012 - حديث بلال في التمر وعدم دلالته على الاحتيال بالعقود

فصل

وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: وَخُذْ بيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44].

فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول: إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه.

هذا قول أصحاب أبى حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد.

وقال الشافعي: إن علم أنها مسته كلها بر في يمينه، وإن علم أنها لم تمسه لم يبر، وإن شك لم يحنث، ولو كان هذا موجبًا لبر الحالف لسقط عن الزاني والقاذف والشارب تعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط، أو ثمانين، ويضرب بها ضربة واحدة، وهذا إنما يجزئ في حق المريض، كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحد "يضرب بعثكال يسقط عنه الحد".

واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: "كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدع، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، قال: فَذَكَرَ ذلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسوِلِ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم، وكانَ ذلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا، فقَالَ: اضْرِبُوهُ حَدَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله: إِنّهُ أَضْعَفُ مَّمِا تحْسبُ، لَوْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ، فقَالَ: خُذُوا له عِثْكالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بهِ ضَرْبةً وَاحِدَةً، فَفَعَلُوا.

وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق، فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه، فلما لقيها الشيطان وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان، ثم حلف: لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط، فكانت معذورة محسنة في شأنه، ولم يكن في شرعهم كفارة، فإنه لو كان في شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير، ولم يحتج إلى ضربها، فكانت اليمين موجبة عندهم، كالحدود، وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورًا خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ، أو مائة سوط، فيضرب بها ضربة واحدة. 

وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذى خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان، فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به، وإحسانها إليه، فجمع الله له بين البر في يمينه، والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التي لا تستحق العقوبة، فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام لنص السنة في شأن الضعيف الذى زنى، فلا يتعدى بها عن محلها.

فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك، ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة، وكانتا معذورتين، لا ذنب لهما: أنه يبر بجمع ذلك في ضربة بمائة شمراخ. قيل: قد جعل الله له مخرجًا بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر عن يمينه، ولا يعصي الله بالبر في يمينه هاهنا، ولا يحل له أن يبر فيها، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة، ولا يحل له أن يضربها، لا مفرقًا ولا مجموعًا.

فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا كالحد؟

الشيخ: ثم هذا في شرع من قبلنا وليس شرع لنا، شرعنا إقامة الحدود، وكفارة اليمين فرج للعباد جعلها الله فرجًا ، فإذا حلف الإنسان أن يضرب فلانًا كذا أو يضرب زوجته أو خادمه أو كذا فله الكفارة، مثل ما قال ﷺ: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير وقصة أيوب عليه السلام كانت في شرع من قبلنا وامرأته صالحة اجتهدت فغضب عليها وحلف لأضربهن مائة جلدة، لكن في شرعنا الله أوجب في حق القاذف ثمانين، وفي حق البكر الزاني مائة جلدة، الواجب أن تقام عليه، وأما حديث سعد بن عبادة ففي صحته نظر، ولو صح لكان شاذًا مخالفًا لنصوص القرآن العظيم، لو كان سلم السند من العلة، ولكن المريض يؤجل عليه إقامة الحد، إذا كان مريضا يؤجل إقامة الحد حتى يشفى ويقام عليه الحد كما شرع الله.

السؤال: حديث سعد عليه تعليق يقول: رواه أحمد وابن ماجه، ورواه أبو داود، ولفظه عنده عن أبي أمامة عن رجل من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم أضنى فعاد جلدًا على عظم فدخل عليه جارية لبعضهم فهش لها ووقع عليها، فلما دخل عليه رجال منهم يعودون أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله ﷺ فإني قد وقعت على جارية دخلت عليّ؟ فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ وقالوا: ما رأينا في أحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد إلا على عظم، فأمر رسول الله ﷺ أن يأخذوا مائة شمراخ ويضربوه بها ضربة واحدة وكذلك أخرجه النسائي ورواه الدارقطني بألفاظ من عدة طرق أحسنها عن أبي أمامة سهل بن حنيف عن أبي سعيد الخدري قال: "كان مقعد عند جدار أم سعد ففجر بامرأة فسئل عن ذلك فاعترف، فأمر النبي ﷺ أن يضرب بعثكال من نخل".

وقوله: رويجل تصغير رجل.

الشيخ: هذا من أحاديث البلوغ ومحل نظر، وفي صحته نظر، ولو فرض الصحة فهو شاذ مخالف لنصوص القرآن، نص القرآن على مائة جلدة، والقاعدة ما خالف نصوص القرآن أو الأحاديث الصحيحة يكون شاذًا غير معتبر، وبعضهم قال: إن هذا من باب الاستثناء ومن باب الخصوصية لأنه لا يتحمل ثم من الغرابة إذا كان بهذه المثابة، وهذا الضعف الشديد يبعد أن ينشط لجماع امرأة بهذه الصفة، وعلى كل حال محل نظر، التخصيص به محل نظر، والأقرب والله أعلم عدم صحته وشذوذه.

وبعضهم قال: إن هذا يكون من باب الاستثناء من باب الخصوصية لأنه لا يتحمل، ثم من الغرابة إذا كان بهذه المثابة وهذا الضعف الشديد يبعد أن ينشط لجماع امرأة على هذه الصفة، وعلى كل حال محل نظر التخصيص به محل نظر والأقرب والله أعلم أنه عدم صحته وشذوذه.

السؤال: المريض لا يرجى برؤه؟

الشيخ: ولو لا يرجى برؤه، أمره إلى الله، عليه التوبة والحد يقام عليه لأن الله أمر بالحد، ما أمر بقتله أمرنا بحده.

فإن قيل: فإذا كان الضربُ واجبًا كالحدّ، هل تقولون: ينفعه ذلك؟

قيل: إما أن يكون العذُر مرجوَّ الزوالِ، كالحَرّ والبرد الشديد والمرض اليسير، فهذا يُنتظرُ زواله، ثم يحدّ الحدّ الواجب، كما روى مسلم في "صحيحه" عن علي : أن أمَةً لرسول الله ﷺ زَنَتْ، فأمرني أن أجلدها، فأتيتها، فإذا هي حديثةُ عهد بنِفاس، فخشِيْتُ إن جَلدتهُا أن أقتلها، فذكرتُ ذلك لرسول الله ﷺ ، فقال: أحسنتَ، اترُكْها حتى تمَاثَلَ.

الشيخ: وهذا هو الموافق للأدلة الشرعية، تأجيل حد الأمة لما كانت حديثة عهد بالنفاس خيف عليها من الحد القتل، فأمر النبي ﷺ بتأجيلها أن تتماثل وتقوى على الحد.

فصل

وأما حديث بلال في شأن التمر، وقول النبي ﷺ له: بع التمرَ بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جَنيبًا.

فقال شيخنا: ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة، لوجوه:

أحدها: أن النبي ﷺ أمره أن يبيعَ سِلْعته الأولى، ثم يبتاعَ بثمنها سِلعةً أخرى، ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيعَ الصحيح، ومتى وُجِد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب، ونحن نقول: كلُّ بيع صحيح يُفيد الملك.

لكن الشأن في بُيوع قد دلّت السنةُ وأقوالُ الصحابة على أن ظاهرها وإن كان بيعًا فإنها ربًا، وهى بيع فاسد، ومعلوم أن مثل هذه لا يدخل في الحديث، ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا، هل هو صحيح أو فاسد؟ وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ، لم يمكنه ذلك، حتى يُثبتَ أنه بيع صحيح، ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتَجْ إلى الاستدلال بهذا الحديث. فتبيَّن أنه لا حُجة فيه على صورة من صور النزاع البتة.

الشيخ:

وهذا مثل ما قال الشيخ رحمه الله التحيل على الربا، شأن كون الإنسان يبيع بيعًا يتخلص من الربا شأن آخر، فإذا كان الإنسان عنده تمر ردئ ويريد تمرًا طيبًا، يبيع التمر الرديء ثم يشتري بالثمن من التمر الطيب وما في بأس، ولو كان شخصًا واحدًا باع عليه التمر الرديء بثمن، ثم اشترى منه التمر الطيب بثمن آخر لا حرج، ليس في هذا من جنس العين يتواطآن ومقصودهما الدراهم، فهو يبيع السلعة بكذا إلى أجل ثم يأخذها بكذا نقد معجل، المعنى خذ عشرة وأعطني خمسة عشر بعد أجل، خذ عشرة وأعطني عشرين فتحيلوا صورة العينة هذا شيء، ومسألة كونه يبيع تمرًا رديئًا ويشتري من القيمة لا حرج في ذلك؛ لأن التمر الرديء غير مناسب له فباعه واشترى تمرًا طيبًا ولو من شخص واحد.

