شرح كتاب العقيدة الحموية 6

وقد صنَّف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءًا سماه: "تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشَّنيعة"، ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب، وذكر أنَّ أهل البدع كل صنفٍ منهم يُلقِّب أهلَ السنة بلقبٍ افتراه، يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد، كما أنَّ المشركين كانوا يُلقبون النبيَّ بألقابٍ افتروها؛ فالروافض تُسميهم: نواصب، والقدرية يُسمونهم: مجبرة، والمرجئة تُسميهم: شكاكًا، والجهمية تُسميهم: مُشبهة، وأهل الكلام يُسمونهم: حشوية، ونوابت، وغثاء، وغثرًا، إلى أمثال ذلك.

الشيخ: هكذا أهل البدع يُسمون مَن خالفهم بالألقاب الشَّنيعة للتَّنفير، وبهذا يُسمون أهل السنة بالألقاب التي هم بها أليق، فالرافضة يُسمونهم: نواصب؛ لأنهم زعموا أنهم يُبغضون عليًّا، وقد كذبوا، فليسوا يُبغضون عليًّا، بل يُحبونه، ولكن لا يغلون فيه، ولا يُعطونه غير حقِّه، خلاف الرافضة؛ فقد غلوا فيه، وأعطوه غير حقِّه. وهكذا نُفاة الصِّفات يُسمون أهل السنة: حشوية، ومجسمة، ومُشبهة، وهم في الحقيقة الحشوية، وهم المجسمة، وهم المشبهة الذين شبَّهوه بالمعدومات والنَّاقصات والجمادات، قبَّحهم الله.

وهكذا نُفاة القدر، وهكذا المرجئة، كل طائفةٍ تُسمي خصمها بالألقاب الشَّنيعة.

كما كانت قريش تُسمي النبي ﷺ تارةً مجنونًا، وتارة شاعرًا، وتارة كاهنًا، وتارة مُفتريًا. قالوا: فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامَّة؛ فإنَّ السنة هي ما كان عليه رسولُ الله ﷺ وأصحابه، اعتقادًا واقتصادًا، وقولًا وعملًا، فكما أنَّ المنحرفين عنه يُسمونه بأسماء مذمومة مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها بناءً على عقيدتهم الفاسدة- فكذلك التَّابعون له على بصيرةٍ، الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات؛ باطنًا وظاهرًا. وأما الذين وافقوه ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم، وعجزوا عن تحقيق البواطن، والذين وافقوه ظاهرًا وباطنًا بحسب الإمكان: فلا بد للمُنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصًا يذمونهم به، ويُسمونهم بأسماء مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها- كقول الرافضي: مَن لم يبغض أبا بكر وعمر فقد أبغض عليًّا؛ لأنه لا ولايةَ لعليٍّ إلا بالبراءة منهما. ثم يجعل مَن أحبَّ أبا بكر وعمر ناصبيًّا؛ بناءً على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة، أو عاند فيها وهو الغالب.

وكقول القدري: مَن اعتقد أنَّ الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد، فقد سلب من العباد الاختيار والقُدرة، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادةَ لها ولا قُدرة.

وكقول الجهمي: مَن قال: إنَّ الله فوق العرش، فقد زعم أنه محصور، وأنه جسم مركب محدود، وأنه مُشابه لخلقه.

وكقول الجهمية المعتزلة: مَن قال: إنَّ لله علمًا وقُدرةً، فقد زعم أنه جسم مركب، وأنه مشبه؛ لأنَّ هذه الصِّفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجوهرٍ مُتحيزٍ، وكل مُتحيزٍ جسم مركب أو جوهر فرد، ومَن قال ذلك فهو مُشبه؛ لأنَّ الأجسام متماثلة.

ومَن حكى عن الناس المقالات، وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة -بناءً على عقيدته التي هم مُخالفون له فيها- فهو وربه، والله من ورائه بالمرصاد: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].

وجماع الأمر: أنَّ الأقسام الممكنة في آيات الصِّفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسمٍ عليه طائفةٌ من أهل القبلة:

قسمان يقولان: تجري على ظواهرها.

وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.

وقسمان يسكتون.

