وأفضل أولياء الله بعد الرُّسُل أبو بكر الصّديق ، وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أنَّ النَّبِي ﷺ قَالَ لَهُ لما عبر رُؤْيا: أصبتَ بَعْضًا، وأخطأتَ بَعْضًا.
وَيُشبه وَالله أعْلَم أنَّ أبا سُلَيْمَان لما قَالَ هَذِه الْكَلِمَة: "لَو ألقاني فِي النَّار لَكُنْتُ بذلك رَاضِيًا" أن يكون بعضُ النَّاس حَكَاهُ بِمَا فهمه من الْمَعْنى أنه قَالَ: الرِّضَا أن لَا تَسْأَل اللهَ الْجنَّة، وَلَا تستعيذه من النَّار.
وَتلك الْكَلِمَة الَّتِي قَالَهَا أبو سُلَيْمَان مَعَ أنَّها لَا تدل على رِضَاهُ بذلك، وَلَكِن تدل على عَزمه بِالرِّضَا بذلك، وَنحن نعلم أنَّ ذَلِك الْعَزْم لَا يَسْتَمر، بل يَنْفَسِخ، وأنَّ مثل هَذِه الْكَلِمَة كَانَ تَركُهَا أحسن من قَوْلهَا، وأنها مُستدركة، كَمَا استدركه دَعْوَى سمنون ورويم وَغير ذَلِك، فَإِنَّ بَين هَذِه الْكَلِمَة وَبَين تِلْكَ فرقًا عَظِيمًا؛ فإنَّ تِلْكَ الْكَلِمَة مضمونها أنَّ مَن سَأَلَ الله الْجنَّة، واستعاذه من النَّار، لَا يكون رَاضِيًا، وَفرقٌ بَين مَن يَقُول: أنا إذا فعل بِي كَذَا كنتُ رَاضِيًا. وَبَين مَن يَقُول: لَا يكون رَاضِيًا إلا مَن لَا يَطْلب خيرًا، وَمَن لَا يهرب من شَرٍّ.
وَبِهَذَا وَغَيره يُعلم أنَّ الشَّيْخَ أبا سُلَيْمَان كَانَ أجلَّ من أن يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام، فَإِنَّ الشَّيْخ أبا سُلَيْمَان من أجلاء الْمَشَايِخ وساداتهم، وَمن أتبعهم للشَّريعة، حَتَّى إنه كَانَ يَقُول أنه ليمرّ بقلبي النُّكْتَة من نكت الْقَوْم فَلَا أقبلها إلا بِشَاهِدين: الكتاب وَالسُّنة، فَمَن لَا يقبل نُكت قلبه إلا بِشَاهِدين يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام.
وَقَالَ الشَّيْخ أبو سُلَيْمَان أيضًا: لَيْسَ لمن ألهم شَيْئًا من الْخَيْر أن يَفْعَله حَتَّى يسمع فِيهِ بأثرٍ.
الشيخ: الصُّوفية لهم أغلاط كثيرة وأوهام وتصورات يغلطون فيها؛ لقلَّة علمهم، فالغالب على أهل التَّصوف وأصحاب الزهد -الغالب عليهم- قلَّة العلم، وقلة البصيرة، فيرضون بالتقليد من بعضهم لبعضٍ؛ ولهذا يقول بعضُهم أنَّ سؤال الجنَّة لا يُنافي الرِّضا. فهذا لا شكَّ أنه باطل، ومن أقبح الكلام، فإنَّ الرسول ﷺ سأل اللهَ الجنَّة، وتعوَّذ به من النار، وشرع للناس أن يسألوا اللهَ الجنَّة، ويتعوَّذوا به من النار.
وقال بعضُ الناس للنبي ﷺ: إني لا أُحسن دندنتك ولا دندنة معاذٍ -يعني في الدُّعاء- ولكني أسأل اللهَ الجنَّة، وأعوذ به من النار. فقال له: حولها نُدندن.
المقصود أنَّ الأحاديث في سؤال الجنة، والتَّعوذ من النار، والحثّ على ذلك كثيرة جدًّا، معروفة، فليس هذا مما يُنافي الرِّضا، بل هذا مما يدل على الرغبة في الرِّضا: أنه يسأل ربَّه أن يمنحه دخول الجنة، والنَّجاة من النار، حتى يأتي من له غاية الرضا وغاية الكمال، والله المستعان.
س: قول الرسول ﷺ: لا تتمنّوا لقاء العدو، وإذا لقيتُموهم فاصبروا؟
ج: حمله العلماءُ على أنَّ المراد على سبيل العجب بالنَّفس، على سبيل الثِّقة بالنفس، ونحو ذلك، أما إذا تمنى لقاء العدو؛ رغبةً في الجهاد، أو رغبةً في الشَّهادة في سبيل الله، فهو يبدأ بالجهاد؛ لأنَّ الرسول حثَّ على الجهاد ورغَّب فيه: مَن مات ولم يغزُ، ولم يُحدِّث نفسه بالغزو؛ مات على شُعبةٍ من النِّفاق، فالنَّهي عن التَّمني ليس على إطلاقه، وإنما المراد التَّمني الذي يصحبه فخر وخُيلاء، أو ثقة بالنفس، أما مَن يتمنى أن يحضر الجهاد، ويُجاهد في سبيل الله، وأن يلقى عدو الله فلا بأس به، وليس داخلًا في النَّهي هذا.
س: الذي يدعو أن يبتليه اللهُ بما شاء، هل يدل على العُجب؟
ج: ثقة بالنفس؛ فلهذا عُوقِب.
س: تصافق قناديل المسجد حينما خطب سمنون، ألا يكون من تلاعب الشَّياطين؟
ج: الله أعلم بصحة هذه الحكاية، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم مثل غيرهم؛ قد يقع عندهم كلمات وأشياء محل نظر، فهم كغيرهم من أهل العلم.
س: غير واضحة عن: لا حول ولا قوة إلا بالله؟
ج: المشروع: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا يقتصر على: لا حول، بل يأتي بها كاملةً، هذه هي السُّنة: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: لا حول إلا بالله، ولا قوة إلا بالله، قصده الإزراء على نفسه لا بأس، لكن السنة أن يأتي بها كاملة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
س: بعض الناس يقول: لا حول لله؟
ج: يُعلَّم، عامي يُعلَّم العبارة.
س: يقصد أنَّ بعض العوام يقول: لا حَول، وهي حُول؟
ج: يُعلَّم: لا حول إلا بالله، يعني: لا تحول لي من شيءٍ إلا بالله، أو لا قوة لي إلا بالله، لكن إذا علم يُقال له: كملها، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، يُعلم السُّنة، طيب.
الشيخ: هذا كلام عظيم؛ لأنَّه ليس لأحدٍ من الناس إذا قدح في نفسه شيء، أو أُلقي عليه إلهام في شيءٍ أن يعتمده حتى يعرضه على الكتاب والسُّنة، ينظر هل هذا الذي وقع في نفسه صحيحٌ مُوافقٌ للشرع، أم ليس كذلك؟ ينظر في الآثار والرِّوايات حتى يعرف صحّة ما وقع في قلبه، أو عدم صحّة ذلك.
بل صَاحبه أحْمَد ابن أبي الْحوَاري كَانَ من أتبع الْمَشَايِخ للسُّنة، فَكيف أبو سُلَيْمَان؟
وَتَمام تَزْكِيَة أبي سُلَيْمَان من هَذَا الْكَلَام يَظْهر بالْكلَام فِي الْمقَام الثَّانِي، وَهُوَ قَول الْقَائِل كَائِنًا مَن كَانَ: الرِّضَا ألا تَسْأَل الله الْجنَّة، وَلَا تستعيذه من النَّار.
ونُقدم قبل ذَلِك مُقَدّمَة يتَبَيَّن بهَا أصلُ مَا وَقع فِي مثل هَذِه الْكَلِمَات من الِاشْتِبَاه وَالِاضْطِرَاب، وَذَلِكَ أنَّ قومًا كثيرًا من النَّاس من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة وَغَيرهم ظنُّوا أنَّ الْجنَّة لَيست إِلَّا التَّنعم بالمخلوق: من أكلٍ وَشُربٍ ولباسٍ وَنِكَاحٍ، وَسَمَاع أصواتٍ طيبَةٍ، وشمّ رَوَائِح طيبَة، وَلم يُدخِلُوا فِي مُسَمَّى الْجنَّة نعيمًا غير ذَلِك، ثمَّ صَارُوا حزبين:
حزبًا أنكروا أن يكون للعباد نعيمٌ غير تنعمهم بِهَذِهِ الأمور المخلوقة وأشباهها، ثمَّ من هَؤُلَاءِ مَن أنكر أن يكون الْمُؤْمِنُونَ يرَوْنَ رَبَّهم، كَمَا ذهب إلى ذَلِك الْجَهْمِيةُ من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم.
وَمِنْهُم مَن أقرَّ بِالرُّؤْيَةِ: إما الرُّؤْيَة الَّتِي أخبر بهَا النَّبِيُّ ﷺ، كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل السُّنة وَالْجَمَاعَة، وإما بِرُؤْيَة فَسَّرهَا بِزِيَادَة كشفٍ، أو علمٍ، أو جعلهَا بحاسَّةٍ سادسةٍ، وَنَحْو ذَلِك من الأقوال الَّتِي ذهب إليها ضرار بن عَمْرو وَطَوَائِف من أهل الْكَلَام المنتسبين إلى نصر أهل السُّنة فِي مَسْأَلَة الرُّؤْيَة، وإن كَانَ مَا يُثبتونه من جنس مَا نفته الْمُعْتَزلَة والضِّرارية، والنِّزاع بَينهم لَفْظِي، ونزاعهم مَعَ أهل السُّنة معنوي؛ وَلِهَذَا كَانَ بشر المريسي وأمثاله يُفسرون الرُّؤْيَة بِنَحْو من تَفْسِير هَؤُلَاءِ.
وَالْمَقْصُود هُنَا أنَّ مُثبتة الرُّؤْيَة مِنْهُم مَن أنكر أن يكون الْمُؤمنُ ينعم بِنَفس رُؤْيَته ربه، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا مُنَاسبَةَ بَين الْمُحدث وَالْقَدِيم. كَمَا ذكر ذَلِك الأستاذ أبو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ فِي "الرِّسَالَة النِّظامية"، وكما ذكره أبو الْوَفَاء ابن عقيل فِي بعض كتبه، ونقلوا عَن ابْن عقيل أنه سمع قَائِلًا يَقُول: أَسأَلك لَذَّة النَّظر إلى وَجهك. فَقَالَ: يَا هَذَا، هَبْ أنَّ لَهُ وَجهًا، أله وَجه يتلذذ بِالنَّظرِ إليه؟!
