المثال الثالث والستون: يصح وقف الإنسان على نفسه، على أصح الروايتين، ويجوز اشتراط النظر لنفسه، ويجوز أن يستثنى الإنفاق منه على نفسه ما عاش، أو على أهله. وغيرنا ينازعنا في ذلك، فإذا خاف من حاكم يبطل الوقف على هذا الوجه.
فالحيلة له: أن يملكه لولده أو زوجته، أو أجنبي يقفه عليه، ويشترط له النظر فيه.
الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلف فيه نظر؛ الحيلة ما لها وجه نقول هذه الحمد لله .....، وإذا القاضي خالفه، فالشيء في ذمة القاضي الذي خالفه، ولا حاجة للحيل، نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.
وأن يقدم على غيره من الموقوف عليهم بغَلَّته، أو بالإنفاق عليه، فيصح حينئذ، ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل.
المثال الرابع والستون: إذا اشترى جارية وقبضها، فوجد بها عيبا ولم يكن نقد ثمنها، فأراد ردها، فصالحه البائع على أن يأخذ البائع الجارية بأقل من الثمن الذى اشتراها به. فقال القاضي: لا يجوز ذلك، لأن هذا الصلح في معنى البيع، وبيع المبيع من بائعه بأقل من ثمنه لا يجوز، لأنه ذريعة إلى الربا، وهو كمسألة العينة، فإن كان قد حدث بالجارية عيب عند المشترى جاز ذلك، لأن مقدار الحط يكون بإزاء العيب الذي حدث عند المشترى، فلا يؤدى إلى مسألة العينة.
والحيلة في جواز ذلك، في الصورة الأولى على وجه لا يشبه العينة: أن يخرج الجارية من ملكه، فيبيعها الرجل بالثمن الذي يأخذها به البائع، فيصالح الذي في يده الجارية البائع على أن يقبلها بدون الثمن الذى وقع عليه العقد، ويجعل هذا الثمن الذى يأخذ به الجارية قضاء عن مشتري الجارية، لأن المشتري الثاني متى صالح البائع على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذى اشتريت به، فهو عقد جرى بينهما مبتدأ، من غير بناء أحد العقدين على الآخر، فإذا اشتراها البائع من هذا الثاني حصل ثمنها في ذمته له، وله هو على المشترى الأول ثمنها، فإذا طالبه البائع بالثمن أحاله على المشتري الأول، فيتقاصان.
الشيخ: ليس هناك حاجة إلى هذا، والأمر سهل، إذا بان بها عيب واتفقا على التخفيف من الثمن فلا بأس ولا حاجة إلى حيل، اشتراها بعشرة آلاف ثم بان بها عيب واصطلحوا على أنه يسامحه بألفين تصير ثمانية آلاف، وأي شيء في هذا لا حرج، والحمد لله.
المثال الخامس والستون: الضمان لا تبرأ ذمة المضمون عنه بمجرده، حيًّا كان المضمون عنه أو ميتًا.
وفيه رواية أخرى: أنه يبرئ ذمة الميت دون الحي، وهى مذهب أبى حنيفة.
وفيه قول ثالث: أنه يبرئ ذمة الحي والميت، كالحوالة، وهو مذهب داود.
فإذا أراد الضامن أن يكون ضمانه مبرئًا لذمة المضمون عنه، فالحيلة في ذلك: أن يقول: لا أضمن دينه إلا بشرط أن تبرئه منه، فمتى أبرأته منه فأنا ضامن له، ويصح تعليق الضمان بالشرط في أقوى الوجهين، فإذا أبرأه صحت البراءة، ولزم الدين الضامن وحده. فإن خاف رب الدين أن يرفعه إلى حاكم لا يرى صحة الضمان المعلق فيبطل دينه من ذمة الأصيل بالإبراء، ولا يثبت له في ذمة الضامن.
فالحيلة له: أن يكتب ضمانه ضمانًا مطلقًا، ويشهد عليه به من غير شرط، بعد إقراره ببراءة الأصيل، فيحصل مقصودهما.
المثال السادس والستون: الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا في صورة واحدة، وهي: أن يشترط ملاءة المحال عليه فيتبين مفلسًا.
وعند أبى حنيفة: إذا قرر المال على المحال عليه بأن جحده حقه، إذ قرار المحال على المحال عليه. فإن جحده حقه وحلف عليه أو مات مفلسًا رجع على المحيل.
وعند مالك: إن ظن ملاءته، فبان مفلسًا، رجع وإن طرأ عليه الفلس لم يكن له الرجوع. فإذا أراد صاحب الحق التوثق لنفسه، وأنه إن تقرر ماله على المحال عليه رجع على المحيل.
فالحيلة له في ذلك: أن يحتال حوالة قبض لا حوالة استيفاء. فيقول للمحيل: أحلني على غريمك أن أقبض لك ما عليه من الدين، فيجيبه إلى ذلك. فما قبضه منه كان على ملك المحيل فيأذن له في استيفائه. فإن خاف المحيل أن يهلك هذا المال في يد القابض ولا يغرمه لأنه وكيل في قبضه.
فالحيلة أن يقول له: ما قبضته فهو قرض في ذمتك، فيثبت في ذمته نظير ما له عليه، فيتقاصان.
فالحوالة ثلاثة أنواع: حوالة قبض محض، فهي وكالة، وحوالة استيفاء: وهي التي تنقل الحق، وحوالة إقراض.
فالأولى: لا تثبت المقبوض في ذمة المحال، والثانية: تجعل حقه في ذمة المحال عليه، والثالثة: تثبت المأخوذ في ذمته بحكم الاقتراض.
المثال السابع والستون: إذا ضمن الدين ضامن فلمستحقه مطالبة أيهما شاء.
وعن مالك روايتان: إحداهما: كذلك. والثانية: أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر مطالبة الأصيل.
فإن أراد الضامن أن يضمن على هذا الوجه فالحيلة أن يقول: إن تعذر مالك قبله فأنا ضامن له. ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصح.
فإن أراد أن يصحح ذلك على كل قول، ويأمن رفعه إلى من يرى بطلان ذلك.
