03 من قوله: (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ)

وقوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ۝ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ، يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون، ولإذلاله لهم، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة.
وقوله تعالى: مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا أي: مستكبرًا جبارًا عنيدًا كقوله : إن فرعون علا في الأرض [القصص:4]، وقوله جلت عظمته: فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ [المؤمنون:46].
مِنَ الْمُسْرِفِينَ أي: مسرف في أمره، سخيف الرأي على نفسه.
وقوله جل جلاله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ قال مجاهد: اخترناهم على علم على العالمين على من هم بين ظهريه.

الشيخ: يعني على عالمي زمانهم، اختارهم الله على علم بصفاتهم، وأعمالهم، وبذلك صاروا خير الناس في زمانهم بتقواهم، وإيمانهم، يعني الذين اتبعوا موسى وانقادوا لشرع الله فهم خير الناس في زمانهم.

وقال قتادة: اختيروا على أهل زمانهم ذلك، وكان يقال: إن لكل زمان عالمًا، وهذا كقوله تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف:144] أي: أهل زمانه ذلك كقوله لمريم عليها السلام: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] أي: في زمنها، فإن خديجة رضي الله عنها إما أفضل منها أو مساوية لها في الفضل، وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وفضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
الشيخ: ولهذا قال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، هذه الأمة هي أفضل الأمم، ونبيها أفضل الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وقوله جل جلاله: وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الحجج، والبراهين، وخوارق العادات مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ أي: اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به.
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ۝ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ۝ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ  [الدخان:34-37].
يقول تعالى منكرًا على المشركين في إنكارهم البعث، والمعاد، وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور، ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا فإن كان البعث حقا فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وهذه حجة باطلة، وشبة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في الدار الدنيا بل بعد انقضائها، وذهابها، وفراغها، يعيد الله العالمين خلقًا جديدًا، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا، يوم تكونون شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدًا.
ثم قال تعالى متهددًا لهم ومتوعدًا، ومنذرا لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم، ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث، كقوم تبع، وهم سبأ، حيث أهلكهم الله ، وخرب بلادهم، وشردهم في البلاد، وفرقهم شذر مذر، كما تقدم ذلك في سورة سبأ، وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد، وكذلك هاهنا شبههم بأولئك، وقد كانوا عربًا من قحطان، كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير وهم سبأ كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافرًا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس.
ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه، وعظم سلطانه، وجيشه، واتسعت مملكته، وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مصر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية، وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه، وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يقرونه بالليل فاستحيا منهم، وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه، وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة، فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها، وأخذهما معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضا، وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها، وطاف بها، وكساها الملاء، والوصائل، والحبر، ثم كر راجعًا إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن، وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة.
وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا، ومما لم نذكر، وذكر أنه ملك دمشق، وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن. ثم ساق من طريق عبدالرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ ولا أدري تبع لعينا كان أم لا؟ ولا أدري ذو القرنين نبيا كان أم ملكا؟، وقال غيره عزيز أكان نبيًا أم لا؟.
الشيخ: هذا يحتاج إلى صحة السند، لأن ابن عساكر متأخر، وابن عبدالرزاق، والذي بعده جيد، لكن ما قبل عبدالرزاق يحتاج إلى تأمل، وقد ثبت عنه ﷺ أن الحدود طهرة لأهلها، وأن العبد متى أدركه الله بالدنيا كان كفارة له بالحد إذا لم يعد على المعصية.
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن حماد الطهراني.
الشيخ: لعله الطهراني نسبة إلى طهران عاصمة إيران، بالقاموس بكسر الطاء طهران.
الطالب: عندنا الطبراني.
الشيخ: شف محمد بن حماد في التقريب.
الشيخ: عندكم الظهراني؟
الطالب: الطبراني.
الشيخ: لا ما هو الطبراني، إما الطهراني أو الظهراني.
الطالب: أحسن الله إليك في الخلاصة قال: مُحَمَّد بن حَمَّاد الرَّازِيّ الظهراني، بِكَسْر الْمُعْجَمَة أَبُو عبدالله الْحَافِظ، عَن يعلى بن عبيد، وأبي عَليّ الْحَنَفِيّ، وأبي عَاصِم، وطبقتهم، وعنهُ (ق)، وثَّقَهُ ابْن أبي حَاتِم، وابْن يُونُس، وقَالَ: كَانَت وفَاته سنة إِحْدَى وسبعين ومِائَتَيْنِ. (ابن ماجه).