وَذكر أبو الْمَعَالِي أنَّ الله يخلق لَهُم نعيمًا بِبَعْض الْمَخْلُوقَات مُقَارنًا للرؤية، فَأَمَّا التَّنعم بِنَفس الرُّؤْيَة فَأنكرهُ، وَجعل هَذَا من أسرار التَّوْحِيد.
وأكثر مُثبتي الرُّؤْيَة يُقرونَ بتنعم الْمُؤمنِينَ بِرُؤْيَة رَبهم، وَهُوَ مَذْهَب سلف الأمة وأئمّتها ومشايخ الطَّرِيق.
الشيخ: وهذا هو الحقّ الذي أجمع عليه أهلُ السنة والجماعة: أنَّ الله جلَّ وعلا يكشف لهم الحجاب عن وجهه الشريف، وأن أهل الجنة يرونه سبحانه رؤيةً حقيقيَّةً، ويتنعَّمون بذلك، وأنهم ما أعطوا شيئًا في الجنة أحبّ إليهم من النَّظر إلى وجهه ، وأنَّ رؤيتهم لوجهه الأعلى نعيم في الجنة، كما قال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقال في الحديث الصحيح: الزِّيادة: النَّظر إلى وجه الله سبحانه، فأهل الجنَّة يتنعَّمون بذلك في الجنة، وفي عرصات القيامة.
وأما هؤلاء المحرومون المخذولون فهؤلاء حُرموا هذا الخير العظيم، حتى آل بهم الحال إلى أنهم يرون أنَّ من كمال الإيمان أن لا تسأل الجنة، ولا تتعوذ من النار، وهذا من جهلهم وضلالهم؛ فإنَّ الرسل سألوا اللهَ الجنة، واستعاذوا به من النار، وأمروا الناسَ أن يسألوا الله الجنة، ويستعيذوا به من النار؛ لما في الجنَّة من النَّعيم والخير الكثير الذي أعلاه وأفضله رُؤيتهم وجه ربهم ، وتلذذهم بذلك؛ ولما في النار من العذاب والآلام، والشَّر والفساد؛ ولهذا شرع الله للمؤمنين أن يسألوه الجنة، وأن يستعيذوا به من النار، والله المستعان.
س: مَن هو ابن عقيل؟
ج: وجد في بعض الكتب، وقد يكون من أغلاطه الأولى لما كان مُتوغِّلًا في الكلام والخوض في الكلام، فلعله رجع عنه.
الشيخ: وهذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، فيه دعوات عظيمة، ثلاث عشرة دعوة، مما أرشد إليهن النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وقد رواه النَّسائي بسندٍ صحيحٍ عن عمار بن ياسر الصحابي الجليل أن النبي كان يدعو بهذا، أوله: اللهم بعلمك الغيب، وقُدرتك على الخلق، أحيني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي فهي دعوتان، اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية، وكلمةَ الحقِّ في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى هذه خمس، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وقُرَّة عينٍ لا تنقطع سبع، وأسألك الرِّضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت هذه تسعة، وأسألك لذة النَّظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضرَّاء مُضرة، ولا فتنة مُضلة هذه إحدى عشرة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مُهتدين ثلاثة عشرة دعوة عظيمة في هذا الحديث العظيم.
وَفِي "صَحِيح مُسلم" وَغَيره عَن صُهَيْب، عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: إذا دخل أهلُ الْجنَّةِ الْجنَّةَ نَادى مُنَادٍ: يَا أهلَ الْجنَّة، إنَّ لكم عِنْدَ الله موعدًا يُرِيد أن يُنجزكموه، فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ ألم يُبيض وُجُوهنَا، ويُثقل موازيننا، ويُدخلنا الْجنَّة، ويُجرنا من النَّار؟ قَالَ: فَيَكْشف الْحجابَ فَيَنْظُرُونَ إليه، فَمَا أعطاهم شَيْئًا أحبّ إليهم من النَّظر إليه.
وَكلما كَانَ الشَّيْء أحبَّ كَانَت اللَّذَّةُ بنيله أعظم، وَهَذَا مُتَّفقٌ عَلَيْهِ بَين السَّلف والأئمة ومشايخ الطَّرِيق، كَمَا روي عَن الْحَسن الْبَصْرِيّ أنه قَالَ: لَو علم العابدون أنَّهم لَا يرَوْنَ رَبَّهم فِي الآخرة لذابت نُفُوسُهم فِي الدُّنيا شوقًا إليه. وَكَلَامهم فِي ذَلِك كثيرٌ.
ثمَّ هَؤُلَاءِ الَّذين وافقوا السَّلف والأئمة والمشايخ على التَّنعم بِالنَّظرِ إلى الله تَعَالَى، وَتَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَة الْمحبَّة الَّتِي هِيَ أصل ذَلِك: فَذهب طوائف من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء إلى أنَّ الله لَا تُحَبُّ نَفسه، وإنما الْمحبَّة محبَّة طَاعَته وعبادته، وَقَالُوا: هُوَ أيضًا لَا يُحبّ عباده الْمُؤمنِينَ، وإنما محبَّته إرادته للإحسان إليهم ولإثابتهم.
وَدخل فِي هَذَا القَوْلِ مَن انتسب إلى نصر السُّنة من أهل الْكَلَام، حَتَّى وَقع فِيهِ طَائِفَةٌ من أصحاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: كَالْقَاضِي أبي بكر، وَالْقَاضِي أبي يعلى، وأبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ، وأمثال هَؤُلَاءِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة شُعْبَة من التَّجهم والاعتزال؛ فَإِنَّ أول مَن أنكر الْمحبَّة فِي الإسلام الْجَعْدُ بن دِرْهَم، أستاذ الجهم بن صَفْوَان، فضحَّى بِهِ خَالِدُ بن عبدالله الْقَسْرِي وَقَالَ: أيها النَّاس، ضحُّوا، تقبَّل اللهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بالجعد بن دِرْهَم؛ إنَّه زعم أن الله لم يتَّخذ إبراهيم خَلِيلًا، وَلم يُكلم مُوسَى تكليمًا. ثمَّ نزل فذبحه.
الشيخ: وكان هذا يوم العيد، يوم عيد النحر في العراق، وهو أمير العراق، وكان جعدٌ هذا خبيثًا، ضالًّا، مُضِلًّا، يدعو إلى نفي صفات الله، وإنكار صفات الله ؛ فلهذا ضحَّى به خالدُ بن عبدالله القسري، وقال ابنُ القيم في هذا في النُّونية:
شكر الضَّحية كل صاحب سُنَّةٍ | لله درك من أخي قربان |
يعني: أنه ضحَّى به وقتله في سبيل الله، قتله لزندقته وكفره وضلاله، نسأل الله العافية.
س: .................؟
ج: الصُّوفية قسمان: فيهم الضَّال، وفيهم المستقيم، فمشايخ الطريق يعني: مشايخ السُّلوك؛ سلوك القلوب وأعمال القلوب من أهل الاستقامة وأهل البصيرة.
الشيخ: وهذا الأمر قد مُلئ به القرآن، كما قال سبحانه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، يُحبون ذاته جلَّ وعلا؛ لإحسانه، وكمال إنعامه، وتوفيقه لهم بهدايته، ويُحبهم أيضًا لإقامتهم أمره، وإصلاحهم، واستقامتهم، ويُحبهم لهذه الخصال التي تخلَّقوا بها، قال جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة:222]، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
فالقرآن مملوءٌ من هذه الصِّفات العظيمة التي أخبر بها سبحانه، وأنه يُحب أولياءه وأهلَ طاعته، كما أنهم يُحبونه تعالى محبةً صادقةً؛ لإحسانه، وإنعامه، وإكرامه، وتوفيقه، وهدايته لهم.
وَكَذَلِكَ أبو الْقَاسِم ذكر ذَلِك فِي الرِّسَالَة على طَرِيق الصُّوفِيَّة، كَمَا فِي كتاب أبي طَالب الْمَكِّيّ الْمُسَمّى بـ"قوت الْقُلُوب".
وأبو حَامِد -مَعَ كَونه تَابع فِي ذَلِك الصُّوفِيَّة- اسْتندَ فِي ذَلِك لما وجده من كتب الفلاسفة من إثبات نَحْو ذَلِك، حَيْثُ قَالُوا: يَعْشَق ويُعْشَق.
وَقد بسطت الْكَلَامَ على هَذِه الْمَسْأَلَة الْعَظِيمَة فِي الْقَوَاعِد الْكِبَار بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
وَقد قَالَ الله تَعَالَى: يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، وَقَالَ تَعَالَى: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:24].
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِي ﷺ أنه قَالَ: ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وجد حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ وَرَسُوله أحبَّ إليه مِمَّا سواهُمَا، وأن يُحبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبّهُ إلا لله، وأن يكره أن يرجع فِي الْكُفْر بعد أن أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره أن يُقذف فِي النَّار.
الشيخ: كلام طيب، جزاه الله خيرًا.
وَالْمَقْصُود هُنَا أنَّ هَؤُلَاءِ المتجهمة من الْمُعْتَزلَة وَمَن وافقهم الَّذين يُنكِرُونَ حَقِيقَةَ الْمحبَّة يَلْزمهُم أن يُنكروا التَّلَذُّذ بِالنَّظرِ إليه؛ وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة عِنْدَهم إلا التَّنعم بِالْأَكْلِ وَالشُّرب وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا القَوْل بَاطِلٌ بِالْكِتاب وَالسُّنة واتِّفاق سلف الأمة ومشايخها، فَهَذَا أحد الحزبين الغالطين.
والحزب الثَّانِي: طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتنسِّكة وافقوا هَؤُلَاءِ على أنَّ الْمحبَّة لَيست إلا هَذِه الأمور الَّتِي يتنعم بهَا الْمَخْلُوق، وَلَكِن وافقوا السَّلف والأئمة على إثبات رُؤْيَة الله، والتَّنعم بِالنَّظرِ إليه، وأصابوا فِي ذَلِك، وصاروا يَطْلبُونَ هَذَا النَّعيم، وتسمو همَّتهم إليه، وَيَخَافُونَ فَوَاته، وَصَارَ أحدهم يَقُول: مَا عبدتُك شوقًا إلى جنَّتك، وَلَا خوفًا من نارك، وَلَكِن لأنظر إليك، أو إجلالًا لَك.
