باب ما جاء في منكر القدر
وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي ﷺ: الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره رواه مسلم.
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة. يا بني سمعت رسول الله ﷺ يقول: من مات على غير هذا فليس مني.
وفي رواية لأحمد: إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. وفي رواية لابن وهب قال رسول الله ﷺ: فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار.
وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب فقلت في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي. فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبدالله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي ﷺ" حديث صحيح. رواه الحاكم في صحيحه.
الشيخ: هذا الباب فيما يتعلق بالقدر، لما كان الإيمان بالقدر من أصول الإيمان وضع المؤلف هذا الباب في كتاب التوحيد لأن ذلك مما يحصل به التوحيد وينتفي به الكفر، ولهذا قال: باب ما جاء في منكري القدر، يعني من الوعيد الشديد والتحذير الأكيد من إنكاره..
قد كان المسلمون في عهده ﷺ قد آمنوا بالقدر وسلموا لله أمره، ثم نبغت نابغة بعد ذلك في آخر عهد الصحابة وبعد ذلك فأنكروا القدر، وقالوا: الأمر أنف، وزعموا أن في إثبات القدر خلافا للعدل، وكيف تقدر الأمور ثم يعاقب العاصي والكافر على ما فعل جهلا منهم وضلالا والتباسا بالأمر عليهم، أما أهل الحق من أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي ﷺ ومن سار على نهجهم فقد آمنوا بالقدر وصدقوه، وأن الله قدر المقادير وكتبها سبحانه، فلا يقع في ملكه ما لا يريد، بل قدر كل شيء وأحصى كل شيء، وهو العالم بكل شيء.
وكان الإمام الشافعي رحمه الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله يقول في شأن القدرية: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، والمعنى قولوا لهم: هل الله يعلم الأشياء قبل وجودها؟ فإذا قالوا: نعم يعلم قبل وجودها فهذا هو القدر، هذا هو القدر أن الله علم الأشياء وكتبها عنده، فهو يعلمها قبل أن تقع، يعلم من يكفر ومن يعصي ومن يؤمن، يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فإن أنكروه وقالوا: لا يعلم كفروا، لأنهم في هذه الحالة نسبوا إلى الله الجهل، والله يقول: إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] فمن نسب ربه إلى الجهل وأنه لا يعلم الأشياء فقد طعن فيه غاية الطعن وتنقص فيه غاية النقص، فيكون كافرا، ولهذا ذهب جم غفير من أهل العلم من أهل السنة والجماعة إلى كفر القدرية، وأنهم كفار لأنهم كذبوا بقدر الله وأنكروا علمه بالحقيقة.
وصح عن رسول الله ﷺ أنه قال في حديث عمر لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، وقد دل على هذا كتاب الله حيث قال : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، وقال سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] فهو بين كل شيء وقدر كل شيء إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].
وقد دل كتاب الله على سبق علمه بالأشياء، وهذا هو القدر، ودلت السنة على ذلك، فمن أنكر ذلك وزعم أنه لا قدر فهو كافر مكذب لهذه النصوص، متعدٍ لحدود الله، ناسبا إلى ربه الجهل وعدم العلم، ولهذا قال ابن عمر لما بلغوه قال: إذا لقيتموهم فقل لهم: إن ابن عمر برئ منكم، ولستم مني ولست منكم، وقال: لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، وهكذا قال زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وحذيفة بن اليمان، وعبدالله بن مسعود، وهكذا قال أهل السنة والجماعة، فالواجب على أهل كل مسلم وعلى كل مكلف يدخل في الإسلام أن يؤمن بالقدر ويصدق بعلم الله في الأشياء.
والإيمان بالقدر يشمل أمورا أربعة:
يشمل: علم الله بالأشياء وكتابته لها، وأنه خالق كل شيء ومقدر كل شيء، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فجميع المخلوقات هو الذي خلقها سبحانه وتعالى بمشيئته جل وعلا، وحكمته ، وقدرته العظيمة، فلا بد من هذه الأمور الأربعة:
الإيمان بعلم الله وأن الله علم كل شيء.
وأنه كتب كل شيء.
وأنه خالق لكل شيء.
وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
هذه مراتب القدر الأربع، من آمن بها فقد آمن بالقدر، ومن كذب بشيء منها فقد كذب بشيء من القدر.
وهكذا حديث عبادة بن الصامت حين قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان، يعني راحة الإيمان وطمأنينته وذوقه إلا بالإيمان بالقدر، يعني حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، لأنه إذا آمن بهذا استراح قلبه واطمأن وأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، ويعمل ما شرع الله، ويأخذ بالأسباب وهو مطمئن القلب لن يصيبه إلا ما كتب الله له، فلا يلقي بنفسه إلى التهلكة، ولا يتعدى حدود ربه، بل يأخذ بالأسباب، ويعمل بالأسباب، ويتقي أسباب الشر، ويعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له.
وبين عبادة أنه من مات على هذا أن الرسول ﷺ قال: ليس منا، من مات ولم يؤمن بالقدر أحرقه الله بالنار، فلا بد من الإيمان بأن تعلم ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، هذا ..... القدر من مات.. بعض معناه فإنك إذا آمنت بأنه لن يصيبك إلا ما كتب الله، فقد عرفت أن الله قدر الأشياء ومضى بها علمه .
وهكذا ... الديلمي، وهو عبدالله بن الديلمي ابن فيروز الديلمي تابعي معروف سأل زيد بن ثابت وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان وابن مسعود عن ذلك فأخبروه: أنه لو أنفق مثل أحد ذهبا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، وأنه لا بد من الإيمان بالقدر، وإلا فإن أعماله حابطة، وهذا يدل على أنهم اعتقدوا وأرادوا أنه يكفر بذلك لأن الله قال: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] فالذي لا تقبل أعماله ولا تقبل نفقاته هو كافر الذي لم يتحقق فيه الإيمان، فمن أنكر القدر فقد كذب بشيء من الإيمان، وركن من أركان الإيمان، فحينئذ لا تقبل أعماله ولا تقبل نفقاته حتى يؤمن بالقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هذا هو الواجب على المسلمين جميعا أن يؤمنوا بأن الله علم الأشياء وأحصاها قبل أن تكون وكتبها، وأنه هو الخلاق العليم، الله خالق كل شيء ، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، كما قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وهو سبحانه ..... لكل شيء، والقادر على كل شيء، والخالق لكل شيء، والمدبر لكل شيء ، فعلى العبد أن يؤمن بذلك وأن يصدق بذلك.
وقد صح عن رسول الله ﷺ من حديث عبدالله بن عمرو عند مسلم قال ﷺ: إن الله قدر المقادير على الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء فالأمر قد أحكم ومضى به علم الله وكتابته ، وهو الخلاق مدبر الأمور، خالق الأشياء ومصرفها كما يشاء على ما قدرها عليه وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21] فكل شيء قد قدره وأحصاه وكتبه وعلمه، فلا يخرج عن ملكه ما لا يريد، ولا يقع في ملكه ما لا يريد، بل كل شيء تحت تصرفه وتدبيره ومشيئته ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا هو عقيدة أهل السنة والجماعة، فمن استقام عليه فقد استقام على الحق، ومن حاد عنه فقد حاد عن الحق.
وفق الله الجميع.