السؤال: أحسن الله إليك، من خلال حديث علي السابق، إذا كان شخصًا مريضًا وعليه حد الجلد يجلد؟

الشيخ: يمهل حتى يتشافى حتى يتماثل.

السؤال: لا بدّ من قبض الدراهم؟

الشيخ: يبيعه ويأخذ منه الدراهم ثم يشتري.

السؤال: .....؟

الشيخ: إذا كان ما له حيلة ما يضر، إذا ما كان له حيلة، إنما المقصود شراء هذا وبيع هذا لا بأس، لكن إذا قبض أبعد عن التهمة، أبعد القصد السيئ، كونه يأخذه ثم يشتري إن شاء أو لا يشتري أسلم وأبعد عن ظن الحيلة.

قلت: ونظير ذلك أن يحتج به محتجٌّ على جواز بيع الغائب، أو على البيع بشرط الخيار أكثر من ثلاث، أو على البيع بشرط البراءة، وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها، ويقول: الشارع قد أطلق الإذن في البيع، ولم يقيِّده.

وحقيقة الأمر أن يقال: إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ونحن لا نسلّم له أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على ذلك بيع صحيح.

الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم؛ لأنه قال: وابتع بالدراهم جَنيبًا، والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرًا بشيء من قيودها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد، والقدر المشترك ليس هو ما يميِّز كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزمًا له، فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميز بحال.

نعم هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون عامًّا لها على سبيل البدلِ، لكن ذلك لا يقتضي العموم بالأفراد على سبيل الجمع، وهو المطلوب.

فقوله: بعْ هذا الثوب، لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا وكذا، ولا بهذه السوق أو هذه؛ فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من ذلك، لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة وجود تلك القيود. إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاعَ من المشتري، ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنَقْدِ البلد ولا غيره، ولا بثمن حالٍّ أو مؤجَّل؛ فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يَعُمّ هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها.

وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة، وهذا غلط بيّن؛ فإن اللفظ لا تَعَرُّض فيه للقيود بنفي ولا إثبات، ولا الإتيان بها ولا تركُها من لوازم الامتثال، وإن كان المأمورُ به لا يخلو عن واحد منها، ضرورة وقوعه جزئيًّا مُشَقصًا، فذلك من لوازم الواقع، لا أنه مقصود للأمر، وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل.

وقد خرج بهذا الجوابُ عن قول من قال: لو كان الابتياعُ من المشتري حرامًا لنهى عنه، فإن مقصوده ﷺ إنما هو بيان الطريق التي يحصل بها اشتراءُ التمر الجيِّد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يبتاع بالثمن جيِّدًا، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه، فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص، كما لا يحُتجّ به على نفي سائر الشروط.

وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] على جواز أكل كُلّ ذي نابٍ من السباع ومِخْلبِ من الطير، وعلى حِلّ ما اختُلِف فيه من الأشربة، ونحو ذلك؛ فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح، بل هو من أبطل الاستدلال؛ إذ لا تعرُّض في الَّلفظ لذلك، ولا أُريد به تحليل مأكول ومشروب، وإنما أُريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه.

وكذلك من استدل بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] على جواز نكاح الزانية قبل التوبة، وصحة نكاح المحلِّل، وصحة نكاح الخامسة في عدة الرابعة، أو نكاح المتعة أو الشغار أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة كان استدلاله باطلًا.

وكذلك من استدل بقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] على حِلّ بيع الكلب أو غيره مما اختلف فيه فاستدلاله باطل؛ فإن الآية لم يُرَدْ بها بيان ذلك، وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع، وأنه سبحانه حَرّم هذا وأباح هذا، فأمَّا أن يُفْهم منه أنه أحلَّ بيع كل شيء فهذا غير صحيح.

وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] على حل كل مأكولٍ ومشروب.

وبمنزلة الاستدلال بقوله: من استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّجْ على حِلّ الأنكحة المختلف فيها.

وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] على جواز جمع الثلاث ونفوذه، وعلى صحة طلاق المكره والسكران.

وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221] على صحة النكاح بلا ولي، أو بلا شهود، وغير ذلك من الصور المختلف فيها.

وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] على حِلِّ كل نكاح اختلف فيه، فيستدل به على صحة نكاح المتعة، والمحلل، والشغار، والنكاح بلا ولي وبلا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها، ونكاح الزانية، والنكاح المنفيِّ فيه المهرُ، وغير ذلك.

وهذا كله استدلال فاسد في النظر والمناظرة.

ومن العجب أن يُنْكِر مَنْ يسلكه على ابن حَزم استدلاله بقوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] على وجوب نفقة الزوج على زوجته إذا أعسر بالنفقة، وكان لها ما تنفق منه، فإنها وارثة له.

وهذا أصح من تلك الاستدلالات؛ فإنه استدلال بعام لفظًا ومعنى قد عُلّق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضي العموم، وتلك مطلقة لا عموم فيها لفظًا ولا معنى، ولم يقصد بها تلك الصور التي استدلُّوا بها عليها.

الشيخ:

المقصود من هذا أن الواجب على أهل العلم أن يتقوا الله، وأن يحتجوا بالأدلة في محلها، وأما الاحتجاج بالعمومات على ما يخالف المقيدات والمختصات هذا من أبطل الباطل لا يقوله عاقل، فالمجمل يفسر بالمبين، والعام يقيد بالخاص، والمطلق يقيد بالمقيد، وهكذا النصوص في الكتاب والسنة، ولا يقول عاقل إن قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة:187] أن المعنى كلوا واشربوا كل شيء، كل ما حرم الله من الميتة، أو اشربوا ما حرم الله من الخمر، هذا لا يقوله عاقل، المقصود كلوا واشربوا مما أباح الله لكم، وهكذا ما جاء في معناه. 

فالمقصود من الإطلاقات هو الشيء المباح الذي دلت النصوص الأخرى على حله، والمطلق من المحرمات ما دلت النصوص على تحريمه، فلا بدّ من تفسير المشتبه بالمبين، وتفسير المطلق بالمقيد، وتفسير العام بالخاص، هكذا جاءت النصوص، هكذا درج أهل العلم والإيمان.

السؤال: .....؟

السؤال: نكاح الأخت في عدة أختها لا يجوز؟

الشيخ: نعم حتى تنتهي.

السؤال: هناك صورة في بيع الذهب هذه الأيام، وهي أن البائع إذا دخلت عليه المرأة لتبيع عليه الذهب يقول أنا أشتري منكِ، ولكن انظري ماذا تريدين من الذهب الذي عندي! يعني يشترط عليها؟

الشيخ: ما يصلح لا يبيع ويشتري.

السؤال: ثم يسلمها الدراهم.

الشيخ: لا، لا بدّ يكون بيعًا مستقلًا، يشتري منها ويعطيها الفلوس ثم تشتري هو أو لا تشتري، لأن هذا حيلة على بيع الذهب بالذهب.

السؤال: وإن سلم لها الدراهم نقدًا؟

الشيخ: لا ما هو بشرط، لا بدّ يصير بيعًا تامًا يعطيها حقها، وإن شاءت اشترت وإن شاءت لم تشترِ، هكذا يبيع التمر الرديء عليه ويأخذ دراهمه إن شاء اشترى وإن شاء ما اشترى ما هو بلازم.

الحيل التي توقع في الحرام تمنع، إنما الأعمال بالنيات، فإذا اشترى منه التمر الرديء ثم باع عليه التمر الطيب من غير مشارطة فلا بأس.