أما الأولون فقسمان:

أحدهما: مَن يُجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل، أنكره السلف، وإليهم يتوجه الرد بالحقِّ.

الثاني: مَن يُجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يُجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله؛ فإنَّ ظواهر هذه الصِّفات في حقِّ المخلوق: إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به.

فالعلم والقُدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقِّه أجسام، فإذا كان الله موصوفًا عند عامة أهل الإثبات بأنَّ له علمًا وقدرةً وكلامًا ومشيئةً -وإن لم يكن ذلك عرضًا يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين- جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجسامًا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين. وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السَّلف، وعليه يدل كلام جمهورهم.

الشيخ: والمعنى: أنا نُثبت صفات الله وأسماءه على الوجه اللائق به، سواء كانت من العلم والقُدرة ونحو ذلك، أو من أسماء الذَّوات: كالوجه واليد والقدم ونحو ذلك، والسمع والبصر، كلها يجب إثباتها لله على الوجه اللائق به، من غير أن يُشابه خلقه في شيءٍ من صفاته، فصفات المخلوقين -من وجوههم وأيديهم وعلومهم- يعتريها النَّقص والعدم والضَّعف، فهو يموت ويعمى ويُصيبه ما يُصيبه من الآفات، أما الله فمُنَزَّه عنها كلها، لا يعتري صفاته نقص، بل له الكمال المطلق من كل الوجوه: في ذاته وأسمائه وصفاته، فلها صفة الكمال، ولا يعتريها نقصٌ بوجهٍ من الوجوه؛ لأنه الكامل سبحانه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا شبيهَ له، ولا كفء له، ولا ندَّ له .

س: مرت عبارة: ومَن حكى عن الناس المقالات، وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة -بناءً على عقيدته التي هم مخالفون له فيها- فهو وربه، والله من ورائه بالمرصاد؟

الشيخ: هذا مصيره إلى ربِّه، الله الذي يُجازيه.

وكلام الباقين لا يُخالفه، وهو أمر واضح؛ فإنَّ الصفات كالذات، فكما أنَّ ذات الله ثابتة حقيقة، من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات.

فمَن قال: لا أعقل علمًا ويدًا إلا من جنس العلم واليد المعهودين.

قيل له: فكيف تعقل ذاتًا من غير جنس ذوات المخلوقين؟! ومن المعلوم أنَّ صفات كل موصوفٍ تُناسب ذاته، وتُلائم حقيقته؛ فمَن لم يفهم من صفات الرب -الذي ليس كمثله شيء- إلا ما يُناسب المخلوق فقد ضلَّ في عقله ودينه.

وما أحسن ما قال بعضُهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في ذاته؟ فإذا قال لك: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلومٍ للبشر. فقل له: فالعلم بكيفية الصِّفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف؛ فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوفٍ لم تعلم كيفيته؟! وإنما تعلم الذات والصِّفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك. بل هذه المخلوقات في الجنة، قد ثبت عن ابن عباسٍ أنه قال: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، وقد أخبر الله تعالى: أنه لا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين، وأخبر النبيُّ ﷺ أنَّ في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ. فإذا كان نعيمُ الجنة -وهو خلق من خلق الله- كذلك، فما ظنك بالخالق ؟!

الشيخ: هذا مما في الجنة من النَّعيم لا يُشبه ما في الدنيا، بل له فضل عظيم و..... عمَّا في الدنيا، فالله أولى وأولى بأن يكون مخالفًا لما عليه المخلوقون، وله الكمال ، ولا يُشابه مخلوقاته، فهذه المخلوقات الموجودة في الجنة، ومع هذا لا تُشبه مخلوقات الدنيا، بل هي أفضل منها وأعظم وأحسن، وعواقبها أطيب، فكيف بالخالق ؟!

وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقلُ اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها؛ أفلا يعتبر العاقلُ بها عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ مع أنا نقطع بأنَّ الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تُسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصَّحيحة، لا نُغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومَن وافقهم؛ حيث نفوا عنها الصعود والنزول، والاتصال بالبدن والانفصال عنه، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مُماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصِّفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يُفسروا كلامهم بما يُوافق النصوص؛ فيكونون قد أخطأوا في اللفظ، وأنَّى لهم بذلك؟!

ولا نقول: إنها مجرد جزء من أجزاء البدن -كالدم والبخار مثلًا- أو صفة من صفات البدن والحياة، وأنها مختلفة الأجساد، ومساوية لسائر الأجساد في الحدِّ والحقيقة، كما يقول طوائف من أهل الكلام، بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن، وأنها ليست مماثلةً له، وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقةً لا مجازًا.

فإذا كان مذهبنا في حقيقة "الروح" وصفاتها بين المعطلة والممثلة، فكيف الظن بصفات رب العالمين؟

الشيخ: المقصود من هذا أنَّ الروح فيها عبرة للعاقل، هذه الروح التي بها حياة الإنسان وبها تصرفاته وعلمه وغير ذلك عبرة، جهله بها يكفيه .....، إذا جهل روحه فكيف يطلب أن يعلم كيفية الرب وكنهه ؟! فالله قد نهاه عن هذا، وبيَّن له أنه لا مثيلَ له، ولا كفء له، فهو بهذا يُكابر ويطلب شيئًا مُنع منه، ولا سبيلَ له إليه، فهو أعجز وأقلّ من أن يعرف كيفية ربه وكنهه ، وهذه روحه بين جنبيه وما يعرف حقيقتها ولا كنهها، وإنما يعرف شيئًا من صفاتها: من خروجها ورجوعها وغير ذلك مما أخبر الله به عنها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، مع أنها في ..... البدن في خروجها يكون كسائر الجمادات، فلو عقل له عبرة بهذا أن يكفَّ، وأن يعرف قدره، وأن يقف عند الحدود التي حدَّها الله له، فلا يتكلف ما لا يعرف.

وأما القسمان اللَّذان ينفيان ظاهرها؛ أعني الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأنَّ الله لا صفةَ له ثبوتية، بل صفاته: إما سلبية، وإما إضافية، وإما مركبة منهما، أو يُثبتون بعض الصِّفات -وهي الصِّفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر- أو يُثبتون الأحوال دون الصِّفات، ويُقرون من الصِّفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عُرف من مذاهب المتكلمين.

فهؤلاء قسمان:

قسم يتأولونها ويُعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين.

وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يُرد إثبات صفة خارجية عمَّا علمناه.

الشيخ: ..... يُسمون: المفوضة، هؤلاء يُسمون: المفوضة، والأولون يُسمون: المعطلة، عطَّلوا الصِّفات، وهؤلاء فوَّضوها، زعموا أنَّ الله خاطبهم بما لا يعلمون، وهذه الطائفة أقبح أيضًا من الطائفة الأولى من بعض الوجوه، وأهل السنة يقولون: إنها حقّ، وإنها صفات معلومة، لكن لا يعلم كيفيتها إلا بالله، الاستواء معروف، وهو الارتفاع والعلو، والرحمة معلومة، والسمع معلوم، والبصر معلوم، لكن ليس مثل صفاتنا.

وأما القسمان الواقفان:

فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله، ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.

وقوم يُمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، مُعرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التَّقديرات.

فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجلُ عن قسمٍ منها، والصواب في كثيرٍ من آيات الصِّفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة: كالآيات والأحاديث الدالة على أنَّ الله فوق عرشه، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تحتمل النَّقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك، مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يُؤتاه من العلم والإيمان: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

ومَن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ إذا قام يُصلي من الليل قال: اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.

الشيخ: ..... في كل شيءٍ؛ لأنَّ باب الاشتباه وباب الجهلة ليس خاصًّا بالصفات، قد يُشكل عليه أشياء في الصلاة، في الزكاة، في الصيام، في الحج، في المعاملات، في الطلاق، في الدعاوى والبينات، في الأوقاف، فالباب واحد، ينبغي للمؤمن أن يسلك مسلك أهل العلم باتباع الكتاب والسنة، وإيثار الحقّ في باب الصِّفات وغيرها: في باب الصفات مسلك أهل السنة والجماعة في إثبات الصِّفات ونفي مُشابهة الله لمخلوقاته، وفي باب العبادات التَّمسك بما جاء به الشرع، وترك ما خالف ذلك، في المعاملات ما دلَّ عليه الشرع في أحكام المعاملات وغير ذلك.

