِاللَّه. فَقَالَ الْجُنَيْد: قَوْلك ذَا ضيق صدرٍ، وضيق الصَّدْر لترك الرِّضَا بِالْقضَاءِ. فَإِنَّ هَذَا من أحسن الْكَلَام.
وَكَانَ الْجُنَيْد سيد الطَّائِفَة، وَمن أحسنهم تَعْلِيمًا وتأديبًا وتقويمًا، وَذَلِكَ أنَّ هَذِه الْكَلِمَة هِيَ كلمة استعانة، لَا كلمة استرجاع، وَكثيرٌ من النَّاس يَقُولهَا عِنْد المصائب بِمَنْزِلَة الاسترجاع، ويقولها جزعًا، لَا صبرًا، فالجُنيد أنكر على الشّبلي حَاله فِي سَبَب قَوْله لَهَا؛ إذ كَانَت حَالًا يُنَافِي الرِّضَا، وَلَو قَالَهَا على الْوَجْه الْمَشْرُوع لم يُنكِر عَلَيْهِ.
الشيخ: كلام الجنيد في هذا ظاهر في قول "لا حول ولا قوة إلا بالله"، يعني: الأصل في هذا أنَّ هذه الكلمة مثلما قال النبي ﷺ: كنزٌ من كنوز الجنَّة كما في "الصحيحين": لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
فالفرار إليها عند المصائب، أو عند الأخطار، أو عند الخوف ظاهر النصوص: لا حول ولا قوة إلا بالله، شرعها الله عند الحيعلة وقت الأذان، فهي كلمة عظيمة، يُشرع للمؤمن أن يأتي بها دائمًا، ومعناها التَّجرد من حوله، والتَّجرد من قوته في الدَّفع عن نفسه، أو في القيام بما يجب عليه، وهذا لا يستطيعه إلا بالله، لا من جهة الدفع، ولا من جهة الفعل، فهي كنزٌ من كنوز الجنة، وهي من الباقيات الصَّالحات، فكيف يعترض الجنيد على الشّبلي؟! وكيف يستحسن أبو العباس رأي الجنيد ويمدحه ويقول أنه سيد جماعته، وأنَّ هذا من محاسنه؟! واضح الشيء؟
الطالب: إنما هذه الكلمة هي كلمة استعانة، لا كلمة استرجاع؟
الشيخ: ما بينت الأسباب، ما وضّح الأشياء. وإذا كان من جهة أنه مات ولده فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، يخشى أن يموت الآخر، ومعناه: لا أدفع عن نفسي حتف نفسي إذا مات ولده، يعني: يجاهد نفسه ..... فلا حول ولا قوة إلا بالله عند المصيبة، أو قالها عند الخوف لوقوع شيءٍ.
الطالب: وَكثيرٌ من النَّاس يَقُولهَا عِنْد المصائب بِمَنْزِلَة الاسترجاع، ويقولها جزعًا، لَا صبرًا، فالجنيد أنكر على الشّبلي حَاله فِي سَبَب قَوْله لَهَا؛ إذ كَانَت حَالًا يُنَافِي الرِّضَا، وَلَو قَالَهَا على الْوَجْه الْمَشْرُوع لم يُنكِر عَلَيْهِ.
الشيخ: ما ظهر لي هذا، ولم يظهر لي هذا الاعتراض، ولا استحسان الشيخ له، الأصل أنَّ هذه الكلمة عظيمة ومشروعة كيفما قالها الإنسانُ: لدفعٍ، أو جلب خيرٍ، ينبغي تأمّل هذا.
س: قوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]؟
ج: يُشرع هذا، لكن ما يمنع أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو يقول: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، يُكثر من هذا، ما يمنع، فلو قال: لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم اغفر لي، سبحان الله، والحمد لله، هل في هذا شيء؟ وهل يعترض عليه ويُقال له: كيف تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؟
وَفِيمَا ذكره آثَار ضَعِيفَة مثلمَا ذكره مُعَلّقًا قَالَ: وَقيل: قَالَ مُوسَى: "إلهي دلَّنِي على عملٍ إذا عملتُه رضيتَ عنِّي، فَقَالَ: إنَّك لَا تُطِيق ذَلِك، فَخرَّ مُوسَى سَاجِدًا مُتضرِّعًا، فَأوحى اللهُ إليه: يَا ابْن عمرَان، رضائي فِي رضائك عني".