الشيخ: هذه من ورطات المتصوفة، وأغلاط المتصوفة؛ فإنَّ الرسل -وهم أشرف الناس- والمؤمنون عبدوه سبحانه رجاء جنته، وخوف عذابه، ورجاء طلب وجهه سبحانه، كما قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]؛ رغبًا في جنته ونعيمه، ورهبًا من عذابه : يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] .
فالرسل -وهم أكمل الناس- والمؤمنون -وهم أكمل الناس بعد الرسل- عبدوا الله محبةً له، وشوقًا إليه، وخوفًا من عذابه، وطمعًا في ثوابه .
فلا يخفى على المؤمن أن يكون خائفًا من عذاب الله، ولا نقصَ عليه إذا كان يرجو رحمته، كما أنه لا نقصَ عليه في شوقه إليه، والنَّظر إلى وجهه الكريم ، فأهل الإيمان عبدوه جلَّ وعلا طاعةً له، وتعظيمًا لأمره، وأداءً لحقِّه، وشوقًا إلى هذه الأمور التي أخبرهم بها : من جنةٍ وقُربةٍ إلى وجه الله، وتلذذ بطاعته، وتلذذ بالنظر إلى وجهه، وتلذذ بمحبَّته، وخوفًا من عذابه وغضبه ، ولكن المتصوفة بعضُهم عنده نقصٌ في الإيمان، وضعفٌ في العقل، يظن أنه إذا قصد الجنةَ أو الخوف من النار لا يكون ذلك إلا بنقصٍ في إيمانه، ونقصٍ في سلوكه، وهذا من الجهل.
الطالب: يقول: الذِّمة بالكسر: العهد والكفالة، كالذّمامة، ويُكسر، والذّمي بالكسر هو مأدبة الطعام أو العرس، والقوم المعاهدون، وأذم له وعليه: أخذ له الذِّمة، وفلان أجاره.
الشيخ: يكفي، الله أعلم.
وأمثال هَذِه الْكَلِمَات، ومقصودهم بذلك طلب مَا هُوَ أعلى من الأكل وَالشُّرب والتَّمتع بالمخلوق، وَلَكِن غلطوا فِي إخراج ذَلِك من الْجنَّة، وَقد يغلطون أيضًا فِي ظنِّهم أنَّهم يَعْبدُونَ الله بلا حظٍّ، وَلَا إرادةٍ، وأنَّ كلَّ مَا يطلب مِنْهُ فَهُوَ حَظُّ النَّفس، وتوهَّموا أنَّ الْبَشَر يَعْمَل بِلَا إرادةٍ، وَلَا مَطْلُوبٍ، وَلَا مَحْبُوبٍ، وَهُوَ سُوء معرفَةٍ بِحَقِيقَة الإيمان وَالدِّين والآخرة.
وَسبب ذَلِك أنَّ همَّة أحدهم الْمُتَعَلّقَة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تُفنيه عَن نَفسه، حَتَّى لَا يَشْعر بِنَفسِهِ وإراداتها، فيظنّ أنه يفعل بِغَيْر مُرَادٍ، وَالَّذِي طلبه وعلق بِهِ همَّته هُوَ غَايَة مُرَاده ومحبوبه ومطلوبه.
وَهَذَا كَحال كثيرٍ من الصَّالِحين والصَّادقين وأرباب الأحوال والمقامات؛ يكون لأحدهم وجدٌ صَحِيحٌ، وذوقٌ سليمٌ، لَكِن لَيْسَ لَهُ عبارَة تُبين مُرَاده، فَيَقَع فِي كَلَامه غلطٌ وَسُوءُ أدبٍ، مَعَ صِحَّة مَقْصُوده، وإن كَانَ من النَّاس مَن يَقع مِنْهُ غلطٌ فِي مُرَاده واعتقاده.
فَهَؤُلَاءِ الَّذين قَالُوا مثل هَذَا الْكَلَام إذا عنوا بِهِ طلب رُؤْيَة الله تَعَالَى أصابوا فِي ذَلِك، لَكِن أخطأوا من جِهَة أنَّهم جعلُوا ذَلِك خَارِجًا عَن الْجنَّة، فأسقطوا حُرْمَةَ اسْم الْجنَّة، وَلزِمَ من ذَلِك أمور مُنكرَة.
وَنَظِير ذَلِك مَا ذكره عَن الشّبلي رَحمَه الله أنه سمع قَارِئًا يَقْرَأ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152]، فَصَرَخَ وَقَالَ: أيْنَ مَن يُرِيد الله؟ فيحمد مِنْهُ كَونه أراد الله، وَلَكِن غلط فِي ظَنّه أنَّ الَّذين أرادوا الآخرة مَا أرادوا الله، وَهَذِه الآية فِي أصحاب النَّبِي ﷺ الَّذين كَانُوا مَعَه بِأحد، وهم أفضل الْخلق، فَإِن لم يُرِيدُوا الله، أفيُريد اللهَ مَن هُوَ دونهم كالشّبلي وأمثاله؟!
الشيخ: الشّبلي صوفي جاهل بالحقائق، فصرخته هذه الصَّرخة تدل على الجهل الكبير، فإنَّ مَن أراد الآخرة دخل في ذلك الجنة، والنَّجاة من النار، ورؤية الله سبحانه، وسماع كلامه، والنَّظر إلى وجهه، كله داخلٌ في إرادة الآخرة، كما قال المؤلفُ رحمه الله.
وَمثل ذَلِك مَا أعرفه عَن بعض الْمَشَايِخ أنه سُئِلَ مرّةً عَن قَوْله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، قَالَ: فَإِذا كَانَت الأنفس والأموال فِي ثمن الْجنَّة، فالرُّؤية بِمَ تُنَال؟ فَأَجَابَهُ مُجيبٌ بِمَا يُشبه هَذَا السُّؤَال.
وَالْوَاجِب أن نعلم أنَّ كلَّ مَا أعدَّه الله لأوليائه من نعيمٍ: بِالنَّظرِ إليه، وَمَا سوى ذَلِك، فَهُوَ فِي الْجنَّة، كَمَا أنَّ كلَّ مَا توعد بِهِ أعداءه هُوَ فِي النَّار.
الشيخ: والمعنى أنَّ مذهب أهل السنة رؤية وجه الله في الجنة، لكن هذا الصوفي الجاهل ظنَّ أن رؤية الله ما هي داخلة في الجنة، وهذا من الجهل، فالله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة وما فيها من النَّعيم: من مأكلٍ، ومشربٍ، ومنكحٍ، وأعظم من ذلك ما فيها من رؤية الله والنَّظر إلى وجهه الكريم الذي وعدهم به ، وهي الزيادة التي وعدهم بها ، كله داخلٌ في الجنَّة.
وَالْوَاجِب أن نعلم أنَّ كلَّ مَا أعدَّه الله لأوليائه من نعيمٍ بِالنَّظرِ إليه، وَمَا سوى ذَلِك، فَهُوَ فِي الْجنَّة، كَمَا أنَّ كلَّ مَا توعد بِهِ أعداءه هُوَ فِي النَّار، وَقد قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17].
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ: يَقُول الله: أعددتُ لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عينٌ رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعَتْ، وَلَا خطر على قلب بشرٍ، بله مَا اطَّلعتُم عَلَيْهِ.
الشيخ: ومعنى هذا أنَّ الله أعدَّ لهم في الجنة أشياء لا سمعوها، ولا رأوها، ولا خطرت على قلوبهم في هذه الدنيا من أنواع النَّعيم العظيم الذي ما خطر على قلب بشرٍ؛ ولهذا قال: بله ما اطَّلعتم عليه في الدنيا، يعني: غير ما اطَّلعتم عليه في الدنيا، يعني: غير ما اطَّلعتم عليه في الدُّنيا: ما اطَّلعوا عليه من الحور والنَّعيم والاستبرق، والمآكل والمشارب والقصور والأنهار، كل هذا غير ما أعدّ الله لهم من الشيء الزائد من أنواع النَّعيم التي لم تخطر على بالهم: أعددتُ لعبادي يعني: في الجنَّة ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ؛ ولهذا قال سبحانه: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، هذا فضله وجوده .
الشيخ: قوله: (بكرةً وعشيًّا) يعني: مقدار البكرة والعشي؛ لأنَّ في الجنة نهارًا مُطردًا، ما فيها ليل، كلها نهار مُطَّرد، ونور مطرد، لكن أعلى الجنة نعيمًا مَن ينظر إلى وجه الله بكرةً وعشيًّا، يعني: مقدار الأربع والعشرين ساعة، مرتين خلال الأربع والعشرين ساعة، مقدار البكرة والعشي أقلّ من أربعة وعشرين ساعة، وهذا بفضل الله عليهم ، وله رؤية في مقدار الأسبوع، وله رؤية غير ذلك، لكن أعلاهم منزلةً بسبب إيمانه وتقواه وأعماله الصَّالحة -كالرسل ومَن شاركهم في هذا الشيء- ينظرون إلى وجه ربِّهم بُكرةً وعشيًّا، وهذا فضله وجوده وكرمه جلَّ وعلا.
س: ................؟
ج: كلهم رجالهم ونساؤهم يرون الله ، لكن يتفاوتون في الأوقات، مثلما قال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والحسنى: الجنة، والزيادة: النَّظر إلى وجه الله وما يُعطون من الخير الكثير، علاوةً على ما أعطوا.
الشيخ: إنَّ لكم عند الله موعدًا يُريد أن يُنجزكموه، فيقولون: ألم تُبيض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة؟ ألم تُجرنا من النار؟ قال: بلى، قال: ثم يكشف لهم الحِجاب عن وجهه، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النَّظر إلى وجهه.
وفي اللَّفظ الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: ألا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيض وجوهنا؟ .. إلى آخره، فيقول: رضائي عنكم، فإني أرضى عنكم رضاءً لا أسخط عليكم بعده أبدًا .
الطالب: تكلم في الحاشية على الحديث السابق، يقول: عن ابن عمر رضي الله عنهما في "مسند أحمد" في موضعين، والرِّواية الثانية أقرب إلى رواية ..... من مسيرة ألف سنة، وإنَّ أكرمهم على الله مَن ينظر إلى وجهه بُكرةً وعشيًّا، ثم تلا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22- 23].