فالحيلة فيه: أن يقول: ضمنت لك ما يتقرر لك على فلان، أو يعجز عن أدائه، فيصح ذلك، ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا تقرر المال على الأصيل، أو عجز عنه.
المثال الثامن والستون: إذا بذت عليه امرأته، فقال: الطلاق يلزمني منك لا تقولين لي شيئًا إلا قلت لك مثله، فقالت: أنت طالق ثلاثًا، فقال بعضهم: يقول لها: أنتَ طالق ثلاثًا بفتح التاء، ولا تطلق، لأن الخطاب لا يصلح لها، وهذا ضعيف جدًا، لأن قوله: أنتَ طالق إما أن يعنيها به، أو يعني غيرها، فإن لم يعنها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت، بل يكون القول لغيرها فلا يبر به، وإن عناها به طلقت للمواجهة وفتح التاء لا يمنع صحة الخطاب، والمعنى: أنت أيها الشخص، أو الإنسان.
ثم ما يقول هذا القائل: إذا قالت له: فعل الله بك كذا، فقال لها: فعل الله بكَ وفتح الكاف، هل يكون بارًا في يمينه بذلك؟ فإن قال: لا يبر لزمه مثله في الطلاق، وإن قال: يبر، كان قائلا لها مثل ذلك فيكون مطلقًا لها. وأجود من هذا، أن يكون قوله على التراخي، ما لم يقيده بالفور، بلفظه أو نيته.
وقالت طائفة: يقول لها: أنت طالق ثلاثًا، إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن فعلت لما لا تقدر هي عليه، فيكون قد قال لها مثل ما قالت، وزاد عليه، وفى هذا ضعف لا يخفى، لأن هذه الزيادة تنقص الكلام، فهي زيادة في اللفظ ونقصان في المعنى، فإنه إذا علق الطلاق بشرط خرج من التنجيز إلى التعليق، وصار كله كلامًا واحدا، وهى لم تعلق كلامها، وإنما نجزته. فالمماثلة تقتضي تنجيزا مثله.
وأجود من هذا كله أن يقال: لا يدخل هذا الكلام الذي صدر منها في يمينه، لأنه لم يرده قطعًا، ولا خطر بباله، فيمينه لم يتناوله، فهو غير محلوف عليه بلا شك، واللفظ العام يختص بالنية والعرف، والعرف في مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك، والأيمان يرجع فيها إلى العرف والنية والسبب، وهذا مطرد ظاهر على أصول مالك وأحمد، في اعتبارهم عرف الحالف ونيته وسبب يمينه، والله أعلم.
السؤال: .....؟
الشيخ: هذا إذا نوى المنع، إذا نوى أن يمنعها من هذا الشأن تصير كفارة يمين، أما إن نوى إيقاعه فهو يقع، لكن ما لنا لزوم بالحيل إذا وقعت تروح للقضاة.
السؤال: إخوان الأب من الرضاعة هل يكونوا محارم؟
الشيخ: نعم إخوان أبوك من الرضاعة أعمام لك، إذا كانت الرضعات ثابتة خمس رضعات فأكثر في الحولين يصيرون أعمامًا لك، إخوان أبوك من الرضاعة أعمام لك سواء إخوانه من أب أو من أم أو أشقاء، كلهم أعمامك محارم.
السؤال: .....؟
الشيخ: المسلمون على شروطهم.
المثال التاسع والستون: يجوز أن يستأجر الشاة والبقرة ونحوهما مدة معلومة للبنها. ويجوز أن يستأجرها لذلك بعلفها وبدراهم مسماة، والعلف عليه، هذا مذهب مالك، وخالفه الباقون.
وقوله هو الصحيح، واختاره شيخنا. لأن الحاجة تدعو إليه، ولأنه كاستئجار الظئر للبنها مدة، ولأن اللبن وإن كان عينا فهو كالمنافع في استخلافه وحدوثه شيئًا بعد شيء، ولأن إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك جائزة، وهو عين، ولأن اللبن حصل بعلفه وخدمته، فهو كحصول المغل ببذره وخدمته، ولا فرق بينهما، فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر، فهذا من أصح القياس.
وأيضًا فإنه يجوز أن يقفها، فينتفع الموقوف عليها بلبنها، وحق الواقف إنما هو في منفعة الموقوف مع بقاء عينه.
وأيضًا فإنه يجوز أن يمنحها غيره مدة معلومة لأجل لبنها، وهي باقية على ملك المانح. فتجري منحتها مجرى إعارتها، والعارية إباحة المنافع، فإذا كان اللبن يجري مجرى المنفعة في الوقف والعارية، جرى مجراها في الإجارة.
وأيضًا فإن الله قال: فَإِنْ أرْضعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6].
فسمى ما تأخذه المرضعة في مقابلة اللبن أجرا، ولم يسمه ثمنا.
وأيضًا فيجوز أن يستأجر بئرا مدة معلومة لمائها، والماء لم يحصل بعمله، فلأن يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أولى.
وأيضًا: فإنه يجوز أن يستأجر بركة يعشش فيها السمك لأجله، فهذا أولى بالجواز، لأنه معلوم بالعرف. وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان.
وقياس المنع على تحريم بيع اللبن في الضرع قياس فاسد، فإن ذاك بيع مجهول لا يعرف قدره، وما يتحصل منه، وهو بيع معدوم، فلا يجوز. والإجارة أوسع من البيع، ولهذا يجوز على المنافع المعدومة المستخلفة شيئًا بعد شيء، فاللبن في ذلك كالمنفعة سواء وإن كان عينا، فهذا القول هو الصحيح.
الشيخ: وهو كما قال المؤلف لا شك أن في جواز أن تستأجر ناقة أو بقرة أو شاة مدة معلومة من أجل اللبن، يستأجرها شهر أو شهرين بعلفها أو بأجرة معلومة مثل المرضعة يستأجرها ترضع ولده سنة أو شهر أو شهرين بشيء معلوم فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] والحاجة قد تدعو إلى هذا ولا حرج في ذلك؛ لأن هذا اللبن يستخلف مثل ما يستأجر الأرض وفيها النبات الذي ينبت بالسيل أو بما يزرعه من ماله، فالمقصود أنها تستخلف مثل ما يستخلف الزرع في الأرض المستأجرة.