إذا عُرف هذا فالاستدلال بقوله: بع الجَمْع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنيبًا لا يدلّ على جواز بيع العِينة بوجه من الوجوه، فمن احتج به على جوازه وصحته فاحتجاجه باطل.

وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري، حتى يقال: هذه الصورة غالبة، بل الغالب أنّ من يفعل ذلك يعرضه على أهل السوق عامة، أو حيث يقصد، أو ينادي عليه، وإذا باعه لواحد منهم فقد تكون عنده السلعة التي يريدها، وقد لا تكون.

ومثل هذا: إذا قال الرجل فيه لوكيله: بع هذا القطن، واشترِ بثمنه ثياب قطن، أو بع هذه الحنطة العتيقة، واشتر بثمنها جديدة، لا يكاد يخطر بباله الاشتراء من ذلك المشتري بعينه، بل يشتري من حيث وجد غرضه، ووجود غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده.

فإن قيل: فَهَبْ أن الأمر كذلك، فهلّا نهاه عن تلك الصورة وإن لم يدخل في لفظه؟ فإطلاقه يقتضي عدم النهي عنها؟

قيل: إطلاق اللفظ لا يقتضي المنع منها، ولا الإذنَ فيها، كما تقدم بيانه، فحكمها إذنًا ومنعًا يستفاد من مواضع أخر، فغاية هذا اللفظ: أن يكون قد سكت عنها، فقد عُلم تحريمها من الأدلة الدالة على تحريم العِينة.

الوجه الثالث: أن قوله: بع الجمع بالدراهم إنما يفهم منه البيع المقصود الخالي من شرطٍ يمنع كونه مقصودًا، بخلاف البيع الذي لا يُقصد؛ فإنه لو قال: بع هذا الثوب، أو بعتُ هذا الثوب، لم يفهم منه بيع المكره، ولا بيع الهازل، ولا بيع التَّلْجِئةِ، وإنما يُفْهَمُ منه البيع الذي يُقْصَد به نقل ملك العوض، وقد تقدم تقرير هذا.

يوضحه: أن مثل هذين قد يتراوضان أولًا على بيع التمر بالتمر متفاضلًا، ثم يجعلان الدراهم مُحلِّلًا غير مقصودِهِ، والمقصود إنما هو بيع صاع بصاعين، ومعلوم أن الشارع لا يأذن في مثل هذا، فضلًا عن أن يأمر به ويرشد إليه.

الوجه الرابع: إن النبي ﷺ نهى عن بيعتين في بيعة، ومتى تواطآ على أن يبيعه بالثمن، ثم يبتاع به منه، فهو بيعتان في بيعة، فلا يكون داخلًا في الحديث؛ إذ المنهي عنه لا يتناوله المأذون فيه.

يبيِّن ذلك:

الوجه الخامس: وهو أنه ﷺ قال: بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا، وهذا يقتضي بيعًا يُنشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى وآطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك، فقد اتفقا على العقدين معًا، فلا يكون داخلًا في حديث الإذن، بل في حديث النهى.

الوجه السادس: أنه لو فرض أن في الحديث عمومًا لفظيًّا فهو مخصوص بصور لا تعدّ؛ فإن كل بيع فاسد فهو غير داخل فيه، فتضعُفُ دلالته، وتُخَصُّ منه الصورة التي ذكرناها بالأدلة التي هي نصوص، أو كالنصوص؛ فإخراجها من العموم من أسهل الأشياء وبالله التوفيق.

الشيخ: والمقصود من هذا أن قوله ﷺ: بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا ما يدل على جواز الحيل المحرمة، مقصود النبي ﷺ لا تشتر تمرًا بتمر، تمر قليل أو تمر كثير، تمر طيب وتمر رديء، يأخذ الصاع الطيب بصاعين رديء ما يجوز هذا ربا مثل صاع بر بصاعين بر، أو صاع شعير بصاعين شعير، درهم بدرهمين .....، لكن إذا قال: بع الجمع بالدراهم معناه بيعًا صحيحًا، يعني التمر هذا الرديء ثم الدراهم اشتر به تمرًا طيبًا، مثل ما يقول: بع الشعير واشتر له حنطة، ما هو معناه بع البيع الحيلة، بع الشيء على الوجه الشرعي ثم اشتر بالدراهم حنطة، اشتر لها بنا تمرًا، اشتر لها بنا ملابس، ما هو هذا من باب الحيلة.

السؤال: .....؟

الشيخ: بيع التقسيط لا بأس به، النبي ﷺ أقر بيع بريرة بالتقسيط، باعوها بثلاثمائة وستين درهمًا تسع سنين، كل سنة أربعين، بيع التقسيط أن تشتري السلعة بثمن مقسط إلى آجال، هذا بيع السلعة، ثم أنت تتصرف فيها أو تبيعها على آخرين لتتزوج أو تقضي دينًا أو تشتري حاجة أخرى فلا بأس.

السؤال: لو اختلفت الأصناف وفي الزيادة مثلًا صاع بر بصاعين شعير؟

الشيخ: يدًا بيد ما يخالف، لكن إذا كان من جنس واحد لا، صاع تمر بصاعين تمر ما يصلح، صاع شعير بصاعين شعير ما يصلح، لكن صاع بر بصاعين شعير لا بأس يدًا بيد، صاع تمر بصاعين شعير يدًا بيد لا بأس، صاع تمر بصاعين ملح يدًا بيد لا بأس لأن الجنس مختلف.

السؤال: بيع السيارة بسيارة؟

الشيخ: بيع السيارة بسيارة لا بأس به، ولو زاد في أحدهما دراهم، قال: هذه السيارة بهذه السيارة وزاده عشرة آلاف ما في شيء، ولو ما زاد شيء ما في شيء.

السؤال: .....؟

الشيخ: ما في محذور لكن ما يكون متوطئ

السؤال: مسألة التورق؟

الشيخ: مسألة التورق كونه يشتري سلعة بآجال ويبيعها بالنقد يسمونه تورق.

السؤال: يحرم؟

الشيخ: لا، لا بأس به، لا حرج فيه يسميه بعضهم وعدة.

السؤال: عشرة ريالات ورق بتسعة معدن؟

الشيخ: لا حرج فيها إن شاء الله، وإن كان تركها أفضل، وإلا لا بأس بها ؛ لأن هذا معنى وهذا معنى، الورق جنس والمعدن جنس يدًا بيد.

فصل

وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة، بقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ [البقرة:282]، وأن هذا يتناول صورة العِينة وغيرها؛ فإن المتبايعَيْن يُديران السلعة بينهما.

فإن الله سبحانه قسَّم البِيَاعَات المقصودة التي شرعها لعباده، ونصبها لمصالحهم في معاشهم ومعادهم إلى بيوع مُؤَجَّلة وبيوع حالَّة، ثم أمرهم أن يستوثقوا في البيوع المؤجّلة بالكتاب والشهود، وإن عدموا ذلك في السفر استوثقوا بالرهن؛ حفظًا لأموالهم، وتخلُّصَا من بطلان الحقوق بجحودِ أو نسيان، ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم في ترك ذلك في البيوع الحالَّة؛ لأمنهم فيها مَفسدة التجاحد والنسيان.

والمراد بالتجارة الدائرة: البياعات التي تقع غالبًا بين الناس.

ولم يفهم أحدٌ من أصحاب رسول الله ﷺ ولا من التابعين، ولا تابعيهم، ولا أهل التفسير، ولا أئمة الفقهاء منها المعاملة الدائرة بالربا بين المترابِيَيْن، بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا، ولا ريب أن دخولها في تلك النصوص أظهر من دخولها في هذه الآية.

ومما يدلُّ عليه: أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون في الغالب إلا مع أجل، بأن يبتاع منه سِلْعةً بثمن حالِّ، ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل، وذلك في الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب، خشية الجحود، والله سبحانه قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة:282]، فاستثنى هذا من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282].

وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمّى، واتفقا فيها على المئة بمئة وثلاثين ونحو ذلك، فأين هي من التجارة الحاضرة، التي يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا؟ فالتجارة في كلام الله ورسوله، ولغة العرب، وعرف الناس، إنما تنصرف إلى البياعات المقصودة التي يقصد فيها الثمن والمثمَّن، وأما ما تواطآ فيه على الربا المحض، ثم أظهرا بيعًا غير مقصود لهما البتة، يتوسَّلان به إلى أن يعطيه مئة حالّة بمئة وعشرين مؤجَّلة، فهذا ليس من التجارة المأذون فيها، بل من الربا المنهي عنه، والله أعلم.