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه: إسناده ضعيف جدًّا؛ لضعف سويد ابن أبي فاختة الذي رواه عن ابن عمر. وأشار إلى وجود الحديث في "مجمع الزوائد"، ولم يذكر آخره: وإنما أفضلهم منزلةً .. إلى آخره.
الشيخ: عبارة الشيخ؟
الطالب: وَكَذَلِكَ فِي قَوْله فِي حَدِيث ابْن عمر، عَن النَّبِي ﷺ: أنَّ أدنى أهل الْجنَّة منزلَةً مَن ينظر فِي مُلكه من مسيرَة ألف عَامٍ.
الشيخ: ظاهر كلام الشيخ أنه ثابتٌ عنده على الإطلاق.
وإذا علم أنَّ جَمِيع ذَلِك وأمثاله دَاخلٌ فِي الْجنَّة فَالنَّاس على دَرَجَات متفاوتة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21].
وكل مَطْلُوبٍ للْعَبد بِعبَادةٍ وقُربةٍ، أو دُعَاءٍ، أو غير ذَلِك من مطَالب الآخرة هُوَ فِي الْجنَّة.
وَطلب الْجنَّة والاستعاذة من النَّار طَرِيق أنبياء الله وَرُسُله، وَجَمِيع أولياء الله السَّابِقين المقرَّبين، وأصحاب الْيَمين، كَمَا فِي السُّنَن: أنَّ النَّبِي ﷺ سَأَلَ بعضَ أصحابه: كَيفَ تَقول فِي دُعائك؟ قَالَ: أقول: اللَّهُمَّ إني أَسأَلك الْجنَّةَ، وأعوذ بك من النَّار، أما إني لَا أُحسن دندنتك وَلَا دندنة معَاذٍ. فَقَالَ النَّبِي ﷺ: حولهَا نُدندن.
فقد أخبر أنه هُوَ ﷺ ومعاذ -وَهُوَ أفضل الأئمة الراتبين بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاة النَّبِي ﷺ- إنما يُدندنون حول الْجنَّة، أفيكون قَولُ أحدٍ فَوق قَول رَسُول الله ﷺ ومعاذ وَمَن يُصَلِّي خلفهمَا من الْمُهَاجِرين والأنصار؟! وَلَو طلب هَذَا العَبْدُ مَا طلب كَانَ فِي الْجنَّة، وَأهل الْجنَّة نَوْعَانِ: سَابِقُونَ مُقرَّبون، وأبرار أَصْحَاب يَمِينٍ.
قَالَ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18- 28].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُمزج لأَصْحَاب الْيَمين مزجًا، ويشربها المقرَّبون صرفًا.
وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أنه قَالَ: إذا سَمِعْتُم الْمُؤَذِّن فَقولُوا مثل مَا يَقُول، ثمَّ صلُّوا عليَّ، فإنه مَن صلَّى عليَّ مرّةً صلَّى الله عَلَيْهِ عشرًا، ثمَّ سلوا اللهَ لي الْوَسِيلَة، فإنَّها دَرَجَة فِي الْجنَّة لَا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذَلِك العَبْد، فَمَن سَأَلَ اللهَ لي الْوَسِيلَة حلَّت عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَة.
فقد أخبر أنَّ الْوَسِيلَة الَّتِي لَا تصلح إلا لعبدٍ وَاحِدٍ من عباد الله، وَرَجا أن يكون هُوَ ذَلِك العَبْد، هِيَ دَرَجَة فِي الْجنَّة، فَهَل بَقِي بعد الْوَسِيلَة شَيْءٌ أعلى مِنْهَا يكون خَارِجًا عَن الْجنَّة يصلح للمخلوقين؟
الشيخ: والمقصود من هذا الردّ على هؤلاء الذين يقولون: ما عبدناك لأجل الجنة، أو للخوف من النار، وإنما عبدناك للرؤيا. هذا من جهلهم، النبي ﷺ طلب من الأمة أن يسألوا الله له هذه المنزلة، وهي في الجنة، فإنَّ مَن دخل الجنة حصل له كل خيرٍ، وسلم من كل شرٍّ، حصلت له الرؤيا، وحصل له جميع النعيم.
الشيخ: هذا السؤال من باب التَّقرير، وإلا فهو يعلم أحوالهم، ويعلم طلباتهم، لكن لإظهاره بين الناس، وإظهاره بين الملائكة؛ حتى يعلمه الناس، حتى يعلمه المسلمون؛ ولهذا أوحى اللهُ إلى نبيِّه عليه الصلاة والسلام ليعلم الناسَ على الخير، حتى يُسابقوا إليه، وإنَّ الجنةَ أعلا المطالب، والنار أعلا المراهب، وأشدّ المراهب.
فالمؤمنون في الدنيا يطلبون الجنةَ، ويتعوذون من النار، وهم ما رأوا هذه، ولا هذه، ولكن جاءهم الخبرُ اليقين عن رسولهم، وفي كتاب ربهم، فكأنهم قد رأوها؛ لصدق الأخبار التي جاءت في ذلك عن نبيهم، وفي كتاب ربهم، فجاءهم علمُ اليقين؛ ولهذا سألوا الجنةَ، وتعوَّذوا بالله من النار، ولو رأوهما لكانوا أشدَّ طلبًا للجنة، وأشدَّ هربًا من النار؛ لأنَّ الرائي غير المخبر، ليس الرائي كالمخبر، ليس مَن رأى كمَن سمع، ولكن العلم اليقيني والخبر اليقيني يُكسب الناس اليقين، ويُكسبهم الشوق إلى الخير، والرهبة من الشَّر.
قَالَ: فَيَقُولُونَ: فيهم فلَان الخطَّاء جَاءَ لحَاجَةٍ فَجَلَسَ مَعَهم، قَالَ: فَيَقُول: هم الْقَوْم لَا يشقى بهم جليسُهم، فَهَؤُلَاءِ الَّذين هم من أفضل أولياء الله كَانَ مطلوبهم الْجنَّة، ومهربهم من النَّار.
وأيضًا فالنبي ﷺ لما بَايع الأنصار لَيْلَة الْعَقبَة، وَكَانَ الَّذين بَايعُوهُ من أفضل السَّابِقين الأولين، الَّذين هم أفضل من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ كلهم، قَالُوا للنَّبِي ﷺ: اشْتَرِط لِرَبِّك وَلِنَفْسِك ولأصحابك. قَالَ: أشترط لنَفْسي أن تنصروني مِمَّا تَنْصرُونَ مِنْهُ أنفسكم وأهليكم، وَأشْترط لِأَصْحَابِي أن تُواسوهم، قَالُوا: فَإِذا فعلنَا ذَلِك فَمَا لنا؟ قَالَ: لكم الْجنَّة، قَالُوا: امدد يدك، فوَاللَّه لَا نقيلك وَلَا نستقيلك. وَقد قالوا لَهُ فِي أثناء الْبَيعَة: أنَّ بَيْننَا وَبَين الْقَوْم حِبَالًا وعهودًا، وإنا ناقضوها.
فَهَؤُلَاءِ الَّذين بَايعُوهُ هم من أعظم خلق الله محبَّةً لله وَرَسُوله، وبذلًا لنفوسهم وأموالهم فِي رضَا الله وَرَسُوله على وَجهٍ لَا يلحقهم فِيهِ أحدٌ من هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرين، قد كَانَ غَايَةُ مَا طلبوه بذلك الْجنَّة، فَلَو كَانَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ أعلى من ذَلِك لطلبوه، لكِنَّهم علمُوا أنَّ فِي الْجنَّة كلَّ مَحْبُوبٍ ومطلوبٍ، بل وَفِي الْجنَّة مَا لَا تشعر بِهِ النُّفُوس لتطلبه، فَإِنَّ الطّلب وَالْحبَّ والإرادة فرعٌ عَن الشُّعُور والإحساس والتَّصور، فَمَا لَا يحسّه الإنسان وَلَا يتصوره وَلَا يَشْعر بِهِ يمْتَنع أن يَطْلُبَهُ وَيُحِبّهُ ويُريده.
وَالْجنَّة فِيهَا هَذَا وَهَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، وَقَالَ: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف:71].
فَفِيهَا كلّ مَا يشتهونه، وفيهَا مزِيدٌ على ذَلِك، وَهُوَ مَا لم يبلغهُ علمُهم ليشتهوه، كَمَا قَالَ ﷺ: مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت، وَلَا خطر على قلب بشرٍ، وَهَذَا بَابٌ وَاسعٌ.
فَإِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة، فَقَوْل الْقَائِل: (الرِّضَا أن لَا تسْأَل الله الْجنَّة، وَلَا تستعيذه من النَّار) إن أراد بذلك أن لَا تسْأَل اللهَ مَا هُوَ دَاخلٌ فِي مُسَمّى الْجنَّة الشَّرْعِيَّة، فَلَا تسأله النَّظر إليه، وَلَا غير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَطْلُوب جَمِيع الأنبياء والأولياء، وأنك لَا تستعيذ بِهِ: لَا من احتجابه عَنْك، وَلَا من تعذيبك فِي النَّار. فَهَذَا الْكَلَام مَعَ كَونه مُخَالفًا لجَمِيع الأنبياء وَالْمُرْسَلِينَ وَسَائِر الْمُؤمنِينَ، فَهُوَ مُتناقض فِي نَفسه، فَاسد فِي صَرِيح الْمَعْقُول؛ وَذَلِكَ أنَّ الراضي الَّذِي لَا يَسْأَل، إنما لَا يَسْأَله لرضاه عَن الله، وَرضَاهُ عَنهُ إنما هُوَ بعد مَعْرفَته بِهِ، ومحبَّته لَهُ، فَإِذا قدر أنه حجب فَرضِي بِزَوَال كل نعيمٍ، فَرَضِي بِزَوَال رِضَاهُ عَن الله، وبزوال محبَّته لله، وإذا لم يَبْقَ مَعَه رضَا عَن الله، وَلَا محبَّة لله، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يرضى أن لَا يرضى. وَهَذَا جمعٌ بَين النَّقيضين، وَلَا ريبَ أنه كَلَامُ مَن لم يتَصَوَّر مَا يَقُول، وَلَا عقله.
