باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57].
وقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:26-27].
وقوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].
وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله .
وشرح هذه الترجمة وما بعدها من الأبواب.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فيقول الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه رحمه الله، وهو الإمام المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في النصف الثاني من القرن الثاني عشر في هذه الجزيرة، المتوفى سنة ست ومائتين وألف من الهجرة النبوية، يقول رحمه الله: باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله.
تقدم بيان التوحيد، وبيان فضله وتحقيقه، وبيان الخوف من ضده، وبيان الدعوة إليه، ثم أتى بهذه الترجمة كالتأكيد لما مضى في بيان تفسير التوحيد فقد تقدم بيانه، وكل هذا من باب الإيضاح والبيان والتأكيد، لما عرف من حال الناس وأنه قد يلتبس عليهم الأمر ولم يعرفوا حقيقة التوحيد فأراد بهذه التراجم أن يبينه مرة بعد مرة، وأن يوضحه إيضاحًا بعد إيضاح، ولهذا قال: باب تفسير التوحيد، وشهادة ألا إله إلا الله، عطف الشهادة على التوحيد من باب عطف الدال على المدلول؛ فإن شهادة ألا إله إلا الله مضمونها ومعناها توحيد الله والإخلاص له، فإن معناها لا معبود حق إلا الله هذا هو معنى لا إله إلا الله كما قال جل وعلا: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62] فمعنى لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله، فجميع المعبودات من دون الله من أصنام أو أشجار أو أحجار أو ملائكة أو أنبياء أو جن أو غير ذلك كله معبود بالباطل، والله سبحانه هو المعبود بالحق، لا إله غيره ولا رب سواه، كما قال : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وقال سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] وقوله جل وعلا: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] هذا تفسير التوحيد، أن تعبد الله وحده، وأن ترجه وتخاف عقابه، قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [الإسراء:56] يعني آلهتهم لا يملكون كشف الضر عن عابديهم ولا تحويلاً من حال إلى حال، ثم بين حال المدعوين فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ من الملائكة والأنبياء والصالحين يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ هم أنفسهم يعبدون الله ويبتغون إليه الوسيلة وهي القرب إليه بطاعته وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] فكيف يُعبدون من دون الله وهم عبيد يعبدون الله، ويرجون رحمته ويخافون عقابه، كيف يُعبدون؟ كيف يُعبد العبد ؟ العبد الذي يخاف الله ويرجوه كيف يُعبد وهو عاجز لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟ فالواجب أن يُعبد الله الذي خلقه وأوجده كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] ومن هذا قوله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27] هذا هو معنى لا إله إلا الله إِنَّنِي بَرَاءٌ [الزخرف: 26] هو معنى لا إله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:27] هو معنى إلا الله، فالآية تتضمن البراءة من عبادة غير الله وإثبات العبادة لله وحده والموالاة له وحده ، فهذا هو معنى لا إله إلا الله، لا إله براءة من عبادة غير الله وإنكار لها وإبطال لها، وإلا الله معناها إثبات العبادة لله وحده والموالاة له وحده .
قال جل وعلا: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] هذا تفسير التوحيد بضده، يعني أن اتخاذهم الأحبار والرهبان ضد التوحيد، فيُعلم أن التوحيد هو عدم اتخاذهم وإخلاص العبادة لله وحده فمن اتخذ الأحبار والرهبان أو الملائكة أو الجن أربابًا يدعوهم ويستغيث بهم فهذا هو الشرك بالله هذا هو المناقض للا إله إلا الله، أما تخصيص العبادة لله وحده ودعاؤه وحده والإنابة إليه وحده فهذا هو توحيد الله هذا هو الإخلاص هذا هو معنى وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا[الإسراء:23] وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].
وهكذا قوله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ[البقرة:165] هذا هو الشرك اتخاذهم الأنداد من الملائكة أو الجن أو الأصنام أو غيرهم يدعونهم مع الله ويستغيثون بهم ويذبحون لهم وينذرون لهم، هذا هو الشرك، هذا هو اتخاذ الأنداد، وضده هو التوحيد، ضد ذلك هو إخلاص العبادة لله وحده وموالاته وحده وأن تكون العبادة له وحده كما قال : وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23] يعني أمر ربك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2] وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] فهذه الآيات فيها تفسير التوحيد بمعناه وبضده جميعًا، والتوحيد يُعرف بضده وبمعناها جميعًا؛ فدعوة غير الله والاستغاثة بغير الله وموالاة غير الله في خوفه ورجائه هذا الشرك ومحبة الله وموالاته وعبادته وحده هذا هو التوحيد. قال ﷺ: من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه هذا هو التوحيد أن تعبده وحده، تخصه بالعبادة وأن تكفر بعبادة غيره، يعني أن تنكرها وتعتقد بطلانها، فأنت تعلم أن عبادة اليهود لعزير أو النصارى للمسيح أو عبادة الأحبار والرهبان أو عبادة الملائكة كلها باطلة، تكفر بها وتنكرها، وتوالي ربك وتعلم أنه هو المستحق للعبادة، هذا هو التوحيد، الكفر بما يعبد من دون الله وموالاة الله وعبادته وحده بدعائك وخوفك ورجائك واستغاثتك وذبحك ونذرك هذا لله وحده، فلا بدّ من موالاة الله والإخلاص في العبادة لله، ولا بدّ من الكفر بعبادة غير الله، كما قال تعالى: فمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]. يكفر بالطاغوت يعني ينكر عبادة غير الله ويتبرأ منها ويعتقد بطلانها، ويؤمن بالله وحده بأنه المستحق للعبادة وأنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم وأنه لا يستحق العبادة سواه جل وعلا، كما قال سبحانه: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62] ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ[الزمر:2-3].
فبينوا أنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى ليشفعوا لهم فكذبهم الله وأبطل قولهم، وقال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3].