فصل

وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل، فما أبطله من استدلال! فأين المعاريض التي يتخلّص بها الإنسانُ من الظلم والكذب إلى الحيل التي يُسْقِط بها ما فرض الله تعالى، ويستحِلّ بها ما حرم الله؟

فالمعَرِّض تكلّم بحقًّ، ونطق بصدقٍ فيما بينه وبين الله تعالى، لا سيّما إذا لم يَنْوِ باللفظ خلاف ظاهره في نفسه، وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقُصوره في معرفة دلالة اللفظ، ومعاريضُ النبي ﷺ ومزاحه عامّتُه كان من هذا الباب، كقوله: نحن من ماء، وإنا حاملوك على وَلَد الناقة، وزوجُكِ الذي في عينه بياض، ولا يدخلُ الجنة عجوز.

الشيخ: هذا من باب المزح والمداعبة، فنحن من ماء لأن الله خلق كل دابة من ماء، وبنو آدم كذلك من ماء، من ماء مهين، وولد الناقة الجمل هو ولد الناقة، قد يظن الظان أنه ولد الناقة الصغير، ولا هو مراد ولد الناقة الجمل، يقال له ولد الناقة ولو كبير.

وزوجُكِ الذي في عينه بياض، ولا يدخلُ الجنة عجوز.

 وأكثر معاريض السلف كانت من هذا.

الشيخ: وهذا معناه زوجك الذي في عينه بياض كل إنسان في عينيه بياض، لا يدخل الجنة عجوز يعني أنهن يدخلن شابات، أهل الجنة كلهم شواب أبناء ثلاث وثلاثين ما في عجوز، ما هو المراد أن ماتت عجوزًا لا تدخل الجنة لا، المقصود أنها تبعث شابة لا عجوزًا تدخل الجنة شابة.

السؤال: المعاريض جائز على الإطلاق؟

الشيخ: عند الحاجة وعند المداعبة.

فالمعرِّض إنما يقصد باللفظ ما جُعل اللفظ دالًا عليه، ومثبتًا له في الجملة، فهو لم يخرُج بتعريضه عن حدود الكلام؛ فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والمفرد والمشترك، والمتباين والمترادف، وتختلف دلالته تارةً بحسب اللفظ المفرد، وتارةً بحسب التأليف، فأين هذا من الحيل التي يُقصد بالعقد فيها ما لم يُشرَع العقدُ له أصلًا، ولا هو مقتضاه ولا مُوجَبه شرعًا ولا حقيقةً؟

الشيخ: الحيل شيء، وما وسع الله فيه شيء آخر، والحيل التي يستباح بها الحرام شيء آخر، فكونه ينكح المرأة يحلها ليس داخلًا في النكاح الشرعي، وكونه يشتري السلعة وهو ما أراد السلعة إنما أراد يعطيه خمسين بأربعين هذا حيلة ما لها مبرر، وهكذا ما أشبه ذلك.

وفرقٌ ثانٍ: وهو أن المعرِّض لو صرّح بقصده لم يكن باطلًا ولا محرّمًا، بخلاف المحتال، فإنه لو صرّح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرّمًا باطلًا؛ فإن المرابي بالحيلة لو قال: بعتك مئة حالّةً بمئة وعشرين إلى سنة كان حرامًا باطلًا، وذلك عينُ مقصوده ومقصود الآخر.

وكذلك المُقرِضُ لو قال: أقرضتك ألفًا على أن تُعيدها إليّ، ومعها زيادة كذا وكذا، كان حرامًا باطلًا، وذلك نفسُ مقصوده.

وكذلك المحلِّلُ لو قال: تزوجتها على أن أُحِلّها للمطلّق ثلاثًا.

والمعرِّضُ لو صرح بمقصوده لم يكن حرامًا، فأين أحدهما من الآخر؟

وفرق ثالث: وهو أن المعرِّض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ أو يقتضيه، والمحتال قصد بالعقد ما لا يحتمله، ولا جُعل مقتضيًا له، لا شرعًا، ولا عرفًا، ولا حقيقةً.

وفرق رابع: وهو أن المعرّض مقصودُه صحيح، ووسيلته جائزة، فلا حَجْر عليه في مقصوده، ولا في توسله إلى مقصوده، بخلاف المحتال؛ فإن قصده أمرٌ محرَّم، ووسيلته باطلة، كما تقدم تقريره.

وفرق خامس: وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه في شيء، وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوقٍ أباح الشارع مخادعته لظلمه، جزاءً له على ذلك، ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جوازُ المُحِقّ، فما كان من التعريض مخالفًا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحًا إلا عند الحاجة، وما لم يكن كذلك كان جائزًا إلا عند تضمُّن مفسدةٍ.

والذي يدخلُ في الحيل المذمومة إنما هو الأول، فالمعرِّض قاصدٌ لدفع الشر، والمحتالُ بالباطل قاصد لدفع الحق.

والتعريضُ كما يكون بالقول يكون بالفعل، كما يُظهرُ المحاربُ أنه يريد وجهًا من الوجوه، ويسافر إلى تلك الناحية، لِيَحْسِب العدوّ أنه لا يريده، ثم يَكُرّ عليه، ومثل أن يَسْتَطرد المبارز بين يدي خصمه ليظنّ هزيمته، ثم يعطفَ عليه.

ومثل أن يظهر ضعفًا وعجزًا يتخلَّص به من تسخيره وأذاه، ونحو ذلك.

وقد يكون التعريض بالقول والفعل معًا، كما قال سليمان عليه السلام: "ائتوني بالسكين أشُقَّه بينكما".

وقد يكون بإظهار الصّمم وأنه لا يسمع، وبإظهار النوم، وإظهار الشّبع، وإظهار الغنى، بحيث يحسبه الجاهل غنيًّا.

وكما يقع الإجمال في الأقوال فكذلك يقعُ في الأفعال، كما أعطى النبي ﷺ عمر حُلَّةً من حرير، فلمّا لبسها أنكر عليه، وقال: لم أُعْطِكَها لتلبسها، فكساها أخًا له مشركًا بمكة.

فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع في الألفاظ تارةً، وفى الأفعال تارةً، وفيهما معًا تارةً.

ومن أنواع التعريض: أن يتكلم المتكلم بكلام حقٍّ، يقصدُ به حقيقته وظاهره، ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله؛ ليقبله ولا يَرُدَّه عليه، أو ليتخلَّص به من شرِّه وظلمه، كما أنشد عبدالله بن رواحة امرأته تلك الأبيات، وأوهمها أنه يقرأ القرآن، فتخلَّص بذلك من شرّها.

وكذلك إذا كان الرجلُ يريد تنفيذ حقًّ صحيح، ولكن لا يُقبل منه، لكونه هو أو مَنْ لا يحسَنُ به الظن قائله، فإذا عَرّض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظّم يقبله منه كان من أحسن التعريض، كما علّمه أبو حنيفة رحمه الله أصحابه، حين شكَوْا إليه: إنا نقول لهم: قال أبو حنيفة، فيبادرون بالإنكار، فقال: قولوا لهم المسألة، فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقعٍ فقولوا: هذا قول أبي حنيفة.

وكما يجري لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيرًا.

السؤال: إذا كان المشرك مخاطبا بفروع الشريعة فلماذا يعطيه عمر الحلة من الحرير؟

الشيخ: ..... ما هو محرم عليهم، لأنه ما يحرم عليهم إلا بعد دخولهم في الإسلام، ما هم مخاطبين بالتكليف عملًا حتى يسلموا، أو أنه يبيعه ويتصرف فيه.

السؤال: .....؟

الشيخ: إذا كان يترتب عليه باطل يمنع، أما إن كان ما يترتب عليه إلا مصلحة فلا بأس.

السؤال: نسبة القول إلى غير قائله؟

الشيخ: ما يجوز يكذب، لا يكذب يتكلم كلامًا يوهم أنه من كلام فلان ويصرح أنه من كلام فلان إلا عند الحقيقة عند الحاجة.