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل هذا العقد.
فالحيلة في لزومه: أن يؤجره الحيوان مدة بدراهم مسماة، ثم يأذن له في علفه بها، ويبيحه اللبن.
وهذه الحيلة تتأتى في إجارة البقرة، والناقة، والجاموس، إذ يمكن الحرث عليها وركوبها، وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدر والنسل، فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها، فالطريق في ذلك: أن يستأجرها لرضاع سخلة له مدة معلومة، ويوكله في النفقة عليها بأجرتها، أو ببعضها ويبيحه اللبن.
المثال السبعون: إذا دفع إليه ثوبه وقال: بعه بعشرة، فما زاد فلك. فنص أحمد على صحته، تبعًا لعبدالله بن عباس، ووافقه إسحاق، ومنعه أكثرهم.
ووجه الخلاف: أن في هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة، فمن رجح جانب الوكالة صحح العقد، ومن رجح جانب الإجارة أو المضاربة أبطله، لأن الأجرة والربح الذى جعل له مجهول.
والصحيح: الجواز لأن العشرة تجري مجرى رأس المال في المضاربة، وما زاد فهو كالربح، فإذا جعله كله له، كان بمنزلة الإبضاع، إذا دفع إليه مالًا يضارب به، وقال: ما ربحت فهو لك، فليس العقد من باب الإجارات، بل هو بالمشاركات أشبه. فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانه.
فالحيلة في ذلك: أن يقول: وكلتك في بيعه بعشرة، فإن بعته بأكثر فلا حق لي في الزيادة، فيصح هذا. وتكون الزيادة للوكيل.
الشيخ: وهذا لا بأس به، يقع كثيرًا، يعطيه سلعة ويقول بعها بمائة فإن زاد شيء فهو لك، لكن على البائع أن يتحرى عدم الظلم وعدم الغش يبيع كما يبيع الناس إذا كانت السلعة لها سعر معلوم معروف حتى لا يغش الناس فما زاد فهو له، ومثل ما يوكله على بيت أو سيارة أو كذا فيقول له: بعها بكذا وإن زاد شيء فهو لك أجرة لك كالسعي.
السؤال: في الإجارة إذا قال أجر البيت بكذا وما زاد فهو لك؟
الشيخ: هذه المسألة، الصواب لا حرج.
السؤال: شركات سيارات الأجرة (الليموزين) يقولون للسائق تأتي كل يوم بمائة ريال وما زاد فلك وما نقص نأخذ من راتبك؟
الشيخ: ما في بأس، يكون أجره السيارة بأجر معلوم، السيارة وبعد ذلك يأخذ ما تيسر، يركب الناس يعمل ويتعب ويعطيه مائة ريال كل يوم أو كل يومين لا حرج، شيء معلوم ما فيه جهالة.
السؤال: .....؟
المثال الحادي والسبعون: قال الإمام أحمد، في رواية مهنا: "لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه، وهو أحب إلي من المقاطعة" يعني أن يقاطعه على كيل معين، أو دراهم أو عروض.
وكذلك نص في رواية الأثرم وغيره، في رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين: أن ذلك جائز.
وقال أحمد أيضًا: "لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع"، لحديث جابر: «أَنَّ النَّبَّي صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى الشّطْرِ».
ونقل عنه أبو داود فيمن يعطى فرسه على النصف من الغنيمة: "أرجو أن لا يكون به بأس".
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: "إذا كان على النصف والربع فهو جائز".
ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه: "أنه جائز".
ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها، وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز. ونص في رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه: أنه جائز.
وقال في "المغنى": وعلى قياس قول أحمد: يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها.
وحكي عن ابن عقيل المنع منه. واحتج بأن رسول الله ﷺ "نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطّحَّانِ".
قال الشيخ: وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته. وقياس قول أحمد: جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل.
وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها، والسمك بينهما نصفين. قال في "المغنى": فقياس قول أحمد صحة ذلك، والسمك بينهما شركة. وقال ابن عقيل: السمك للصائد، ولصاحب الشبكة أجرة مثلها.
الشيخ: والقول بالجواز هو الصواب؛ لأن هذا فيه عدل كلهم فوضوا أمرهم إلى الله، فإذا أعطاه الآلة ويسر الله بينهما يصيد بها فرسًا أو سلاحًا ... بينهما هذا كله أو شبكة ... بينهما أو سلعة يبيعها سيارة وما ربحت فهو بينهما إلى غير ذلك، هذا فيه تفويض إلى الله، وفيه عدل أحسن من التعيين، أحسن من أجرة المعين، أو قال: هذه السيارة تكس أنت وكيلها تسوقها وما رزق الله بيننا فلا بأس.
الشيخ: كذلك هذا يقع كثيرًا، له عند الشركة كذا أو عند الحكومة كذا، عند فلان كذا يبي يستريح قال: أنت وكيلي، طالب به وإذا قبضته لك النصف، أو لك الثلث، أو لك الربع، أنا يتعبوني أنت مكاني طالب بحقي من هذه الشركة أو عند فلان أو عند الدولة أو أي محل لك نصفه أو ربعه أو ثلثه ما اتفقا عليه فلا بأس، لأن هذا في مصلحة الوكيل ومصلحة الموكل.
الشيخ: كذلك.
ولو غرق متاعه في البحر، فقال لرجل: ما خلصته منه، فلك نصفه، أو ربعه، جاز.
ولو أبق عبده، فقال لرجل، أو قال: من رده على فله فيه نصفه، أو ربعه، أو شردت دابته فقال ذلك، صح ذلك كله.
الشيخ: كله هذا ما في غرر، وكيل يخاصم في الأرض فإن نجح فله ربعها أو له ثلثها، أو الضالة يدورها فإذا وجدها فله ربعها أو ثلثها أو ما أشبه ذلك.
الشيخ: كذلك اصرم هذا النخل، اصرم هذا التمر، اصرمه بالربع أو بالثلث أو احصد هذا الزرع بالثلث أو الربع فلا بأس.
فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله، وهو أحب من المقاطعة في بعض الصور.