يُوضح ذَلِك أنَّ الراضي إنما يحملهُ على احْتِمَال المكاره والآلام مَا يجده من لَذَّة الرِّضَا وحلاوته، فَإِذا فقد تِلْكَ الْحَلَاوَة واللَّذة امْتَنع أن يحْتَمل ألـمًا ومرارةً، فَكيف يتَصَوَّر أن يكون رَاضِيًا وَلَيْسَ مَعَه من حلاوة الرِّضَا مَا يحمل بِهِ مرَارَة المكاره؟ وإنما هَذَا من جنس كَلَام السَّكْرَان والفاني الَّذِي وجد فِي نَفسه حلاوة الرِّضَا، فَظنَّ أنَّ هَذَا يَبْقى مَعَه على أَي حَالٍ كَانَ، وَهَذَا غلطٌ عَظِيمٌ مِنْهُ، كغلط سمنون كَمَا تقدَّم.
وإن أراد بذلك أن لَا يَسْأَل التَّمَتُّع بالمخلوق، بل يَسْأَل مَا هُوَ أعلى من ذَلِك، فقد غلط من وَجْهَيْن:
من جِهَة أنه لم يَجْعَل ذَلِك الْمَطْلُوب من الْجنَّة، وَهُوَ أَعلَى نعيم الْجنَّة.
وَمن جِهَة أنه أيضًا أثْبَتَ أنه طَالبٌ، مَعَ كَونه رَاضِيًا، فَإِذا كَانَ الرِّضَا لَا يُنَافِي هَذَا الطَّلب؛ فَلَا يُنَافِي طلبًا آخر إذا كَانَ مُحْتَاجًا إلى مَطْلُوبه.
وَمَعْلُومٌ أنَّ تنعمه بِالنَّظرِ لَا يتمّ إلا بسلامته من النَّار، وبتنعمه من الْجنَّة بِمَا هُوَ دون النَّظر، وَمَا لَا يتمّ الْمَطْلُوب إلا بِهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ، فَيكون طلبُه للنَّظَر طلبًا للوازمه الَّتِي مِنْهَا النَّجَاة من النَّار، فَيكون رِضَاهُ لَا يُنَافِي طلب حُصُول الْمَنْفَعَة، وَلَا دفع الْمضرَّة عَنهُ، وَلَا طلب حُصُول الْجنَّة، وَدفع النَّار، وَلَا غَيرهمَا مِمَّا هُوَ من لَوَازِم النّظر، فَتبين تنَاقض قَوْله.
وأيضًا فَإِذا لم يَسْأَل الله الْجنَّة، ولم يستعذ بِهِ من النَّار: فإمَّا أن يَطْلب من الله مَا هُوَ دون ذَلِك مِمَّا يحْتَاج إليه من جلب مَنْفَعَةٍ، وَدفع مضرَّةٍ. وإمَّا أن لَا يَطْلُبهُ، فَإِن طلب مَا هُوَ دون ذَلِك، واستعاذ مِمَّا هُوَ دون ذَلِك، فَطَلَبه للجنة أولى، واستعاذته من النَّار أولى.
وإن كَانَ الرِّضَا أن لَا يَطْلب شَيْئًا قطّ وَلَو كَانَ مُضْطَرًّا إليه، وَلَا يستعيذ من شَيْءٍ قطّ وَلَو كَانَ مُضرًّا بِهِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أن يكون مُلتفتًا بِقَلْبِه إلى الله فِي أن يفعل بِهِ ذَلِك، وإمَّا أن يكون مُعرضًا عَن ذَلِك، فَإِن الْتَفَتَ بِقَلْبِه إلى الله فَهُوَ طَالبٌ مُستعيذٌ بِحَالهِ.
وَلَا فرقَ بَين الطَّلب بِالْحَال والقال، بل هُوَ بهما أكمل وأتمّ، فَلَا يعدل عَنهُ، وإن كَانَ مُعرضًا عَن جَمِيع ذَلِك، فَمن الْمَعْلُوم أنه لَا يحيا وَيبقى إلا بِمَا يُقيم حَيَاته، وَيَدْفَع مضاره، فَذَلِك الَّذِي بِهِ يحيا من طلب جلب الْمَنَافِع، وَدفع المضارّ، أما أن يُحِبّهُ ويطلبه ويُريده من أحدٍ، أو لَا يُحِبّهُ، وَلَا يَطْلُبهُ، وَلَا يُريدهُ، فَإِن أحبَّه وَطَلَبه وأراده من غير الله كَانَ مُشْركًا مذمومًا، فضلًا على أن يكون مَحْمُودًا، وإن قَالَ: لَا أحبّه، وَلَا أطلبه، وَلَا أُريده: لَا من الله، وَلَا من خلقه.
قيل: هَذَا مُمْتَنعٌ فِي الْحَيّ؛ فَإِنَّ الْحَيَّ يمْتَنع عَلَيْهِ أن لَا يحبّ مَا بِهِ يَبْقى، وَهَذَا أمرٌ مَعْلُومٌ بالحسِّ، وَمَن كَانَ بِهَذِهِ المثابة امْتَنع أن يُوصَف بِالرِّضَا؛ فَإِنَّ الراضي مَوْصُوفٌ بحبٍّ وإرادةٍ خَاصَّةٍ، إذ الرِّضَا مُسْتَلْزمٌ لذَلِك، فَكيف يُسلب عَنهُ ذَلِك كُله، فَهَذَا وأمثاله مِمَّا يُبين فَسَاد هَذَا الْكَلَام فِي الْعَقْل.
وأما الرِّضَا فِي سَبِيل الله وَطَرِيقه وَدينه فَمن وُجُوه:
أحدها: أن يُقَال: الراضي لَا بُدَّ أن يفعل مَا يرضاه الله، وإلا فَكيف يكون رَاضِيًا عَن الله مَن لَا يفعل مَا يرضاه الله؟ وَكَيف يسوغ رضَا مَا يكرههُ الله ويسخطه ويذمّه وَيَنْهى عَنهُ؟
وَبَيَان هَذَا أنَّ الرِّضَا الْمَحْمُود: إمَّا أن يكون اللهُ يُحِبهُ ويرضاه، وإما أن لَا يُحِبهُ ويرضاه، فَإِن لم يكن يُحِبّهُ ويرضاه لم يكن هَذَا الرِّضَا مَأْمُورًا بِهِ: لَا أمر إيجابٍ، وَلَا أمر اسْتِحْبَابٍ، فَإِنَّ من الرِّضَا مَا هُوَ كفر: كرضا الْكفَّار بالشرك، وَقتل الأنبياء، وتكذيبهم، ورضاهم بِمَا يسخطه الله ويكرهه، قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]، فَمَن اتَّبع مَا يُسْخط الله بِرِضَاهُ وَعَمله فقد أسخط الله.
وَقَالَ النَّبِي ﷺ: إنَّ الْخَطِيئَة إذا عُملت فِي الأرض كَانَ مَن غَابَ عَنْهَا ورضيها كمَن شَهِدَهَا، وَمَن شَهِدَهَا وسخطها كَانَ كمَن غَابَ عَنْهَا وأنكرها، وَقَالَ ﷺ: سَيكون بعدِي أُمراء تعرفُون وتُنكرون، فَمَن أنكر فقد برِئ، وَمَن كره فقد سلم، وَلَكِن مَن رَضِي وتابع.
س: ..............؟
ج: ظاهره أنه صحيح، ما أعرف حاله.
الطالب: أحسن الله إليك، يقول: الحديث عن العرس بن عميرة الكندي في "سنن أبي داود"، كتاب الملاحم، باب الأمر والنَّهي، ونصه فيه: إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان مَن شهدها فكرهها -وقال مرةً: أنكرها- كان كمَن غاب عنها، ومَن غاب عنها فرضيها كان كمَن شهدها.
وقال السيوطي في "الجامع الكبير": "سنن أبي داود"، والطبراني في "المعجم الكبير" عن العرس بن عميرة. وانظر تحقيق اسم عرس وصحبته في "الإصابة".
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في "صحيح الجامع الصغير" عن الحديث: أنه حسن.
الشيخ: العرس بن عميرة، نعم.
وَقَالَ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:96]، فرضانا عَن الْقَوْم الْفَاسِقين لَيْسَ مِمَّا يُحِبهُ الله ويرضاه، وَهُوَ لَا يرضى عَنْهُم.
وَقَالَ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، فَهَذَا رضى قد ذمَّه الله.
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا [يونس:7].
فَهَذَا أَيْضًا مَذْمُومٌ، وشواهد هَذَا كَثِيرَة، فَمَن رَضِيَ بِكُفْرِهِ وَكُفر غَيره، وفسقه وَفسق غَيره، ومعاصيه ومعاصي غَيره، فَلَيْسَ هُوَ مُتَّبِعًا لرضا الله، وَلَا هُوَ مُؤمن بِاللَّه، بل هُوَ مُسخط لرَبه، وربه غَضْبَان عَلَيْهِ، لَاعن لَهُ، ذامٌّ لَهُ، مُتوعد لَهُ بالعقاب.
وَطَرِيق الله الَّتِي يَأْمُر بهَا الْمَشَايِخ المهتدون إنما هِيَ الأمر بِطَاعَة الله، وَالنَّهْي عَن مَعْصِيَته، فَمَن أمر وَاسْتحبَّ، أو مدح الرِّضَا الَّذِي يكرههُ الله ويذمّه وَينْهى عَنهُ ويُعاقب أصحابه، فَهُوَ عَدو لله، لَا ولي لله، وَهُوَ يصدّ عَن سَبِيل الله وَطَرِيقه، لَيْسَ بسالكٍ لسبيله وَطَرِيقه.
وإذا كَانَ الرِّضَا الْمَوْجُود فِي بني آدم مِنْهُ مَا يُحِبّهُ الله، وَمِنْه مَا يكرههُ ويسخطه، وَمِنْه مَا هُوَ مُبَاحٌ: لَا من هَذَا، وَلَا من هَذَا، كَسَائِر أعمال الْقُلُوب من الْحبِّ والبُغض وَغير ذَلِك، كلهَا يَنْقَسِم إلى مَحْبُوبٍ لله، ومكروهٍ لله، ومباحٍ.
فَإِذا كَانَ الأمر كَذَلِك فالرَّاضي الَّذِي لَا يَسْأَل الله الْجنَّة، وَلَا يستعيذه من النَّار.
الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ هذا يتبع المرضي به والمحبوب، فقسم كفر، وقسم معصية، وقسم مباح، فمَن أحبَّ الكفر ورضي به صار من قسم الكفر، ومَن أحبَّ المعصية ورضي بها صار من المعاصي، ما لم يستحلّها، فإن استحلَّها كفر، ومَن أحبَّ المباح ورضي بالمباح فلا حرجَ: كالطعام والشراب واللباس المباح ونحو ذلك. وهو ينقسم على حسب المحبوب.
