04 - من مكايد الشيطان الغلو والتفريط

فصل

ومن كيده العجيب: أنه يُشامُّ النفس، حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام، والشجاعة، أم قوة الانكفاف، والإحجام، والمهانة؟

فإنْ رأى الغالبَ على النفس المهانةَ، والإحجام؛ أخذ في تثبيطه، وإضعاف همته، وإرادته عن المأمور به، وثقّله عليه، فهوّن عليه تركه، حتى يتركه جملة، أو يُقصِّر فيه، ويتهاون به.

وإن رأى الغالبَ عليه قوةَ الإقدام، وعلوّ الهمة؛ أخذ يُقلّل عنده المأمور به، ويُوهِمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.

فيقصِّر بالأول، ويتجاوز بالثاني، كما قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشّيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط، وتقصير، وإما إلى مجاوزة، وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر".

الشيخ: وهذا من كيد عدو الله –الشيطان- أنه يشام قلب العدو، ونفس العدو، وينظر، ويتأمل حاله فإن رأى منه الضعف، والمهانة، والعجز ثبطه عن الخيرات، وساعده على كسله، وترك الواجبات، والعدول عما شرع الله له، وإن رأى منه همة عالية، والنشاط، والقوة جره إلى البدع، والغلو، والزيادة، وقال أنت لا يكفيك هذا الشيء أنت قوي الهمة، عليّ القدر، لك شأن فينبغي لك أن تزيد، وأن لا ترضى بهذا، وأن تزيد في صلاتك، وصيامك، وكذا، وكذا حتى يوقعه في الغلو، والزيادة، والبدع، هكذا عدو الله لا يرضى بالوسط، بل إما يجره إلى الضعف، والمهانة، والكسل، والعجز، وترك الواجبات، وإما إلى الزيادة، والغلو نسأل الله العافية.

وهكذا الشيطان -عدو الله- له نزغتان في كل الأمور، إما نزغة إلى البدعة والزيادة، والظلم والإفراط، وإما نزغة إلى التفريط، والجفاء، والضعف، والكسل، والمعصوم من عصمه الله، والمحفوظ من حفظه الله، نسأل الله السلامة.

وقد اقتطع أكثرُ الناس إلا أقلَّ القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة، والتعدي، والقليل منهم جدًّا الثابتُ على الصراط الذي كان عليه رسول الله ﷺ، وأصحابه.

الشيخ: هؤلاء هم القليل الثابتون على الصراط المستقيم بدون غلو، ولا جفاء، هم المنعم عليهم، وهم أهل الحق، وهم الذين استقاموا على الطريق السوي فلا زيادة، ولا جفاء، ولا إفراط، ولا تفريط، بل ساروا على النهج الذي سار عليه الرسول ﷺ قولًا وعملًا، فما أفرطوا وغلوا، وما جفوا ونقصوا، ولكنهم ساروا على الطريق ملتمسين ما قاله الرسول ﷺ وفعله، سائرين على منهجه متحرين أن يفعلوا فعله عليه الصلاة والسلام، وأن يلزموا أمره، وأن لا يزيدوا، ولا ينقصوا.

.....

فقوم قصّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحدّ بالوسواس.

وقوم قصّر بهم عن إخراج الواجب منٍ المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم، وقعدوا كَلًّا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم.

وقوم قصّر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام، والشراب، واللباس، حتى أضرُّوا بأبدانهم، وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة، فأضروا بقلوبهم، وأبدانهم.

وكذلك قصّر بقوم في حق الأنبياء، وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.

وقصّر بقوم في خُلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات، كالجمعة، والجماعات، والجهاد، وتعلُّم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم، والمعاصي، والآثام.

وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفورٍ، أو شاةٍ ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرّأهم على الدماء المعصومة.

وكذلك قصّر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم، دون العمل به.

وقصّر بقوم حتى أطعمهم من العشب، ونبات البرِّية دون غذاء بني آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.

وقصّر بقوم حتى زيّن لهم ترك سنة رسول الله ﷺ من النكاح، فرغبوا عنه بالكُلِّيّة، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.

الشيخ: ظلمًا وعتوًا، قصَّر بقوم حتى رغبوا عن النكاح قالوا الزوجة تشغلنا  فلم يتزوجوا.

وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.

الشيخ: ولهذا ما ارتضوا بالنكاح، فزادوا على النكاح بالزنا والفواحش.

والوسط هو الرضا بالنكاح الشرعي، والكف عما حرم الله، وعدم العدوان.

وقصّر بقوم حتى جَفَوا الشيوخَ من أهل الدين، والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.

وكذلك قصّر بقوم حتى منعهم قبولَ أقوالِ أهل العلم، والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حلّلوه، والحرام ما حرّموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله ﷺ الصحيحة الصريحة.