فَهَذِهِ الْحِكَايَة الإسرائيلية فِيهَا نظر، فَإِنَّهُ قد يُقَال: لَا يصلح أن يُحْكى مثلهَا عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذِه الإسرائيليات لَيْسَ لَهَا إسنادٌ، وَلَا تقوم بهَا حُجَّة فِي شَيْءٍ من الدِّين، إلا إذا كَانَت منقولةً لنا نقلًا صَحِيحًا، مثلمَا ثَبت عَن نَبينَا ﷺ أنه حَدَّثنَا بِهِ عَن بني إسرائيل، وَلَكِن مِنْهُ مَا يعلم كذبه، مثل هَذِه؛ فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من أعظم أولي الْعَزْم، وأكابر الْمُرْسَلين، فكيف يُقَال أنه لَا يُطيق أن يَعْمل مَا يرضى اللهُ بِهِ عَنهُ؟! وَالله تَعَالَى رَضِي عَن السَّابِقين الأوَّلين من الْمُهَاجِرين والأنصار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، أفلا يرضى عَن مُوسَى بن عمرَان كليم الرَّحْمَن؟!
الشيخ: وهذا المتن فيه نكارة، وهو أنه قال له: "إنك لا تطيق ذلك"، لا تُطيق الشيء الذي يرضى عنك به ، ومعلوم أنَّ الرب إنما كلَّفهم ما يُطيقون، فمَن أدَّى ما أوجب اللهُ، وترك ما حرَّم الله ، مَن أدَّى الواجبات، وترك المحارم ، كما رضي عن المؤمنين الذين بايعوا تحت الشَّجرة، ورضي عن أتباعهم بإحسانٍ.
فمَن أدَّى ما فرض اللهُ عليه، وترك ما حرَّم الله عليه، فقد إذا صدق في ذلك، وأخلص في ذلك، فإن زاد على ذلك فعل المستحبَّات، والتَّوسع في الخير، والحذر من المكروهات وبعض المباحات التي يخشى أن تُضعفه أو تعوقه عن طريقه؛ كان الرِّضا أكمل، وهذا مما يُبين بطلان هذه الحكاية.
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:7- 8].
وَمَعْلُومٌ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من أفضل الَّذين آمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات، ثمَّ إنَّ الله خصَّ مُوسَى بمزيةٍ فَوق الرِّضَا، حَيْثُ قَالَ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39].
ثمَّ إنَّ قَوْله لَهُ فِي الْخِطاب: "يَا ابْن عمرَان" يُخَالف مَا ذكره الله من خطابه لَهُ فِي الْقُرْآن حَيْثُ قَالَ: يَا مُوسَى [الأعراف:144]، وَذَلِكَ الْخِطاب فِيهِ نوع غضٍّ مِنْهُ كَمَا يَظْهر.
وَمثلمَا ذكره عَن عمر بن الْخطَّاب أنه كتب لأبي مُوسَى الأشعري: أما بعد، فَإِنَّ الْخَيْر كُلَّه فِي الرِّضَا، فَإِن اسْتَطَعْتَ أن تَرْضى، وإلا فاصبر. فَهَذَا الْكَلَام كَلَام حسن وإن لم يُعلم إسناده.
وإذا تبين أنَّ فِيمَا ذكره مُسْندًا ومُرسلًا ومُعلَّقًا مَا هُوَ صَحِيح، فَهَذِهِ الْكَلِمَة لم يذكرهَا عَن أبي سُلَيْمَان إلا مُرْسلَة، وبمثل ذَلِك لَا تثبت عَن أبي سُلَيْمَان بِاتِّفَاق النَّاس، فَإِنَّهُ وإن قَالَ بعضُ النَّاس أنَّ الْمُرْسَل حُجَّة، فَهَذَا لم يعلم أنَّ الْمُرْسَل هُوَ مثل الضَّعِيف وَغير الضَّعِيف.
الشيخ: ما هو محرر هذا الكلام، فيه شيء سقط.
س: إرسال الثِّقات؟
ج: لا، المرسل مطلقًا ما هو بحُجَّة مطلقًا، إلا ما قيل في مرسل سعيد بن المسيب، المرسل فيه كلام، بحث طويل لأهل العلم، وهذا الكلام ما هو بمحرر.