الطالب: العرس بضم أوله، وسكون الراء، بعدها مهملة، ابن عميرة الكندي، أخو عدي السَّابق، صحابي مُقلّ، قيل: عميرة أمه، واسم أبيه: قيس بن سعيد بن الأرقم. وقال أبو حاتم: هما اثنان. أبو داود والنَّسائي.
الشيخ: نعم.
فالرَّاضي الَّذِي لَا يَسْأَل اللهَ الْجنَّة، وَلَا يستعيذه من النَّار، يُقَال لَهُ: سُؤال الله الْجنَّة، واستعاذته من النَّار إما أن تكون وَاجِبَةً، وإما أن تكون مُسْتَحبَّةً، وإما أن تكون مُبَاحَةً، وإما أن تكون مُحرَّمَةً، وإما أن تكون مَكْرُوهَةً.
وَلَا يَقُول مُسلمٌ أنها مُحرَّمَة، وَلَا مَكْرُوهَة، وَلَيْسَت أيضًا مُبَاحَة، مستوية الطَّرفَيْنِ، وَلَو قيل أنها كَذَلِك، فَفعل الْمُبَاح المستوي الطَّرفَيْنِ لَا يُنَافِي الرِّضَا؛ إذ لَيْسَ من شَرط الرَّاضي أن لَا يَأْكُل، وَلَا يشرب، وَلَا يلبس، وَلَا يفعل أمثال هَذِه الأمور، فَإِذا كَانَ مَا يَفْعَله من هَذِه الأمور لَا يُنَافِي رِضَاهُ، أيُنافي رِضَاهُ دُعَاء وسؤال هُوَ مُبَاح؟!
وإذا كَانَ الدُّعَاء وَالسُّؤَال كَذَلِك وَاجِبًا أو مُسْتَحبًّا، فمعلومٌ أنَّ الله يرضى بِفعل الْوَاجِبَات والمستحبَّات، فَكيف يكون الراضي الَّذِي هُوَ من أولياء الله لَا يفعل مَا يرضاه الله وَيُحِبّهُ، بل يفعل مَا يسخطه ويكرهه؟! وَهَذِه صفة أعداء الله، لَا أولياء الله.
الشيخ: هذا في الحقيقة –يعني- تنزل من الشيخ، وعناية بالأمر؛ ليُوضح لهم الطريق، وإلا في الحقيقة هم ليسوا أهلًا لهذا، خاض معهم في هذا لأنَّهم كابروا العقول، وكابروا الشَّرائع فيما ذكروه في أنَّ سؤال الجنة أو التَّعوذ بالله من النار يُنافي الرضا عن الله، ويُنافي محبَّة الرؤيا، هذا لا يقوله مَن يعقل ما يقول ويفهم ما يقول، ولكنه رحمه الله تنزل معهم في هذا البحث؛ يشرح لهم بطلان ما هم عليه من الباطل، وإلا فالأمر واضحٌ، شيء جاءت به الرسل، وأنزل اللهُ به الكتاب، ودعا إليه عباده ليسألوه الجنة، ويتعوذوا به من النار، وأن يلجؤوا إليه في الدعاء، ويسألوه ما ينفعهم، ويتعوَّذوا مما يضرُّهم، ثم يعيب هؤلاء الضُّلال على مَن فعل ذلك، ويرون أنه نقصٌ في إيمانه، هذا من أجهل الجهل، ومن أبطل الباطل.
بل كون المؤمن يسأل ربَّه حاجاته، ويضرع إليه، ويسأله الجنة، ويتعوذ من النار، ويسأله أن يُعينه على طاعته، ويسأله أن يُعينه على ترك معصيته، هذا من كمال الإيمان، من كمال تقواه، لا من النَّقص، بل هذا يدل على عظيم علمه بالله، وأنه في أشد الضَّرورة إلى عونه وتسديده وتوفيقه، كيف يزعم أنه يُحبّ الله، وأنه يرضا عن الله، وأنه يُحبّ أن يراه يوم القيامة وفي الجنة، ثم يقول: لا يسأل الجنة، ولا يتعوذ به من النار؟! هذا من أقبح الكلام، ومن أفسد الرأي.
والقُشيري قد ذكر هَذَا فِي أوائل بَاب الرِّضَا، فَقَالَ: اعْلَم أنَّ الْوَاجِبَ على العَبْد أن يرضى بِقَضَاء الله الَّذِي أمر بِالرِّضَا بِهِ؛ إذ لَيْسَ كلُّ مَا هُوَ بِقَضَائِهِ يجوز للْعَبد، أو يجب على العَبْد الرِّضَا بِهِ: كالمعاصي، وفنون محن الْمُسلمين.
وَهَذَا الَّذِي قَالَه قَالَه قبله وَبعده وَغَيره وَمَعَهُ غيرُ وَاحِدٍ من الْعُلمَاء: كَالْقَاضِي أبي بكر، وَالْقَاضِي أبي يعلى، وأمثالهما؛ لما احتجّ عَلَيْهِم بعضُ الْقَدَرِيَّة بِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاء الله مَأْمُورٌ بِهِ، فَلَو كَانَت الْمَعاصِي بِقَضَاء الله لَكنَّا مأمورين بِالرِّضَا بهَا، الرِّضَا بِمَا نهى الله عَنهُ لَا يجوز، فأجابهم أهلُ السُّنة عَن ذَلِك بِثَلَاثَة أجوبة:
أَحدهَا: وَهُوَ جَوَاب هَؤُلَاءِ وجماهير الأئمة: أنَّ هَذَا الْعُمُوم لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فلسنا مأمورين أن نرضى بِكُلِّ مَا قضى وَقدَّر، وَلم يَجِئ فِي الْكِتاب وَالسُّنة أمر بذلك، وَلَكِن علينا أن نرضى بِمَا أمرنا بِالرِّضَا بِهِ: كطاعة الله وَرَسُوله، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره أبو الْقَاسِم.
وَالْجَوَاب الثَّانِي أنَّهم قَالُوا: إنا نرضى بِالْقضَاءِ الَّذِي هُوَ صفة الله أو فعله، وَلَا نرضى بالمقضي الَّذِي هُوَ مَفْعُوله. وَفِي هَذَا الْجَواب ضعفٌ قد بَيَّناهُ فِي غير هَذَا الْمَوضع.
الثَّالِث: أنَّهم قَالُوا أنَّ هَذِه الْمعاصِي لَهَا وَجْهَان:
وَجه إلى العَبْد من حَيْثُ هِيَ فعله وصنعه وَكَسبه.
وَوجه إلى الربِّ من حَيْثُ أنه خلقهَا وقضاها وقدَّرها.
فنرضى من الْوَجْه الَّذِي يُضَاف بِهِ إلى الله، وَلَا نرضى من الْوَجْه الَّذِي يُضَاف بِهِ إلى العَبْد؛ إذ كَونهَا شرًّا وقبيحةً ومُحرَّمةً وسببًا للعذاب والذَّم وَنَحْو ذَلِك، إنما هُوَ من جِهَة كَونهَا مُضَافَةً إلى العَبْد.
وَهَذَا مقَامٌ فِيهِ من كشف الْحَقَائِق والأسرار مَا قد ذكرنَا مِنْهُ مَا ذكرنَا فِي غير هَذَا الْمَوضع، وَلَا يحْتَملهُ هَذَا الْمَكَان؛ فَإِنَّ هَذَا مُتَعَلق بمسائل الصِّفَات وَالْقَدر، وَهُوَ من أعظم مطَالب الدِّين، وأشرف عُلُوم الأولين والآخرين، وأدقها على عقول أكثر الْعَالمين.
الشيخ: وهذا الباب فيه بحثٌ مهم، وهو الكلام في الرضا بقضاء الله وقدره، معلومٌ أنَّ الواجب على المؤمن الصبر على المصائب التي تُصيبه، وعدم الجزع، وعدم فعل ما يُسخط الله: من شقِّ ثوبٍ، أو شقِّ خدٍّ، أو الكلام بشيءٍ. ويُشرع له الرضا أيضًا بما شرع الله له من الطاعات والواجبات، وترك المحارم، يرضى بهذا الأمر، وما شُرع له، ويُصلي ويصوم، فيرضى بقضاء الله هذا، ما قضى الله عليه من طاعته وترك معصيته؛ لأنَّ الله يُحب هذا ويرضاه سبحانه، وهذا لا نزاعَ فيه، هذا من إجماع أهل العلم، الرضا بهذا واجب، الرضا بما أمر الله به، والرضا بترك ما نهى الله عنه، والرضا بكلِّ ما شرع الله لعباده، الرضا به ومحبَّته.
فهذا الرِّضا به قضاءً وقدرًا، والرضا به شرعًا ودينًا كله مطلوب، فإذا قال نُفاةُ القدر أنه: يلزمكم أن ترضوا بمعاصيه. قلنا: لا، لا نرضى بالمعاصي، وإن كانت بقدرٍ، المعاصي قدَّرها الله، ولكن لا نرضى بها، بل نرضى بما أحبَّ الله لنا، وبما شرع الله لنا من طاعته، وترك معصيته، نرضى بذلك، نُحب ذلك، ونصبر عليه، أما ما نهى اللهُ عنه فلا نرضى به، وإن كان ربنا له الحكمة في ذلك، لكن لا نرضى به من جهة فعله، من جهة مَن فعله.
هذا جواب أهل السنة، وهناك جواب ثانٍ ذكره المؤلفُ هنا، وهو: أن نرضى بها من جهة أنَّ الله قضاها وقدَّرها، له الحكمة البالغة، نرضى بها من حيث فعل الله لها، وقضاء الله لها وتقديره؛ لأنه حكيم عليم، ولا نرضى به من جهة المخلوقين، فإنه شرٌّ عليهم ومعصية وضرر عليهم.
والوجه الثالث: أن نرضى به مُضافًا إلى الله، كونه قضى هذا وقدَّره، وسبق في علمه وجوده، نرضى به من جهة الله، ولا نرضى به من جهة فعل المخلوق، وكسب المخلوق.