ولم يجوز الشافعي وأبو حنيفة شيئًا من ذلك.
وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصد زرعي ولك نصفه، فذلك جائز، وإن قال: احصد اليوم، فما حصدت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وفي العينية أنه يجوز.
فإن قال: القط زيتوني فما لقطت فلك نصفه، فهو جائز عند ابن القاسم، وروى سحنون أنه لا يجوز.
ولو قال: انقض زيتوني.
الشيخ: القاعدة في هذا التحكم بين الناس القاعدة أن الأصل في العقود الإباحة هذا هو الأصل كما قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وقال: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] فالأصل في العقود الإباحة والجواز إلا إذا خالفت النصوص الشرعية بأن كان فيها ربا أو فيها غرر منعت، وإلا فالأصل جواز العقود، عقد إيجار أو بيع أو مساقاة أو مزارعة أو غير ذلك الأصل فيها الصحة فيما بين الناس إلا أن يوجد مانع شرعي من غرر أو ربا أو نحو ذلك.
الطالب: يقول وفي نسخة الغنية؟
الشيخ: ....
ولو قال: انقض زيتوني، فما نقضت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبدالملك بن حبيب.
فإن قال: اقبض لى المائة دينار التي على فلان، ولك عشرها، جاز عند ابن القاسم وابن وهب. وعند أشهب لا يجوز.
فلو قال: اقبض ديني الذي على فلان، ولك من كل عشرة واحد، ولم يبين قدر الدين، لم يجز عند ابن وهب. وأجازه ابن القاسم وأصبغ.
الشيخ: والصواب الجواز لأنه ليس فيه غرر، وفيه مصالح من الموكِل والموكَل هذا ينتفع وهذا ينتفع، فإذا قال: اقبض مالي من فلان ولك من كل عشرة ريال، لك من كل مائة عشرة ما في بأس.
والذين منعوا الجواز في ذلك جعلوه إجارة، والأجر فيها مجهول، والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات، بل من باب المشاركات، وقد نص أحمد على ذلك.
فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر، وقد دلت السنة على جواز ذلك، كما في المسند والسنن عن رويفع بن ثابت، قال: «إنْ كانَ أَحَدُنَا في زَمَنِ رَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ لَيَأْخُذُ نِضْوَ أَخِيهِ عَلَى أنّ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَنَا النِّصفُ، وَإَنْ كانَ أَحَدُنَا لَيَطيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرَّيشُ وللآخَرِ القِدْح».
وأصل هذا كله: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وأجمع المسلمون على جواز المضاربة، وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه. فكل عين تنمي فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل بجزء من ربحها.
الشيخ: وهذا محل إجماع، المضاربة محل إجماع مثل ما قال المؤلف يعطيه ألف ريال وإلا عشرة آلاف ريال ويقول: اعمل فيها اتسبب بالنصف بيني وبينك، أو لك الثلث، أو لك الربع، هذه مضاربة فيها مصلحة للجميع فعلها الصحابة وغيرهم، مصلحة للجميع، فإن أعطاه المال وقال: تتجر به ولك مائة منفعة له ورحمة له فهذا يسمى إبراء، هذا مجرد إحسان، قال: هذه عشرة آلاف تسبب فيها وربحها لك وإذا أيسرت ترده علي، هذا إحسان، مجرد إحسان وجود وكرم يبيه يشتغل ينفع نفسه، هذا يسمى إبراء وإحسان، لكن إذا قال: الربح بيننا هذه هي المضاربة، بيننا نصفين، بيننا أثلاث، بيننا أرباع، هذا يسمى مضاربة.
فهذا محض القياس، وموجب الأدلة، وليس مع المانعين حجة، سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول. وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة.
واستثنى قوم بعض صورها، وقالوا: المضاربة على خلاف القياس، لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره.
وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤاجرة، لأنه في الإجارة يحصل على سلامة العوض قطعًا، والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر. وقاعدة العدل في المعاوضات: أن يستوي المتعاقدان في الرجاء والخوف. وهذا حاصل في المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، وسائر هذه الصور الملحقة بذلك، فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما، وإن تلفت عليهما، وهذا من أحسن العدل.
واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبى سعيد الذي رواه الدارقطني: «نُهِى عَنْ قَفِيزَ الطّحَّانِ» وهذا الحديث لا يصح. وسمعت شيخ الإسلام يقول: هو موضوع.
وحمله بعض أصحابنا على أن المنهى عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها، لأن ما عداه مجهول، فهو كبيعها إلا قفيزا منها، فأما إذا كانت معلومة القفزان، فقال: اطحن هذه العشرة بقفيز منها، صح حبا ودقيقًا. أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز طحنة.
الشيخ: هذا بين الشيخ رحمه الله أنه حديث موضوع «نهى عن قفيز الطحان» موضوع، ثم هو مخالف للقواعد الشرعية إذا أعطاه عشرة أقفزة وقال: اطحنها ولك قفيز منها واحد، ما في جهالة ولا غرر إذا أعطاه عشرة أقفزة مثلًا ولك واحد قفيز أجرة لك على طحن التسعة، فأي جهالة وأي غرر في هذا؟ هذه من إفك الكذابين وكذب الكذابين، مثل لو أعطاه عشرة ..... وقال له: بع فيها واشتر وما حصل فهو بيننا، لك العشر ولي الباقي، أو لي العشر ولك الباقي، أو ما أشبه ذلك هذا شيء معروف.
وأما إذا كان دقيقًا شاركه في ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر، فيصير شريكه بالجزء المسمى.
فإن قيل: فالشركة عندكم لا تصح بالعروض؟
قيل: بل أصح الروايتين صحتها، وإن قلنا بالرواية الأخرى، فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض، لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف في رقبة المال بإبداله بغيره، بخلاف هذا.
فإن قيل: دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا، أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجًا يتضمن محذورين.
أحدهما: أن يكون طحن قدر الأجرة ونسجه مستحقًا على العامل بحكم الإجارة، ومستحقًا له بحكم كونه أجرة، وذلك متناقض. فإن كونه مستحقًا عليه يقتضي مطالبة المستأجر به، وكونه مستحقًا له يقتضي مطالبة المؤجر به.