فصل

وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علّم نبيَّه يوسف عليه السلام الحيلة التي تَوَصَّل بها إلى أخذ أخيه إلى آخره، فهذا قد ظنّ بعض أرباب الحيل أنه حجةٌ لهم في هذا الباب، وليس كما زعموا، والاستدلال بذلك من أبطل الباطل.

فإن المحتجِّين بذلك لا يجوّزون شيئًا مما في هذه القصة البتة، ولا تُجَوزُها شريعتنا بوجه من الوجوه، فكيف يحتجّ المحتجّ بما يحرم العمل به، ولا يسوّغه بوجهٍ من الوجوه؟

والله سبحانه إنما سَوّغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاءً لإخوته، وعقوبةً لهم على ما فعلوا به، ونَصْرًا له عليهم، وتصديقًا لرؤياه، ورفعةً لدرجته ودرجة أبيه صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم.

وبعدُ، ففي قصته مع إخوته ضروبٌ من الحيل المستحسنة:

أحدها: قوله لفتيانه: اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف:62]؛ فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم، وقد ذكروا في ذلك معاني:

منها: أنه تخوّفَ أن لا يكون عندهم وَرِقٌ يرجعون بها.

ومنها: أنه خشي أن يَضُرَّ أخذُ الثمن بهم.

ومنها: أنه رأى لُؤمًا أخذ الثمن منهم.

ومنها: أنه أراهم كرمه في رَدّ البضاعة؛ ليكون أدعى لهم إلى العود.

وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوِجُهم إلى الرجعة ليردُّوها إليه، فهذا المحتال به عمل صالح.

والمقصود رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله، وهو مقصود صالح، وإنما لم يُعَرّفهم نفسه لأسباب أُخر، فيها منفعة لهم ولأبيهم وله، وتمامٌ لما أراده الله تعالى بهم من الخير في هذا البلاء.

وأيضًا، فلو عرّفهم نفسه في أول مرة لم يقع الاجتماعُ بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يكلّ ذلك المَحَلّ، وهذه عادة الله سبحانه في الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبدَه إليها هيأ لها أسبابًا من المحن والبلايا والمشاقّ، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدَها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت، وأهوال البرْزَخ، والبعث والنشور والموقف، والحساب، والصراط، ومقاساة تلك الأهوال والشدائد.

وكما أدخل رسوله ﷺ إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفارُ ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه. وكذلك ما فعله برسله كنوح، وإبراهيم، وموسى، وهود، وصالح، وشعيب على نبينا وعليهم السلام، فهو سبحانه يوصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها.

كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

ورُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إِلىَ مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ

وبالجملة، فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة المؤلمة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحَفَّها بالمكاره، والنار وحَفَّها بالشهوات.

فصل

ومنها: أنه لما جَهَّزَهُم في المرة الثانية بِجَهازهم جعل السِّقاية في رَحْل أخيه، وهذا القَدْر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق، وقد قيل: إنه كان بمواطأةٍ من أخيه ورضاه منه بذلك، والحق كان له، وقد أذِن فيه، وطابت نفسُه به، ودلّ على ذلك قوله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يوسف:69]، فهذا يَدَلُّ على أنه عَرّف أخاه نفسه.

وقد قيل: إنه لم يصرِّح له بأنه يوسف، وأنه إنما أراد بقوله: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ [يوسف:69]؛ أي: أنا مكان أخيك المفقود.

ومن قال هذا قال: إنه وضع السّقاية في رَحْل أخيهِ، والأخ لا يشعر بذلك.

والقرآنُ يدل على خلاف هذا، والعدل يَرُدّه، وأكثر أهل التفسير على خلافه.

ومن لطيف الكيد في ذلك: أنه لما أراد أخذ أخيه توصّل إلى أخذه بما يُقِرّ إخوتُه أنه حقٌّ وعدل، ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنُسِبَ إلى الظلم والجور، ولم يكن له طريق في دين الملك يأخذه بها، فتوصَّل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلمًا، فوضع الصُّواع في رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك، ولهذا قال له: فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يوسف:69].

ومن لطيف الكيد: أنه لم يُفَتِّشْ رحالهم وهم عنده، بل أمهلهم حتى جَهَّزَهُم بجهازهم، وخرجوا من البلد، ثم أرسل في آثارهم لذلك.

قال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا سَلَمة عن ابن إسحاق، قال: أمهلهم، حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية أمر فأُدرِكوا، ثم أُجلسوا، ثم ناداهم منادٍ: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70] فوقفوا، وانتهى إليهم رسوله، فقال لهم فيما يذكرون: ألم نُكرم ضيافتكم، ونوفّكم كَيْلَكم ونحسن منزلتكم، ونفعلْ بكم ما لم نفعله بغيركم، وأدخلناكم علينا في بيوتنا ومنازلنا؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال: إنكم لسارقون.

وذكر عن السُّدِّي: فلما ارتحلوا أذّن مؤذن: أيّتُها العير!

والسياق يقتضي ذلك؛ إذ لو كان هذا وهُمْ بحضرته لم يحتَجْ إلى الأذان، وإنما يكون الأذان نداءً لبعيد، يطلب وقوفه وحَبْسَهُ.

فكان في هذا من لطيف الكيد: أنه أَبْعَدُ من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة، وأنه لا يشعر بما فُقِدَ له، فكأنه لمَّا خرج القوم وارتحلوا، وفَصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صُواعه لبعض حاجته إليه، فالتمسه، فلم يجده، فسأل عنه الحاضرين، فلم يجدوه، فأرسلوا في إثْرِ القوم، فهذا أحسن وأبعد من التفطّن للحيلة من التفتيش في الحال قبل انفصالهم عنه، بل كلما ازدادوا بعدًا عنه كان أبلغ في هذا المعنى.

ومن لطيف الكيد: أنه أذن فيهم بصوت عالٍ رفيع، يسمعه جميعهم، ولم يقل لواحد واحد منهم؛ إعلامًا بأنَّ ذهاب الصّواع أمر قد اشتهر، ولم يَبْقَ به خفاء، وأنتم قد اشتهرتم بأخذه، ولم يُتَّهم به سواكم.

ومن لطيف الكيد: أن المؤذن قال: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، ولم يعيِّن المسروق، حتى سألهم عنه القوم، فقالوا لهم: مَاذَا تَفْقِدُونَ ۝ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ [يوسف:71، 72]، فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتَّهم به، وأنهم لم يفقدوا غيره، فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره، وظهر صدقهم وعدلهم في اتهامهم به وحده، وهذا من لطيف الكيد.

ومن لطيف الكيد: قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام: فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ [يوسف:74]؛ أي: ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم، ووُجد معه؟ أي: ما عقوبته عندكم وفي دينكم؟!

قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75]؛ فأخذوهم بما حكموا به على أنفسهم، لا بحكم الملك وقومه.

ومن لطيف الكيد: أن الطالب لما هَمّ بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يُفتِّشها قبل وعاء مَنْ هو معه؛ تطمينًا لهم، وبُعْدًا عن تهمة المواطأة.

فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا: وما يُدريه أنه في هذا الوعاء، دون غيره من أوعيتنا؟ وما هذا إلا بمواطأةٍ وموافقة! فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولًا، فلما لم يجده فيها هَمّ بالرجوع قبل تفتيش وعاء مَنْ فيه الصواع، وقال: ما أراكم سارقين، وما أظن هذا أيضًا أخذ شيئًا، فقالوا: لا والله، لا نَدَعُكم حتى تفتِّشوا متاعه؛ فإنه أطيبُ لقلوبكم، وأظهر لبراءتنا، فلما ألحُّوا عليهم بذلك فتَّشوا متاعه، فاستخرجوا منه الصواع، وهذا من أحسن الكيد، فلهذا قال تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].

فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذي يُتوصّل به إلى طاعة الله تعالى ورسوله، ونصر المحقّ وكسر المبطل مما يرفع الله به درجة العبد.

وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين:

أحدهما: أنه من باب المعاريض، وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه، حيث غَيّبوه عنه بالحيلة التي احتالوا بها عليه، وخانوه فيه، والخائن يسمى سارقًا، وهو من الاستعمال المشهور.

الثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك، من غير أمر يوسف عليه السلام.

قال القاضي أبو يعلى وغيره: أمر يوسفُ بعضَ أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه، ثم قال بعض الموكّلين به لمّا فقده، ولم يدر مَنْ أخذه: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ على ظن منهم أنهم كذلك، ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك، ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادي: هؤلاء قد سرقوا، وعنى سرقته من أبيه، والمنادي فَهِمَ سرقة الصواع، وصدق في قوله: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].

ولم يقل: صُوَاعَ الْمَلِكِ، ثم لما جاء إلى ذكر المفقود قال: نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ [يوسف:72]، وهو صادق في ذلك، فحذف المفعول في قوله: لَسَارِقُونَ، وذكره في قوله: نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ. وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عُرض عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:79]، ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق؛ فإن المتاع كان موجودًا عنده، ولم يكن سارقًا، وهذا من أحسن المعاريض.

وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عُيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرف القول فيه ليرضيه؛ أيأثم في ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله عليه الصلاة والسلام: ليس بكاذب من أصلح بين الناس، فكذب فيه؟

فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيرًا من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض، وذلك أنه أراد به مَرْضاة الله، وكراهية أذى المؤمن، ويندم على ما كان منه، ويدفع شرَّه عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم، ولا طمعًا في شيء يصيب منهم؛ فإنه لم يرخَّص في ذلك، ورخَّص له إذا كره مَوجِدَتَهُمْ وخاف عداوتهم.

قال حُذيفة بن اليمان : إني أشتري ديني بعضه ببعض؛ مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه.

قال سفيان: وقال الملكان: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ [ص:22]، أرَادَا مَعْنَى شيء، ولم يكونا خَصْمَين، فلم يصيرا بذلك كاذبين، وقال إبراهيم عليه السلام: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]، وقال يوسف عليه السلام: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ[يوسف:70] أراد يعني أخاهم.

فبيّن سفيان أن هذا كله من المعاريض المباحة، مع تسميته كذبًا، وإن لم يكن في الحقيقة كذبًا.

وقد احتج بعضُ الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصّلُ إلى أخذ حقِّه من الغير، بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق.

قال شيخنا رحمه الله: وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبسَ أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف، حتى يقال: قد اقتصّ منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم كان تخلّفه عنهم مما يؤذيهم لتأذّي أبيهم، وللميثاق الذي أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله: إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [يوسف:66]، وقد أحيط بهم.

ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكرمَ من هذا، وإن كان في ضمن ما فعل من تأذّي أبيه أعظمُ من أذى إخوته؛ فإنما ذلك أمرٌ أمره الله تعالى به ليبلُغَ الكتاب أجله، ويَتِمّ البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء، وعلوّ المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى التي قدّرها وقضاها نهايتها.

ولو فُرِضَ أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يُعاقب بمثل ما عُوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل له أن يخونه، كما خانه، أو يسرقه كما سرقه؟ ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع.

نعم، لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتجّ شُبهةٌ، مع أنه لا شبهة له أيضًا على هذا التقدير؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاءٌ من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيًّا خاصًّا، كالوحي إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه؛ لينال درجة الصبر على حكم الله، والرضا بقضائه، ويكون حالُه في هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه.

وقد دل على هذا نسبةُ الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76]، وهو سبحانه ينسبُ إلى نفسه أحسن هذه المعاني، وما هو منها حكمة وحقٌّ وصوابٌ، وجزاءٌ للمسيء، وذلك غايةُ العدل والحق، كقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15، 16]، وقوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54]، وقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15]، وقوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، وقوله: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183].

فهذا منه سبحانه في أعلى مراتب الحسن، وإن كان من العبد قبيحًا سيئًا؛ لأنه ظالم فيه، ومُوقعه بمن لا يستحقه، والرب تعالى عادل فيه، موقعه بأهله ومَن يستحقه، سواءً قيل: إنه مجاز للمشاكلة الصورية، أو للمقابلة، أو سماه كذلك مشاكلةً لاسم ما فعلوه، أو قيل: إنه حقيقة، وإنّ مسمّى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود.

الشيخ: هذا هو الصواب أنه ممدوح ومذموم، فالكيد في الحقِّ ممدوح، والمكر بالحق ممدوح، إنما الذنب إذا كادهم بغير حق أو خدعهم بغير حق ومكر بهم بغير حق، أما بالحق فجزاء وفاقًا وقصاص.

واللفظ حقيقةٌ في هذا وهذا، كما قد بسطنا هذا المعنى، واستوفينا عليه الكلام في كتاب "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة".

السؤال: قول سفيان رحمه الله لما سئل عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي فعله .....؟

الشيخ: الإصلاح بين الأخوين جائز ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا إنما الكذاب الذي يضر الناس، هذا هو الكذاب.

السؤال: ولو كان في حق نفسه؟

الشيخ: إذا أتى بكلمات للإصلاح حتى يسمح عنه ويزول الشحناء الذي بينه وبينه، أني أحبك وأني كذا.

السؤال: .....؟

الشيخ: رواه مسلم في الصحيح، أصله في الصحيح: ... يقول خيرًا أو ينمي خيرًا وتقول أم علقمة بنت عقبة: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول أنه كذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس، والحرب، ومحادثة الرجل امرأته والمرأة زوجها" والكذب للإصلاح بين الناس سواء كان بين شخصين أو قبيلتين أو أهل بلدين، أو جماعة وجماعة الأمر واسع.

فصل

وإذا عُرف ذلك، فيوسف صلوات الله عليه وسلامه أكِيدَ من وجوه عديدة:

أحدها: أن إخوته كادوه، حيثُ احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه، كما قال له يعقوب صلوات الله وسلامه عليه: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5].

وثانيها: أنهم كادوه، حيثُ باعوه بيعَ العبيد، وقالوا: إنه غلام لنا أبَقَ.

وثالثها: كيد امرأة العزيز له بتغليق الأبواب، ودعائه إلى نفسها.

ورابعها: كيدها له بقولها: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25]، فكادته بالمراودة أولًا، وكادته بالكذب عليه ثانيًا، ولهذا قال لها الشاهد لما تبيَّن له براءة يوسف عليه السلام: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28].

وخامسها: كيدها له حيث جمعت له النسوة، وأخرجته عليهنّ، تستعين بهنّ عليه، وتستعذر إليهنّ من شغفها به.

وسادسها: كيد النسوة له، حتى استجار بالله تعالى من كَيْدِهِنّ، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:33، 34]، ولهذا لما جاءه الرسول بالخروج من السجن قال له: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50].

فإن قيل: فما كان مكر النسوة اللاتي مَكَرْن به، وسمعت به امرأة العزيز؟ فإن الله سبحانه لم يقصَّه في كتابه.

قيل: بل قد أشار إليه بقوله: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:30]، وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر:

أحدها: قولهنّ: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ، ولم يسمُّوها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذي ينادي عليها بقبيح فعلها، بكونها ذات بَعْل، فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممَّن لا زوج لها.

الثاني: أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.

الثالث: أن الذي تراوده مملوك لا حُرّ، وذلك أبلغ في القبح.

الرابع: أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كَنَفها، فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد.

الخامس: أنها هي المراوِدةُ الطالبة.

السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كلَّ مبلغٍ، حتى وصل حُبّها له إلى شغاف قلبها.

السابع: أنه في ضمن هذا أنه أعفَّ منها، وأبرّ، وأوفى، حيث كانت هي المراوِدة الطالبة، وهو الممتنع: عَفافًا وكرمًا وحياءَ، وهذا غاية الذمّ لها.

الثامن: أنهنّ أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالَّة على الاستمرار والوقوع حالًا واستقبالًا، وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها.

وفرقٌ بين قولك: فلان أضاف ضيفًا، وفلان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويحمل الكَلّ، فإن هذا يدلُّ على أن هذا شأنه وعادته.

