04 من قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ۝ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ۝ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ۝ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ۝ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۝ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ۝ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ  [الدخان:50-59].
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء، ولهذا سمي القرآن مثاني.
الشيخ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23] تثنى فيه الأخبار، وتكرر الجنة والنار، قصص الأنبياء وأممهم، تكرر وتثنى للعظة والذكرى، تارة يذكر الجنة، تارة يذكر النار، تارة يذكر قصة هود، قصة ثمود، قصة آدم، قصة نوح، ويكررها، ويثنيها للعظة والذكرى.
س: هذا خاص للكافر، أم لكل عاقل، لكل واحد مدكر؟
الشيخ: هذا للكافر، هذا يقال للكافر، نسأل الله العافية.
فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي: لله في الدنيا، فِي مَقَامٍ أَمِينٍ أي: في الآخرة، وهو الجنة، قد أمنوا فيها من الموت، والخروج، ومن كل هم، وحزن، وجزع، وتعب، ونصب، ومن الشيطان، وكيده، وسائر الآفات، والمصائب.
الشيخ: من كل سوء، فِي مَقَامٍ أَمِينٍ من كل سوء، من الموت، ومن الخراب، ومن المرض، ومن كل أذى، ومن الشيطان، قد أمنوا من كل شيء في نعيم دائم مع الأمان، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ الله يجعلنا وإياكم منهم، هذه الغبطة، النعمة العظيمة.
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم، وشرب الحميم.
وقوله تعالى: يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ، وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها، وَإِسْتَبْرَقٍ وهو ما فيه بريق ولمعان، وذلك كالرياش، وما يلبس على أعالي القماش مُتَقَابِلِينَ أي: على السرر، لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره.
الشيخ: يعني في مجالسهم متقابلون، وجوه هؤلاء إلى وجوه هؤلاء يتحدثون، كما يقع الآن من الأخيار، نعم.
س: يعني الزينة؟
الشيخ: الزينة نعم، يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26]، وفي القراءة الأخرى رياشًا، فالثياب قسمان: قسم يستر العورات، وقسم للجمال.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي: هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن:56]، كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58]، هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نوح بن حبيب، حدثنا نصر بن مزاحم العطار، حدثنا عمر بن سعد، عن رجل، عن أنس رفعه نوح قال: لو أن حوراء بزقت في بحر لجي؛ لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها.
وقوله : يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ أي: مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم، وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه، بل يحضر إليهم كلما أرادوا.
الشيخ: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس:57]، ما يطلبون، نعيم حاضر، والله أكبر.
س: يقول: لو أن حوراء بزقت في بحر لجي، فهل هذا صحيح يا شيخ؟
الشيخ: لعل هذا خبر ضعيف، فيه رجل مجهول.
س: المزيد: هو النظر إلى وجه الله.
الشيخ: نعم، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] النظر إلى وجه الله، وفي الآية الأخرى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وفي حديث صهيب: الزيادة النظر إلى وجه الله.
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع، ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها الصلاة والسلام.
وقال عبدالرزاق: حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر، عن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله ﷺ: يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبدالرزاق به. هكذا يقول أبو إسحاق، وأهل العراق: أبو مسلم الأغر، وأهل المدينة يقولون: أبو عبدالله الأغر. وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني: حدثنا أحمد بن حفص، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان، عن الحجاج هو ابن حجاج، عن عبادة، عن عبيد الله بن عمرو، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها، ولا يبأس، ويحيا فيها فلا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه.
الشيخ: نسأل الله أن يجعلنا، وإياكم منهم، يا لها من نعمة، يا لها من غبطة.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا سليمان بن عبدالله الرقي، حدثنا مصعب بن إبراهيم، حدثنا عمران بن الربيع الكوفي، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: سئل نبي الله ﷺ: أينام أهل الجنة؟ فقال ﷺ: النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون.
الشيخ: نشاط دائم، وصحة دائمة، لا يحتاجون معها إلى نوم، أما في الدنيا يحتاج يضعف الإنسان يتعب يحتاج للنوم، أما أهل الجنة فليس عندهم تعب، بل في نعيم دائم، ونشاط دائم، وصحة دائمة، وخير دائم، وسرور دائم لا يحتاجون معه إلى النوم، والنوم موت.
الشيخ: السند يحتاج إلى نظر. وجدتم سليم؟
الطالب: سليم بن عبدالله لا ليس موجودًا.
الشيخ: ولا سليمان؟
الطالب: سليمان موجود.