الشيخ: وهذا من أنواع البلاء، فإن الحق عدم الإعراض عن أقوال أهل العلم، وعدم إهمالها بل يستفاد منها، ويعتنى بها، ولكن لا تقدم على كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فالإعراض عنها، ورفضها، وعدم الالتفات إليها جفاء وتقصير، والغلو فيها وتحكيمها على شرع الله تفريط فيها، وتحليل ما أحلوا، وتحريم ما حرموا من دون نظر إلى كتاب الله، ولا إلى السنة غلو وإفراط، والوسط في غير ذلك، أن يعظم كتاب الله، وأن تعظم السنة، وأن تعرض عليها أقوال الناس، وأفعال الناس، فما وافقهما قُبِلَ وما  خالفهما رد على قائله.

وقصّر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده، ولا شاءها منهم، ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى، وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئًا البتة، وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة، فهي نفس فعله لا أفعالهم، والعبيد ليس لهم قدرة، ولا فعلٌ البتةَ.

الشيخ: وهذا في المعتزلة، والنفاة، والجبرية فغلاة القدر ونفاة العلم العام بالجزئيات قالوا: العبد يخلق فعله، قالوا لا مشيئة لله فيه، ولا قدرة لله فيه، فهم يخلقون أفعالهم، ولهم مشيئة تامة في أفعالهم نسأل الله العافية.

والآخرون قالوا: هم مجبورون كالريشة في الرياح، وكاليد المرتعشة ليس له فعل، ولا اختيار بل هو مجبور، مقهور.

والحق خلاف ذلك، والحق أن العباد لهم أفعال، ولهم اختيار، ولهم مشيئة، ولهم إرادة، والله خالقهم، وخالق أفعالهم ومشيئتهم: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ۝ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29] والله المستعان.

وقصّر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلًا في خلقه، ولا بائنًا عنهم، ولا هو فوقهم، ولا تحتهم، ولا خلفهم، ولا أمامهم، ولا عن أيمانهم، ولا عن شمائلهم، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو في كل مكان بذاته، كالهواء الذي هو داخل في كل مكان.

الشيخ: وهذا من الجهل العظيم، والبلاء العظيم، فالأولون وصفوه بالعدم، فإنه ليس فوق العالم، ولا تحت العالم، ولا عن يمينه، ولا عن شماله، ولا داخله، ولا خارجه، هذا هو العدم المحض، والمعنى إنكار وجوده بالكلية، نسأل الله العافية.

ومن قال أنه في كلام مكان، وصفوه بأنه في بيوتهم، وحماماتهم، وغير ذلك من المواضع غير اللائقة، والله سبحانه فوق العرش، فوق جميع خلقه ، هذا هو الحق الذي عليه الرسل وأهل السنة والجماعة هو فوق العرش، فوق جميع خلقه ، وعلمه في كل مكان.

وقصّر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: لم يزل أزلًا، وأبدًا قائلًا: يًا إِبْلِيسُ مًا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمًا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، ويقول لموسى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [النازعات:17]؛ فلا يزال هذا الخطاب قائمًا به، ومسموعًا منه، كقيام صفة الحياة به.

الشيخ: وهذا من جهلهم، وضلالهم فإنه سبحانه تكلم ويتكلم إذا شاء ، تكلم فيما مضى، ويتكلم يوم القيامة، ويتكلم لأهل الجنة، ويخاطبهم ويأمرهم ، فهو يتكلم إذا شاء، ليس كلامًا لازمًا، بل تكلم فيما مضى، وقال لآدم، وكلم موسى تكليمًا، وكذلك يتكلم يوم القيامة، ويبلغ الناس يوم القيامة: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كماء جاء في النصوص، فهو يتكلم بما يليق بجلاله، وعظمته .

وقصّر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يُشَفِّع أحدًا في أحد البتة، ولا يرحم أحدًا بشفاعة أحدٍ، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك، ونحوهم.

الشيخ: وهذا باطل كونه يشفع من يشاء، ويشفع الرسل، والملائكة، والمؤمنين، والأفراط، ولكن لا يشفعون لأحد إلا بإذنه مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] ، ما يشفعهم في الكفار فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] فهو يشفع من يشاء بإذنه، ولا يرضى لأحد بالشفاعة إلا لمن آمن به، ووحده ، فهو جل وعلا يشفع من يشاء، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] .

وقصّر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس، وأظلمهم كإيمان جبريل، وميكائيل، فضلًا عن أبى بكر، وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة.

وقصّر بقوم حتى نَفَوا حقائق أسماء الرب تعالى، وصفاته، وعطّلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبَّهوه بخلقه، ومَثّلوه بهم.