وهذا الوجه الثالث يقرب من الوجه الثاني، وله صلة به، فإنَّ المعنى مُتقارب، فإنَّ الرضا به من جهة الله فعلًا وقضاءً، أو من جهة الله نسبةً وإضافةً إليه مُتقاربان، فنرضى به من حيث أنَّ الله قدَّره، وهو الحكيم العليم، قدَّر هذه المعاصي وما يقع من الكفر، كله قدَّره لحكمةٍ بالغةٍ؛ ليتميز الصَّالح من الطالح، والطيب من الخبيث؛ وليظهر فضله على أوليائه، وعدله في أعدائه، فنرضى به تقديرًا وقضاءً، ونرضى به منسوبًا إلى الله، مضافًا إليه؛ لأنه حكيم عليم، ولا نرضى به من جهة المخلوق؛ إذا عصى وكفر لا نرضى له بذلك، بل نُقيم عليه حدود الله.
فهذه الأمور الثلاثة بها ينفصل المؤمن وأهل السُّنة من القدرية النُّفاة الذين قالوا: إنَّكم إذا آمنتم بالقدر لزمكم الرضا بالمعاصي. وهذا باطلٌ لا يلزم، نؤمن بقضاء الله وقدره، ولا يلزمنا أن نرضى بالمعاصي من أهلها، ولا بالكفر من أهله، ولكنَّا نعلم أنَّ ربنا حكيم عليم، وأنه قدَّرها لحكمةٍ بالغةٍ، وقضاها لحكمةٍ بالغةٍ، فنرضى بها من جهة قضائه وتقديره وفعله، ولا نرضى بها من جهة فعل المخلوق، وتناول المخلوق، وكسب المخلوق.
س: تضعيف المؤلف للجواب الثاني وقوله: (وفي هذا الجواب ضعفٌ قد بيَّناه في غير هذا الموضع)؟
ج: الضَّعف ليس بواضحٍ؛ لأنه صحيح؛ لأنَّ كونه قضاء من الله ترضى بأنه قضى هذا سبحانه وقدَّره؛ لأنه الحكيم العليم، لا نعترض عليه، لكن الأول أظهر.
س: قوله: (ولا نرضى بالمقضي الذي هو من مفعوله)؟
ج: من مفعوله الذي هو فعل العاصي، فمفعولات المخلوقين هو الذي قضاها، وهو خلقها : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، فمخلوقات الكفَّار والعُصاة كلها مخلوقة لله، ما خلقها غيره ، فالعبد مخلوقٌ، وأفعاله مخلوقة: من معصيةٍ وطاعةٍ، ولكنا نرضى بها من جهة أنَّ الله قدَّر وقضى، فنرضى عنه سبحانه، ونرضى عنه ونعلم أنه حكيم عليم، فلا نُنكر عليه، ولا نعترض عليه، ولا نُسيء به الظنّ ، بل له الحكمة البالغة في كل شيءٍ.
س: قوله: (ونرضى بالقضاء الذي هو فعل الله)؟
ج: مُضاف إلى الله على تقدير اللام، "خلق الله" يعني: خلق لله، "عبد الله" أي: عبدٌ لله، فالمضافات على وجوهٍ ثلاثة: على تقدير اللام، وعلى تقدير من، وعلى تقدير في.
س: وأقواها، أي: المضافات؟
ج: على حسب السياق: شيء يكون بمعنى اللام، وشيء بمعنى من، "خير الله" يعني: خير من الله، "فضل الله" يعني: فضل من الله، "عبد الله": عبد لله، "ناقة الله": ناقة لله، أو من الله، يعني: خلقها.
س: أقوى الوجوه؟
ج: نرضى بما شرع الله، ولا نرضى بما حرَّم الله.
وَالْمَقْصُود هُنَا أنَّ مَشَايِخ الصُّوفِيَّة وَغَيرهم من الْعُلمَاء قد بيَّنوا أنَّ من الرِّضَا مَا يكون جَائِزًا، وَمِنْه مَا لا يكون جَائِزًا، فضلًا عَن كَونه مُسْتَحبًّا، أو من صِفَات المقرَّبين، وإنَّ أبا الْقَاسِم ذكر فِي الرِّسَالَة ذَلِك أيضًا.
فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه أمرٌ بَيِّنٌ وَاضحٌ، فَمن أيْنَ غلط مَن قَالَ: الرِّضَا أن لَا تَسْأَل الله الْجنَّة، وَلَا تستعيذه من النَّار؟ وَغلط مَن يستحسن مثل هَذَا الْكَلَام كَائِنًا مَن كَانَ.
قيل: غلطوا فِي ذَلِك لأَنَّهم رَأَوا أنَّ الراضي بِأَمْرٍ لَا يَطْلب غير ذَلِك الأمر، فَالْعَبْد إذا كَانَ فِي حَالٍ من الأحوال فَمن رِضَاهُ أن لَا يَطْلب غير تِلْكَ الْحَال.
ثمَّ إنهم رَأَوا أنَّ أقصى المطالب الْجنَّة، وأقصى المكاره النَّار، فَقَالُوا: يَنْبَغِي أن لَا يَطْلب شَيْئًا، وَلَو أنه الْجنَّة، وَلَا يكره شَيْئًا، وَلَو أنه النَّار، فَهَذَا وَجه غلطهم، وَدخل الضَّلال عَلَيْهِم من وَجْهَيْن:
أحدهما: ظنّهم أنَّ الرِّضَا بِكُلِّ مَا يكون أمرٌ يُحِبّهُ الله ويرضاه، وأنَّ هَذَا من أعظم طرق أولياء الله، فَجعلُوا الرِّضَا بِكُلِّ حَادثٍ وكائنٍ أو بِكُل حَالٍ يكون فِيهَا العَبْدُ طَرِيقًا إلى الله، فضلوا ضلالًا مُبينًا.
الطَّرِيق إلى الله إنما هِيَ أن تُرضيه بِأَن تفعل مَا يُحِبّهُ ويرضاه، لَا أن تَرْضى بِكُلِّ مَا يحدث وَيكون، فَإِنَّهُ هُوَ لم يَأْمُرك بذلك، وَلَا رضيه لَك، وَلَا أحبَّه، بل هُوَ سُبْحَانَهُ يكره ويسخط وَيبغض على أعيانٍ أو أفعالٍ مَوْجُودَة لَا يُحصيها إلا هُوَ.
وَولَايَة الله مُوَافَقَته: بِأَن تُحبّ مَا يُحبّ، وَتَبْغَض مَا يبغض، وَتكره مَا يكره، وتسخط مَا يَسْخط، وتُوالي مَن يُوالي، وتُعادي مَن يُعادي، فَإِذا كنت تُحبّ وترضى مَا يسخطه ويكرهه، كنتَ عدوَّه، لَا وليّه، وَكَانَ كلُّ ذمٍّ نَالَ مَن رَضِي مَا أسخط الله قد نالك، فَتدبر هَذَا، فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ على أصلٍ عَظِيمٍ ضلَّ فِيهِ من طوائف النُّساك والصُّوفية والعُباد الْعَامَّة مَن لَا يُحصيهم إلا الله.
الْوَجْه الثَّانِي: أنَّهم لم يُفرقُوا بَين الدُّعَاء الَّذِي أُمروا بِهِ أمر إيجابٍ وأمر اسْتِحْبَابٍ، وَبَين الدُّعَاء الَّذِي نُهوا عَنهُ، أو لم يُؤمَروا بِهِ، وَلم يُنهوا عَنهُ، فَإِنَّ دُعَاء العَبْد لرَبه ومسألته إيَّاه ثَلَاثَة أنواعٍ:
نوعٌ أُمر بِهِ العَبْد: إمَّا أمر إيجابٍ، وإما أمر اسْتِحْبَابٍ، مثل قَوْله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَمثل دُعَائِهِ فِي آخر الصَّلَاة، كالدعاء الَّذِي كَانَ النَّبِي ﷺ يَأْمُر بِهِ أصحابه، فَقَالَ: إذا قعد أحدُكم فِي التَّشَهُّد فليستعذ بِاللَّه من أرْبَعٍ: من عَذَاب جَهَنَّم، وَعَذَاب الْقَبْر، وفتنة الْمحيا وَالْمَمَات، وفتنة الْمَسِيح الدَّجَّال، فَهَذَا دُعَاءٌ أمر بِهِ النَّبِيُّ ﷺ الصَّحَابَة أن يدعوا بِهِ فِي آخر صلَاتهم، وَقد اتَّفقت الأُمَّة على أنه مَشْرُوع يُحِبّهُ الله وَرَسُوله ويرضاه، وَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبه: فأوجبه طَاوُوس وَطَائِفَة، وَهُوَ قَول فِي مَذْهَب أحْمَد، وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا: هُوَ مُسْتَحبٌّ.
والأدعية الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو بهَا أو يُعلم أصحابه أن يدعوا بهَا لَا تخرج عَن أن تكون وَاجِبَةً أو مُستحبَّةً، وكل وَاحِدٍ من الْوَاجِب وَالْمُسْتَحبّ فَالله يُحِبّهُ ويرضاه، وَمَن فعله رَضِي الله عَنهُ وأرضاه، فَهَل يكون من الرِّضَا ترك مَا يُحِبّهُ ويرضاه؟
وَنَوعٌ من الدُّعَاء يَنْهَى عَنهُ: كالاعتداء فِي الدُّعَاء، مثل: أن يَسْأَل الرجلُ مَا لَا يصلح لَهُ مِمَّا هُوَ من خَصَائِص الأنبياء، وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيٍّ، وَرُبمَا هُوَ من خَصَائِص الرب، مثل: أن يَسْأَل لنَفسِهِ الْوَسِيلَة الَّتِي لَا تصلح إلا لعبدٍ من عباده، أو يسْأَل الله أن يَجعله أفضل من أولياء الله، حَتَّى يكون أفضل من أبي بكر وَعمر، أو يسْأَل الله أن يَجعله بِكُل شَيْءٍ عليمًا، أو على كل شَيْءٍ قديرًا، أو يرفع عَنهُ كل حجابٍ يمنعهُ من مُطالعة الغيوب، وأمثال ذَلِك.
أو مثل مَن يَدعُوهُ ظَانًّا أنه مُحْتَاجٌ إلى عباده، وأنهم يبلغون ضرّه ونفعه، فيطلب مِنْهُ ذَلِك الْفِعْل، وَيذكر أنه إذا لم يَفْعَله حصل لَهُ ضيرٌ من الْخَلق. فَهَذَا وَنَحْوه جهلٌ بِاللَّه، واعتداء فِي الدُّعَاء، وإن وَقع فِي نَحْو ذَلِك طَائِفَةٌ من الشُّيُوخ.
وَمثل أن يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لي إن شِئْتَ. فيظن أنَّ الله قد يفعل الشَّيْء مُخْتَارًا، وَقد يفعله مُكْرهًا كالملوك، فَيَقُول: اغْفِر لي إن شِئْتَ.
وَقد نهى النَّبِيُّ ﷺ عَن ذَلِك وَقَالَ: لَا يقل أحدُكم: اللَّهُمَّ اغْفِر لي إن شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إن شِئْتَ، وَلَكِن ليعزم الْمَسْأَلَة؛ فَإِنَّ الله لَا مُكره لَهُ.
وَمثل أن يَقْصد السَّجع فِي الدُّعَاء، ويتشهق، ويتشدق، وأمثال ذَلِك.
الشيخ: إذا جاء من غير قصدٍ لا بأس، أما كونه يتحرَّاه ويتكلف في الشَّهيق، والشَّهيق في دُعائه ليس بصحيحٍ، ليس عن بكاءٍ، ولا عن خشية الله، ونحو ذلك.
س: ..................؟
ج: يحرص على أسباب البكاء، لكن لا يتظاهر بشيءٍ ليس صحيحًا، أو يتكلف بما يشغله عن المشروع من الدعاء والانكسار وإحضار قلبه بين يدي الله، يكون همه هذا، لا يكون همّه السَّجعات والشَّهيق بدون حقيقةٍ.
الشيخ: ومقصوده من هذا رحمه الله كما تقدم أنَّ الواجبَ على العبد أن يُحبّ ما أحبَّه الله، وأن يكره ما كرهه الله، هذا هو المقصود، فما أحبَّه الله أحبَّه العبد وطلبه ورضي به، وما كرهه الله كرهه العبدُ، ما هو المعول على الوجود، وأن الرب أوجده، لا، قد يُوجد المعاصي لحكمةٍ بالغةٍ، ويُوجد أشياء تضرّ العبد، لكنه يُحبّ ما أحبَّه الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، يحب العدل، يحب الإحسان، يحب ما أحبَّه الله: من طاعته، والإحسان إلى عباده، والعدل فيهم، ونحو ذلك. ويكره ما كرهه من الظلم والفسق، وإظهار المعاصي والبدع، ونحو ذلك.
فهكذا في الدُّعاء يدعو بما أحبَّه الله، ويسأل الله الجنة، ويتعوذ به من النار، ويسأل الله الرزق الحلال، والزوجة الصالحة، والذرية الطيبة، ويدعو بالدَّعوات التي دعا بها النبيُّ ﷺ.
أما أن يدعو بدعوات مُنكرة، كأن يقول: اللهم أعطني فوق درجة الصديق، فوق درجة الأنبياء، اللهم علمني الغيب كله، حتى أعلم الغيب، اللهم يسر لي شرب الخمر، اللهم أعني على الزنا، أو ما أشبه ذلك. كل هذا اعتداء وظلم في الدعاء، نسأل الله العافية، أو: اللهم يسر لي قطيعة الرحم، أو عقوق والدي، يستعين بالله على ما حرَّم الله، هذا من الاعتداء في الدعاء؛ ولهذا يقول ﷺ: ما من عبدٍ يدعو الله بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ، ولا قطيعة رحمٍ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجل دعوته في الدنيا، أو تُدخر له في الآخرة، أو يُصرف عنه من السُّوء مثل ذلك، قيل: يا رسول الله، إذًا نُكثر؟ قال: الله أكثر.
إذا كان الدُّعاء ليس فيه شيءٌ، وليس فيه معصية، ولا قطيعة رحمٍ، فهو حري بالإجابة، أما إذا كان فيه اعتداءٌ مثلما ذكر المؤلفُ رحمه الله: يكون الدعاء في نفسه حرامًا، أو يتضمن طلب حرامٍ، مثل الذي يدعو دعاءً مُنكرًا، مثل: اللهم إني أسألك بجاه فلان، أو بحقِّ فلان، أو بحقي عليك، أو ما أشبه ذلك، هذا اعتداءٌ، بل يقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى، اللهم إني أسألك بإيماني بك، ومحبَّتي لك. هذا توسل بما أحبَّ .
س: إذا قال: وأصلح لي في ذُريتي؟
ج: طيب، هذا دعا به إبراهيم، يعني: اجعل لي صلاحًا في ذُريتي، ما قال: من ذريتي.
س: ...............؟
ج: نعم، الخلق غير، الخلق يتضمن الشَّر والخير، الأمر لا، ما يكون إلا خيرًا، خلق الطاعة والمعصية، خلق الكافر والمسلم.
س: ...............؟
ج: لا بأس، يسأله ويجتهد، إذا أجاب الله دعوته، يسَّر الله له الأسباب وأعانه على الأسباب، لكن يسأل ويجتهد، يقول: اللهم ارزقني الحلال، ويجتهد في طلب الحلال، اللهم يسِّر لي طلب العلم، اللهم علمني كذا. ويطلب العلم، ولا يكون عاجزًا، كسلانًا، ما أدَّى واجب السُّؤال.
وَجَمِيع الصِّديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وإنَّ ذَلِك لَا يخرج عَن كَونه وَاجِبًا أو مُسْتَحبًّا، وَطَرِيق أولياء الله الَّتِي يسلكونها لَا تخرج عَن فعل وَاجِبَات ومستحبَّات؛ إذ مَا سوى ذَلِك مُحرَّم أو مَكْرُوه أو مُبَاح لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فِي الدِّين.
ثمَّ إنه مِمَّا أوقع هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْغَلَط: أنهم وجدوا كثيرًا من النَّاس لَا يَسْأَلُون الله جلب الْمَنَافِع وَدفع المضارّ، حَتَّى طلب الْجنَّة والاستعاذة من النَّار، من جِهَة كَون ذَلِك عبَادَةً وَطَاعَةً وَخيرًا، بل من جِهَة كَون النَّفس تطلب ذَلِك، فَرَأَوا أنَّ من الطَّرِيق ترك مَا تختاره النَّفس وتُريده، وأن لَا يكون لأَحَدهم إرادة أصلًا، بل يكون مَطْلُوبه الجريان تَحت الْقدر، كَائِنًا مَن كَانَ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أدخل كثيرًا مِنْهُم فِي الرَّهبانية، وَالْخُرُوج عَن الشَّرِيعَة، حَتَّى تركُوا من الأكل وَالشُّرب واللِّباس وَالنِّكَاح مَا يَحْتَاجُونَ إليه، وَمَا لَا تتمّ مصلحَة دينهم إلا بِهِ، فإنهم رَأَوا الْعَامَّة تعدّ هَذِه الأمور عبَادَةً بِحكم الطَّبْع والهوى وَالْعَادَة، وَمَعْلُومٌ أن الأفعال الَّتِي تقع على هَذَا الْوَجْه لَا تكون عبَادَةً، وَلَا طَاعَةً، وَلَا قُربَةً، فَرَأى أولئك أن الطَّرِيق إلى الله ترك هَذِه الأمور؛ لِأَنَّهَا من الطبيعيات والعادات، فلازموا من الْجُوع والسَّهر وَالْخُلْوَة والصَّمت وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ ترك الحظوظ، وَاحْتِمَال المشاقّ مَا أوقعهم فِي ترك وَاجِبَات ومُستحبّات، وَفعل مكروهات ومحرَّمات، وكلا الْأَمريْنِ غير مَحْمُودٍ، وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ.
وَلَا طَرِيق إلى الله: طَرِيق المفرطين الَّذين فعلوا هَذِه الأمور الْمُحْتَاج إليها على غير وَجه الْعِبَادَة والقُربة إلى الله، وَطَرِيق الْمُعْتَدِينَ الَّذين تركُوا هَذِه الأفعال، بل الْمَشْرُوع أن تُفعل بنية التَّقَرُّب إلى الله، وأن يُشْكر الله، قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وَقَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172]، فَأمر بِالْأَكْلِ وَالشُّكْر، فَمَن أكل وَلم يَشْكُر كَانَ مذمومًا، وَمن لم يَأْكُل ولم يَشْكر كَانَ مذمومًا.
الشيخ: وهذا أساسه الجهل، هذا الذي بُلي به بعض السَّالكين من الصوفية وأتباعهم من الزُّهاد، حتى أضروا بأنفسهم: بترك الأكل والشرب والنكاح، ونحو ذلك، وزعموا أنَّ هذا يُعينهم على العبادة، والتَّجرد من حظِّ النفس، حملهم عليه الجهل وقلَّة البصيرة في الدِّين، كما قال الشَّاعر:
ما يبلغ الأعداء من جاهلٍ | ما يبلغ الجاهلُ من نفسه |
فالجهل داء عضال، ولم يعلم أولئك ولم ينتبهوا أنَّ الرسل -وهم أفضل الخلق- أكلوا وشربوا وتزوَّجوا، واستعانوا بهذه النِّعَم على طاعة الله، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة:172].
فهذا الجسم لا يستقيم إلا بالأكل والشرب، فإذا أجاعه الإنسانُ وأظمأه وأتعبه كيف يعبد الله؟ كيف يستقيم؟ كيف يتهجد؟ كيف يأمر بالمعروف؟ كيف ينهى عن المنكر؟ كيف يقضي حاجة أهله؟ كيف يبيع؟ كيف يشتري؟ هذا جهلٌ كبير، والعدول عمَّا طبع اللهُ عليه العباد وما جبلهم عليه .
الحاصل أنَّ هذا الذي فعله أولئك المتصوفة الجهلة كله مخالف لشرع الله، كله باطل، كله حملهم عليه الجهل وقلَّة البصيرة، أو ما فعله بعضُهم من إرادة الترفع عن الناس، والتَّقرب إلى الناس بهذه الأشياء التي يزعمون أنها طاعة، وأنها عبادة، وهي جهل صرف، نسأل الله العافية.
الشيخ: وهذا الحديث العظيم من نِعم الله العظيمة: أنَّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها. من نعم الله أن يأكل، ومع هذا يرضى عنه الربُّ جلَّ وعلا، من نعم الله أن يأكل ويحمد ربَّه، ما يتجرد ويبقى في الجوع يتلوى، وفي الظمأ، ويقول: هذه عبادة! هذا جهل، بل يأكل ويشرب ويستعين بذلك على طاعة الله، ويشكر الله على ما يسَّر له من النِّعَم.