فَأَمَّا إذا عرف ذَلِك فَلَا تبقى حُجَّة بِاتِّفَاق الْعُلمَاء، كمَن علم أنه تَارَةً يحفظ الإسناد، وَتارَةً يغلط فِيهِ.
والكتب المسندة فِي أخبار هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ وَكَلَامهم، مثل: كتاب "حلية الأولياء" لأبي نعيم، و"طبقات الصُّوفِيَّة" للشَّيْخ أبي عبدالرَّحْمَن، و"صفوة الصفوة" لِابْنِ الْجَوْزِيّ، وأمثال ذَلِك لم يذكرُوا فِيهَا هَذِه الْكَلِمَة عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان، وَقد ذكرُوا فِيهَا عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان الأثر الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ مُسْندًا، حَيْثُ قَالَ لأحمد ابن أبي الْحوَاري: يَا أحْمَد، لقد أوتيتُ من الرِّضَا نَصِيبًا لَو ألقاني فِي النَّار لَكُنْتُ بذلك رَاضِيًا.
فَهَذَا الْكَلَام مأثورٌ عَن أبي سُلَيْمَان بِالْإِسْنَادِ؛ وَلِهَذَا أسنده عَنهُ الْقُشيرِي من طَرِيق شَيْخه أبي عبدالرَّحْمَن، بِخِلَاف تِلْكَ الْكَلِمَة، فَإِنَّهَا لم تُسند عَنهُ، فَلَا أصلَ لَهَا عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان.
ثمَّ إنَّ الْقُشيرِي قرن هَذِه الْكَلِمَة الثَّابِتَة عَن أبي سُلَيْمَان بِكَلِمَةٍ أحسن مِنْهَا، فَإِنَّهُ قبل أن يَرْوِيهَا قَالَ: وَسُئِلَ أبو عُثْمَان –يَعْنِي: أبا عُثْمَان الْحِيرِي النَّيْسَابُورِي- عَن قَول النَّبِي ﷺ: أَسأَلك الرِّضَا بعد الْقَضَاء، فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا بعد الْقَضَاء هُوَ الرِّضَا.
فَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّيْخ أبو عُثْمَان كَلَامٌ حسنٌ سديدٌ.
ثمَّ أسند بعد هَذَا عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان أنه قَالَ: أرجو أن أكون عرفتُ طرفًا من الرِّضَا، لَو أنه أدخلني النَّار لَكُنْتُ بذلك رَاضِيًا.
فَتبين بذلك أنَّ مَا قَالَه أبو سُلَيْمَان لَيْسَ هُوَ رضًا، وإنما هُوَ عزم على الرِّضَا، وإنما الرِّضَا مَا يكون بعد الْقَضَاء، وإذا كَانَ هَذَا عزمًا على الرِّضَا، فالعزم قد يَدُوم، وَقد يَنْفَسِخ، وَمَا أكثر انْفِسَاخ عزائم النَّاس، خُصُوصًا الصُّوفِيَّة؛ وَلِهَذَا قيل لبَعْضهِم: بِمَ عرفتَ الله؟ قَالَ: بِفَسْخِ العزائم، وَنقض الهمم.
وَقد قَالَ تَعَالَى لمن هُوَ أفضل من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143].
وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:2- 4].
وَفِي التِّرْمِذِيّ: أنَّ بعض الصَّحَابَة قَالُوا للنَّبِي ﷺ: لَو علمنَا أَيّ الْعَمَل أحبّ إلى الله لعملناه. فَأَنْزل اللهُ هَذِه الآية، وَقد قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77].
فَهَؤُلَاءِ الَّذين كَانُوا قد عزموا على الْجِهَاد وأحبُّوه لما ابتُلوا بِهِ كرهوه وفرُّوا مِنْهُ، وأين ألم الْجِهَاد من ألم النَّار وَعَذَاب الله الَّذِي لَا طَاقَةَ لأحدٍ بِهِ؟
مثل هَذَا يُذكر عَن سمنون الْمُحبّ أنه كَانَ يَقُول: وَلَيْسَ لي فِي سواك حَظٌّ، فَكيفمَا شِئْتَ فاختبرني.
فَأَخذه الأسر من سَاعَته، أَي: حصر بَوْله، فَكَانَ يَدُور على الْمكَاتب وَيُفرق الْجَوْز على الصّبيان وَيَقُول: ادعوا لعمِّكم الْكذَّاب.