الثاني: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه، وذلك ممتنع.
قيل: إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة، وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة، ولو سلم أنه من باب المؤاجرة فلا تناقض في ذلك، فإن جهة الاستحقاق مختلفة، فإنه مستحق له بغير الجهة التي يستحق بها عليه، فأي محذور في ذلك؟
وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضًا، فهو إنما عقد على عمله، فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين، وهذا أمر متصور شرعًا وحسًا.
فظهر أن صحة هذا الباب هي مقتضى النص والقياس، وبالله التوفيق.
وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك، إلا إذا خيف غدر أحدهما، وإبطاله للعقد، والرجوع إلى أجرة المثل.
فالحيلة في التخلص من ذلك: أن يدفع إليه ربع الغزل والحب، أو نصفه. ويقول: انسج لي باقيه بهذا القدر، فيصيران شريكين في الغزل والحب، فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح، وكان بينهما على قدر ما شرطاه.
والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه، وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة، فهلا أجازوه من أصله كذلك؟ وهل الاعتبار في العقود إلا بمقاصدها وحقائقها ومعانيها، دون صورها وألفاظها؟ وبالله التوفيق.
السؤال: .....؟
الشيخ: يعطى منها هدية ما في بأس، إذا أعطاه صاحب الضحية منه مثل ما يعطى غيره ما في بأس.
السؤال: يقول مقابل ذبحه؟
الشيخ: لا ما يجوز، ما يعطى أجرة منها لكن يعطى صدقة هدية، أما الأجرة غير، الرسول ﷺ نهى أن يعطى الجازر أجرته منها.
المثال الثاني والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه، وله هو دين على آخر، فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذى له على ذلك، لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة، وقد توارى عنه غريمه، فيتعذر عليه الحوالة والوكالة.
فالحيلة له في اقتضاء دينه من ذلك: أن يوكله، فيقول: وكلتك في اقتضاء ديني الذي على فلان، وبالخصومة فيه، ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصًا مما لي عليه، وأجزت أمرك في ذلك. فيقبل الوكيل، ويشهد عليه شهودا، ثم يشهد الوكيل أولئك الشهود، أو غيرهم أن فلانًا وكلني بقبض ماله على فلان، وأن أجعله قصاصًا بما لفلان علي، وأجاز أمري في ذلك، وقد قبلت من فلان ما جعل إلي من ذلك، واشهدوا أني قد جعلت الألف درهم التي لفلان علي قصاصًا بالألف التي لفلان موكلي عليه، فتصير الألف قصاصًا، ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل للرجل الذى وكله.
المثال الثالث والسبعون: إذا كان لرجل على رجل مال فغاب الذي عليه المال، وأراد الرجل أن يثبت ماله عليه، حتى يحكم الحاكم عليه وهو غائب، جاز للحاكم أن يحكم عليه في حال غيبته مع بقائه على حجته في أصح المذهبين.
وهو قول أحمد في الصحيح عنه، ومالك، والشافعي، وعند أبي حنيفة لا يجوز الحكم على الغائب؛ فإذا لم يكن في الناحية إلا حاكم يرى هذا القول ويخشى صاحب الحق من ضياع حقه.
فالحيلة له: أن يجيء برجل، فيضمن لهذا الرجل الذي له المال جميع ماله على الرجل الغائب، ويسميه وينسبه، ويشهد على ذلك، ثم يقدمه إلى القاضي، فيقر الضامن بالضمان، ويقول: قد ضمنت له ماله على فلان بن فلان، ولا أدرى كم له عليه، ولا أدري: له عليه مال، أم لا؟ فإن القاضي يكلف المضمون له أن يحضر بينته على ذلك بماله على فلان فإذا أحضر البينة قبلها القاضي بمحضر من هذا الضمين، وحكم على الغائب، وعلى هذا الضامن بالمال بموجب ضمانه، ويجعل القاضي هذا الضمين بالمال خصمًا على الغائب، لأنه قد ضمن ما عليه. ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه، ثم يحكم بذلك على الضمين لأنه فرعه، فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبت على الفرع.
المثال الرابع والسبعون: إذا غصبه متاعًا له، ويقر له في السر بعينه، ويجحده في العلانية، ويريد تخليص ماله منه.
فالحيلة له: أن يبيعه ممن يثق به، ويشهد له على ذلك ببينة عادلة، ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب، ويكون بين البيعين من المدة ما يعرفه الشهود ليوقنوا بذلك عند الأداء، فإذا أشهد الغاصب بالبيع في الوقت المعين جاء الذى باع منه المغصوب قبله ببينته فيحكم له لسبق بينته فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه فُيسلَّم العين للمغصوب منه، وكذلك لو أقر بها المغصوب منه لرجل يثق به، ثم باعها بعد ذلك للغاصب، ثم جاء المقر له فأقام بينة على الإقرار السابق.
فإن قيل: فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة، وقال للمغصوب منه: لست أبتاع منك هذه السلعة، خشية هذا الصنيع، ولكن آمر من يبتاعها منك لي، فأراد المغصوب منه حيلة ترجع إليه بها سلعته.
فالحيلة: أن يبيعها أولا ممن يثق به، ولا يكتب في كتاب هذا الشراء الثاني قبض المشتري، فإنه إذا أقر وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه، ثم جاء الرجل الذي كتب له المغصوب منه الشراء، كان أولى بها من وكيل الغاصب لأن وقت شرائه أقدم، وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشترى لها أولا أولى، ويرجع وكيل الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه.
المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالًا وأجله لزم تأجيله على أصح المذهبين، وهو مذهب مالك، وقول في مذهب أحمد، والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل، كما هو قول الشافعي، وأبي حنيفة، ويدل على التأجيل قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَالاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، وقوله وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الإسراء: 34] .
وقوله صَلى اللهُ تعالى عَلَيه وسلم: المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهمْ، وقوله: آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وقوله: يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لواء عِنْدَ اُسْتِهِ يَوْمَ القيامة بِقَدْرِ غُدْرَتِهِ، وقوله: لا تَغْدِرُوا، وقوله: إنّ الْغَدْر لا يصْلُحُ، وقوله في صفة المنافق: إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ.
وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذمه واستقباحه، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح، وعلى هذا فلا حاجة إلى التحيل على لزوم التأجيل.
وعلى القول الأخر: قد يحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل.
فالحيلة فيه: أن يحيل المستقرض صاحب المال بماله إلى سنة أو نحوها، بقدر مدة التأجيل، فيكون المال على المحتال عليه إلى ذلك الأجل ولا يكون للطالب، ولا لورثته على المستقرض سبيل، ولا على المحال عليه إلى الأجل. فإن الحوالة تنقل الحق، ولو أحال المحال عليه صاحب المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة، فإن مات المحال عليه الأول، لم يكن لصاحب المال على تركته سبيل، ولا على المحال عليه الثاني.
الشيخ: وهذا الصواب أن القرض إذا أجل يتأجل، فإذا أقرضه ألف ريال أو عشرة آلاف ريال إلى المحرم من عام 1417 المحرم، ثم هون وقال أعطني مالي ... قال: هونت أعطني القرض ليس له ذلك المسلمون على شروطهم، فهذا خداع وغرر ما يجوز، ما دمت أقرضته واتفقت معه على أنه يرد المال إليك في المحرم فالمسلمون على شروطهم قد يكون ما عنده شيء حين قال في المحرم ما عنده شيء في رمضان، ما عنده شيء في شعبان، ما عنده شيء في شوال، فالواجب على المؤمن أن يوفي بما قال، وأن لا يخدع أخاه يقول له في المحرم ثم يطالبه قبل ذلك، الصواب أنه يتأجل.
المثال السادس والسبعون: إذا رهنه دارا أو سلعة على دين، وليس عنده من يشهد على قدر الدين ويكتبه، فالقول قول المرتهن في قدره، ما لم يَدَّع أكثر من قيمته، هذا قول مالك. وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد: القول قول الراهن، وقول مالك هو الراجح وهو اختيار شيخنا، لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتاب، يشهد بقدر الحق، والشهود التي تشهد به، وقائما مقامه، فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت الوثيقة من الرهن، وادعى المرتهن أنه رهن على أقل شيء، فلم يكن في الرهن فائدة.
والله قد قال في آية المداينة التي أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود، أو النسيان، فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب، وأكد ذلك بأن أمرهم بكتابة الدين، وأمر الكاتب أن يكتب، ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب، ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى، وأمر من عليه الحق أن يملل، ويتقى ربه فلا يبخس من الحق شيئًا، فإن تعذر إملاؤه لسفهه أو صغره أو جنونه، أو عدم استطاعته، فوليه مأمور بالإملاء عنه.
فأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال أو رجل وامرأتين، فأمرهم بالحفظ بالنصاب التام الذى لا يحتاج صاحب الحق معه إلى يمين، ونهى الشهود أن يأبوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة، ثم أكد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق، سآمة ومللا، وأخبر أن ذلك أعدل عنده، وأقوم للشهادة فيتذكرها الشاهد إذا عاين خطه فيقيمها، وفي ذلك تنبيه على أن له أن يقيمها إذا رأى خطه وتيقنه وإلا لم يكن بالتعليل بقوله وأقوم للشهادة [البقرة:282] فائدة.
وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين، وعدم الريب، ثم رفع عنهم الجناح بترك الكتابة إذا كان بيعًا حاضرًا فيه التقايض من الجانبين، يأمن به كل واحد من المتبايعين من جحود الآخر ونسيانه، ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا، خشية الجحود، وغدر كل واحد منهما بصاحبه، فإذا أشهدا على التبايع أمنا ذلك. ثم نهى الكاتب والشهيد عن أن يضارا، إما بأن يمتنعا من الكتابة والشهادة تحملًا وأداء، أو أن يطلبا على ذلك جعلا يضر بصاحب الحق، أو بأن يكتم الشاهد بعض الشهادة، أو يؤخر الكتابة والشهادة تأخيرًا يضر بصاحب الحق، أو يمطلاه، ونحو ذلك، أو هو نهي لصاحب الحق أن يضار الكاتب والشهيد، بأن يشغلهما عن ضرورتهما وحوائجهما، أو يكلفهما من ذلك ما يشق عليهما.
ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله، فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود، ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود، وهو السفر في الغالب، فقال سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهَانٌ مَقبُوضَةٌ [البقرة:283].
فدل ذلك دلالة بينة أن الرهان قائمة مقام الكتاب والشهود، شاهدة مخبرة بالحق، كما يخبر به الكتاب والشهود وهذا، والله أعلم، سر تقييد الرهن بالسفر، لأنه حال يتعذر فيها الكتاب الذى ينطق بالحق غالبًا، فقام الرهن مقامه، وناب منابه، وأكد ذلك بكونه مقبوضًا للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من جحده؛ فلا أحسن من هذه النصيحة، وهذا الإرشاد والتعليم، الذي لو أخذ به الناس لم يضع في الأكثر حق أحد، ولم يتمكن المبطل من الجحود والنسيان، فهذا حكمه سبحانه المتضمن لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم.
والمقصود: أنه لو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين لم يكن وثيقة ولاحافظًا لدينه، ولا بدلا من الكتاب الشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه، ومن يجعل القول قول الراهن، فإنه يصدقه على ذلك ويقبل قوله في رهن الربع والضيعة على هذا القدر. فالذي نعتقده وندين الله به: هو قول أهل المدينة، فإذا أراد الرجل حفظ حقه، وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب.
فالحيلة في قبول قوله: أن يسترهنه المرتهن على قيمته، ويدفع إليه ما اتفقا عليه، ويشهد الراهن أن الباقي من قيمته أمانة عنده، أو قرض في ذمته يطالبه به متى شاء، فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه، ويأمن ظلم الآخر له، والله أعلم.
الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلف هو الصواب، مذهب أهل المدينة في ذلك مذهب مالك هو الصواب، فإذا أرهنه مثلًا بيته أو أرضه في دين عليه وضاعت الوثيقة -وثيقة الدين- أو زعم الراهن أنه نسي الدين وادعى دينًا لا يقارب الرهن فإن القول قول المرتهن، إذا قال رهنتك أرضي بمائة ريال أو مائتين ريال أو شبه ذلك، والمرتهن يقول: لا رهنتني الأرض بألفين بعشرة آلاف بأكثر، يكون القول قول المرتهن الذي يقارب من الحقيقة، لأن الرهن إنما يكون في شيء له أهمية وثيقة، فإذا ادعى الراهن أنه رهنه إياه في شيء حقير ما يقبل قوله الراهن، وإنما يقبل قول المرتهن إذا كان دعواه مقاربة عند ضياع البينة وضياع الكتابة وعدم وجود البينة، فقول المرتهن أولى من قول الراهن إذا كان قوله مقاربًا.
والله أرشد العباد إلى الكتابة والشهود حتى لا تضيع الحقوق، أمرهم بكتابة الدين وأمرهم بالإشهاد حتى يحفظوا حقوقهم، فإذا دعت الحاجة إلى الرهن فالرهن حافظ أيضًا، فإذا ادعى الراهن أن الرهن رهن بشيء حقير والمرتهن يقول لا رهن في كذا وكذا، فالقول قول المرتهن ويمينه إذا قارب قوله الحقيقة.
السؤال: إذا أجل الدين لكن ما حدد الأجل ؟
الشيخ: قال الله: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282] لا بدّ من التحديد وإلا ما يصح.
السؤال: الشهود إذا لم يكن هناك رجال يكون أربع نساء؟
الشيخ: على ما تيسر حسب الطاقة، ثنتين أو ثلاث أو أربع إذا تيسر، والكتابة إذا تيسرت أولى.
السؤال: حديث أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود هذا .....؟
الشيخ: الخطاب لولاة الأمور.
السؤال: من صلى إمامًا ثم نسي أو سهي أن يقول سمع الله لمن حمده، وقال بدل ذلك: ربنا ولك الحمد، فهل عليه سجود؟
الشيخ: نعم عليه سجود السهو، هو واجب على الصحيح يسجد للسهو.
المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، وفي يده رهن بالألف، فطالب صاحب الدين الغريم بالألف، وقدمه إلى الحاكم، وقال: لي على هذا ألف درهم، وخاف أن يقول: وله عندي رهن بالألف وهو كذا وكذا. فيقول الغريم: ماله علي هذه الألف التي يدعيها، ولا شيء منها، وهذا الذي ادعى أنه لي رهن في يده هو لي كما قال، ولكنه ليس برهن، بل وديعة، أو عارية، فيأخذه منه ويبطل حقه.
فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يدعي بالألف، فيسأل الحاكم المطلوب عن المال، فإما أن يقر به، وإما أن ينكره، فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه، أو بيع في وفائه. وإن أنكره وقال: ليس له على شيء، ولى عنده تلك العين: إما الدار وإما الدابة. فليقل صاحب الحق للقاضي: سله عن هذا الذي يدعي على: على أي وجه هو عندي؟ أعارية، أم غصب أم وديعة، أم رهن؟ فإن ادعى أنه في يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه، وكان صادقًا، وإن ادعى أنه في يده على وجه الرهن، قال للقاضي: سله: على كم هو رهن؟ فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين، وطالب بحقه. وإن جحد بعضه حلف على نفى ما ادعاه، وكان صادقًا.
المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها، أو أجره دارا ولم يتسلمها، أو زوِّجه ابنته ولم يسلِّمها إليه ثم ادعى عليه بالثمن، أو الأجرة، أو المهر، فخاف إن أنكر أن يستحلفه، أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود، وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به. فالحيلة في تخلصه: أن يقول في الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه، أو إجارة دار لم تسلمها إلي، أو نكاح امرأة لم تسلمها إلي، أو كانت المرأة هي التي ادَّعت فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمي إلي نفسك فيه، ولم تمكنيني من استيفاء المعقود عليه، فأنا مقر به. وإن كان غير ذلك فلا أقر به. وهذا جواب صحيح يتخلص به.
فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط، والإقرار لا يصح تعليقه، كما لو قال: إن شاء الله، أو إن شاء زيد، فله علي ألف.
قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط في الجملة، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف، فهذا إقرار صحيح، ولا يلزمه قبل مجيء الشهر، وكذا لو قال: إن شهد فلان علي بما ادعاه صدقته، صح التعليق. فإذا شهد به عليه فلان كان مقرًا به، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره، كما في تعليق الطلاق والعتاق والخلع.
وفيه وجه آخر: أنه إن أخر الشرط لم ينفعه، وكان إقرارًا ناجزًا. وهذا ضعيف جدًا، فإن الكلام بآخره، ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة، فإن ذلك يغير الكلام، ويخرجه من العموم إلى الخصوص. والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد، فهو أولى بالصحة.
وقد جاء تأخير الشرط في القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار، كقوله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْناَ فِي مِلَّتِكُمْ [الأعراف:89].
وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له علي ألف درهم إذا جاء رأس الشهر، أنه يصح وجها واحدًا. وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار. وعلى هذا فلو قال: له علي ألف مؤجلة، صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلًا.
وقيل: القول قول خصمه في حلوله، وشبهة هذا: أنه مقر بالدين مدع لتأجيله، وهذا ظاهر البطلان، فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقًا، كما لو وصفها بنقد غير النقد الغالب، أو استثنى منها شيئًا. وكذلك لو قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، أو أجرة عن دار لم أتسلمها، أو قال: هلك قبل التمكن من قبضه، على أصح الوجهين، لأنه إنما أقر به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقًا.
وكذا لو قال: كان له علي ألف فقضيته، لم يلزمه، لأنه إنما أقر به في الماضي، لا في الآن، هذا منصوص أحمد، وليس الكلام بمتناقض في نفسه، فيكون بمنزلة قوله: له علي ألف لا تلزمني. والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه مقر بالحق مدع لقضائه، فلا يقبل منه إلا ببينة. وهذا قول الأئمة الثلاثة.
وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب.
وعلى هذا، فإذا قال: له على ألف قضيته إياه. ففيه ثلاث روايات منصوصات.