الشيخ: التقريب؟
الطالب: محمد بن حماد الطهراني، بكسر المهملة، وسكون الهاء، ثقة حافظ، لم يصب من ضعفه، من العاشرة، مات سنة إحدى وسبعين. (ق).
الشيخ: هذا هو الأقرب الطهراني، نسبة إلى طهران أعجمي، وصاحب الخلاصة جعلها معجمة، الظهراني ما نعرف نسبة ظهران بالظاء، فالطهراني عاصمة إيران الآن.
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن حماد الطهراني، عن عبدالرزاق، قال الدارقطني: تفرد به عبدالرزاق.
الطالب: الصواب؟
الشيخ: الصواب الطهراني كما في التقريب.
الشيخ: السند هذا جيد، لكن قوله: لا أدري الحدود طهرة، ثبت عنه ﷺ بعد ذلك ما يدل على أنها طهرة.
الطالب: محمد بن حماد الطهراني الرازي، سمع عبدالرزاق والناس، وعنه ابن ماجه، وابن أبي ثابت، وخلف، توفى إحدى وسبعين ومائتين. (ابن ماجه).
وفي الحاشية يقول: ... قاله المؤلف، قال: وقد وثقه الدارقطني، وما هو بحاشي، وحسبه، وذكر فيه كلاما آخر ... انظره من الميزان.
ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: عزير لا أدري أنبيًا كان أم لا؟ ولا أدري ألعين تبع أم لا؟ ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وكأنه -والله أعلم- كان كافرًا ثم أسلم، وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح ، وحج البيت في زمن الجرهميين، وكساه الملاء، والوصائل من الحرير، والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه، وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن.
وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب، وعبدالله بن سلام، وعبدالله بن عباس ، وكعب الأحبار، وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى عبدالله بن سلام أيضا، وهو أثبت، وأكبر، وأعلم. وكذا روى قصته وهب بن منبه، ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن تبعًا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ، وقد بسطنا قصتهم هنالك، ولله الحمد والمنة، وقال سعيد بن جبير: كسا تبع الكعبة، وكان سعيد ينهى عن سبه، وتبع هذا هو تبع الأوسط، واسمه أسعد أبو كريب بن مليكرب اليماني، ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث رسول الله ﷺ بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد، قال في ذلك شعرًا، واستودعه عند أهل المدينة، فكانوا يتوارثونه، ويروونه خلفًا عن سلف، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله ﷺ في داره، وهو:
شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له، وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجت عن صدره كل غم

وذكر ابن أبي الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الإسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حيي، وتميس، وروي حيي وتماضر ابنتي تبع، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله، ولا تشركان به شيئًا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
وقد ذكرنا في سورة سبأ شعر سبأ في ذلك أيضًا.
قال قتادة: ذكر لنا أن كعبًا كان يقول في تبع نعت الرجل الصالح: ذم الله تعالى قومه، ولم يذمه. قال: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لا تسبوا تبعًا فإنه قد كان رجلًا صالحًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبدالله بن لهيعة عن أبي زرعة؛ يعني عمرو بن جابر الحضرمي، قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي يقول: قال رسول الله ﷺ: لا تسبوا تبعًا فإنه قد كان أسلم.
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة به.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا أحمد بن محمد بن أبي برزة.
الشيخ: برزة بالراء؟
الطالب: أحمد بن محمد بن أبي بزة.
الشيخ: حط نسخة ابن أبي بزة. شف التقريب، أو الخلاصة، قد يكون من ذرية القاسم بن أبي برزة المعروف، القاسم بن أبي بزة معروف بالزاي، شف أحمد بن محمد بن أبي بزة أو برزة.
حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: لا تسبوا تبعًا فإنه قد أسلم، وقال عبدالرزاق أيضا: أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما أدري تبع نبيًا كان أم غير نبي، وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر: لا أدري تبع كان لعينا أم لا، فالله أعلم، ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى المدني.