وَحكى أبو نعيم الأصبهاني عَن أبي بكر الوَاسِطِيّ أنه قَالَ: قَالَ سمنون: يَا ربِّ، قد رضيتُ بِكُلِّ مَا تقضيه عليَّ. فاحتبس بَوْله أربعة عشر يَوْمًا، فَكَانَ يتلوى كَمَا تتلوى الْحَيَّة على الرمل، يتلوى يَمِينًا وَشمَالًا، فَلَمَّا أُطلق بَوْله قَالَ: يَا ربِّ، تبتُ إليك.
قَالَ أبو نعيم: فَهَذَا الرِّضَا الَّذِي ادَّعى سمنون ظهر غلطه فِيهِ بِأَدْنَى بلوى، هَذَا مَعَ أنَّ سمنون كَانَ يُضْرب بِهِ الْمَثل فِي الْمحبَّة، وَله مقَام مَشْهُور، حَتَّى رُوي عَن إبراهيم بن فاتك أنه قَالَ: رَأَيْتُ سمنونًا يتَكَلَّم على النَّاس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، فجَاء طَائِرٌ صَغِيرٌ فَقرب مِنْهُ، ثمَّ قرب، فَلم يزل يدنو مِنْهُ حَتَّى جلس على يَده، ثمَّ لم يزل يَضْرب بمنقاره الأرض حَتَّى سقط مِنْهُ دمٌ وَمَات الطَّائِر.
قَالَ: ورأيتُه تكلم يَوْمًا فِي الْمحبَّة فَاصْطَفَقَتْ قناديل الْمَسْجِد، وَكسر بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَقد ذكر الْقُشيرِي فِي بَاب الرِّضَا عَن رُوَيْم المقري -رَفِيق سمنون- حِكَايَةً تُناسب هَذَا، حَيْثُ قَالَ: قَالَ رُوَيْم: الرِّضَا أن لَو جعل جَهَنَّم عَن يَمِينه مَا سَأَلَ الله أن يحولها عَن يسَاره.
فَهَذَا يُشبه قَول سمنون: فَكيفمَا شِئْتَ فامتحنِّي. وإذا لم يُطق الصَّبْر على عسر الْبَوْل، أفيُطيق أن تكون جَهَنَّم عَن يمينه؟!
والفُضيل بن عِيَاض كَانَ أعلى طبقَةً من هَؤُلَاءِ، وابتُلي بعُسر الْبَوْل، فغلبه الألم حَتَّى قَالَ: بحبي لَك إلا فرَّجْتَ عني. فانفرج عَنهُ.
ورويم وإن كَانَ من رُفَقَاء الْجُنَيْد فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهم من هَذِه الطَّبَقَة، بل الصُّوفِيَّة يَقُولُونَ أنه رَجَعَ إلى الدُّنْيَا وَترك التَّصوف، حَتَّى رُوي عَن جَعْفَر الْخُلْدِيِّ صَاحب الْجُنَيْد أنه قَالَ: مَن أراد أن يستكتم سرًّا فَلْيَفْعَل كَمَا فعل رُوَيْم؛ كتم حبَّ الدُّنْيَا أربعين سنةً، فَقيل: وَكَيف يُتَصَوَّر ذَلِك؟! قَالَ: ولي إسماعيل بن إسحاق القَاضِي قَضَاء بَغْدَاد، وَكَانَت بَينهمَا مَوَدَّة أكيدة، فَجَذَبَهُ إليه، وَجعله وَكيلًا على بَابه، فَترك لبس التَّصوف، وَلبس الْخَزّ والقصب والدّيبقى، وَأكل الطَّيِّبَات، وَبنى الدُّور، وإذا هُوَ كَانَ يكتم حبَّ الدُّنْيَا مَا لم يجدهَا، فَلَمَّا وجدهَا أظهر مَا كَانَ يكتم من حبِّها.