إحداهن: أنه غير مقر، كما لو قال: كان له علي.
والثانية: أنه مقر مدع للقضاء، فلا يقبل منه إلا ببينة.
والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء، ولو أقام به بينة. بل يكون مكذبا لها، وعلى هذا إذا قال: كان له علي، ولم يزد على هذا فهو مقر.
وخرج أنه غير مقر من نصه، على أنه إذا قال: كان له علي وقضيته: أنه غير مقر، وهو تخريج في غاية الصحة، فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله: وقضيته. فإن هذا دعوى منه للقضاء، وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضي، لا عن الحال، فلا يلزم بكونه في ذمته في الحال، وهو لم يقربه.
والمقصود: أن المدعى عليه إذا كان مظلومًا، فالحيلة في تخلصه، أن يقول: إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا، فأنا غير مقر به، وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به، كان جوابًا صحيحًا، ولم يكن مقرًا على الإطلاق.
المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه، بل يجبر على تسليمه إلى المشتري، ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا في المبتدئ بالتسليم، جعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما. وإن كان دينًا أجبر البائع على التسليم، ثم يجبر المشتري على دفع الثمن. فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه في ماله كله حتى يسلم الثمن. وإن كان غائبًا عن البلد فوق مسافة القصر، ثبت للبائع الفسخ. وإن كان دونها، فهل يحجر عليه، أو يثبت للبائع الفسخ؟ على وجهين، وإن كان المشتري معسرًا، فللبائع الفسخ والرجوع في عين ماله. هذا منصوص أحمد، والشافعي.
وللشافعية وجه: أنه تباع السلعة، ويقضى دينه من ثمنها. فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شيء استقر في ذمته.
والصحيح: أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن، حتى يقبضه، هذا هو موجب العدل، وإلا ففي تمكين المشتري من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع، فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعامًا أو شرابًا فيستهلكه، ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه.
وعلى هذا، لو دفع الثمن إلا درهما منه، فله حبس المبيع كله على باقي الثمن، كما نقول في الرهن.
وفيه قول آخر: أنه يملك أن يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن، لأن كل جزء من المبيع في مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن، فإذا سلم بعض الثمن ملك تسليم ما يقابله.
والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض من الدين، وإنما هو وثيقة، فملك حبسه إلى أن يستوفي جميع الدين.
والأول هو الصحيح، لأنه إنما رضي بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن، ولم يرض بإخراجه، ولا إخراج شيء منه ببعض الثمن.
فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم، ثم يحال على تقاضي المشترى.
فالحيلة له في الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها، ويجوز شرط الرهن والضمين في عقد البيع، ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه في أصح الوجهين، كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه، ومن غير البائع، بل رهنه على ثمنه أولى؛ فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم، فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى.
وأيضًا: فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبي قبل القبض، فجوازه من البائع أولى، لأن المشتري يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها مالا يملكه مع الأجنبي، ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن، أو من الأجنبي.
فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قبل القبض عرضة للتلف، فيكون من ضمان البائع، وكونه رهنا يقتضي أن يكون من ضمان راهنه، فتنافى الأمران، حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة. وهذا بخلاف رهنه من أجنبي قبل القبض. فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبي ومضمونا له من البائع، ولا تنافي بين أن يكون مضمونا له من شخص، ومضمونا عليه لغيره. كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر، صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثاني، ومضمونة له من المؤجر الأول. وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشتري بيعها، وهى مضمونة له على البائع الأول، ومضمونة عليه للمشترى الثاني.
فإن قيل: هذا هو الفرق الذي بني عليه هذا القول، ولكن يقال: أي محذور في ذلك، وأن يكون مضمونا له وعليه؟ وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة، ليس كذلك، فإنه مضمون له من جهة كونه مشتريًا، فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه، ومضمونًا عليه من جهة كونه راهنا، فإذا تلف تلف من ضمانه، حتى لو اتحدت الجهة لم يكن في ذلك محذور بحيث يكون مضمونًا له وعليه من جهة واحدة، كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره، فتكون المنافع مضمونة عليه وله، فأي محذور في ذلك؟
فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن، فمن ضمان من يكون؟
فالبائع يقول للمشتري: يتلف من ضمانك، لأنه رهن، والمشتري يقول: يتلف من ضمانك، لأنه مبيع لم يقبض، وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر.
قيل: بل يكون تلفه من ضمان البائع، لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن، لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه، فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه، كما لو حبس من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم، فإنه إنما احتاط لنفسه بعقد الرهن، والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن في مقابلته، فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذي أخذه في مقابلة الرهن.
فإن أراد الحيلة في تصحيح الرهن والوثيقة، وأن لا يعرضه للبطلان.
فالحيلة له: أن يقبضه من البائع، تم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه، فيصح الرهن، ولا يتوالى هناك ضمانان، فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشتري، ولا يسقط الثمن عنه، فإن خاف البائع أن يغيب المشتري، أو يؤخر فكاك الرهن، كتب كتابًا وأشهد فيه شهودا: أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له في بيعه وقبض دينه من ثمنه، وما بقي منه فهو أمانة في يده.
فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط، كتب في الكتاب: أنه قد وكله الآن، ويعلق تصرفه فيه بالبيع بمجيء الوقت فيعلق التصرف، وينجز التوكيل.
فإن خاف أن يعزله الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه.
فالحيلة له: أن يوكل وكالة دورية، عند من يرى ذلك، فيقول: وكلما عزلته فقد وكلته، وإن شاء أن يقول: وكلته وكالة لا تقبل العزل، وإن شاء أن يقول: على أني متى عزلته فلا حق لي عنده ولا دعوى، وما ادّعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعوى باطلة، والله أعلم.
الشيخ: هذه من مسائل القضاة الله يعيننا وإياهم بعضها جيد وبعضها فيه نظر.
السؤال: ما هو الضابط في هذه الحيل؟
الشيخ: ما وافق الشرع يقبل، وهذا يختلف باجتهاد القاضي والعالم.