التاسع: قولهن: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:30]، أي: إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح، فَنَسَبْنَ الاستقباح إليهن، ومن شأنهِنّ مساعدة بعضهن بعضًا على الهوى، ولا يكَدْن يرين ذلك قبيحًا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضًا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلًا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تُساعَد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.

العاشر: أنهنّ جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المُفْرَط والطلب المُفْرَط، فلم تقتصد في حُبِّها ولا في طلبها، أما العشق فقولهن: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا [يوسف:30]، أي: وصل حُبّه إلى شغاف قلبها، وأما الطلب المفرط فقولهن: تُرَاوِدُ فَتَاهَا [يوسف:30]، والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة.

فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهنّ مكرًا أبلغ منه، فهيَّأت لهنَّ مُتكأً، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن، وخبأت يوسف عليه السلام عنهن، وقيل: إنها جَمّلته وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يَرُعْهُنَّ إلا وأحسنُ خلق الله وأجملُه قد طلع عليهنَّ بغتةً، فراعهن ذلك المنظرُ البهيُّ، وفى أيديهن مُدًى يَقْطَعْنَ بها ما يأكلنه، فدُهِشْنَ حتى قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ وهُن لا يشعرن.

وقد قيل: إنهن أبَنّ أيديهن، والظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جَرحُها وشقُّها بالمُدى لِدهَشِهنّ بما رأين.

الشيخ: هن رأين شيئًا عظيمًا من الحسن والجمال فدهشن وجرّحن أيديهن، وهذه من آيات الله العظيمة جل وعلا لبراءته وبيان سلامته، والمقصود أن الله جل وعلا ألبسه من الجمال والنور ما دهشهن حتى قطعن أيديهن وهي أرادت أن يعذروها فيما فعلت من الجريمة والله المستعان.

فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي، وكانت هذه في النساء غايةً في المكر.

والمقصود: أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام: بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم، كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره.

وكاد له بأن أوقفهم بين يديه مَوْقِفَ الذليل الخاضع المُسْتَجْدي، فقالوا: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88]، فهذا الذل والخضوع له في مقابلة ذلِّه وخضوعه لهم يومَ إلقائه في الجُبّ، وبيعِه بيعَ العبيد.

وكاد له بأن هَيّأ له الأسباب التي سجدوا له هم وأبوه وخالته.

الشيخ: الصواب (أمه) سمى أبويه بنص القرآن.

في مقابلة كيدهم له، حذرًا من وقوع ذلك، فإن الذي حملهم على إلقائه في الجبّ خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم، فكادوه خشية ذلك، فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك، كما رآه في منامه.

وهذا كما كاد فرعون بني إسرائيل: يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص:4]، خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه، فكاده الله سبحانه بأن أخرج له هذا المولود، وربّاه في بيته، وفى حِجْره، حتى وقع به منه ما كان يحذره، كما قيل:

وَإذَا خَشِيتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدَّرًا وَفَرَرْتَ مِنْهُ فَنَحْوَهُ تَتَوَجَّهُ

فصل

وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين:

أحدهما: أن يفعل سبحانه فعلًا خارجًا عن قدرة العبد الذي كاد له، فيكون الكيدُ قَدَرًا مَحْضًا، ليس من باب الشرع، كما كاد الذين كفروا بأن انتقمَ منهم بأنواع العقوبات، وكذلك كانت قصةُ يوسف عليه السلام، فإن يوسف أكثرُ ما قدر عليه أن ألقى الصُّواع في رَحْل أخيه، وأرسل مؤذِّنًا يؤذِّن: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70]، فلما أنكروا قال: فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ۝ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:74-75]، أي: جزاؤه استعبادُ المسروق ماله للسارق: إما مطلقًا، وإما إلى مُدَّةٍ، وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام، حتى قيل: إن مِثْلَ هذا كان مشروعًا في أول الإسلام: أن المَدِين إذا أعسَرَ بالدين اسْترقّه صاحبُ الحق.

وعليه حُمِلَ حديثُ بيع النبيِّ ﷺ سُرَّقًا.

وقد قيل: بل كان بيعه إيّاه إيجاره لمن يستعمله، وقضاء دينه بأجرته، وعلى هذا فليس بمنسوخ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى: أن المفلِس إذا بقيت عليه ديون، وله صَنعة، أُجْبِر على إجارته نفسه، أو آجَره الحاكم، ووفىّ دينه من أجرته.

وكان إلهامُ الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75] كيدًا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسُن إخوته، وذلك خارج عن قدرته، وكان يمكنهم أن يتخلَّصوا من ذلك بأن يقولوا: لا جزاءَ عليه حتى يثبت أنه هو الذي سَرَق، فإن مجرد وجوده في رحله لا يُوجِبُ أن يكون سارقًا، وقد كان يوسف عليه السلام عادلًا لا يأخذهم بغير حجة.

وكان يمكنهم التخلُّص أيضًا بأن يقولوا: جزاؤه أن يُفعل به ما تفعلونه بالسُّرَّاق في دينكم، وقد كان من دين ملك مصر فيما ذُكِرَ: أن السّارق يُضْرَبُ ويُغرّم قيمة المسروق مرتين، فلو قالوا له ذلك لم يمكنه أن يُلزمهم بما لا يُلزِم به غيرهم، فلذلك قال سبحانه: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76]، أي: ما كان ليمكنه أخذه في دين ملك مصر، لأنه لم يكن في دينه طريق إلى أخذه.

وقوله: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76] استثناء منقطع، أي: لكن إن شاء الله أخَذَه بطريق آخر.

ويجوز أن يكون متصلًا، والمعنى: إلا أن يُهَيّئ الله سببًا آخر يؤخَذُ به في دين الملك غيرَ السرقة.

وفي هذه القصة تنبيه على الأخذ باللَّوث الظاهر في الحدود، وإن لم تَقُمْ بَيّنة ولم يحصل إقرار، فإن وجود المسروق مع السارق أصدقُ من البينة، فهو بَيّنة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرَتْ شريعتنا ذلك في مواضعَ:

منها: اللَّوْثُ في القَسامة، والصحيح: أنها يُقاد بها، كما دل عليه النص الصحيح الصريح.

ومنها: حد الصحابة رضي الله عنهم في الخمر بالرائحة والقَيْء.

ومنها: حَدّ عمر في الزنى بالحَبَل، وجعله قَسيم الاعتراف والشهادة.

فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله، فليس دونه.

فلما فتَّشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع، كان ذلك قائمًا مقام البينة والاعتراف، فلهذا لم يمكنهم أن يتظلَّموا مِنْ أَخْذه، ولو كان هذا ظلمًا لقالوا: كيف يأخذه بغير بيِّنة ولا إقرار؟

وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب "الإعلام باتساع طرق الأحكام".

والمقصود: أنه ليس في قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلًا عن الحُجَّة لأرباب الحيل.

فإنا إنما تكلّمنا في الحيل التي يفعلها العبد، وحكمها في الإباحة والتحريم، لا فيما يكيد الله لعبده، بل في قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيدًا مُحَرَّمًا فإن الله لا بدَّ أن يكيده، وأنه لا بدَّ أن يكيدَ للمظلوم إذا صبر على كيد كائده، وتلطّف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيدُ له، ويَنتصر له، بغير حَوْل منه ولا قوة.

الشيخ: كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].

فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده.

النوع الثاني: أن يُلهمه أمرًا مباحًا، أو مستحبًّا، أو واجبًا، يوصله به إلى المقصود الحسن، فيكون على هذا إلهامه ليوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل، هو من كيده سبحانه أيضًا، فيكون قد كاد له نَوْعَي الكيد، ولهذا قال سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:76].

وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعي، الذي يحبُّه الله تعالى ورسوله مِنْ نَصْر دينه، وكَسْر أعدائه، ونصر المحقّ، وقمع المبطل صفةُ مَدْحٍ يَرفعُ الله تعالى بها درجة العبد، كما أن العلم الذي يَخْصِمُ به المبطلَ، ويَدْحَض حجته، صفة مدح يرفعُ الله بها درجة عبده، كما قال سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام، ومناظرته قومَه، وكَسْر حُجْتهم: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:83].