الطالب: زكريا بن يحيى البذيء، ذكر في التعليق، في المخطوطة، مدني مثبت، عن ترجمته في الجرج والتعديل لابن أبي حاتم، واللباب ابن الأثير.
الشيخ: زكريا بن يحيى عندك؟
الطالب: زكريا بن يحيى المدني.
عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفا. وقال عبدالرزاق: أخبرنا عمران أبو الهذيل، أخبرني تميم بن عبدالرحمن قال: قال عطاء بن أبي رباح لا تسبوا تبعًا فإن رسول الله ﷺ نهى عن سبه، والله تعالى أعلم.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ۝ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ۝ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ۝ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ۝ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ  [الدخان:38-42].
يقول تعالى مخبرًا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب، والعبث، والباطل كقوله جل وعلا: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ۝ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115، 116] ثم قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40]، وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق، فيعذب الكافرين، ويثيب المؤمنين.
وقوله : مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي: يجمعهم كلهم، أولهم وآخرهم يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا أي: لا ينفع قريب قريبًا كقوله : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وكقوله جلت عظمته: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ۝ يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج:10، 11]، أي: لا يسأل أخًا له عن حاله، وهو يراه عيانا.
وقوله جل وعلا: وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ أي: لا ينصر القريب قريبه، ولا يأتيه نصره من خارج.
الشيخ: كما قال جل وعلا: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ  [المعارج:34-37]، فالأمر عظيم، كل يقول: نفسي نفسي، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي: لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله بخلقه إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي: هو عزيز ذو رحمة واسعة.
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ۝ طَعَامُ الْأَثِيمِ ۝ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ۝ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ۝ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ۝ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ۝ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ۝ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:43-50].
يقول تعالى مخبرًا عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ۝ طَعَامُ الْأَثِيمِ، والأثيم أي: في قوله، وفعله، وهو الكافر، وذكر غير واحد أنه أبو جهل، ولا شك في دخوله في هذه الآية، ولكن ليست خاصة به.
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبدالرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ۝ طَعَامُ الْأَثِيمِ فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء : قل إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ "طعام الفاجر" أي: ليس له طعام من غيرها، قال مجاهد: ولو وقعت قطرة منها في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم، وقد تقدم نحوه مرفوعًا، وقوله: كَالْمُهْلِ قالوا: كعكر الزيت، يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ۝ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ  أي: من حرارتها، ورداءتها.
الشيخ: وقد ذكر هذا في سورة الصافات: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ۝ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ۝ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ۝ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ۝ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ۝ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ  [الصافات:62–68]، نسأل الله العافية.
س: كَعْكِر الزيت، أو كَعَكِر الزيت؟
الشيخ: إيش عندك؟
الطالب: كَعِكْر الزيت.
الشيخ: إيش عندكم؟
الشيخ: كعكر
الشيخ: شف عكر في القاموس باب الراء فصل العين مع الكاف. عِكر أو عُكر.
وقوله: خُذُوهُ أي: الكافر، وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية: خُذُوهُ، ابتدره سبعون ألفًا منهم، وقوله: فَاعْتِلُوهُ أي: سوقوه سحبًا، ودفعًا في ظهره، قال مجاهد: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ أي: خذوه فادفعوه، وقال الفرزدق:
ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل
 إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ أي: وسطها، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ كقوله : يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ۝ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:19، 20]، وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد، فتفتح دماغه، ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه، فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه -أعاذنا الله تعالى من ذلك.
وقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي: قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي لست بعزيز، ولا كريم.
الشيخ: يعني تقريعًا له وتوبيخًا، كان قد يقال له في الدنيا: عزيز كريم، وهو مبتذل ذليل ذميم -نسأل الله العافية.
وقد قال الأموي في مغازيه: حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة قال: لقي رسول الله ﷺ أبا جهل لعنه الله فقال: إن الله تعالى أمرني أن أقول لك، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ۝ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى  [القيامة:34، 35] قال: فنزع ثوبه من يده، وقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شيء، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم، قال: فقتله الله يوم بدر، وأذله، وعيره بكلمته، وأنزل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.
وقوله : إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ، كقوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ۝ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ۝ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [الطور:13-15]، ولهذا قال تعالى هاهنا: إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ.