20 من قوله: (وَقد أخرجا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن خباب بن الأرت..)

وَقد أخرجا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن خباب بن الأرت قَالَ: شَكَوْنَا إلى رَسُول الله ﷺ وَهُوَ متوسط بردةً لَهُ فِي ظلِّ الْكَعْبَة، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، ألا تَسْتَنْصِر لنا؟ ألا تَدْعُو لنا؟ فَقَالَ: قد كَانَ مَن قبلكُمْ يُؤْخَذ الرجلُ فيُحفر لَهُ فِي الأرض، فَيُجْعَل فِيهَا، فيُجاء بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَع على رَأسه، فَيُجْعَل نِصْفَيْنِ، وَيُمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد مَا دون عظمه من لحمٍ وَعصبٍ، فَمَا يصدّه ذَلِك عَن دينه، وَالله لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأمر حَتَّى يسير الرَّاكِبُ من صنعاء إلى حَضرمَوْت لَا يخَاف إلا الله وَالذِّئْبَ على غنمه، وَلَكِنَّكُمْ قومٌ تعجلون.

وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذَا إنما ذكره النَّبِيُّ ﷺ فِي معرض الثَّنَاء على أولئك؛ لصبرهم وثباتهم.

الشيخ: وهذا في مكة، كان المشركون قد شدَّدوا على المسلمين؛ ولهذا أخبرهم النبيُّ ﷺ أنه لا بدَّ من الصبر.

وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذَا إنما ذكره النَّبِيُّ ﷺ فِي معرض الثَّنَاء على أولئك؛ لصبرهم وثباتهم، وليكون ذَلِك عزَّة للمُؤْمِنين من هَذِه الأمة.

الشيخ: يعني يتأسّون بهم، ويكون أولئك عبرة، وعزّة بمعنى: يصبرون فيكون عزَّة لهم، يصبرون كما صبروا.

س: يصلح إذا عبَّرنا بالعزة عن العزاء؟

ج: أو كذلك يكون محتملًا، التَّعبير بالعزة عن العزاء.

س: أشار للحديث يا شيخ: ثلاثة أُقسم عليهن: ... ولا صبر أحدٌ على مظلمةٍ ظُلمها إلا زاده الله بها عزًّا.

ج: محتمل هذا أن يكون عزّة للمؤمنين؛ لأنَّ في أخبار الماضين وصبرهم عزّة للمؤمنين، يعني بسبب المؤمنين الآخرين إذا تأسّوا بهم، صار من أسباب العزّة، وقد تكون العبارة: (عبرة للمُؤمنين يعتبرون) بدل (عزة) يحتمل؛ لأنها مُتقاربة: (عزة وعبرة) متقاربة.

وَقد دلَّ على ذَلِك أيضًا مَا ذكره الله فِي قصَّة أصحاب الأخدود، حَيْثُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج:10].

وَقد روى مُسلم فِي "صَحِيحه" عَن صُهَيْب قصّتهم.

الشيخ: لا، قصة، قصة الساحر مع الملك، والغلام الذي تردد بين الراهب والسَّاحر.

س: ما يُشير إلى أصحاب الأخدود؟

ج: لا، الظاهر حديث صهيب المشهور في "صحيح مسلم": كان ملكٌ له ساحر، وكان هناك عابد، فلما كبر سنُّ الساحر قال للملك: التمس غلامًا ذكيًّا أُعلمه حتى يحلّ محلِّي إذا متّ. فالتمسوا غلامًا، فمرَّ الغلامُ على عابدٍ من بني إسرائيل، فكان يُعلمه ويُفقهه حتى كان في شأنه ما يشفي به المرضى، وقد شفى الله على يديه جليسًا للملك كان أعمى، وردَّ الله عليه بصره، وهذه القصة معروفة، ذكرها في "رياض الصالحين" وغيره.

وَقد روى مُسلم فِي "صَحِيحه" عَن صُهَيْب قصةً مبسوطةً، فِيهَا: أنَّ الراهب صَبر حَتَّى قُتِلَ، وأنَّ الْغُلَام أمر بقتل نَفسه.

الشيخ: صرح؛ لأنه قال: لا تقدر على قتلي حتى تأخذ سهمًا من كنانتي، ثم تصلبني على جذعٍ، ثم تقول: بسم الله ربّ الغلام، فترمي به وتُصيبني. فأسلم الناس بعد ذلك.

وأنَّ الْغُلَام أمر بقتل نَفسه لما علم أنَّ ذَلِك سَبَب لإيمان النَّاس إِذا رَأَوْا تِلْكَ الْآيَة، وَأَنَّ النَّاس لما آمنو فتنهم الْكُفَّار حَتَّى يرجِعوا عَن دينهم، فَلم يرجِعوا، حَتَّى أنَّ الْمَرْأَة الَّتِي أرادت أن ترجع أنطق اللهُ صبيَّها وَقَالَ: اصْبِرِي يَا أُمَّاه، فَإنَّك على الْحقِّ. وَقَالَ الله تَعَالَى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217].

وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ۝ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:88- 89].

وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13- 14].

وَقَالَ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر:5].

وَقَالَ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

الشيخ: وهذه سنة الله في عباده: مَن نصر الحقَّ، وثبت عليه، وجاهد نفسه في ذلك؛ جعل الله له العاقبة الحميدة، وإن كان قد يُبتلى ويُقتل، ولكن هذا في القليل النَّادر، الأغلب أنَّ العاقبة تكون لهم، وأنهم يُنصرون، ويُقتل عدوهم، ويموت عدوهم، كما جرى لنوحٍ وهود وصالح وشُعيب وغيرهم.

وَقَالَ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34].

وَقَالَ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

الشيخ: وهذا معنى قوله سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].

وَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

وَهَكَذَا أخبار هَذِه الْأمة من السَّلف وَالْخَلف، كالممتحنين من السَّابِقين الأوَّلين.

الشيخ: ولولا هذا الامتحان والبلاوي لدخل الناسُ كلهم في دين الله، ولا بقي في الأمة كافر ولا عاصٍ، لكن هذا الابتلاء والامتحان في أولياء الله، والإمهال في أعداء الله، هو الذي حصل به جرأة الناس على الباطل، وتكبرهم على الحق، حتى جرى ما جرى على المسلمين، وحتى جرى ما جرى من الكفر في سائر الأرض؛ ولهذا قال : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل:61]، وقال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99].

والحجَّة بالغة في كفر هؤلاء، وإيمان هؤلاء، وصلاح هؤلاء، وفسق هؤلاء، إلى غير هذا؛ ابتلاءً وامتحانًا في هذه الدار، فبعض ما يُصيب المؤمنين لترفع درجاتهم، وليعظم جحود الكافرين، وتعظم عقوباتهم، نسأل الله السَّلامة.

وهَكَذَا أخبار هَذِه الْأمة من السَّلف وَالْخَلف، كالممتحنين من السَّابِقين الأولين، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ، مثل الَّذين أنزل الله فيهم الْقُرْآن، حَيْثُ قَالَ: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا [النساء:75].

وَفِي الْهِجْرَة قَالَ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ۝ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:98- 99].

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أبي هُرَيْرَة: أنَّ النَّبِي ﷺ كَانَ يَدْعُو فِي صلَاته: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاش ابن أبي ربيعَة، وَسلمة بن هِشَام، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيد بن الْوَلِيد، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضَر، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف.

الشيخ: هؤلاء صحابة أجلاء، عظماء، حبسهم الكُفَّار في مكة، كان يدعو لهم النبي ﷺ في قنوته: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]؛ ليكونوا عظةً لغيرهم، وصلاحًا لغيرهم في الصبر، والثبات على الحقِّ، وإن أُوذوا في ذلك، حتى كان خيرُ الخلق يدعو لهم في صلاته: اللهم أنج فلانًا، وأنجِ فلانًا من ظلم أعداء الله؛ لحكمةٍ بالغةٍ.

وَفِي الصَّحِيح أيضًا فِي حَدِيث الْحُدَيْبِيَة قصَّة أبي جندل ابن سُهَيْل بن عَمْرو، لما جَاءَ يُرسُف فِي قيوده، وردّه النَّبِيُّ ﷺ إليهم. وقصة أبي بَصِير، وَغَيرهمَا من الْمُسْتَضْعَفِينَ.

وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح عَن سعيد بن زيد أنه قَالَ: لقد رَأَيْتُنِي وإنَّ عمر مُوثقي على الإسلام، وَلَو انقضَّ أحدٌ مِمَّا عملتم بعثمان كَانَ محقوقًا أن يَنْقَضَّ.

فَهَؤُلَاءِ كلهم اخْتَارُوا الْقَيْدَ وَالْحَبْسَ.

الشيخ: يعني أنَّ عمر عذَّب ابن عمه سعيدًا في الإسلام، ثم هدى اللهُ عمرَ، ويقول سعيد: "ولو أنَّ أحدًا انقضَّ" يعني: تدكدك من شدة ما فعلوا بعثمان من الأذى والظلم، لكان جديرًا بذلك، ومع هذا جرى ما جرى وهو الخليفة الراشد، وثالث الخلفاء، ومشهود له بالجنة، آذوه وعذَّبوه حتى قتلوه، والله المستعان.

فَهَؤُلَاءِ كلهم اخْتَارُوا الْقَيْدَ وَالْحَبْسَ على النُّطْق بِكَلِمَة الْكُفْر، وَقد أُوذي النَّبِي ﷺ وأبو بكر وَعمر وَغَيرهمَا بأنواع من الأذى: بِالضَّرْبِ وَغَيره، وصبروا على ذَلِك، وَلم يَنْطق أحدٌ مِنْهُم بِكَلِمَة كفرٍ، بل قد سعوا فِي قتل النَّبِي ﷺ بأنواعٍ مِمَّا قدرُوا عَلَيْهِ من السَّعْي، وَهُوَ صابرٌ لأمر الله، كَمَا أمره الله تَعَالَى، وإن كَانَ النَّبِي ﷺ قد أخبر فِي أثناء الأمر بأنَّ الله يعصمه من النَّاس، فَلم يكن قد أخبر أولًا بأنه يعصم من أنواع الأذى.

وأمَّا السَّابِقُونَ فَلم يُخبروا بذلك، وَكَذَلِكَ خبيب بن عدي الَّذِي صلبه الْمُشْركُونَ حِين أخرجوه من الْحرم، وَلم يتَكَلَّم بِكَلِمَة الْكُفْر، وقصته فِي الصَّحِيح، لَكِن قد يُقَال: إنَّ هَذَا لم يكن قصدهم مِنْهُ أن يعود إلى دينهم، فَإِنَّهُ كَانَ من الأنصار، وَكَانُوا يقتلونه بِمَن قتل مِنْهُم يَوْم بدرٍ، بِخِلَاف أقاربهم وحُلفائهم ومواليهم، فَإِنَّهُم كَانُوا يُحبونهم ويُكرمونهم، وَلم يَكُونُوا يُرِيدُونَ مِنْهُم إلا الْكُفْر بعد الإيمان.

وَقد ذمَّ اللهُ فِي كِتَابه مَن يَرْتَد ويفتتن وَلَو أُكره، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذمَّه الله بقوله: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106].

وَكَذَلِكَ يذمّ مَن يَتْرك الْوَاجِب الظَّاهِر، وَيَفْعل الْمُحرَّم الظَّاهِر عِنْدَ مَا يُصِيبهُ من الأذى والفتن، كَمَا قَالَ: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ الآية [البقرة:217] كَمَا تقدم، وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

وَقَالَ: الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ إلى قَوْله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:1- 10].

وَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:214].

وَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].

وَقَالَ لما ذكر الرِّدَّة الَّتِي اسْتَثْنى مِنْهَا الْمُكْرَه وَقَلبه مُطمئن بالإيمان: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل:106- 107]، ثمَّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:110]، نزلت فِي الَّذين فتنهم الْمُشْركُونَ حَتَّى أصابوهم، ثمَّ هَاجرُوا بعد ذَلِك وَجَاهدُوا وصبروا، فَأَخْبر اللهُ أنه غفر لَهُم ورحمهم، فَعُلم أنَّ تِلْكَ الْفِتْنَة كَانَت من ذنوبهم، وَذَلِكَ إما لعدم الإكراه التَّام الْمُبِيح للنُّطق بِكَلِمَة الْكُفْر، وإما لعدم الطُّمَأْنِينَة بِالْإِيمَان، فَلَا يسْتَحقّ صَاحبه الْوَعيد.

وعَلى مَن أُكره على الْخُرُوج فِي العساكر الظالمة، مثل: أن يُكره المستضعفون من الْمُؤمنِينَ على الْخُرُوج مَعَ الْكَافرين لقِتَال الْمُؤمنِينَ، كَمَا أخرج الْمُشْركُونَ عَام بدرٍ مَعَهم طَائِفَةً من الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَهَؤُلَاءِ إذا أمكنهم ترك الْخُرُوج بِالْهِجْرَةِ أو بغَيْرهَا، وإلا فهم مفتونون، وَفِيهِمْ نزل قَوْله تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]؛ لأَنَّهم فعلوا الْمُحرَّم مَعَ الْقُدْرَة على تَركه.

وَقد روى البُخَارِيّ فِي "صَحِيحه" عَن أبي الأسود قَالَ: قطع على أهل الْمَدِينَة بعثٌ، فاكتتبت فِيهِ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَة فَأَخْبَرته، فنهاني أشد النَّهْي، ثمَّ قَالَ: أخبرني ابْنُ عَبَّاسٍ أنَّ أناسًا من الْمُسلمين كَانُوا مَعَ الْمُشْركين، يُكثرون سَواد الْمُشْركين على رَسُول الله ﷺ، فيأتي السَّهْم فيُرمى بِهِ فَيُصِيب أحدهم فيقتله، أو يَضْربهُ فيقتله، فَأنْزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.

وأما إذا كَانُوا غير قَادِرين على التَّرْك، بِحَيْثُ لَو لم يَخرجُوا لقتلهم الْمُشْركُونَ وَنَحْو ذَلِك، فَهَؤُلَاءِ غير مأثومين فِي الآخرة؛ لما رُوِيَ أنَّ النَّبِي ﷺ قَالَ: يَغْزُو هَذَا الْبَيْت جَيشٌ من النَّاس، فَبَيْنَمَا هم ببيداء من الأرض إذ خُسف بهم، فَقَالَت أم سَلمَة: ففيهم الْمُكْرَه يَا رَسُول الله؟! قَالَ: يُحْشَرون على نيَّاتهم.

وَفِي الصَّحِيح عَن حُذَيْفَة، عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: سَتَكُون فتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خيرٌ من السَّاعِي، مَن تشرَّف لَهَا تستشرفه، فَمَن وجد مَلْجأً أو معَاذًا فليَعُذْ بِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِذا وَقعت فَمَن كَانَ لَهُ إبلٌ فليلحق بإبله، وَمَن كَانَ لَهُ غنمٌ فليلحق بغنمه، وَمَن كَانَت لَهُ أرض فليلحق بأرضه، فَقَالَ رجلٌ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْتَ إن أُكرهت حَتَّى يُنْطَلق بِي إلى أحد الصَّفين، يضربني رجلٌ بِسَيْفِهِ، ويجيء سهمٌ فَيَقْتُلنِي؟ قَالَ: يبوء بإثمه وإثمك، وَيكون من أصحاب النَّار، فقد أمر ﷺ بِالْهِجْرَةِ إلى حَيْثُ لَا يُقَاتل، وبإفساد السِّلَاح الَّذِي يُقَاتل بِهِ فِي الْفِتْنَة، وأخبر أنَّ الْمُكْره لَا إثم عَلَيْهِ.

وَلما كَانَ الْقِتَالُ فِي الْفِتْنَة كَانَ قَاتله.

الشيخ: الإكراه مثلما تقدم له شرطان: الإكراه أن يعجز عن التَّخلص، والطُّمأنينة -أي الإيمان- فإذا أُكره وقَلبه مُطمئنٌّ بالإيمان فلا شيءَ عليه، والإثم على مَن أكرهه، فأمَّا إذا خرج من غير إكراهٍ، أو أُكره ولكن اطمأنَّ إليهم، فليس من الإكراه، نسأل الله العافية.

وَلما كَانَ الْقِتَالُ فِي الْفِتْنَة كَانَ قَاتله قَاتلًا لَهُ بِغَيْر حقٍّ، فباء بإثمه وإثم صَاحبه.

وأمَّا الْمُكْره الَّذِي يُقَاتل طَائِفَةً بِحَقٍّ: كَالَّذي يكون فِي صفِّ الْكُفَّار والمرتدين والمارقين من الإسلام، فَلَا إثم على مَن قَتله، بل هُوَ مُثاب على الْجِهَاد وإن أفضى إلى قَتله، كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ للْعَبَّاس: أما ظاهرك فَكَانَ علينا، وأما سريرتك فَإلَى الله.

وَقد أخرجا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن ابْن عمر: أن النَّبِي ﷺ قَالَ: إذا أنزل اللهُ بِقومٍ عذَابًا أصاب الْعَذَابُ مَن كَانَ فيهم، ثمَّ يُبعثون على نيَّاتهم.

فَهَذَا أيضًا دَلِيل على أنَّ الْمُكْره على تَكْثِير سَواد المقاتلين بِغَيْر حقٍّ، وإن أصابه عَذَابُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يُحْشَر فِي الآخرة على نيَّاته.

الشيخ: ويجوز أن يُقاتلوه حتى ولو عرفوا أنه مسلم، ما دام مع الكفار، وإن اعتقدوا أنه مُكره فلهم أن يُقاتلوه؛ لأنه في صفِّ العدو، لا يستطيعون التَّخلص من ذلك، فهم غير آثمين، بل مأجورون؛ لأنَّهم يُقاتلون العدو ومَن ساعد العدو، ثم يبحث عن النية، فإن كان صادقًا بأنه مُكره فلا إثمَ عليه، وإن كان غير صادقٍ فقد سلم الناسُ من شرِّه، ولم يغترُّوا به.

س: ..................؟

ج: لا يستطيعون، ما دام في صفِّ الكُفَّار ما يستطيعون، حتى يدفعوا شرّه، لكن لو علم أنه مُكره، ويمكن عدم قتاله، ينبغي ذلك، لو علم وتيقَّن ذلك، لكن لو كان مع الصفوف يُقاتلون وهو يُقاتلهم، هذه علامة أنه قد رضي بحالهم وشاركهم، نسأل الله السَّلامة، أو قال: أنا مُكره. لكن لم يستطع التَّخلف عن القتال، فيُقتل لدفع شرِّه.

س: ..................؟

ج: شهيد، إن قُتِلَ فهو شهيدٌ.

فَهَذَا كُله يدل على أنه لَيْسَ كل مُكرهٍ على فعل مُحرَّمٍ يَأْثَم بِهِ، كأشهر الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعُلمَاء.

وَمن ذَلِك مقَام الْمُسلمين بَين الْمُشْركين مُستضعفين، وَقد دلَّ الْقُرْآنُ على هَذَا، وعَلى هَذَا.

وَمِنْه استئسار الْمُسلم إذا أكرهه الْكَافِر وَقَالَ: إن لم تستأسر وإلا قتلتك. فَإِنَّ دُخُوله فِي أسره مُحرَّمٌ لَوْلَا الإكراه، وَقد فعل ذَلِك خبيب بن عدي وَغَيره، وهم فِي ذَلِك كالمستضعفين.

الشيخ: لا حرجَ أن يستأسر؛ لأنه قد يسلم، يستأسر لئلا يُقتل، وقد يسلم، ويُسهل الله أمره ويُفدى، أو يسمح صاحبه ويُطلقه، ولكن لو آذاه وقُتِل فلا حرجَ عليه.

وَقد دلَّ على ذَلِك نَصُّ الْقُرْآن بقوله تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33]، فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الإكراه على الْبِغاء، فالإكراه على شرب الْخَمر وأكل الْمَيتَة دون ذَلِك، فإنَّ الزِّنَا من أكبر الْكَبَائِر بعد الْقَتْل، كَمَا دلَّ النَّبِي ﷺ على ذَلِك عِنْدَمَا سُئِلَ: أَيّ الذَّنب أعظم؟ قَالَ: أن تجْعَل لله ندًّا الحَدِيث، إلى قَوْله: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أن تُزَانِي بحليلة جَارك، ثمَّ قَرَأَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ [الفرقان:68].

وَمَعْلُوم أن المكرهات من الإماء على الْبِغاء -كَمَا كَانَ ابْنُ أبي وأمثاله يُكْرِهُونَ إماءهم على الِاكْتِسَاب بالبغاء- لَيْسَ هو أن يفعل بهَا بِلَا فعلٍ مِنْهَا، بل هُوَ أن تُكره حَتَّى تقصد ذَلِك وتفعله؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ: بغاء. وَذَلِكَ الْقِسم لَيْسَ فِيهِ بغاء؛ وَلِهَذَا قَالَ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النور:33]، وَذَلِكَ إنما يحصل فِي الْعَادة لمن تفعل، لَا بِمَن تُرْبط حَتَّى يُفعل بهَا؛ ولأنَّ ذَلِك هُوَ الْعَادة الْمَعْرُوفَة الَّتِي نزل الْقُرْآنُ عَلَيْهَا، فَهَذِهِ الآية فِي فعل الْفَاحِشَة، وَتلك الآية فِي الدُّخُول تَحت حكم الْكفَّار، وَكِلَاهُمَا من الأفعال.

وَقد روى مُسلم فِي "صَحِيحه" عَن جَابرٍ قَالَ: كَانَ عبدالله بن أُبي بن سلول يَقُول لجاريةٍ لَهُ: اذهبي فابغينا شَيْئًا. قَالَ: فَأنْزل الله تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ الآية [النور:33].

وَفِي رِوَايَةٍ: إنَّ جَارِيَةً لعبدالله بن أُبي يُقَال لَهَا: مُسَيْكَة، وأخرى يُقَال لَهَا: أميمة، كَانَ يُرِيدهُمَا على الزِّنَا، فشكيا ذَلِك إلى رَسُول الله ﷺ، فَأنْزل اللهُ هَذِه الآية.

س: ................؟

ج: لا يُقاتله، يمسك إلا إذا دافع عن نفسه فقط، لكن أصل الإكراه عذر، لكنه لا يُقاتل، إن استطاع أن لا يُقاتل لا يُقاتل.

س: الصبر أفضل من الإكراه؟

ج: الصبر أفضل من الموافقة، هذا هو الأصل، إلا إذا رأى الصبر في مصلحة المسلمين عامَّة، وأكثرهم يرضى الموافقة على قتله، يعمل ما هو أصلح.

وَقد ذكر البُخَارِيُّ مَا رَوَاهُ اللَّيْث، عَن نَافِعٍ: أنَّ صَفِيَّةَ بنت أبي عُبيد أخبرته أنَّ عبدًا من رَقِيق الإمارة وَقع على وليدةٍ من الْخُمْس، فاستكرهها حَتَّى اقتضّها، فجلده عمر الْحَدّ ونفاه، وَلم يجلد الوليدة من أجل أنه استكرهها.

وَقَالَ الزُّهْرِيّ فِي الأمة الْبِكْر يفترعها الْحرُّ: يُقيم ذَلِك الحكم من الأمة الْعَذْرَاء بِقدر ثمنهَا، ويُجلد، وَلَيْسَ فِي الأمة الثَّيّب فِي قَضَاء الأئمة غرم، وَلَكِن عَلَيْهِ الْحَدّ.

وَهَذِه مَسْأَلَة المستكرهة على الزِّنَا، والأمة المطاوعة، وَالْكَلَام فِي الْمَهْر لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.

وَذكر مَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: هَاجر إبراهيم بسارة، دخل بهَا قَرْيَةً فِيهَا ملكٌ من الْمُلُوك، أو جَبَّار من الْجَبَابِرَة، فَأَرْسَل إليه أن أرسل إليَّ بهَا، فَأَرْسل بهَا، فَقَامَ إليها، فَقَامَتْ تتوضأ وَتُصلي، فَقَالَت: اللَّهُمَّ إن كنتُ آمَنتُ بك وبرسولك فَلَا تُسلط عَليَّ الْكَافِر، فغطّ حَتَّى ركض بِرجلِهِ.

وَمن الْمَعْلُوم أنَّ الَّذين كَانُوا يُكْرهُونَ الإماء لم يكن بوعيد الْقَتْل، بل بِالضَّرْبِ وَنَحْوه، فَإِذا أُكرهت الْمَرْأَةُ أو الصَّبِي على الْفُجُور بِهِ بِمثل ذَلِك: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33]؛ وَلِهَذَا قيل فِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا: إذا كتم الزَّوْجُ طَلاقَهَا، وَلم يكن لَهَا حُجَّة: أنها تُقيم عِنْدَه؛ لِأَنَّهَا مُكْرَهَة على ذَلِك، وَلَا يحل لَهَا قَتله.

والمستكرهة على الزِّنَا فِي وجوب الْمَهْر فلهَا أن تَأْخُذ مَا أعطاه من مهرهَا، وَمَن لم يُوجِب لَهَا الْمَهْر فَهَل لَهَا أن تَأْخُذ ذَلِك إذا أعطته طَوْعًا أم يكون من مهر الْبَغي؟

وإنما الأجود إذا لم يحل ذَلِك أن يَأْخُذ مَا يُعْطِيهِ الْفَاجِر ويصرفه فِي مصَالح الْمُسلمين، أو يتْركهُ له، فَأَمَّا إذا أخذ الْعِوَض لأجل الْمُسْتَقْبل فَهَذَا مُطاوعة، اللَّهُمَّ إلا إذا كَانَ الإكراه مُستمرًّا، وَالْمُكْره مُسْتَمرّ الْكَرَاهَة لما يفعل بِهِ، لَا يحملهُ إلا مُجَرّد الإكراه، وَهَذَا يَدْخل فِيهِ مَن يقهر من المماليك واليتامى وَغَيرهم على الْفَاحِشَة بِهِ.

وَمَن أسره الْعَدو من المسلمات فزنوا بِهنَّ، فَإِنَّ مِنْهُم مَن يكون كَارِهًا لذَلِك، تَامّ الْكَرَاهَة، لَا يفعل ذَلِك إلا مُكْرهًا، فَهَذَا لَا يسْتَحقّ الْعقُوبَة. وَمِنْهُم مَن تَجْتَمِع فِيهِ الرهبة وَالرَّغْبَة، فيخاف فِي الِامْتِنَاع من الْعَذَاب، وَيُعْطى على المطاوعة الْعِوَض.

الطالب: خلص، انتهى.

الشيخ: كأنه ساقط، ما تكلم فيه على الحاشية؟

الطالب: ما ذكر شيئًا.

الشيخ: غفر الله له. الظاهر أنَّ الكتاب ناقص، ختم بشيءٍ؟

الطالب: ..............

الشيخ: غفر الله له، لا شكَّ أنَّ المكره فيه تفاصيل، المكرهون أقسام كثيرة، لكن مثلما قال الله جلَّ وعلا: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل:106]، فإذا كان المكره في التوحيد والشِّرك لو كان صادقًا مُطمئن القلب، فهكذا المكره على المعاصي لا شيء عليه، وإنما الإثم على مَن أكرهه، إذا علم الله منه أنه مُكره، وأنه ممتنع، ولكن عجز، أما إذا تساهل فعليه نصيبٌ من الإثم بقدر تساهله، نسأل الله السَّلامة.

س: ..............؟

ج: يعني إذا أكرهها لا بأس أن تأخذ؛ لأنها مظلومة، وإن أخذته وتصدقت به فحسن، وإنَّ البغي الممنوع هو للمُطاوعة، حرام عليها أن تأخذه، وعليها التوبة، هي مكرهة، مظلومة، فلو أعطاها بسبب ظلمه لها: إن أكلته فلا بأس؛ لأنها ما هي مُطاوعة، وإن تصدقت به فلا بأس، أما حديث: مهر البغي خبيث، فهي البغي التي ترضى بهذا، نسأل الله العافية.

س: الفائدة الربوية تُقاس على هذا؟

ج: مثله صدقة، الفائدة الربوية ما تُقبل، يتصدق بها.

س: لكن لو دخلت عليه؟

ج: لكن ما يتعامل معهم على الربا ويقول: أتصدق، لا، لكن لو فعل وقبضها يصرفها في وجوه الخير، مع التوبة إلى الله.

س: بعض الناس يأخذها عمدًا .....؟

ج: ما يجوز، تعاون معهم على الربا، لا يجوز؛ لأنَّ الله حرَّم الرِّبا.

آخر الْجُزْء الثَّانِي، وَالْحَمْد لله وَحده، وصلواته على سيدنَا مُحَمَّدٍ وَآله وَصَحبه وَسَلَامه.

ثمَّ تكمل فِي النِّصْف من شهر صفر سنة سَبْعَة وَعشر وَسَبْعمئة.