وعلى هذا فيكون من الكيدِ ما هو مشروع، ولكن ليس هو الكيد الذي تُستحَلّ به المحرَّمات، وتسقط به الواجبات، فإن هذا كيدٌ لله تعالى ودينه، فالله سبحانه ودينه هو المَكِيدُ في هذا القسم، فمحالٌ أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد، وأيضًا فإن هذا الكيد لا يتمّ إلا بفعلٍ يُقصد به غير مقصوده الشرعي، ومحالٌ أن يشرعَ الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له.

وأيضًا فإن الأمر المشروع هو عامٌّ لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء مباح لكلّ من كان حاله مثل حاله، فمن احتال بحيلةٍ فقهيةٍ محرّمة أو مباحة لم يكن له اختصاصٌ بتلك الحيلة، عمن لا يفَهْمها ولا يعِلْمها.

وإنما خاصِّيَّةُ الفقيه إذا حدثت حادثة أن يَتفطّنَ لاندراجها تحت الحكم العامِّ الذي يعلمه هو وغيره، والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدًا خاصًّا به، جزاءً له على صبره وإحسانه، وذَكَره في معرض المِنّة عليه، وهذه الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعالُ التي فعلها الله سبحانه له، إذا تأمَّلها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين:

أحدهما: إلهامُ الله سبحانه له فعلًا، كان مباحًا له أن يفعله.

الثاني: فعلٌ من الله سبحانه به، خارج عن مقدور العبد.

وكلا النوعين مباين للحيل المحرَّمة، التي يُحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات.

السؤال: من كان له مال عند رجل مماطل فهل له أن يحتال عليه لأخذ ماله؟

الشيخ: لا، من طريق المحكمة.

فصل

لعلك تقول: قد أطلتَ الكلام في هذا الفصل جدًّا، وقد كان يكفي الإشارة إليه.

فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجدر، فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين:

  • أهل المكر والمخادعة والاحتيال في العَمَلِيَّات.
  • وأهل التحريف والسَّفْسَطَةِ والقَرْمَطة في العِلْميَّات.

فكلُّ فساد في الدين بل والدنيا فمَنْشَؤُه من هاتين الطائفتين.

الشيخ: أهل التحريف وأهل الحيل فساد في الدنيا، والعقاب في الآخرة من طائفتين المتحيلين على الباطل والدعاة إلى الباطل والمحرفين للنصوص، نسأل الله العافية.

وبالتأويل الباطل قُتل عثمان رضي الله عنه، وعاثت الأمَّة في دمائها، وكفر بعضُها بعضًا، وتفرقت على بِضْع وسبعين فرقةً، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى، واستولت الطائفتان، وقويت شوكتهما، وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم، ويأبى الله إلا أن يُقيم لدينه من يَذُبُّ عنه، ويبيِّن أعلامه وحقائقه، لكيلا تبطل حجج الله وبَيّناته على عباده.

فلْنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده.

فصل

ومن مكايده ومصايده: ما فَتَن به عُشَّاقَ الصور.

وتلك لَعَمْرُ الله الفتنةُ الكبرى، والبَلِيّةُ العظمى، التي استعبدت النفوسَ لغير خَلّاقها، وملّكت القلوبَ لمن يَسُومُها الهَوان من عُشَّاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مَريد، فَصَيّرت القلب للهوى أسيرًا، وجعلته عليه حاكمًا وأميرًا، فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فِتْنة، وحالت بينها وبين رُشدها، وصرفتها عن طريق قصدها، ونادت عليها في سُوقِ الرَّقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخسِّ الحظوظ وأدنى المطالب عن المعالي في غُرَف الجِنان، فضلًا عمَّا هو فوق ذلك من القُرْبِ من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألمُها به أضعافُ لَذّتها، ونَيْلُه والوصول إليه أكبر أسباب مضرَّتها، فما أوْشَكَهُ حبيبًا يستحيل عدوًّا عن قريب، ويتبرَّأ منه مُحِبُّه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب، وإن تمتّع به في هذه الدار فسوف يجدُ به أعظم الألم بعد حين، لا سيَّما إذا صار الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].

فيا حسرةَ المحبِّ الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تَبِعتها، وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشِّقوة، وزالت النشوة وبقيت الحسرة، فوارَحْمتاه لِصَبٍّ جُمعَ له بين الحسرتين: حسرةِ فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النَّصب في العذاب الأليم! فهنالك يعلمُ المخدوعُ أيَّ بضاعة أضاع، وأن من كان مالكَ رِقِّه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، وأيّ مصيبة أعظم من مصيبة مَلِكٍ أُنْزِلَ عن سرير ملكه، وجُعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرًا، وجُعل تحت أوامره ونواهيه مقهورًا، فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته:

كَعُصفُورَةٍ في كَفِّ طِفْلِ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ

ولو شاهدتَ حاله وعَيْشَه لقلت:

وَمَا فِي الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍّ وَإنْ وَجَدَ الهوَى حُلْوَ المَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا في كُلِّ حِينٍ مخًافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا شوقًا إِلَيْهِمْ وَيَبْكِي إنْ دنَوْا حذر الْفِرَاقِ

ولو شاهدت نومه وراحته لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان، ولو شاهدت فَيض مدامعه، ولهيب النار في أحشائه لقلت:

سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ مُتْقِنِ صُنْعِهِ وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاندِ
قَطْرٌ تَوَلَّدَ عَنْ لهَيبٍ فِي الحَشَا مَاءٌ ونارٌ فِي مَحَلٍّ وَاحِدِ

ولو شاهدت مسلك الحُبِّ في القلب وتَغَلْغُلَهُ فيه لعلمت أن الحُبَّ ألطفُ مسلكًا فيه من الأرواح في أبدانها.

فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا المُلْكَ المُطَاع لمن يَسُومُهُ سُوءَ العذاب، ويوقعُ بينه وبين وليِّه ومولاه الحقِّ الذي لا غَنَاءَ له عنه ولا بد له منه أعظمَ الحجاب؟

فالمحب بمن أحبه قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لَبّاه، وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، ولا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه؛ فحقيق به أن لا يُمَلّك رِقّه إلا لأجَلّ حبيب، وأن لا يبيع نصيبه منه بأخسّ نصيب.

الشيخ: وهذا هو الواجب على كل مؤمن الحذر من أسباب الهوى والشيطان، فإن الإنسان قد يرضي هواه بالفواحش والمنكرات ثم تكون له العاقبة الوخيمة، والواجب الحذر، وأن يكتفي بما أباح الله وما أحل الله له عما حرم الله عليه، وأن يحذر نزغات الشيطان ومتابعة الهوى فإنه يندم غاية الندامة حسرة في الدنيا وحسرة في الآخرة.

فصل

إذا عُرف هذا، فأصل كلِّ فعل وحركة في العالم من الحبّ والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات، كما أن البغضَ والكراهية مبدأ كل ترك وكَفٍّ، إذا قيل: إن الترك والكفّ أمرٌ وجودي كما عليه أكثر الناس، وإن قيل: إنه عَدَميٌّ فيكفي في عدمِهِ عَدَمُ مُقتضيه.

والتحقيق أن الترك نوعان: ترك هو أمرٌ وجوديّ، وهو كف النفس ومَنْعُهَا وحبسها عن الفعل، فهذا سببه أمر وُجوديٌّ، وتركٌ هو عدمٌ محضٌ، فهذا يكفي فيه عدم المقتضي.

فانقسم الترك إلى قسمين: قسم يكفي فيه عدمُ السبب المقتضي لوجوده، وقسم يستلزم وجودَ السبب الموجب له من البُغْضِ والكراهية، وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كَفّ النفس وحَبسها وإلا لقيام سبب من المحبة والإرادة، والإرادة تقتضي أمرًا هو أحبّ إليه من هذا الذي كفّ نفسه عنه، فيتعارضُ عنده الأمران، فيُؤْثرُ خيرهما وأعلاهما، وأنفعهما له، وأحبهما إليه على أدناهما، فلا يترك محبوبًا إلا لمحبوب هو أحبّ إليه منه، ولا يرتكب مبغوضًا إلا ليتخلّص به من مبغوض هو أكره إليه منه.