فإذا اشتبه عليه شيء، وحار في شيءٍ؛ فليسأل ربَّه التوفيق والهداية، ويسأل ربَّه أن يفتح عليه من العلم ما يُزيل هذه الشّبهة، ومن ذلك ما كان يدعو به النبيُّ ﷺ في صلاة التَّهجد: اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ، يسأل ربَّه أن يفتح عليه، وأن يهديه لما اختلف الناسُ فيه؛ لأنَّ الغالب أن الاشتباه يكون محل اختلافٍ، محل الإجماع ما فيه اشتباه، تطمئن القلوب، لكن يكون الاشتباه في الغالب إنما فيما وقع فيه الخلاف، فعند هذا إذا وقع في قلبك شيء، ولم ينشرح صدرك، ولم تطمئن؛ فاسأل ربك الهداية، واضرع إليه أن يهدي قلبك، وأن يُبصرك، وأن يمنحك العلم النافع والبصيرة، وأن يُفقهك في الدين، ومن ذلك هذا الدعاء: اللهم رب جبرائيل ...

وفي روايةٍ لأبي داود: أنه كان يُكبر في صلاته، ثم يقول ذلك.

الشيخ: ومن دعاء ..... الاستفتاح، وهي أنواع ثابتة عن النبي ﷺ، هذا منها: اللهم رب جبرائيل ...

فإذا افتقر العبدُ إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتَّابعين وأئمة المسلمين: انفتح له طريق الهدى.

الشيخ: والمعنى: أنه ما يكتفي بالدعاء، بل يدعو ويعمل، يدعو ويُراجع الأدلة، ويراجع كلام الصحابة وكلام أهل العلم في المسألة التي أشكلت عليه، فيأخذ بالأسباب: يراجع الأدلة، يتأمل، يُخلص لله، ويسأل ربه الإعانة والتوفيق؛ حتى تنشرح نفسه للحقِّ، ويزول ما في نفسه من الشّبهة، فالدعاء وحده لا يكفي، والتفتيش وحده لا يكفي، يجمع بينهما: يدعو ربه، يُخلص إليه ، ويصدق في ذلك، ويبحث ويُطالع ويُراجع، ويسأل أهل العلم، وهكذا، يعني: يأخذ بالأسباب كلها، هكذا الصادق في طلبه يجمع بين الأسباب كلها، مثل الذي يطلب الرزق كذلك يفعل الأسباب: إن كان في المزرعة سقى الزرع، واعتنى بالزرع، وأزال أسباب فساد الزرع، مع الإخلاص لله، ومع سؤال الله التوفيق، ومع سؤال الله نزول البركة، مَن كان في جهادٍ أخذ السلاح، وأعدَّ السلاح، وحذر من العدو ومكائد العدو، ومع ذلك يسأل ربَّه النصر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وهكذا في المسائل الأخرى.

ثم إن كان قد خبر نهايات أقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب، وعرف أنَّ غالب ما يزعمونه برهانًا هو شبهة، ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقةَ لها، أو شُبهة مركبة من قياسٍ فاسدٍ، أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقةَ له، أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة، ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظٍ كثيرةٍ طويلةٍ غريبةٍ عمَّن لم يعرف اصطلاحهم -أوهمت الغرَّ ما يُوهمه السَّرابُ للعطشان- ازداد إيمانًا وعلمًا بما جاء به الكتاب والسنة، فإنَّ الضدَّ يُظهر حسنه الضدّ.

الشيخ: "وبضدها تتبين الأشياء"، إذا كان طالبُ العلم قد عرف حال المتكلمين، ونهاية إقدامهم، وما صاروا إليه من الشك والريب، ثم تحولوا بعد ذلك، تحول بعضُهم إلى قول أهل الحقِّ، وعرف أنَّ ما يدعونه من الدَّعاوى: ما بين الكذب، وما بين قياس فاسد، وما بين برهان لا حقيقةَ له، وإنما هو شبهة، وما بين قواعد أسسوها لا أساسَ لها، وبين إجماعات ادَّعوها لا حقيقةَ لها، إذا كان عنده بصيرة بهذه الأمور ازداد علمًا، وازداد بصيرةً، واطمأنَّ إلى ما هداه الله إليه من العلم الذي حرمه أولئك حتى صاروا بعده إلى الشرك والريب والجهل، أو رجعوا بعده إلى الحقِّ والصواب.

وكل مَن كان بالباطل أعلم كان للحقِّ أشد تعظيمًا، وبقدره أعرف إذا هُدي إليه.

الشيخ: لأنَّ علمه السابق ببطلان ما عليه أهلُ الباطل يزيده علمًا بما هو عليه من الحقِّ ويزيده ثباتًا.

فأما المتوسطون من المتكلمين فيُخاف عليهم ما لا يُخاف على مَن لم يدخل فيه، وعلى مَن قد أنهاه نهايته؛ فإنَّ مَن لم يدخل فيه فهو في عافيةٍ، ومَن أنهاه فقد عرف الغايةَ، فما بقي يخاف من شيءٍ آخر، فإذا ظهر له الحقّ وهو عطشان إليه قبله، وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليدًا لمعظمة هؤلاء، وقد قال بعضُ الناس: أكثر ما يُفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف مُتفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي. هذا يُفسد الأديان، وهذا يُفسد البلدان، وهذا يُفسد الأبدان، وهذا يُفسد اللسان.

ومَن علم أنَّ المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب: لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ۝ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8- 9] يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرةٍ، وأن حُجته ليست ببينةٍ، وإنما هي كما قيل فيها:

حجج تهافت كالزجاج تخالها حقًّا وكل كاسر مكسور

ويعلم العليمُ البصيرُ بهم أنهم من وجهٍ مُستحقون ما قاله الشَّافعي ، حيث قال: "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنِّعال، ويُطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء مَن أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام".

الشيخ: .........

ومن وجهٍ آخر: إذا نظرت إليهم بعين القدر -والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مُستحوذ عليهم- رحمتهم وترفقت بهم، أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأُعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأُعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدةً: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف:26].

ومَن كان عليمًا بهذه الأمور تبين له بذلك حذق السَّلف وعلمهم وخبرتهم؛ حيث حذَّروا عن الكلام ونهوا عنه، وذمُّوا أهله وعابوهم، وعلم أنَّ مَن ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بُعْدًا.

فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضَّالين، آمين. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلاته وسلامه على محمدٍ خاتم النَّبيين وآله وصحبه أجمعين.

الشيخ: يقول رحمه الله في أهل الكلام أنه ينبغي أن يُنظر إليهم بنظرين؛ أهل الكلام الذين خاضوا بالكلام ولم يكتفوا بالكتاب والسنة؛ حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من الشَّك والحيرة، وحتى سببوا للناس شكًّا وحيرةً، وحتى سببوا للناس مشاكل كثيرة ونزاعًا ومناظرات وتعبًا كثيرًا: مَن نظر إليهم من جهة خلافهم للكتاب والسنة، وإعراضهم عن النصوص، وتحكيمهم آراءهم؛ صوَّب ما قاله الشَّافعي فيهم، ورأى أنه كلام عظيم صدر من إمامٍ جليلٍ رحمه الله، حيث قال: "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنِّعال، ويُطاف بهم في الأسواق والعشائر ويقال: هذا جزاء مَن أعرض عن الكتاب والسنة، وخاض بالرأي"، فهذا كلام صحيح، كلام عظيم، هم جديرون به، حقيقون به؛ لإعراضهم عن النصوص، وتلبيسهم على الناس، وإشغالهم أكثر الناس؛ حتى حار مَن حار، وضلَّ مَن ضلَّ بأسبابهم، فهم جديرون بأن يُطاف بهم في الأسواق والعشائر والبلدان، ويُجلدوا ويُضربوا ويُنكل بهم؛ لعملهم الخبيث، وإعراضهم عن النصوص.

ومَن نظر فيهم بنظرٍ ثانٍ: وهو أنهم أصابتهم حيرة وشكّ وريب، والتبست عليهم الأمور، مَن نظر بهذا النَّظر رحمهم، ورأى أنَّ من الواجب أن يُعلَّموا، وأن يُوجَّهوا، وأن يُصبر عليهم؛ لعلهم يهتدون، لعلهم يتبصرون.