الشيخ: سليمان إيش؟
الطالب: موجود أربعة
سليمان بن عبدالله بن حارث الهاشمي، مجهول الحال، من السابعة. (النسائي).
سليمان عبدالله بن الزبرقان، ويقال ابن عبدالرحمن بن فيروز، لين الحديث، من السابعة. (ابن ماجه).
سليمان بن عبدالله بن محمد بن سليمان ابن أبي داود الحراني، أبو أيوب، صدوق، من الحادي عشر، مات سنة ثلاث وستين. (النسائي).
كذلك سليمان بن عبدالله بن عويمر الأسلمي، مقبول من السادسة. (أبو داود).
سليمان بن عبدالله .. لين الحديث، من السادسة.
سليمان بن أبي عبدالله مقبول من الثالثة.
الشيخ: الذي عنده سليم يحط سليمان عن نسخة، والذي عنده سليمان يحط سليم عن نسخة.
وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره، حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري، حدثنا المقدام بن داود، حدثنا عبدالله بن المغيرة، حدثنا سفيان الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله ﷺ: النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون، وقال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن يعقوب، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قيل يا رسول الله: هل ينام أهل الجنة؟ قال ﷺ: لا، النوم أخو الموت.
الشيخ: هذا سند صحيح، إن سلم من شيخ المؤلف، الفضل ما أعرفه، شف الفضل بن يعقوب في التقريب، أو الخلاصة شيخ البزار.
 ثم قال: لا نعلم أحدًا أسنده عن ابن المنكدر عن جابر إلا الثوري، ولا عن الثوري إلا الفريابي، هكذا قال، وقد تقدم خلاف ذلك، والله أعلم.
الطالب: الفضل بن يعقوب بن إبراهيم بن موسى الرخامي بضم الراء بعدها معجمة أبو العباس البغدادي، ثقة حافظ من الحادية عشرة، مات سنة ثمان، وخمسين. (خ ق).
الشيخ: هذا سند صحيح.
الطالب: الفضل بن يعقوب البصري المعروف بالجزري -بجيم، وزاي، وراء-، صدوق من العاشرة، مات سنة ست وخمسين. (د ق).
الشيخ: يحتمل، هذا غيره أحد؟
الطالب: نعم، الفضل بن يعقوب الجعفي الكوفي أبو العباس، صدوق من الثانية عشرة تمييز.
الشيخ: سنده لا بأس به.
وقوله تعالى: وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ أي: مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم، وسلمهم، ونجاهم، وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم، فحصل لهم المطلوب، ونجاهم من المرهوب، ولهذا قال : فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: إنما كان هذا بفضله عليهم، وإحسانه إليهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: اعملوا، وسددوا، وقاربوا، واعلموا أن أحدًا لن يدخله عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال ﷺ: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل.
وقوله تبارك تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلًا واضحًا بينًا جليًا بلسانك الذي هو أفصح اللغات، وأجلاها، وأحلاها، وأعلاها لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: يتفهمون، ويعملون.
الشيخ: وهذا من فضل الله بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فهذا القرآن العظيم فيه العجائب، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، فيه بيان طريق النجاة، وطريق السعادة حتى يسلك، وفيه بيان طريق الغاوية والهلاك حتى يجتنب، فلا يهلك على الله إلا هالك، قرآن الكريم واضح، وأدلة واضحة، وبيان واضح، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله، نعوذ بالله من العمى، والصدود، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44] وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] يجب على أهل الإسلام، بل يجب على المكلفين العقلاء -يجب عليهم- أن يتدبروا هذا القرآن، وهل هناك شيء أوضح منه هدى وبيان، وإرشاد وموعظة وذكرى، وترغيب وترهيب، وأمر ونهي، وقصص كل أنواع البيان، وأنواع التوجيه حاصلة، لكن نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، نعوذ بالله من الحيرة، نعوذ بالله من الصدود عن الحق، نسأل الله العافية.
ثم لما كان مع هذا الوضوح، والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند، قال الله تعالى لرسوله ﷺ مسليًا له، وواعدًا له بالنصر، ومتوعدًا لمن كذبه بالعطب، والهلاك: فَارْتَقِبْ أي: انتظر، إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي: فسيعملون لمن تكون النصرة، والظفر، وعلو الكلمة في الدنيا، والآخرة، فإنها لك يا محمد، ولإخوانك من النبيين والمرسلين، ومن اتبعكم من المؤمنين كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] الآية. وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۝ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51، 52].
الشيخ: قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، وقال سبحانه: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
اللهم اجعلنا من المتقين، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتقين، لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.