39 باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}

باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.

وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ.

عن أبي سعيد مرفوعا: إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله. إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره.

وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله ﷺ قال: من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس؛ ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان في صحيحه.

الشيخ:

بسم الله الرحمن الرحيم.

اللهم صل وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فيقول المؤلف رحمه الله: "باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]" أراد المؤلف بهذه الترجمة بيان وجوب خوف الله تعالى، وأن الواجب على العبد أن يخاف ربه خوفا يحمله على إخلاص العبادة له سبحانه، ويحمله على أداء ما فرض عليه، ويحمله عن الكف عما حرم الله عليه، ويحمله على الوقوف عند حدوده ، هذه فائدة الخوف أن يكون خوفًا حقيقيًا يحمله على أداء الفرائض وترك المحارم والوقوف عند حدود الله والإخلاص له في العمل، والخوف أقسام ثلاث: أحدهما: الخوف من الله وهو أوجبها وأعظمها، ويجب إخلاصه لله ، وهذا صرفه لغير الله شرك، فمن خاف غير الله من أصنام أو أوثان أو أشجار أو أحجار يعتقد فيها أن لها تصرف، وأنه يخاف شرها، فهذا من الشرك الأكبر كخوف عباد القبور وعبادا الأصنام منها وعباد الكواكب وهذا يقال له خوف السر، وهذا يجب إخلاصه لله، ويجب الحذر من صرفه لغير الله .

القسم الثاني: خوف يحمل على فعل المعصية أو ترك واجب من المخلوقين خوف المخلوقين على هذا الوجه فهذا لا يجوز وفيه نزل قوله تعالى: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] أو يحمله الخوف على عدم الجهاد، على عدم أداء الواجب، إلى غير ذلك، بل يجب عليه أن يخاف الله ، وأن يراقب الله، وإذا خاف المخلوقين فليكن خوفه من المخلوق بحدود شرعية، خوفا يحمله على ما شرع الله، وعلى ما أباح الله فقط، ولا يحمله على المعاصي، فالخوف من المخلوق من الأشياء الطبيعية والأشياء الحسية جائز؛ كخوفه من اللصوص فيغلق بابه أو يضع حارسا عند بابه أو في مزرعته أو نحو ذلك، هذا خوف فطر الله عليه الناس وهو خوف جائز يجب أن يوجد مقتضاه من الحراسة وضبط الأمور ونحو ذلك، أو خوفه من التخمة فلا يأكل ما يضره، أو خوفه من السم فيبتعد عما يضره، أو من السباع فيأخذ السلاح إذا سار في الطريق الذي فيه السباع، وما أشبه ذلك من الخوف الذي شرع الله فيه التحرز والبعد عما يضر الإنسان؛ لكن لا يجوز أن يحمله هذا الخوف على فعل المعاصي أو ترك الواجبات، فإذا خاف من مخلوق خوفا يحمله على أن يدع الجهاد الواجب أو على أن يعصي لخوف الناس أو لسبب الناس أو بترك ما أوجب الله ..... الفواحش صار خوفا محرما؛ لأنه جره إلى ما حرم الله .

النوع الثالث: نوع طبيعي عادي لا يحمله على فعل محرم ولا على ترك واجب، كخوفه من الحية والعقرب وأشباه ذلك فيتجنب ذلك. وخوفه من اللص فيغلق بابه وأشباه ذلك، هذا خوف جائز لا محذور فيه إذا لم يحمله على ما حرم الله، ولم يحمله على ترك ما أوجب الله، ولهذا قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] هذا في النوع الثاني، وهو ما وقع يوم أحد من دس الشيطان التخويف من الكفار والتثبيط عن الجهاد فنهاهم الله عن ذلك، وقال: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] وأمرهم بجهاد أعداء الله فنفر إليهم النبي ﷺ بمن معه من الصحابة بعد وقعة أحد فشرد المشركون إلى بلادهم ورجع النبي ﷺ يوم حمراء الأسد ولم يكن شيئا؛ لأن المشركين قد ذهبوا إلى بلادهم بعد الوقعة، وهذا ليس خاصا بهذه الوقعة؛ بل هو عام فكل خوف يحمل على فعل المعصية أو ترك الواجب فهو مذموم منهي عنه، وهكذا قوله جل وعلا: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18] يعني أفرده بالخوف، وهذا خوف السر الذي أوجبه الله، وهكذا الخوف الذي يحمله على المعاصي أو ترك الواجب هذا يجب تركه، فيجب على المؤمن أن يخشى الله وحده خشية عظيمة كاملة يخص الله به ، كما يحمله أيضا خوف الله على فعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله، وكما يوجب عليه ذلك تقواه سبحانه والمسارعة إلى ما أوجب وترك ما حرم فإن هذا كله مما أوجب الله عليه، وهذا خوف مشروع له ومأمور به، إنما المنهي عنه أن تخاف من المخلوق خوفا يحملك على فعل ما حرم الله عليك وترك ما أوجب الله عليك، ولهذا قال: لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [التوبة:18] ......كلها بل أفرده بالخوف وخصه بالخوف الذي أوجبه عليه ، وليس داخلا في ذلك الخوف الطبيعي كما عرفت بل هو مستثنى من ذلك إلا إذا حمل على فعل محرم أو ترك واجب.

وهكذا قوله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] هذا ذم له، فبعض الناس إذا أوذي لم يصبر ولم يتحمل بل يحمله ذلك على فعل ما حرم الله وترك ما أوجب الله وهذا مذموم، بل يجب عليه أن يتقي الله وأن يراقب الله، وإذا أوذي في الله أخذ الأمور من وجهها الشرعي بالمحاكمة بالقصاص بالشكوى إلى ولاة الأمور، أما أن يحمله ذلك على ترك ما أوجب الله عليه وفعل ما حرم الله عليه فهذا غير جائز له، بل يجب عليه الحذر من ذلك، وأن يدفع الأذى بالطرق الشرعية، أذى الناس يدفع بالطرق الشرعية من المحاكمة من القصاص من الرفع إلى ولاة الأمور إلى غير هذا من الطرق الجائزة التي يجوز له فعله ليدفع الأذى.