وهذا الذي قاله الشيخُ رحمه الله صحيح في حقِّ مَن لم يُعاند، أما مَن عاند وكابر، ولم يقبل الهدى، ولم يقبل التوجيه؛ فليس له إلا ما قال الشَّافعي رحمه الله، وما هو أشد منه: من ضرب عُنقه وإراحة العالم منه، أو تخليده في السجون حتى يستريح الناسُ من شرِّه وبلائه، فإنَّ هؤلاء القوم مثلما قال رحمه الله أبو العباس: "أُعطوا ذكاءً، وما أُعطوا زكاء"، عندهم ذكاء، عندهم حذق، ولكن لم يُوفَّقوا، لم يُعطوا زكاةً، لم يُزكهم الله، ولم يُعطهم علمًا نافعًا، بل عندهم فهوم ضلّوا بها، وعندهم ذكاء ضلّوا به، كثير من الأذكياء قد يتزندق بسبب ذكائه، ويحتقر الناس، ويرى أنهم ليسوا على شيءٍ؛ فيضل ويهلك -نعوذ بالله- لأنه يرى أنَّ علمه فوق علمهم، وفهمه فوق فهمهم، وذكاءه فوق ذكائهم، كما جرى لأصحاب الكلام وأصحاب الحيرة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل البلاء؛ ظنوا أنهم مُصيبون، وأن أفهامهم فوق أفهام غيرهم، وأنهم هؤلاء ما عندهم بصيرة، وأنهم بُلداء، هكذا اعتقدوا فضلوا وأضلوا، نسأل الله العافية.

فأعطاهم الله أسماعًا وأبصارًا وأفئدةً: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف:26]؛ لاستكبارهم عن الحقِّ، وضلالهم عن الحقِّ، واستغنائهم عن النصوص، وزعمهم أنَّ النصوص لا تُفيد علمًا، وإنما العلم يُؤخذ من فهومهم وآرائهم؛ فلهذا هلكوا وأهلكوا، نسأل الله العافية.

فرحم الله المؤلف، وجزاه عمَّا فعل خيرًا، وهذا الكتاب الذي هو "الحموية" كتاب عظيم، جدير بالعناية، جدير بالحفظ؛ لما فيه من النقول عن السَّلف، وبيان الحقِّ بأدلته، والرد على أهل الباطل من أهل الكلام والبدع، ومن الفلاسفة والملاحدة، وهو كتاب عظيم، مع اختصاره، ومع وضوحه، وهو في الحقيقة من أحسن ما كتبه المؤلفُ رحمه الله.

وفَّق الله الجميع.

س: أهل الكلام موجودون إلى الآن؟

ج: ....... في كل مكانٍ: في مصر، والشام، والعراق، وعمان، والجزائر، وفي كل مكانٍ.

س: ............؟

ج: أشد من مذهب الأشاعرة، أقبح، الأشاعرة إنما أوَّلوا بعض الصِّفات ......، وهؤلاء أوَّلوا الصِّفات كلها.

س: قصة جابر حينما صلَّى ورداءه على المشجب، ماذا يُجاب عنه؟

ج: يُنظر في طرق الحديث؛ إن كان التحف به -إن كان التحف بالإزار- زال الإشكال، وإن كان ما التحف به فهو دليل على أنه يرى أنَّ الرداء ما هو بلازم، وأن الإزار يكفي، لكن في بعض الروايات أنه التحف بالإزار واكتفى، ترك الرداء.

س: يعني: كفاه؟

ج: لقول النبي له: إذا كان واسعًا فالتحف به.

س: .............؟

ج: هذا مثلما قال العلماء على حسب الأسئلة، ولكن يجمعها قوله ﷺ: لا تُسافر المرأة إلا مع ذي محرمٍ عام، كل ما يُسمَّى: سفرًا، يوم وليلة، أو ثلاثة أيام، أو أكثر، أو أقل، كل ما يُسمَّى: سفرًا، وعلى هذا خلاف.

س: وأقل ما ورد يوم وليلة؟

ج: بل في الرِّوايات: بريد ......، والبريد: نصف يوم.

س: .............؟

ج: يعني: يُؤخذ من هذا مثلما قال الشيخُ تقي الدين رحمه الله، وهو كلام مشهور، والجمهور يوم وليلة .....