وقصّر بقوم حتى عادَوا أهل بيت رسول الله ﷺ، وقاتلوهم، واستحلُّوا حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادَّعَوا فيهم خصائص النبوة من العصمة، وغيرها، وربما ادعوا فيهم الإلهية.

وكذلك قصّر باليهود في المسيح حتى كذَّبوه، ورمَوه وأمَّه بما برأهما الله تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلهًا يُعبَد مع الله.

وقصّر بقوم حتى نَفَوا الأسباب، والقُوى، والطبائع، والغرائز، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمرًا لازمًا لا يمكن تغييره، ولا تبديله، وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير.

وقصّر بقوم حتى تعبَّدوا بالنجاسات.

الشيخ: نسأل الله العافية.

وقصّر بقوم حتى تعبَّدوا بالنجاسات، وهم النصارى، وأشباهُهم، وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار، والأغلال، وهم أشباه اليهود.

وقصّر بقوم حتى تزيّنوا للناس، وأظهروا لهم من الأعمال، والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح، ومن الأعمال السيئة ما يُسقطون به جاهَهم عندهم، وسَمَّوْا أنفسهم الملامتية.

وقصّر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب، ولم يلتفتوا إليها، وعدُّوها فضلًا، أو فضولًا، وتجاوز بآخرين حتى قَصَرُوا نظرهم، وعملهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارف لا يُسْقِطُ وارِدَهُ لوِرْدِهِ.

وهذا بابٌ واسعٌ جدًا، لو تتبعناه لبلغ مبلغًا كبيرًا، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة.

الشيخ: رحمه الله نسأل الله العافية، وهذا يبين الحذر من الشيطان، والشياطين، وتلاعبهم، وأن العصمة، والسلامة في الاستقامة على طريق الله الذي جاء به رسوله عليه الصلاة والسلام، لا زيادة، ولا نقص، هذا هو طريق السلامة التمسك بالقرآن العظيم، والسنة المطهرة، وما ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في الأقوال والأعمال، في الطهارة، والصلاة، والصوم، والحج، والمعاملات، والنكاح، وغير ذلك هذا هو طريق النجاة، والعصمة.

........

الشيخ: كأنهم يعني  يرون أنهم يلومون أنفسهم في كل شيء حتى .... جهلهم وغرورهم من باب التواضع، أو من باب اللوم بأنفسهم والازدراء على أنفسهم حتى فضحوهم.

س:  (.....)  من هو أفسق الناس كإيمان جبرائيل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر أنه يرى أن تفضيل الملائكة على صالحي البشر؟

الشيخ: الظاهر منه هذا؛ لأنهم يشاهدون، لأن  إيمانهم .... من الشهادة ... لأن من شاهد الشيء....  فهو شاهد في السماء، وفي عظمة الله بما في السماء، وبما في العرش، وما حول ذلك، قد يكون من هذا الباب أقول لعله من هذا الباب وهذا فيه نظر يحتاج تأمل.

السؤال: ألا يلزم من هذا تفضيل الملائكة على صالحي البشر؟

الشيخ: قد يكون فضل خاص، لأن القضايا الخاصة لها شأن، القضايا الخاصة لا تقضي على القضايا العامة، قد يكون لهم فضل خاص من هذه الحيثية، ولكن للصديق، وعمر، وغيرهم من الفضائل الأخرى ما يقضي على ذلك، وفوق ذلك صبرهم وجهادهم وقيامهم مع رسول الله ﷺ.... العلماء: أنَّ الصديق وأشباهه الصحابة أفضل الخلق جميعا بعد الرسل والأنبياء، وإن كان الملائكة لهم فضلهم وعلمهم  وشرفهم عليهم الصلاة والسلام، لكن مقامات الصديق وأشباهه لا تشبه ذلك.

س: ... للملائكة فضل خاص؟

الشيخ:  نعم  .......تفضيل .... على الصديق، وعلى عمر، وقد يقتضي أن يقال: إن هذا عام، وأن ما ذكره في نبأ الصديق، ونبأ  عمر.....

 على كل حال هذا مقام له شأن يحتاج إلى دقة وتأمل، والله أعلم.

 وبعض الناس قالوا: قال: خير أمتي وقال: خير الناس ما قال: خير الخلق، قال: خير الناس، وقال: خير أمتي  فهذا قد يلاحظ أنه في الصحابة  قال: خير أمتي قرني، خير الناس قرني، ولم يقل خير الخلائق قرني، ولم يقل خير المخلوقات حتى يعم الملائكة؛ ولهذا تشبث المعتزلة، وأشباهم بأن الملائكة أفضل الخلق؛ لأن الأدلة ما تعمهم.........فدل على أن هناك خلقًا لم يُفضَّلُوا عليهم والله أعلم.