وفي حديث أبي سعيد يقول ﷺ: إن من ضعف اليقين – يعني من ضعف الإيمان، اليقين هو الإيمان كله- إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله. هذا من ضعف الإيمان إرضاء الناس بسخط الله في المعاصي، هذا من ضعف الإيمان، كذلك حمدهم على رزق الله الذي ساقه الله إليك احمد الله واشكره . وإذا فعلوا لك معروفا هم يشكرون على معروفهم ويجازون؛ لكن الحمد كله لله وحده، هو الذي هداهم، هو الذي جعلهم يحسنون إليك، هو الذي جعلهم يبذلون المعروف فتشكر الله أولا وتحمده وتخصه بذلك وتشكر المخلوقين على قدر إحسانهم من لا يشكر الناس لا يشكر الله فيشكرون على قدر إحسانهم، ويثنى عليهم ويكافؤون؛ لكن يكون في قلبك حمد الله أعظم وشكر الله أكبر؛ لأنه المسبب فهو الذي هداهم وهو الذي حرّك قلوبهم حتى ساقوا إليك هذا الخير من كفاءة في دفع ظلامتك، والإحسان إليك، من قضاء دينك، من مواساة لك، تشكرهم على ذلك، وتدعو لهم، لكن الشكر الحقيقي الذي يجب أن يستقر في القلب يكون لله وحده؛ لأنه هو الذي ساق إليك هذا الخير.

كذلك ذمهم على ما لم يؤتك الله ما أعطاني فلان ما فعل بي فلان ما أحسن لي فلان ما واساني فلان لا، اسأل الله وإن كان لك حق عندهم فلن يضيعه الله لك، سوف يجزيك عنه يوم القيامة إذا جحدوك، ولكن هذا لا يمنع من طلب الحق الذي عليهم، تطلب دينك، تطلب حقك من الزكاة، إذا كنت من أهل الزكاة لا مانع من ذلك، لكن لا تذمهم على ذلك من أجل أنهم لم يعطوك لا، تذم من ذمه الله، وتحمد من حمده الله، تذمهم لأنهم عصوا الله ورسوله بترك الزكاة بترك الواجب بترك تسليم دينك، تذمهم على ما حرم الله عليهم؛ لكن لا من أجل نفسك، هذا من أجل أنهم فعلوا ما لا ينبغي فلست ممن ينتقم لنفسه، ولكنك تذم من ذمه الله، وتثني على من أثنى الله عليه.

ثم قال: إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره. يعني الرزق الذي لم يقدر لك لا يجره حرصك إنما عليك الأسباب كما قال النبي ﷺ: احرص على ما ينفعك واستعن بالله. عليك أن تعمل الأسباب؛ ولكن لا تجزع إذا لم يحصل المطلوب، فهذا من أمر الله قل: قدر الله وما شاء فعل .

وكذلك تعلم أنه لا يرده كراهية كاره ما قدره الله لك من الأرزاق، سيأتيك ولو كره زيد أو عمرو ولو كره الناس فعليك أن تؤمن بهذا، وأن تأخذ بالأسباب، وأن تعلم أن رزق الله الذي كتبه لك سوف يأتي وأن ما لم يكتبه فلك فلن يأتي وإن اجتمع الناس على أن يأتوا به لا يستطيعون.

وهكذا قوله ﷺ في حديث عائشة: من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. هذا حديث عظيم يجب على المؤمن أن يلتمس رضا الله وأن يعتني برضا الله، وأن يأخذ بأسباب رضا الله؛ لأن الله إذا رضي حصل لك به كل خير وإذا سخط حصل لك كل شر، فعليك بالتماس رضاه وطاعة أمره ولو غضب الناس، لكن لا يمنعه ذلك من مداراتهم اتقاء شرهم بالأسباب التي شرعها الله، ولكن ليس ذلك يجيز لك أن ترضيهم بسخط الله، بل عليك أن تؤدي حق الله، وتدع معصية الله وإن سخط الناس، وعليك أن تدفع شرهم بالطرق التي شرعها الله .

ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا" و..... له ذلك، فعلى المؤمن أن يأخذ بالحزم وعليه بالجد، فيلتمس رضا الله وإن سخط الله، ويبتعد عن رضا الناس بسخط الله، ولو رجى معروفهم أو إحسانهم فالأمر إلى الله ، فيلتمس الخير من عند الله، وليأخذ بالأسباب الشرعية في طلب الرزق، ولا يضره كونهم سخطوا أو رضوا، الواجب أن يقدم حق الله ويلتمس رضاه وأن يبتعد عن إرضاء الناس بسخطه ، مع الأخذ بالأسباب التي شرعها الله من جلب الرزق، ودفع الرزق، وفي أخذ حقك من الناس بالطرق الشرعية التي ليس منها إرضاؤهم بسخط الله، وليس منها ترك ما أوجب الله عليك أو فعل ما حرم الله عليك من أجل مراءاتهم بل عليك أن تأخذ بالحزم وأن تأخذ بمقتضى الإيمان وتلتمس رضا الله بسخط الناس، ولو سخطوا وتمتنع عن إرضائهم بسخط الله ولو قطعوا راتبك أو فعلوا أو فعلوا فالرزق عند الله وهو الذي بيده كل الأمور .

رزق الله الجميع التوفيق والهداية.