هَذَا مَعَ أنَّه رَحمَه الله كَانَ لَهُ من الْعِبَادَات مَا هُوَ مَعْرُوف، وَكَانَ فَقِيهًا على مَذْهَب دَاوُد، وَهَذِه الْكَلِمَات الَّتِي تصدر عَن صَاحب حَالٍ لم يُفكر فِي لَوَازِم أقواله وعواقبها لَا تُجْعَل طَريقَةً، وَلَا تتَّخذ سَبِيلًا، وَلَكِن قد يُسْتَدلّ بهَا على مَا لصَاحِبهَا من الرِّضَا والمحبَّة وَنَحْو ذَلِك، وَمَا مَعَه من التَّقْصِير فِي معرفَة حُقُوق الطَّرِيق، وَمَا يقدر عَلَيْهِ من التَّقْوَى وَالصَّبْر، وَمَا لَا يقدر عَلَيْهِ من التَّقْوَى وَالصَّبْر.
وَالرسل صلوَات الله عَلَيْهِم أعْلَم بطرِيق سَبِيل الله، وأهدى وأنصح، فَمَن خرج عَن سُنَّتِهم وسبيلهم كَانَ منقوصًا، مُخطئًا، محرومًا، وإن لم يكن عَاصِيًا، أو فَاسِقًا، أو كَافِرًا.
وَيُشبه هَذَا الأعرابي الَّذِي دخل عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ مَرِيضٌ كالفرخ، فَقَالَ: هَل كنتَ دَعَوْتَ الله بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: كنتُ أقول: اللَّهُمَّ مَا كنتَ مُعذبي بِهِ فِي الآخرة فعجِّله لي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله! لَا تستطيعه –أو: لَا تُطِيقهُ- هلا قلتَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
فَهَذَا أيضًا حمله خَوفُه من عَذَاب الآخرة ومحبَّته لِسَلَامَةِ عاقبته على أن يَطْلب تَعْجِيل ذَلِك فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ مخطئًا فِي ذَلِك، غالطًا، وَالْخَطَأ والغلط مَعَ حُسن الْقَصْد وسلامته، وَصَلَاح الرجل وفضله، وَدينه، وزهده، وورعه، وكراماته كثير جدًّا، فَلَيْسَ من شَرط ولي الله أن يكون مَعْصُومًا من الْخَطَأ والغلط، بل وَلَا من الذُّنُوب.
وأفضل أولياء الله بعد الرُّسُل أبو بكر الصّديق ، وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أنَّ النَّبِي ﷺ قَالَ لَهُ لما عبر رُؤْيا: أصبتَ بَعْضًا، وأخطأتَ بَعْضًا.
وَيُشبه وَالله أعْلَم أنَّ أبا سُلَيْمَان لما قَالَ هَذِه الْكَلِمَة: "لَو ألقاني فِي النَّار لَكُنْتُ بذلك رَاضِيًا" أن يكون بعضُ النَّاس حَكَاهُ بِمَا فهمه من الْمَعْنى أنه قَالَ: الرِّضَا أن لَا تَسْأَل اللهَ الْجنَّة، وَلَا تستعيذه من النَّار.
وَتلك الْكَلِمَة الَّتِي قَالَهَا أبو سُلَيْمَان مَعَ أنَّها لَا تدل على رِضَاهُ بذلك، وَلَكِن تدل على عَزمه بِالرِّضَا بذلك، وَنحن نعلم أنَّ ذَلِك الْعَزْم لَا يَسْتَمر، بل يَنْفَسِخ، وأنَّ مثل هَذِه الْكَلِمَة كَانَ تَركُهَا أحسن من قَوْلهَا، وأنها مُستدركة، كَمَا استدركه دَعْوَى سمنون ورويم وَغير ذَلِك، فَإِنَّ بَين هَذِه الْكَلِمَة وَبَين تِلْكَ فرقًا عَظِيمًا؛ فإنَّ تِلْكَ الْكَلِمَة مضمونها أنَّ مَن سَأَلَ الله الْجنَّة، واستعاذه من النَّار، لَا يكون رَاضِيًا، وَفرقٌ بَين مَن يَقُول: أنا إذا فعل بِي كَذَا كنتُ رَاضِيًا. وَبَين مَن يَقُول: لَا يكون رَاضِيًا إلا مَن لَا يَطْلب خيرًا، وَمَن لَا يهرب من شَرٍّ.
وَبِهَذَا وَغَيره يُعلم أنَّ الشَّيْخَ أبا سُلَيْمَان كَانَ أجلَّ من أن يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام، فَإِنَّ الشَّيْخ أبا سُلَيْمَان من أجلاء الْمَشَايِخ وساداتهم.